ساحات وادي العلي

ساحات وادي العلي (http://www.sahat-wadialali.com/vb/index.php)
-   الساحة الإسلامية (http://www.sahat-wadialali.com/vb/forumdisplay.php?f=91)
-   -   خطب الجمعة من المسجد الحرام (http://www.sahat-wadialali.com/vb/showthread.php?t=14234)

ابوحاتم 11-01-2012 04:46 PM

فضل الذكر في أيام التشريق
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 10 ذي الحجة 1433 هـبعنوان: "فضل الذكر في أيام التشريق"، والتي تحدَّث فيها عن ذكر الله تعالى وفضله في أيام التشريق، وبيَّن مواضِعه فيها.

الخطبة الأولى
الحمد لله منَّ على من شاء بحجِّ بيته الحرام، أحمده - سبحانه - على نِعَمه العِظام وآلائه الجِسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ القدوسُ السلام، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وسيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار الأعلام.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا وقوفَكم بين يديه، يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا[النبأ: 40].
أيها المسلمون:
حفظُ العُمر وصيانةُ الوقت من ضياعه في المُحقَّرات وكل ما يضُرُّ الاشتغالُ به، ويعظُمُ الخُسرانُ بالانصِراف إليه دَيدَنُ المُوفَّقين، ونهجُ أُولي الألباب الذين تشتدُّ عنايتُهم بمواسِم العُمر التي هيَّأها الربُّ الكريمُ لهم، وحثَّهم على اغتنام فُرصتها ببذل أسباب الزُّلفَى إليه، بألوان الطاعات، واستِباق الخيرات، والتنافُس في الباقيات الصالحات.
وإن أيامًا أمَرَ الله بذِكره فيها لهي من أجلِّ الأيام وأعظمِها، وأشرفِها، وأحراها بأن تُصرَفَ إليها الجُهود، وأن تتَّجِه إلى عمارتِها القلوبُ والجوارحُ بخير ما تُعمَرُ به.
إنها - يا عباد الله -: الأيامُ المعدودات التي ذكرَها الله بقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ .. [البقرة: 203] الآية، وهي أيامُ التشريق الثلاثة التاليةُ ليوم الَّحر، والتي وصفَها رسولُ الهُدى - صلوات الله وسلامُه عليه - بقوله: «أيامُ التشريقِ أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذِكرٍ لله - عز وجل -»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث نُبَيْشَة الهُذَليِّ - رضي الله عنه -.
إنها الأيامُ المُبارَكة التي اجتمَع للمُسلم فيها نعيمان: نعيمُ القلبِ بالذِّكرِ والشُّكر، ونعيمُ البدَن بالأكل والشُّرب والتمتُّع بالمُباحات التي حُظِرَت على الحاجِّ وقتَ إحرامه.
وإن ارتباطَ هذين النعيمَيْن دالٌّ على أن نِعَمَ الله تعالى يجبُ الاستعانةُ بها على طاعتِه، واستِعمالُها فيما يُرضِيه - سبحانه -، وأنَّ من استعانَ بها على طاعته فقد شكَرَ المُنعِمَ بها - عز وجل -، وعلى العكسِ منه؛ المُستعينُ بنِعَم الله على معصيته، المُستعمِلُ لها فيما يُسخِطُه - جلَّ شأنُه - فإنه جاحدٌ لها، غيرُ مُؤدٍّ شُكرَها.
ومن أخصِّ هذه النِّعَم بهذه الأيام المُبارَكة: نِعمةُ الأكل من لُحوم الأنعام، فإنها - كما قال أهلُ العلم - مُطيعةٌ لله لا تعصِيه، وهي مُسبِّحةٌ له قانِطة، كما قال - سبحانه -: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا[الإسراء: 44]، وأنها تسجُد لها، كما ذكرَ تعالى في سورة النحل، وربما كانت أكثرَ ذِكرًا لله من بعضِ بني آدم.
فأباحَ الله - عز وجل - ذبحَ هذه البهائِم المُطيعَة الذاكِرة له لعباده المُؤمنين حتى تتقوَّى بها أبدانُهم، وتكمُلَ بها لذَّاتُهم، فيستعينُون بذلك على علومٍ نافعةٍ، وأعمالٍ صالحةٍ، وذِكرٍ لله تعالى وشُكرٍ له.
ولما كان صومُ هذه الأيام مانِعًا من تحقيق ذلك، فقد نُهِيَ عن صيامِها في مِنى وفي غيرها من الأمصار؛ إذ هي من أعياد المُسلمين، كما أخبرَ بذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ عن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يومُ عرفة ويومُ النَّحر وأيامُ التشريق عيدُنا أهل الإسلام، وهنَّ أيامُ أكلٍ وشُربٍ».
وأما ذِكرُ الله في هذه الأيام المعدودات فتتنوَّع أنواعُه؛ لتكثُر بها وتزيد أسبابُ الثواب، وليعظُم منها رصيدُ المُسلم؛ فمنها:
ذِكرُه - سبحانه - أدبار الصلوات المكتوبة بالتكبير والتهليل؛ فإنهما يُشرَعان إلى آخر أيام التشريق عند جمهور أهل العلم.
ومنها: ذِكرُ الله تعالى عند ذبحِ النُّسُك، كما قال - عزَّ اسمُه -: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ[الحج: 36، 37].
ومنها: الذِّكرُ بالتكبير عند رمي الجِمار، كما فعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه جابرُ بن عبد الله في صفَة حجَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجَه مُسلمٌ وغيرُه، وكما في حديث ابن عُمر عند الشيخين أيضًا، وهو ذِكرٌ خاصٌّ بأهل مِنى دون غيره.
ومنها: ذِكرُ الله عند الأكل والشُّرب؛ فإنه سببٌ لرِضوان الله تعالى، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلمٌ في "صحيحه" عن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن اللهَ ليَرضَى عن العبد أن يأكُلَ الأكلَةَ فيحمَدَه عليها، ويشربَ الشَّربَةَ فيحمَدَه عليها».
ومنها: ذِكرُه - سبحانه - ذِكرًا مُطلقًا غيرَ مُقيَّدٍ بزمنٍ أو بحالٍ من الأحوال؛ بل هو ذِكرٌ يعُمُّ جميعَ الأوقات، ويُستحبُّ الإكثارُ منه في هذه الأيام، "وقد كان أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - يُكبِّرُ في مسجد مِنى"، وفي روايةٍ: "في قُبَّته، ويُكبِّرُ من في المسجد، فترتَجَّ أسواقُ مِنى من التكبير، حتى يصِلَ التكبيرُ إلى المسجد الحرام، فيقولون: كبَّرَ عُمرُ، فيُكبِّرُون"؛ رواه الإمام البخاري في "صحيحه" تعليقًا، ووصَلَه غيرُه.
ومنها: ذِكرُه - عز وجل - عند انقِضاء النُّسُك امتِثالاً لأمر الله القائل: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 200، 201].
وقد روى سعيدُ بنُ جُبَيْر - رحمه الله - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "كان قومٌ من الأعراب يجيئُون إلى الموقفِ فيقولون: اللهم اجعَله عامَ غيثٍ وعامَ ولادٍ حسنٍ، لا يذكُرون من أمر الآخرة شيئًا، فانزلَ الله فيهم قولَه: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ[البقرة: 200]، وكان يجِيءُ بعدَهم آخرون من المُؤمنين فيقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، فأنزلَ الله: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة: 202]".
وهو دعاءٌ جامعٌ لكل خيرٍ في الدنيا والآخرة، وقد كان أكثرَ دُعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أخبرَ بذلك أنسُ بن مالكٍ - رضي الله عنه - في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بسندٍ صحيحٍ.
ولذلك؛ استحبَّ كثيرٌ من السَّلَف - رضوان الله عليهم - الإكثارَ من الدعاء به في هذه الأيام.
وفي الأمر بذِكرِه - سبحانه - عند انقِضاء النُّسُك إشارةٌ - كما قال أهل العلم - إلى أن سائرَ العبادات تنقضِي ويُفرَغُ منها، وذِكرُ الله باقٍ لا ينقضِي ولا يُفرَغُ منه؛ بل هو مُستمرٌّ للمُؤمنين في الدنيا والآخرة، والأعمالُ كلُّها يُفرَغُ منها، أما الذِّكرُ فلا فراغَ له ولا انقِضاء، والأعمالُ تنقطِعُ بانقِطاع الدنيا، والذِّكرُ لا ينقطِع، فالمؤمنُ يعيشُ على الذِّكر، ويموتُ عليه، وعليه يُبعَث.
اللهم اجعَلنا من الذَّاكرين كثيرًا لك، الشاكرين لأنعُمِك، المُبتغين الوسيلةَ إلى رِضوانك.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن هذه الفضائلَ والدرجاتِ التي يحُوزُها أهلُ الموسِم في مِنى ليست مُختصَّةً بهم، ولا مقصورةً عليهم؛ بل إن لغيرهم من المُسلمين في الأمصار نصيبًا وافِرًا منها، فإنهم كانوا شُركاء لأهل الموسِم في الاجتِهاد والنَّصَبِ بالصوم والذِّكرِ وسائر الطاعات التي ازدَلَفوا بها إلى مولاهم في هذه الأيام العشرِ، وكانوا شُركاءَ لهم في التقرُّب إلى الله أيضًا بإراقة دمِ الأضاحي، واشترَكَ جميعُهم لذلك في الراحة في الأعياد، وفي الأكل ولاشُّرب وسائر ما أحلَّ الله.
كما اشترَكوا في هذه العَشر في ألوان الطاعات التي اقتضَت منهم نَصَبًا في أدائها، وصبرًا على القيام بها، وغدَت الأمةُ قاطبةً في ضِيافة الله تعالى تنالُ من واسعِ فضلِه، وتحظَى بجُوده وكرمِه وإحسانه، وتجتمعُ على ذِكره - سبحانه - وذُكرِه، وإيثار مراضِيه ومحابِّه على أهواء النفوس وشهواتها، وتُصوِّرُ للعالمين واقعَ الأمةِ التي وصَفَها ربُّنا - سبحانه - بقوله: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 92].
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا نِعمةَ الله عليكم؛ إذ هيَّأَ لكم من مواسِم العُمر ونفائسِ الأيام ما تعمُرونَه بعبادةٍ تُرضونَ بها ربَّكم، وتطمئنُّ بها قلوبُكم، وتزكُو بها نفوسُكم، وتطيبُ بها حياتُكم.
واذكروا على الدَّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين، ورسول ربِّ العالمين، فقال في الكتاب المُبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ، وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم التَّناد.
اللهم أحسِن لهم المثوبةَ، وأعظِم لهم الأجرَ على ما يُقدِّمونَه من خدماتٍ لحُجَّاج بيتك الحرام، اللهم اكتُب المثوبةَ وعِظَم الأجر لكل من كان له يدٌ في خدمة حُجَّاج بيت الله الحرام مدنيِّين وعسكريِّين يا رب العالمين.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نسألك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفِر لنا وترحمَنا، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتونين.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم احفَظ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم احفَظهم في سوريا، وفلسطين، وفي بورما، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم انصُرهم نصرًا مُؤزَّرًا، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم اجبُر كسرَهم، وارحَم ضعفَهم، واشفِ جرحاهم، واكتُب أجرَ الشهادة لموتاهم يا رب العالمين، اللهم استُر عوراتهم وآمِن روعاتهم يا رب العالمين.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم إنا نجعلُك في نحور أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحور أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم اجعَله حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وعمرةً مُتقبَّلةً.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[آل عمران: 8]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 11-18-2012 08:52 AM

مقاصِد الحج وشواهِدُه

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 17 ذي الحجة 1433هـ بعنوان: "مقاصِد الحج وشواهِدُه"، والتي تحدَّث فيها عن الحجِّ ومقاصِده وشواهِده، وبيَّن أن من أعظم مقاصِد هذه الشعيرةِ المُبارَكة تقوى الله تعالى، وإخلاصُ العمل له - سبحانه -، واتباعُ سنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وذكرَ بعضَ روحانيَّات الحجِّ، ثم ختمَ خُطبتَه بضرورة الاستِغفارِ بعد الأعمال؛ حِفاظًا عليها ورعايةً لها من البُطلان.

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونسنغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
ألا وإن خيرَ الوصايا بعد المحامِد والتحايا: الوصيةُ بتقوى الله العظيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أسلِموا لله القِياد، وأعِدُّوا ليوم المعاد، وأخلِصوا لله في السرِّ والإعلان؛ فكم من إنسانٍ كثيرِ الثياب، عارِي الثواب، مذكورٍ في الأرض، مهجورٍ في السماء.
أيها الحُجَّاج في هذي البِطاح! يا مَن وفَدتم من كل ناحيةٍ وساح، ها هنا المورِدُ فعُلُّوا، وهنا الرواءُ فانهَلوا، أكرمَكم الله بإدراك يومٍ عظيمٍ من أيام الإسلام، وموقفٍ جليلٍ من مواقفِ المُسلمين، فأتممتُم حجَّكم، وقضيتُم تفَثَكم، وقد سبقَكم إلى هذه الصُّعُدات آدمُ ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأنبياءٌ كُثُر، ومحمدٌ النبي الكريم، وصحبُه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، والصحابةُ العِظام، وأئمةُ المذاهبِ وصُلَحاءُ المُسلمين.
وها أنتم تخلُفونهم على هذه الرُّبُوع، الربُّ واحدٌ، والمشاعِرُ هي نفسُها، والهدفُ مُتَّحِد، فلماذا الحالُ غيرُ الحال، والرجالُ دون الرِّجال؟!
نسَبُكم - أيها المُسلمون - في المُعتقَد تسلسلَ إلى أنبياء الله ورُسُله؛ فلِمَ الحَيدَة؟
وديوانُ الإسلام - قُرآنٌ وسنَّةٌ - لا زالَت حيَّةً، وشواهِدُ التوحيد ما زالَت قائمةً من عهد إبراهيم؛ فلماذا الخلْطُ؟
ودينُكم أعظمُ شِرعةٍ نزلَت من السماء إلى الأرض؛ فلِمَ الذِّلَّة؟
قضيتُم نُسُكًا شِعارُه التوحيد، فاجعَلوه شِعارَكم حتى تلقَوا ربَّكم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخل الجنةَ»؛ رواه مسلم.
عظِّمُوا اللهَ وأجِلُّوا رسولَه، وعظِّموا ما جاء من عندهما وأسلِموا له، أخلِصوا لله القصدَ والعملَ، واقتَفوا هديَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبِه الذين رضِي الله عنهم ورضُوا عنه، واعرِضوا العبادةَ على الكتاب والسنة، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وما لم يرِد في السنَّة فاطَّرِحوه.
أيها المسلمون:
حُجَّاج بيت الله العتيق! إن من حجَّ البيتَ واعتمَرَ فقد ازدادَ من الله قُربًا، وتقرَّبَ إليه زُلفَى، والمُقرَّبُون هُم أولَى الناس بالتأدُّبِ مع الله - جل في علاه -، يحدُوهم الرجاءُ في الازديادِ من الطاعة، ويمنعُهم الحياءُ من التلطُّخ بشيءٍ من المعاصِي بعد أن أكرمَ الله وسادَتَهم، وغفرَ ذنوبَهم، وأتمَّ مناسِكَهم.
أما وقد وفَّقَكم الله لمرضاته، ويسَّر لكم التعرُّضَ لنفحاته؛ فاستقِيموا على أمره، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا [النحل: 92].
وإن من أولَى ما يُوصَى به المُسلِمُ بعد التقوى: ما أوصَى به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سُفيانَ - رضي الله عنه - حينما قال: يا رسولَ الله! قُل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدك. قال: «قُل: آمنتُ بالله، ثم استقِم»؛ رواه مسلم.
ألا وإن من أولَى ما استقامَ عليه المُؤمنُ بعد التوحيد: المُحافظةُ على الصلاة؛ فهي عمودُ الدين، وفارِقُ المؤمنين عن الكافرين، وقد قال الله - عز وجل -: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2].
روى الترمذي والنسائي والحاكم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُنزِلَ عليَّ عشرُ آياتٍ، من أقامهنَّ دخلَ الجنة، ثم قرأَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، حتى ختمَ عشر آياتٍ».
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 1- 11]، هذه هي أسبابُ الفلاحِ وأسبابُ دخول الجنة؛ الصلاةُ، والزكاةُ، واجتِنابُ ما لا نفعَ فيه من الأقوال والأعمال، وحِفظُ العورات والمحارِم، واجتِنابُ الفواحِش، والمُحافظةُ على الأمانة والعهد.
أيها المؤمنون:
الإسلامُ هو الاستِسلامُ لله، والانقِيادُ له بالطاعة، والخُلُوص من الشِّرك وأهلِه، والاستِسلامُ لله عبَّرَت عنه أحكامُ الحجِّ كما جسَّدَته المشاعِرُ، ومثَّلَته سيرةُ نبي الله إبراهيم وآله، تلك الأُسرةُ الصالحةُ التي استسلَمَ فيها إبراهيمُ لأمر الله بترك زوجته ورضِيعها في وادٍ قَفْرٍ؛ لأن اللهَ أمرَه بذلك، وقالت زوجُه هاجَر: "آللهُ أمرَكَ بهذا؟". قال: "نعم". قالت: "إذًا، لن يُضيِّعَنا".
فلم يُضيِّعهم ربُّهم، وفجَّرَ الأرضَ بعين زمزم، وباركَ فيها، وعمَرَ الوادي بالبشر، فهوَت أفئدَةُ الناسِ إليهم، ورزقَهم الله من الطيبات، وجعلَ بلدَهم آمنًا مُطمئنًّا.
واستسلَم إبراهيمُ لأمر الله بذبحِ ابنِه، واستسلَم إسماعيلُ أيضًا لهذا الأمر، وقال الله عنهما: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103]؛ أي: استسلَما، لكنَّ اللهَ الرحيمَ لطَفَ.
إنه مثالٌ للأُسرة الصالحةِ المُستسلِمة، ودرسٌ للأمة بكل تفاصيل الحدَث، وكان الجزاءُ في الموقِفَين: أن اللهَ كان لهم، ورفعَ درجتَهم، وجعلَ النبُوَّةَ فيهما وفي ذريَّتهما، وجعلَ آثارَهما مناسِكَ للمُؤمنين إلى يوم الدين.
عباد الله:
ومن روحانيات الحجِّ: التربيةُ على التقوى، وفي ثنايا آيات الحجِّ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]، إنها عبادةٌ محدودةٌ في أيامٍ معدودةٍ، يجهَدُ الحاجُّ في تمامِها، ويحذَرُ من نُقصانِها أو بُطلانِها، ويلتمِسُ من ربِّه القبولَ راجيًا رحمتَه، طالبًا الخلاصَ من ناره. وهذا مُختصرُ الحياة ومُلخَّصُها.
والتقوى شعورٌ قلبيٌّ يحدُو المُسلِمَ خلال ذلك للسير وفقَ مُراد الله، يُزجِيه خوفُ الله، ورجاءُ ما عند الله لا ما عند الناس، وإذا جعلَ المُسلِمُ قصدَه استِرضاءَ ربِّه أفلحَ ونجا.
أيها المسلمون:
الحجُّ موسمٌ روحانيٌّ نشرَ بين المُسلمين حقيقةَ العبادة المُقدَّسة؛ طاعةٌ واستِجابةٌ لنداء الرحمن، واستِسلامٌ لشرعه وأحكامه، ومهما أحاطَ الإنسانُ نفسَه بمظاهر التَّرَف فلن ينفكَّ عن الشُّعورِ بالحقيقة حقيقةِ أنه فردٌ من بين ملايين البشر، وأنه فقيرٌ إلى الله كبقيَّة السائرين إليه، المُستجدِين منه الرحمةَ والمغفرةَ والرِّضوانَ.
لذا، فإنه من الخطأ تطلُّبُ حجٍّ مُرفَّهٍ، أو التذمُّرُ من مشقَّةٍ يلقاها من لم يتعوَّد المشاقَّ؛ فإن اللهَ تعالى قال: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النحل: 7]، فالبساطةُ والتخلِّي عن الرفاهيَة من مقاصِد الحجِّ، فيها التربيَةُ والعبوديَّةُ والتواضُع، والمُساواةُ عند الضَّراعة بين يدَي الله.
وفي ذلك أيضًا: تربيةٌ للمُسلِمين بأن يكونوا رحمةً على إخوانِهم مُتواضِعي لهم، قائمِين على مصالِحِهم، في بُعدٍ عن الأنانيَّة والأثَرَة، فضلاً عن التقصير في حقِّهم، أو الإخلالِ بما أُنيطُوا به من واجبِهم.
عباد الله:
ومن مشاهِد الحجِّ: أن الله تعالى أحاطَه بالرعاية والحفظِ، وأسبغَ على حُجَّاج بيته الأمنَ والطُّمأنينة، في أيامٍ يضطربُ فيها العالَمُ كما تضطرِمُ نارُ الحروبِ في بِقاعٍ شتَّى، ولسنا بمَنأى عن الحُسَّاد والمُعتدين، ولكنَّ الله تعالى هو الذي لطَفَ وآمنَ، وستَرَ وعافَى، وأسبغَ علينا نعَمَه ظاهرةً وباطنةً، وسخَّرَ لهذا البلد حُماةً صادقين، حفِظَ الله بهم العبادَ والبلادَ.
فلله الحمدُ والشُّكرُ، وله الثناءُ الحسن، وصدق الله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67].
إنها نعمةٌ تستوجِبُ الذِّكرَ والشُّكرَ والتنبيهَ؛ تحدُّثًا بنعمة الله تعالى، وشُكرًا له وحمدًا.
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

ابوحاتم 11-18-2012 08:57 AM

التفكر في الرِّيح والرِّياح

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 24 ذي الحجة 1433 هـ بعنوان: "التفكر في الرِّيح والرِّياح"، والتي تحدَّث فيها عن آيةِ الرِّيح والرِّياح، وعِظَم مكانتها لقَسَم الله بها فيكتابه، وذِكرِها في العديد من المواضِع في القرآن الكريم، وذكرَ أنواعَها، وبيَّن الهديَ النبويَّ في التعامُل معها.

الخطبة الأولى

الحمد لله المُتوحِّد في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المُتفرِّد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المُتعالي بعظمته ومجده الذي نزَّل الفُرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله المُؤيَّد بالمُعجزات، والمنصورُ بالصَّبا من ربِّ البريَّات، عليه من الله أفضلُ صلاةٍ وأزكى تسليمٍ، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن أحسنَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المُسلمين؛ فإن يدَ الله على الجماعة، وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115].
أيها الناس:
آيةٌ من آيات الله في هذا الكون العظيم، تتوقَّفُ عليها الحياة في جسم الإنسان الحي، وتبعثُ النشاطَ والحركة، وتمنحُ العزيمةَ بعد الفتور، بوجودها يقوَى الإنسانُ بعد ضعفٍ، ويتَّسِعُ بعد ضيقٍ، إن تفكَّرَ فيها المرءُ ازدادَ إيمانًا بربِّه، وعلِمَ أنه خالقُ كلِّ شيءٍ ومليكُه، وأنه لا إله بحقٍّ سِواه.
هي آيةٌ في الأرض وفي السماء، أقسمَ الله بها في كتابه، وقد ذكَرَها الباري - جلَّ شأنه - في مُحكَم التنزيل مُتصرِّفةً في تسعةٍ وعشرين موضِعًا، وكلُّ قسَمٍ يُقسِمُه الله في كتابه فهو عظيمٌ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة: 76].
كما أن له - سبحانه - أن يُقسِمَ بما شاءَ من مخلوقاته وآياته التي جعلَها عِظةً وعبرةً لأُولي الألباب، وحُجَّةً وحسرةً على كل غافلٍ عنها، لا يذكُرُ اللهَ بها، ولا يؤوبُ إليه بالنظر فيها ممن يصدُقُ فيهم قولُه - سبحانه -: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 105، 106].
نعم، لقد أقسمَ الله بهذه الآية العظيمة أربع مراتٍ في كتابه العزيز، فقد قال - سبحانه وتعالى -: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا [المرسلات: 1- 3]، وقال - سبحانه -: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات: 1]. إنها آيةُ الرِّيح والرياح - عباد الله -.
الرِّيح التي يُصرِّفُها الله كيف يشاءُ مُطيعةً له - سبحانه -، إنما يقول لها: كوني، فتكون، مُذلَّلةً لخالقها ومُدبِّرها كما ذلَّت السماوات والأرضُ له - سبحانه وتعالى -، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11].
وقد جعلَ الله - سبحانه - تصريفَ الرِّياح من الآيات لقومٍ يعقِلون، فتكون باردةً وحارةً، وجنوبًا وشرقًا، وشمالاً ودبورًا، وتُثيرُ السَّحاب وتُؤلِّفُ بينَه، وتجعلُه رُكامًا يخرُج الودْقُ من خلاله، وتكونُ لواقِح للمطر والنبات، ومصدرًا للطاقة الكهربائية، والطواحين، وسير السُّفن، وحركة الطيران، ولا يُخرِجُها ذلكم كلُّه عن كونها آيةً من آيات الله، ومحلاًّ لإطلاق الفِكر والنظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلقَ الله من شيءٍ.
وإن تعجَبوا - عباد الله -، فعجبٌ وصولُ فِكر بعض المُسلمين إلى درجةٍ من الهوان العقليِّ والدُّونِ العلميِّ؛ حيث إنهم قد خُدِعوا بدراساتٍ ومُعتقَداتٍ وثقافاتٍ ليست من الإسلام في شيءٍ، تجعلُ النظرةَ إلى الظواهر الكونيَّة، والكوارِث المُشاهَدة نظرةً ماديَّةً بحتةً، من جهة مصدرها، وسببها، ومن جهة التعامُل معها، في زمنٍ يُدرِكُ فيه بعضُ من يُنسَبُون إلى غير الإسلام في دراساتهم واكتشافاتهم لأحوال تلك الظواهر أن الأمرَ ليس مُوكلاً إلى الطبيعة لا ابتداءً ولا انتهاءً، وأن هذه الرِّياح لها حكمةٌ وحكيمٌ مُدبِّرٌ يعلمُ وهم لا يعلَمون.
وربما ازدادَ عجبُهم، بل وربما أسلمَ بعضُهم حينما يعلمُ أن الإسلامَ قد أصَّلَ هذا الجانبَ، وأن الرِّياحَ خلقٌ من مخلوقات الله العجيبة في كونه العظيم.
ففي الوقت الذي يظنُّ فيه بعضُهم أنه بلغَ درجةً من الاكتِشافِ لأسرار الرِّياح بعد لأْيٍ وأبحاثٍ ومُضيِّ أعمارٍ على أن الرِّياح لا تخلو من أربع حالاتٍ: إما أن تكون رِيحًا ساكنةً، أو رِيحًا هادئةً ساكِنةً عليلةً، أو رِيحًا عاصِفةً، أو رِيحًا قاصِفًا.
وتبلغُ الدهشةُ أوجَها، والمُفاجأةُ ذروتها حينما يعلَمون أنّض كتاب الله - سبحانه - قبل خمسة عشر قرنًا من الزمان قد بيَّن هذه الأصنافَ للرِّيح بهذا الترتيب في زمن الأمة الأُمِّيَّة التي لا تقرأُ ولا تكتُب؛ فقد قال - سبحانه وتعالى - عن الرِّيح الساكِنة: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى: 32، 33].
وقد كان المفهومُ عند عموم المُفسِّرين الذين فسَّروا كتابَ الله تعالى منذ أمدٍ بعيدٍ أن المقصودَ بذلكم هي السُّفُن الشراعِية التي لا تستطيعُ السيرَ في البحر إذا سكَنَ الهواء، وإذا بالإعجاز العلميِّ في القُرآن الكريم يُبهِرُنا بأنه قد سبقَ الاكتِشافات الحديثة، وأنَّ الرِّيح إذا سكَنَت سُكونًا تامًّا فلن تستطيع السُّفُن السيرَ على البِحار؛ لا السُّفُن الشِّراعيَّة، ولا السُّفُن البُخاريَّة، ولا السُّفُن العملاقة التي تعملُ بالطاقة النوويَّة؛ لحاجةِ كلِّ مصادر الطاقة المُستخدَمة في دفع تلك السُّفُن إلى أوكسجين الهواء، فإذا سكنَت الرِّيح انعدمَ الأوكسجين فركَنَت السُّفُن.
وقولوا مثلَ ذلكم في الطائرات والطواحين الهوائيَّة ونحو ذلكم.
وأما الرِّيحُ الطيبة والرِّيحُ العاصِف، فقد ذكرَها الله بقوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ .. [يونس: 22] الآية؛ حيث إن الموتَ يصِلُ في الارتفاع إلى درجةٍ تعلُو فوقَ السُّفُن، مع شدَّةٍ في السُّرعة مُغرقة، حيث استحالَت رِيحًا عاصِفًا بعد أن كانت رِيحًا طيبَةً.
وأما الرِّيحُ القاصِف، فهي التي تُسمَّى الإعصار، وهي التي تكونُ بشكلٍ عموديٍّ إلى السماء، وتجعلُ أمواجَ البحر شاهِقةً تُدمِّرُ السُّفُن وتغرَقُ بسببها، وقد يكونُ الإعصارُ فيه نارٌ، وقد يكونُ بلا نارٍ، وهو الأكثر.
ومن الاكتِشفات الحديثة عند رُوَّاد الأبحاث الجيولوجيَّة والجُغرافيَّة أنَّ الإعصارَ الذي فيه نارٌ إنما يكونُ ويتولَّدُ من حرائق الغابات الكثيفة، ومن المعلوم بداهةً أن القُرآن أُنزِل على أمَّةٍ يغلِبُ عليها الوضعُ الصحراويُّ وتُفتقَد فيه الغابات، ومع ذلك قال الله - سبحانه وتعالى - في زمنهم: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: 266].
فها هو كتابُ الله قد سبقَهم بخمسة عشر قرنًا من الزمان، دينًا حقًّا قِيَمًا، هو صِبغةُ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة: 138].


وبعدُ - يا رعاكم الله -:
فإن الرِّيحَ جندٌ من جنود الله، تكونُ رأفةً لعباده المُؤمنين، وبُشرى بين يدي رحمته، تُقِلُّ سحابًا ثِقالاً فيسوقُه الله إلى بلدٍ ميِّتٍ ليُسقِيَه مما خلقَ أنعامًا وأناسِيَّ كثيرًا، وتكونُ نعمةً لعباد الله المُؤمنين، وهي من جنود ربِّ العالمين - سبحانه - حين يُرسِلُها على عدوِّهم ومن بغَى عليهم؛ فقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «نُصِرتُ بالصَّبا»؛ رواه مسلم.
والصَّبا هي الرِّيحُ الشرقيَّة.
لم يُحصِ جُندَ الله في ملَكوته غيرُ العليم القاهر التوَّابِ
قد أنجزَ النصرَ العظيمَ لعبده بجنُودِه كالرِّيحِ في الأحزابِ
وقد تكون الرِّيح نقمةً وعذابًا يرسِلُه الله على من يشاءُ من عباده وهو الحكيمُ العليمُ؛ فقد أهلكَ عادًا بالدَّبُور العقيم الصَّرصَر، وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة: 6]، وأهلكَ بها الأحزابَ الذين تآمَروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقال الله عنهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب: 9].
والرِّيحُ أيضًا من دلائل نبُوَّته - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد قال جابرٌ - رضي الله عنه -: "قدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من سَفَر، فلما كان قُربَ المدينة هاجَت رِيحٌ شديدة تكادُ تدفِنُ الرَّاكِبَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «بُعِثَت هذه الرِّيحُ لموت مُنافِقٍ»، فلما قدِمَ المدينة فإذا مُنافِقٌ عظيمٌ من المُنافقين قد مات"؛ رواه مسلم في "صحيحه".
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وتأمَّلوا في منَّة الله على عباده بالرِّيح الطيِّبة والرِّياح؛ حيث يقول - سبحانه -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الروم: 46].
قال بعضُ السَّلَف: " أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ فتفرحُ النفوسُ بالرِّياح، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي: بالمطر الذي تحمِلُه الرِّياح، وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ أي: الفُلك التي تُحرِّكُها الرِّياح، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: بتجارة البِحار التي تُحرِّكُ الرِّياحُ بواخِرَها، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: تشكُرون اللهَ على نعمة الرِّياح".
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 57].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن كان صوابًا فمنَ الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفَى، والصلاة والسلام على رسوله المُصطفى، وعلى آله وصحبِه ومن اقتفَى.
وبعد، فيا أيها الناس:
لله ما أعظمَ هذا الدين وما أحسنَه، وما أوسَعه وأشملهَ، لم يدَع شرًّا إلا حذَّرَ منه، ولا خيرًا إلا دلَّ عليه، قال أبو ذرٍّ - رضي الله عنه -: "لقد تُوفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائرٌ يُقلِّبُ جناحَيْه في السماء إلا ذكرَ لنا منه علمًا"؛ رواه أحمدُ، وابن حبان.
وقد قال بعضُ المُشركين لسلمان - رضي الله عنه -: قد علَّمَكم نبيُّكم كلَّ شيءٍ حتى الخِراءة؟! فقال: "أجل؛ لقد نهانا أن نستقبِلَ القِبلةَ لغائطٍ أو بولٍ .. الحديث"؛ رواه مسلمٌ في "صحيحه".
وقد جاء في شريعتنا الغرَّاء ما هو محلُّ التوجيه والإرشاد إلى كيفيَّة التعامُل مع الرِّيح والرِّياح؛ فقد صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عصَفَت الرِّيح يقول: «اللهم إني أسألُك خيرَها وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أُرسِلَت به، وأعوذُ بك من شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسِلَت به»؛ رواه مسلم.
وقد نهانا - صلوات الله وسلامه عليه - عن سبِّ الرِّيح بأي نوعٍ من أنواع السبِّ أو الذَّمِّ؛ بل إنه - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يومُ الرِّيح والغَيْم عُرِفَ ذلك في وجهه، وأقبَلَ وأدبَرَ، فإذا مطَرَت سُرَّ به، وذهبَ عنه ذلك. قالت عائشة - رضي الله عنها -: فسألتُه فقال: «إني خشيتُ أن يكون عذابًا سُلِّط على أمتي»؛ رواه مسلم.
وكان من هديِه - صلى الله عليه وسلم - أن مُنادِيَه في الليلة المطيرة أو الليلة البارِدة ذات الرِّيح: "صلُّوا في رِحالِكم".
وقد ذكرَ أهلُ العلم جوازَ الجمع في الرِّيح الشديدة البارِدة، ونهَوا عن التبوُّل عكسَ الرِّيح حتى لا يقعَ عليه شيءٌ من النجاسة.
هذا هو دينُنا، وهذه هي شِرعتُنا، رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء: 66- 69].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصُر إخواننا المُسلمين في بُورما، وانصُر إخواننا المُسلمين في سُوريا، اللهم انصُرهم على من بغَى عليهم وطغَى يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل شأنَ عدوِّهم في سِفال، وأمرَه في وبال، واجعلها عليه سِنِيَّ كسِنيِّ يوسف يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك فلا تمنَع عهنا ذنوبِنا فضلَك يا ذا الجلال والإكرام، يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 11-18-2012 09:01 AM

الأمل والتفاؤل بقدوم عام جديد

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 2 محرم 1434 هـ بعنوان: "الأمل والتفاؤل بقدوم عام جديد"، والتي تحدَّث فيها عن ضرورة التلبُّس بالتفاؤل والأمل في نصر الله وتمكين عباده المؤمنين، وذلك في مطلع عامٍ جديدٍ وأحوال المسلمين فيه تسُوءُ يومًا بعد يوم، وأشارَ إلى أن هذا ابتلاءٌ وتمحيصٌ من الله ليعلمَ الصادقين من الكاذبين، وليميز الخبيثَ من الطيبِ، ولم ينسَ التذكير بفضل صيام عاشوراء، وعِظَم هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي غيَّرَت وجهَ التأريخ.

[color="rgb(0, 100, 0)"]الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونُثني عليه الخيرَ كلَّه.
يا ربِّ حمدًا ليس غيرُك يُحمَدُ يا مَن له كلُّ الخلائِقِ تصمُدُ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستمنِحُ منها العزيمةَ والبأس، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أنارَ الله به دياجيرَ الظُّلُمات والياس، صلَّى الله وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الآس، وصحبِه المُتفائِلين في جُملة الأغراس، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا يُطيِّبُ مرائرَ الأنفاس.
أما بعد، فيا عباد الله:
خيرُ ما يُوصَى به على الدوام ومرِّ الأيام والأعوام: تقوى الله الملكِ العلاَّم؛ فتقوى الله نورٌ يُضيءُ الظُّلمات، وحصنٌ من الفتن المُوبِقات، وشفاءٌ من النوائبِ الحادِثات، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
فلازِم تُقَى الرحمن واسأله نُصرةً يُمدِدك من إسعافِه بالعجائبِ
فإن التُّقَى حِصنٌ حصينٌ لأهله ودرعٌ يقِي حادِثات النوائِبِ
أيها المسلمون:
في صحماء الفتن المُدلهِمَّة، ويَهماء التحديات المُحدِقة بالأمة، يدورُ الزمانُ دورتَه، ويُكمِلُ عامٌ من أعوامه مُهمَّته، عامٌ قد قُوِّضَت خِيامُه، وتصرَّمَت أيامُه، وتلك سُنَّةُ الله في كونه؛ أيامٌ سيَّارة، وأشهرٌ دوَّارة، وأعوامٌ كرَّارة، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62].
عامٌ أطلَّ على الأنام جديدُ فلكلِّ قومٍ في البسيطة عيدُ
حيَّتْه حينَ أطلَّ آمالُ الورَى ولَكَم صبَونَ إليه وهو بعيدُ
معاشر المُسلمين:
ها هي الأمة الإسلامية قد ودَّعَت عامًا هجريًّا مضى وتولَّى، ولم يبقَ منه إلا ذِكرى ما تبدَّى فيه من الخير وتجلَّى، ودَّعنا عامًا كما يُودِّعُ أحدُنا يومَه عند انقِضائه، لا يراه طويلاً ما بين صباحه ومسائه.
وفي مطلَع عامِنا الوليد الأغرِّ - جعلَه الله بارِقةَ نصرٍ وعزٍّ وتمكينٍ - لا بُدَّ أن نعيشَ الأملَ والتفاؤُلَ؛ فمع أنَّ أمَّتنا الإسلامية لا تزالُ رهينةَ المآسِي والنَّكَبات، والشَّتات والمُلِمَّات، جسدُها مُثخنٌ بالجراح، وأبناؤُها يُعانون في مُختلِف الوِهاد والبِطاح، تُراقُ فيهم الدماء، وتتقطَّعُ منهم الأشلاء، في صَلَفٍ ورُعونةٍ، وصُدارةٍ مأفونةٍ، بما يدكُّ الأطواد، ويرُضُّ لفائفَ الأكباد.
فلا ينبغي أن يحمِلَ ذلك على الإدلاجِ في سراديبِ الإحباط، والوُلوجِ في غياهِبِ الشِّمات والشِّماط. واليأسُ سُدفةٌ من حُلَك الظلام؛ لذا نهانا عنه الواحدُ العلاَّم، فقال - سبحانه -:
وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]، وقال تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر: 56].
إذا اشتملَت على اليأس القلوبُ وضاقَ لما به الصدرُ الرَّحيبُ
وأوطأَت المكارِهُ واطمأنَّت وأرسَت في أمكانِها الخُطوبُ
أتاكَ على قنوطٍ منك غوثٌ يمُنُّ به اللطيفُ المُستجيبُ
أمة الإسلام:
ليس أنجعَ في ساعات اليأس والقُنوط من إعمال سيف الأمل البتَّار، والادِّراع بالتفاؤُل والاستِبشار؛ فالأملُ يُخفِّفُ عناءَ العمل، ويذهبُ باليأس والقُنوط والملَل، وبعد حُلكة الليل الشديد تُشرِقُ شمسُ يومٍ جديدٍ.
إذا الأمسُ لم يعُد فإن لنا يومًا نُضيءُ به الدنيا ونملؤُها حمدًا
وتُلبِسُنا في الليل آفاقُه سَنَن وتُنشِئُنا في الفجر أنسامُه ندَى
بالتفاؤُل والأمل تتدفَّقُ روحُ العزيمة، وتتألَّقُ نسَماتُ النبُوغ، وتتأنَّقُ بواعِثُ الثِّقةِ والتحدِّي. وهذه القوةُ الأخَّاذة، والكُوَّةُ النورانية هي من أزاهير الشريعة الربانية، والسيرة المُحمَّدية لرسول الهُدى - صلى الله عليه وسلم -.
وإن حياتَه الكريمة - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام - لأنموذجٌ عمليٌّ للتدرُّع بالتفاؤُل والأمل والاستِبشار، في أحلَك الأزَمات والنوازِل والمُلِمَّات، حتى كان ليُبشِّرُ أصحابَه ويقول: «ليبلُغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهار، ولا يترُكُ الله بيتَ مدَرٍ ولا وبَرٍ إلا أدخلَه الله هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلاًّ يُذِلُّ الله به الكُفرَ»؛ أخرجه الإمام أحمد في "المسند".

نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ من الرُّسْل، والأوثانُ في الأرض تُعبَدُ
فأمسَى سِراجًا مُستنيرًا وهادِيًا وعلَّمَنا الإسلامَ، فاللهَ نحمَدُ
أمة الإيمان:
وفي حوالِك الكُروب، ومعامِع الخُطوب، ومُدلهِمَّات الدُّروب تشرئِبُّ طُلَى أهل الإيمان إلى إشراقات النَّصرِ وبشائر الانبِلاج، وتتطلَّعُ إلى أرَجِ الانفِراج، وها هو واقعِنا خيرُ شاهِدِ عِيان، وأصدقُ مُنبِئٍ وبُرهان.
فكم من أممٍ وانيةٍ عزَّت من بعد هُمود، ونهضَت بعد خُمود، وسادَت بعد جُحود، وها هي فُلولُ الظلم والطُّغيان في بلاد الشام تحسِبُ سُويعَات حياتها، وإن كانت في عُقر القِلاع الحَصينة المَشيدة، وخلفَ المتارِسِ الشديدة؛ فالبشائرُ تأتي بتضييق الحِصار، ونِعمَّا هي الأخبار، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55].
نعم، لنا اللهُ مولانا نُؤمِّلُه عند الرَّخاءِ وفي الشِّدَّاتِ والنُّوَبِ
ربٌّ يَغارُ ومن يطلُبه يُدرِكه لا أرضٌ تقِيه ولا قصدٌ إلى هرَبِ
أهلَنا وإخوانَنا في فلسطين الصامِدة، بلد الأقصى الأسير! أبشِروا بالنَّصرِ الأثِير، بعد ما فُتِحَت المعابِر، وخُفِّفَ الحِصار، مما يزيدُ التفاؤُل والاستِبشار؛ فإننا نُؤمِّلُ الفرَجَ بعد الشدَّة والحرَج، واليُسرَ من بعد الضِّيقِ والعُسر، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر: 2].
إننا لنتفاءَلُ - بإذن الله - بانبِلاجِ صُبحِ النصر المُبين في كل مكانٍ، على الظِّرابِ والآكام، لإخواننا في بلاد الشام، وفي فلسطين، وبُورما وأراكان؛ فالنصرُ للإسلام وإن تكالَبَ اللِّئامَ، ونشَروا التدميرَ والظلمَ والإرهابَ والإجرامَ.

إنها سُنَّةُ الله في خلقِه، لكنَّه الابتلاءُ الابتلاءُ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31].
لا خيرَ في اليأسِ كلُّ الخيرِ في الأمَلِ أصلِ الشجاعةِ والإقدامِ في الرَّجُلِ
نُعلِّلُ النفسَ بالآمالِ نرقُبُها ما أضيَقَ العيش لولا فُسحةُ الأملِ
أمة النصر الموعود:
ليكُن منكم بحُسبان أن الأملَ والتفاؤُلَ لُحمُهما وسَداهُما التطوُّرُ والتجديدُ، ونبذُ الرَّتابَةِ والنَّمَطيَّة؛ فهُما للكَسَل والخُمول نِعمَ المطيَّة، مع المُحافَظة على الأُصول والثوابِت، فبِهما يتمُّ المُرادُ - بإذن الله -.
فابدأوا - رحمكم الله - مع بداية العامِ بالجدِّ والاجتِهاد، والتفاؤُل بالنَّصرِ والأمجادِ، والمغانِم الفِراد؛ فغوالِي الأماني لا تُدرَكُ بالتوانِي، وأنَّى يُدرِكُ العوالي الفَدمَ العالي؟!
يقول عبدُ الله بن الزُّبير - رضي الله عنهما -: "من جاء يطلُبُ ما عند الله فإن طالبَ الله لا يخيبُ، فصدِّقُوا قولَكم بفعلٍ؛ فإن مِلاكَ القول الفِعلُ".
وبعدُ، يا رعاكم الله:
ليكُن منكم بحُسبان أن الزمان أنفاسٌ لا تعُود، ولو جُمِعَت له الحرسُ والبُنود، وهو وحِيُّ التقضِّي، أبِيُّ الجانبِ، بطيءُ الرُّجوع، وهو مُنقضٍ بذاته، مُنصرِمٌ بنفسه، فمن غفَلَ عنه تصرَّمَت أوقاتُه، وعظُمَ فواتُه، واشتدَّت حسَراتُه، فإذا علِمَ حقيقةَ ما ضاع طلبَ الرُّجعَى، فحِيلَ بينه وبين الاستِرجاع.
وما المرءُ إلا راكِبٌ ظهرَ عُمره على سَفَرٍ يُفنيه باليوم والشَّهرِ
يَبيتُ ويُضحِي كلَّ يومٍ وليلةٍ بعيدًا عن الدنيا قريبًا من القبرِ
فاللهَ اللهَ في تحقيق العقيدة والتوحيد، ولُزوم السُّنَّة والجماعة، وتحكيم الشريعة، والعناية بالشباب والأجيال، والتحلِّي بالوسطيَّة والاعتِدال، والاستِثمار الأمثَل لوسائل الاتِّصال، وتسخير وسائل الإعلام في خدمةِ الإسلام، والله - عز وجل - يقول: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيمٌ.

[color="rgb(0, 100, 0)"]
الخطبة الثانية
[/color]
الحمد لله مُقدِّر الأزمان والآجال، ومُبدِع الكون على غير مِثال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الكمال والجلال والجمال، يعجَزُ عن وصفِه بليغُ البيان والمقال، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ من عبَدَ ربَّه في الغِنَى والإقلال، صَلَّى الله عليه صلاةً دائِمةً في الأسحار والآصَال، وعلى آله وصحبه خيرِ صحبٍ وآلٍ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وصالحِ الأقوال والأعمال، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المؤمنون:
اتقوا الله حقَّ التقوى؛ فإن تقواه - سبحانه - أوثقُ الوثائِق، وهي العُدَّةُ في المضائِق، وبها تُكشَفُ وجوهُ الحقائق.
إخوة الإيمان:
إن استِهلالَ عامٍ هجريٍّ جديدٍ يُذكِّرُنا بحدَثَيْن عظيمَيْن جليلَيْن غيَّرَا مجرى التأريخ، وكان فيهما نصرٌ وتمكينٌ، وعِزٌّ للأنبياء والمُرسلين والمُؤمنين، يبعَثان في النفس التفاؤُلَ والأملَ.
وأولُ هذين الحدَثَين: يومُ عاشوراء، ذلك اليوم الذي أنجَى الله فيه موسى وقومَه، ولذلك صحَّت السُّنةُ النبوية بفضل صيامِه عن الحبيب المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، كما في حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: «أحتسِبُ على الله أن يُكفِّرَ السَّنةَ التي قبلَه»؛ خرَّجه مسلمٌ في "صحيحه".
أما ثانيهِما: فهو هِجرةُ النبي المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وإنه لحدَثٌ لو تعلَمون عظيمٌ، فيه من الفوائد والفرائد ما تحوِيه أجلاد، ولا يُوفِّيه جلَدٌ ولا اجتِهاد، وإن ذِكراها لتُشمرِجُ القلوبَ، وتزيدُ الشَّوقَ إلى النبي الحبيبِ المحبوبِ - صلى الله عليه وسلم -، وشمائله الزكيَّة، وأخلاقِه وقِيَمه السنِيَّة.
ولقد كان حدَثُ الهِجرة النبويَّة أمرًا فارِقًا في تأريخ البشريَّة جمعاء، لذا جعلَه الفاروقُ عمرُ - رضي الله عنه - بدايةَ التأريخ الإسلامي، ومُستندَ الوقائع والأحداث.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وتفاءَلوا بالخير تجِدوه، واستفتِحوا عامَكم بمُحاسبةٍ جادَّةٍ صادقةٍ، وتوبةٍ نَصوحٍ من الزلاَّت والسيئات، وداوِموا على الأعمال الصالحات، وأكثِروا من القُرُبات والطاعات، وسجِّلوا في صحائِف عامِكم هذا ما يسُرُّكم في دُنياكم وأُخراكم، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر: 39].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على البشير النذير، والسراجِ المُنير، كما أمرَكم بذلك اللطيفُ الخبيرُ، فقال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
أزكى صلاةٍ بتسليمٍ يُؤازِرُها على نبيٍّ كريمِ الأصلِ مُختارِ
محمدٍ خيرِ مبعوثٍ وعِترتِه وصحبِه خيرِ أصحابٍ وأنصارِ
اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ والتابعين، وعن الطاهرات أمهات المؤمنين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وأسبِغ عليه لِباسَ الصحةِ والعافيةِ، وارزُقه البِطانةَ الصالحةَ التي تدُلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة المُسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعَلهم نُصرةً لعبادك المُؤمنين يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، برحمتك نستغيثُ، فلا تكِلنا إلى أنفُسنا طرفةَ عينٍِ، وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه.
اللهم انصُر إخوانَنا المُجاهدين في سبيلك في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصَّهايِنة المُعتدين المُحتلِّين، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من عُدوان المُعتدين يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كُن لإخواننا في سوريا، اللهم كُن لإخواننا في سوريا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم كُن لإخواننا في بُورما وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّولِ والإنعام.
اللهم إنا نسألُك من الخير كلِّه عاجِلِه وآجِلِه، ما علِمنا منه وما لم نعلَم، ونعوذُ بك من الشرِّ كلِّه ما علِمنا منه وما لم نعلَم.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، وارفع الضُّرَّ عن المُتضرِّرين، والبأساءَ عن البائسين المُضطهَدين يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك فلا تمنَع عنَّا بذنُوبِنا فضلَك.
اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مِدرارًا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وجميع المُسلمين والمسلمات، الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
[/color]

ابوحاتم 12-15-2012 10:37 AM

قصة يوم عاشوراء

ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 9lpvl 1434iJبعنوان: "قصة يوم عاشوراء"، والتي تحدَّث فيها عن الواجبِ على كل مسلمٍ من تذكُّر الأيام الخالِدة، والوقوف أمامها لأخذ العِبرة والعِظة، وأن من أعظم الأيام التي تُستقبَلُ: يوم عاشوراء، وذكرَ طرفًا من قصة إنجاء الله لموسى – عليه السلام – ومن معه، وإهلاك فرعون وجنوده، وبيَّن العِبَرَ والدروسَ المُستفادة منها، وذكَّر بفضل صيام هذا يوم عاشوراء، وحذَّر من الابتِداع فيه بما أحدثَه الناسُ من مُحدثاتٍ وخرافاتٍ.


الخطبة الأولى

الحمد لله يُنجِّي المؤمنين، ويمحَقُ ويُذِلُّ الكافرين، أحمده - سبحانه - والحمدُ واجبُ له في كل حينٍ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجُو بها الفوزَ يوم الدين، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وإمامُ المتقين ورحمةُ الله للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الأبرار الميامين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وراقِبوه واذكُروا أنكم مُلاقوه، موقوفون بين يديه، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19].
أيها المسلمون:
التذكيرُ بأيام الله الخالِدة، والوقوفُ أمامَها لأخذ العِبرة، وتذكُّر النِّعَم، ورسمِ مناهجِ السَّير لما يُستقبَلُ من الأيام شأنُ كلِّ أوَّابٍ حفيظٍ، وطريقُ الصَّفوة من عباد الله، ودَيدَنُ المُوفَّقين أُولي الألباب.
وإن من أعظم أيام الله التي يستقبِلُها المُسلمون: يوم عاشوراء، ذلك اليومُ الصالحُ الذي يُذكِّرُ الله فيه أهلَ الإيمان بنعمةٍ من أجلِّ نعمِه، وأعمقِها أثرًا، وأعظمها دلالةً، تلك هي: نعمةُ إنجاء موسى - عليه السلام - ومن معه من المؤمنين، وإغراق الطاغية فرعون وحِزبه وجنوده الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ [الفجر: 11، 12]، حين استكبَروا في الأرض بغير الحقِّ، ونفَوا القيامة، وأنكَروا المعاد، وبلغ بفرعون عُتُوُّه وعلُوُّه وإسرافُه واستِكبارُه أن قال لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، وقال لهم أيضًا: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24].
فقصَّ الله خبرَه في كتابٍ يُتلَى ليكون عِبرةَ الأبد، وعِظةَ الأيام، فقال - سبحانه -: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 52- 68].
ويبسُطُ الإمامُ الحافظُ ابن كثيرٍ مدلولَ هذه الآيات العظيمة فيقول: "لما طالَ مقام موسى - عليه السلام - ببلاد مصر وأقام بها حُجَجَ الله وبراهينَه على فرعون وملَئِه، وهم مع ذلك يُكابِرون ويُعانِدون لم يبقَ لهم إلا العذابُ والنَّكال، فأمرَ الله موسى - عليه السلام - أن يخرُج ببني إسرائيل ليلاً من مصر، وأن يمضِيَ بهم حيث يُؤمَر، ففعل موسى - عليه السلام ما أمرَه به ربُّه - عز وجل -، وخرجَ بهم بعد ما استعارُوا من قوم فرعون حُلِيًّا كثيرًا.
وكان خروجُه بهم - فيما ذكرَ غيرُ واحدٍ من المُفسِّرين - وقتَ طلوع القمر، فلما أصبحَ قومُ فرعون وليس في نادِيهم داعٍ ولا مُجيبٌ، غاظَ ذلك فرعون واشتدَّ غضبُه على بني إسرائيل لما يُريدُ الله به من الدَّمار، فأرسلَ سريعًا في بلاده من يحصُرُ الجُندَ ويجمعُه، ونادى فيهم قائلاً: إن بني إسرائيل طائفةٌ قليلةٌ، وفي كل وقتٍ يصِلُ لنا منهم ما يغيظُنا، ونحن لذلك نحذَرُ منهم، ونُريدُ أن نستأصِلَ شأفتَهم.
فجُوزِيَ في نفسِه وجُنده بما أراد لهم، فخرجوا من النعيم الذي كانوا فيه، وتركوا تلك المنازِلَ العالية والبساتين والأنهارَ والأموالَ والأرزاقَ والمُلكَ الجاهَ الوافِرَ في الدنيا، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137].
وذكرَ غيرُ واحدٍ من المُفسِّرين أن فرعون خرجَ في محفلٍ عظيمٍ وجمعٍ كبيرٍ من أُولِي الحلِّ والعقد والدول من الأُمراء والوزراء والكُبراء والرُّؤساء والجُنود، فوَصَلوا إليهم عند شروق الشمس، فلما رأى كلٌّ من الفريقَيْن صاحبَه فعند ذلك قال أصحابُ موسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]، فقال لهم موسى - عليه السلام -: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62]؛ أي: لا يصِلُ إليكم شيءٌ مما تحذَرون؛ فإن الله - سبحانه - هو الذي أمرَني أن أسيرَ ها هُنا بكم، وهو - سبحانه - لا يُخلِفُ الميعاد.
وكان هارون - عليه السلام - ومعه يُوشعُ بن نون ومؤمنُ آل فرعون، وموسى - عليه السلام - في السَّاقَة؛ أي: في المُؤخِّرة.
وذكرَ غيرُ واحدٍ من المُفسِّرين أنهم وقَفوا لا يدرُون ما يصنَعون، وجعلَ يُوشعُ بن نُون أو مُؤمنُ آل فرعون يقول لموسى - عليه السلام -: يا نبيَّ الله! ها هُنا أمرَك الله أن تسيرَ؟ فيقول: نعم.
واقتربَ فرعونُ وجنودُه ولم يبقَ إلا القليل، فعند ذلك أمرَ الله نبيَّه موسى أن يضرِبَ بعصاه البحر، فضربَه وقال: انفلِق بإذن الله، فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 63]؛ أي: كالجبل الكبير.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: صار البحرُ اثنَيْ عشر طريقًا لكلِّ سِبطٍ طريقٌ، وبعثَ الله الرِّيحَ إلى قعر البحر، فلفحَته فصار يَبَسًا كوجه الأرض، قال الله تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [طه: 77].
وقال في هذه القصة: وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ [الشعراء: 64]؛ أي: قرَّبنا من البحر هُنالك فرعون وجُنودَه وأدنيناه إليه، وأنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتَّبَعهم على دينهم، فلم يهلِك منهم أحدٌ، وأغرقَ فرعونَ وجُنودَه فلم يبقَ منهم رجلٌ إلا هلَك".
عباد الله:
إن في هذه الواقِعة من الدلالات والعِبَر ما لا يحُدُّه حدٌّ، ولا يستوعِبُه بيانٌ، وفي الطَّليعة من ذلك: أن الله تعالى هو المُنجِّي من الكُروب والشدائد التي تنزِلُ بأهل الإيمان، لا سيَّما الرُّسُل منهم، كما قال - سبحانه -: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 103].
وهو دليلٌ بيِّنٌ على أن الإيمان والإسلام سببٌ للنجاة من كل ضُرٍّ وشرٍّ في الدنيا، وطريقٌ للفوز بكلِّ خيرٍ ونعيمٍ في الآخرة، إذا التزمَ المرءُ بمُقتضياتهما، وعمِلَ بأحكامهما، وهذا يقتضِي من العبدِ إخلاصَ العبادة لله، وصدقَ اللُّجوء إليه، وكمالَ التوكُّل عليه، ولُزومَ بابه بشدَّة الضراعة والإلحاح والتوسُّل إليه، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر: 65].
ومن ذلك: أن سُنَّةَ الله في دحرِ الطُّغيان وهزيمة جُنده ماضيةٌ لا تتخلَّفُ ولا تتبدَّلُ، ولهذا قال - سبحانه - في بيان عاقبة فرعون: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص: 40- 42].
وعلى العكس منهم: أولئك الذين استُضعِفوا في الأرض، فنالَهم من صُنوف الأذى والعُدوان ما نالَهم، ونزلَ بهم من الضرِّ والشدائد ما نزَل، فقد جعلَ الله عاقبتَهم عِزًّا وسيادةً ورِيادةً وتمكينًا في الأرض، واستِخلافًا فيها، كما قال - سبحانه -: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 5، 6].
وهذه عاقبةُ الحقِّ وأهله على الدوام، مهما اغبرَّ وجهُ الحق، وغشِيَته غواشِي الباطل، وإن بشائرَ تحقُّق هذه العاقبةِ للمُؤمنين المُستضعَفين في غزَّة وسائر فلسطين، وفي سُوريا وميانمار، لتلُوحُ في الأُفُق القريب - إن شاء الله -.
فبُشرى لهم، ثم بُشرى، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم: 4، 5].
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
لقد سنَّ رسولُ الهُدى - صلواتُ الله وسلامُه عليه - للأمَّة صيامَ هذا اليوم العظيمِ المُبارَك شُكرًا لله تعالى على نعمةِ إنجائِه موسى - عليه السلام - ومن معه من المُؤمنين، وإغراقِ فرعون وجُنودِه، وإظهارًا لوَثيقِ الصِّلةِ بين الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ولبيان أن دينَهم واحدٌ وإن كانت شرائِعُهم شتَّى.
فقد أخرجَ الشيخان في "صحيحيهما"، واللفظُ للبُخاريِّ - رحمه الله -، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قدِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، فرأى اليهودَ تصومُ يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا؟». قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يومُ نجَّى اللهُ بني إسرائيل من عدُوِّهم، فصامَه موسى. قال - صلى الله عليه وسلم -: «فأنا أحقُّ بمُوسى منكم»، فصامَه وأمرَ بصيامه.
وفي لفظٍ لمُسلمٍ - رحمه الله -: «هذا يومٌ عظيمٌ أنجَى الله فيه موسى وقومَه، وأغرقَ فرعون وقومَه، فصامَه موسى».
وفي لفظٍ للطبراني - رحمه الله -: أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: «نحن أحقُّ باتباع مُوسى منكم».
وأخبرَ - صلوات الله وسلامه عليه - عن عِظَم ثواب صيام هذا اليوم فقال: «صيامُ يوم عاشوراء أحتسِبُ على الله أن يُكفِّرَ السَّنةَ التي قبلَه»؛ أخرجه مسلمٌ في "صحيحه" من حديثِ أبي قتادةَ الأنصاريِّ - رضي الله عنه -.
ومن السُّنَّة - يا عباد الله - في صيامه: أن يُصامَ يومٌ قبلَه؛ فقد أخرجَ مُسلمٌ في "صحيحه" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لئن بقِيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسِعَ».
والمُعتمَدُ لدى أهل العلمِ بالحديث - يا عباد الله - أنه لا يصِحُّ في يوم عاشوراء ولا في ليلته ولا في التوسِعةِ فيه على العِيالِ حديثٌ، وكلٌّ ما يُروَى في ذلك فهو مردودٌ لا يصِحُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يُستحبُّ فيه سِوى صيامِه وصيامِ يومٍ قبلَه.
فيجبُ اجتِنابُ ما أُحدِثَ فيه من البِدَع؛ كإحياء ليلته وتخصيصِها بالذِّكر والتعبُّد، وتخصيصِه بدعاءٍ خاصٍّ له يُسمَّى "دعاء عاشوراء"، واعتقاد أن من قرأَه لم يمُت سنتَه تلك، وقراءة سُورةٍ يُذكرُ فيها نبيُّ الله موسى - عليه الصلاة والسلام - في صلاة الصبح يوم عاشوراء، والاجتِماع في يومِه للذِّكر والدعاء، ونعيِ الحُسين - رضي الله عنه - ذلك اليوم على المنابِر، واعتِقاد أن البَخورَ يوم عاشوراء رُقيةٌ يُدفَعُ بها السِّحرُ والحسَدُ والمسُّ والنَّكَد، إلى غير ذلك مما لم يأذَن به الله ولم يشرَعه رسولُه - صلوات الله وسلامه عليه -، ولا عمِلَه أحدٌ من صحابته - رضوان الله عليهم أجمعين -.
وقد حذَّر رسولُ الهُدى - صلوات الله وسلامُه عليه - من الإحداثِ في دين الله فقال: «من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ» - أي: مردودٌ على صاحبه -؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -.
وفي لفظٍ لمُسلمٍ - رحمه الله -: «من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ».
فاتقوا الله - عباد الله -، واحرِصوا على إدراك هذا الفضلِ العظيم؛ بصيام هذا اليوم العظيم، ولُزوم السنَّة فيه، بالاتباع لهدي خيرِ الورَى - صلى الله عليه وسلم -، وحذارِ من ابتِداع ما لم يأذَن به اللهُ في هذا اليوم وفي سائر الأيام؛ فكلُّ خيرٍ في اتباع من سلَف، وكلُّ شرٍّ في ابتِداع من خلَف.
واذكروا على الدَّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدقِ الحديث وأحسنِ الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ، وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم أسبِغ عليه نعمةَ الصحة التامة والعافية يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم التَّناد.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أحسِن لهم المثوبةَ، وأعظِم لهم الأجرَ على ما يُقدِّمونَه من خدماتٍ لحُجَّاج بيتك الحرام، اللهم اكتُب المثوبةَ وعِظَم الأجر لكل من كان له يدٌ في خدمة حُجَّاج بيت الله الحرام مدنيِّين وعسكريِّين يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتِك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطك، اللهم إنا نسألُك من خيرِ ما سألَك منه عبدُك ونبيُّك محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بك من شرِّ ما استعاذَك منه عبدُك ونبيُّك محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، أنت المُستعانُ وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم انصر واحفَظ المُسلمين في سوريا، وفي غزَّة وفي سائر فلسطين، وفي ميانمار، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم على عدوِّهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم اشفِ جرحاهم، واكتُب أجرَ الشهادة لقتلاهم يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
وصلَّى اللهم وسلَّم على عبدِه ورسولِه نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


ابوحاتم 12-15-2012 10:41 AM

الشائعات وأثرها السيئ على الأمة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 16lpvl 1434iJ بعنوان: "الشائعات وأثرها السيئ على الأمة"، والتي تحدَّث فيها عن الشائعات وما تُسبِّبُه من آثارٍ سيئة وعواقِبَ وخيمةٍ في عضُد الأمة الإسلامية، مُتمثِّلةٍ في مقالاتٍ وتغريداتٍ، في مواقع وشبكاتٍ ومُنتدياتٍ، ومُراسلاتٍ بين فِتيانٍ وفَتياتٍ، وحذَّرَ من نقلِ الأخبار دون توثُّقٍ من مصدرِها ومدى نفعِها أو ضررِها، ونبَّه على خطورة المِساس بأصول الدين وثوابته عبرَ هذه التِّقنيَّات.

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله ذي العزِّ القاهِر، والسلطان الظاهر، سبحانه عزَّ مجدُه، وعلا سلطانُه، علِمَ فستَر، وقدَّر فغفَر، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه، أسبغَ النعمة، وأجزلَ المنَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تقودُ إلى رِضوانه والجنَّة، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أفضلُ خلق الله وأهداهم إليه سبيلاً، وأدلُّهم عليه طريقًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأبرار، وأصحابه الميامين الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فالكيِّسُ من دانَ نفسَه وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجِزُ من أتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني.
في مُرور الأعوام تصرُّم الأعمار، فما أسرعَ انقِضاء الليالي والأيام، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93]. جعلَنا الله وإياكم ممن طالَ عُمرُه، وحسُنَ عملُه، وغُفِر ذنبُه، وثقُلَ ميزانُه.
أيها المسلمون:
وإن من أعظم ما يستوقِفُ الناظِر، ويبعثُ على المُحاسَبة الجادَّة: قولُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح: «كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع»؛ رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. إنها المُحاسبةُ الجادَّة، والفحصُ الدقيق.
معاشر المسلمين:
للكلمة أثرُها، وللصورة مفعولُها في أي وسيلةٍ، في خُطبةٍ أو مقالةٍ، أو مُحاضرةٍ أو تغريدةٍ، من خطيبٍ أو مُتحدِّث، أو كاتبٍ أو داعيةٍ، أو مُعلِّقٍ أو مُتابِعٍ، وفي أي وسيلةٍ من وسائل الإعلام والتواصُل.
وفي هذا الزمن بتِقنِيَّاته واتصالاته، وتدويناته وتغريداته، ومواقعه وشبكاته، وإعلامه وقنواته، ومواقعه وتدويناته وسيلتُها كلُّها: الكلمةُ والصورةُ؛ فويلٌ للمُتهاوِنين من المُغرِّدين والمُتابِعين!
كم هي العواقِبُ التي تُكلِّفُ الكثيرَ والكثيرَ من الأنفُس والأموال والجهود؟!
معاشر الأحِبَّة:
إن تهاوُن الناس - ولا سيَّما الفِتيان والفَتيات - مما ينعتُونَه بالثَّرثَرة الجماعيَّة من خلال المجامِيع التي يُنظِّمُونها أو ينتظِمون فيها في هواتِفهم وأجهزتهم؛ بل يتسارَعون لإحراز قصَب السَّبْق في نشر المعلومات أو تلقِّيها، بقطع النَّظر عن صحَّتِها أو دقَّتِها أو خطرِها، بل الخطرُ فيما تؤولُ إليها من نتائج خطيرة على الدين والعقيدة، وعلى البلاد وأهلها، وعلى الأمن والاستِقرار،مما ينشرُ الإرباك والاضطِراب، بل اخوفَ والإرهابَ.
ويزدادُ الخطرُ والخوفُ وسوءُ العواقِب حين لا تُعرفُ مصادرُ هذه الأخبار والإشاعات، ولا أغراض نشرِها وأهدافِهم، فلا مِصداقيَّةَ ولا موثوقيَّة، «كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع».

هذه الوسائلُ والمواقعُ وسطٌ خصبٌ، وبيئةٌ للإشاعات والأخبار المُختلفة والمُختلَقَة والآراء والرُّؤَى غير المسؤولة، ناهِيكم بأنَّ كثيرًا ممن يشتغِلُ بنقلِ هذه الكلِمات والصُّور والأخبار الخطيرة هم الفارِغون البطَّالون الذين ليس لديهم ما يشغَلون به أوقاتَهم من الخير والنفع لهم ولدينهم وأمتهم وأوطانهم.
ويعلمُ المُتابِعُ العاقلُ - فضلاً عن المُتخصِّص - أنهم لا في العِير ولا في النَّفير، الواحدُ منهم مُتَّكِئٌ على أريكته، ومُلازِمٌ للوحته، وعاكِفٌ على جِهازه، يُلقِي الكلامَ على عواهِنه هنا وهناك.
كم كلمةٍ أو تغريدةٍ قالت لصاحبِها: دعني! وكم تدوينةٍ تهوي بقائلِها في نار جهنَّم أبعدَ ما بين المشرق والمغرب!
كلماتٌ تخرجُ كالسِّهام من أفواه البنادِق يقتلُ بها نفسَه، ويُهلِكُ أهلَه، ويُفسِدُ بلدَه، ويُجرِّئُ الأعداءَ، ويُمكِّنُ للخُصوم، ويبذُرُ بُذورَ الفُرقة، وينفَخُ في أبواق الفتنة. زاحمَ البَنانُ عنده اللسان ليُوغِلَ في التعقيبِ والتصنيفِ، والهدمِ والإفساد.
في كلماتٍ وصورٍ ومقاطع تستهزِئُ وتسخرُ من مُكوِّنات مُجتمعه، وكأنَّه قد تطوَّعَ يُسوِّدَ صُورتَه أمام الآخرين، ويُوثِّقَها صوتًا وصورةً، وكأنه مأجورٌ ليُدمِّرَ نفسَه، ويهدِمَ بيتَه، ويتنكَّرَ لهويَّته.
إذا سمِعَ خبرًا طارَ به كلَّ مطارٍ، ينشُرُه ويبُثُّه يُفاخِرُ بأنه حازَ السَّبْقَ في نشره، والكلمةُ تبلغُ الآفاق مُتخطِّيةً حواجِز الزمان والمكان في أجزاء من الثواني بلمسة بَنان أو غمزة أزرار. بل حقُّه أن يُحاسِبَ نفسَه قبل أن يُطلِقَ لسانَه، أو يغمِزَ بنانَه، أو يخُطَّ مقالَه، أو يُغرِّدَ تغريدتَه.
أين الحقيقة؟ وأين المصلحة؟ وأين الديانة؟ وأين الأمانة؟
يا تُرى هل هؤلاء يُسِّعون الآفاق أو يحفُرون الأنفاق؟! هل هم يَبنُون أو يهدِمون؟! هل هم يجمَعون أو يُفرِّقون؟! هل يزرَعون الأمل أو ؤيقودون لليأس؟! هل يرفعون من مقام أهلِهم وأوطانهم أو يُحقِّرون الذّوات ويسحَقون النفوسَ؟!
إنما يُفسِدُه هؤلاء المساكينُ الأغرار في لحظاتٍ قد لا يُمكنُ علاجُه في سنواتٍ، وقد يُكلِّفُ أموالاً ونفوسًا، وقد يستعصِي على العلاج. فلا حول ولا قوة إلا بالله!
معاشر المسلمين:
«كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع»، «ولا يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتبَ عند الله صدِّيقًا، ولا يزالُ الرجلُ يكذِبُ ويتحرَّى الكذِب حتى يُكتبَ عند الله كذَّابًا».
وقد أخبَرَنا نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - كما في الحديث الصحيح فيما رآه من أحوال الآخرة أنه: «يرَى الرجلَ يكذِبُ الكِذبَة فتبلغُ الآفاق، فيُنشرُ شِدقُه ومِنخَرُه وعينُه إلى قَفاه». فما أشدَّه من عذابٍ، وما أطولَه من زمانٍ!!
معاشِرَ الأحبَّة:
هذه قضيةٌ، وثمَّة قضيَّةٌ أخرى مُرتبطةٌ بها، وهي أكبرُ وأخطرُ؛ بل قد تكونُ أثرًا من آثارها، أو هدفًا من أهدافها، إنها: أمنُ المعلومات؛ بل الأمنُ على الدين وثوابتِه وأصُوله، والأمنُ على الأوطان ووحدتها وتماسُكها.
هذه التِّقنيَّاتُ والآلاتُ والوسائطُ والمواقعُ جعلَت المسؤوليَّةَ أعظمَ، وجعلَت مفهوم الحرية أدقَّ، فالحرُّ هو المُسيطرُ على نفسه، الضابطُ لها بضوابط العقل والدين والعلم. الحريةُ هي التخلُّص من قيود الشهوات، وسجون الرَّغَبات. الحرُّ هو المسؤولُ الذي يُفكِّرُ بانضِباطٍ لا بانفِلاتٍ.
إن هذه التِّقنيَّات فضَحَت بعضَ الذين يودُّون التفلُّتَ من عيون الرَّقيب، ناهِيكم برقيبِ الدين والضمير والأخلاق والمبادِئ.
الإيمانُ دينٌ صحيحٌ، والمُواطَنةُ عقلٌ راشِدٌ، والمسؤوليَّةُ أمانةٌ وثباتٌ وسعيٌ في المصالحِ العُليا والدُّنيا، وسيرٌ في دُروبِ الخير والرشاد، والحثّ عليها.
أيها العُقلاء:
الهدمُ سهلٌ، والانحِدارُ إلى الهاوِية لا يُكلِّفُ - عياذًا بالله -، تأمَّلُوا في بعضِ جيرانِنا الذي يُصبِحون على العبوَّات الناسِفة، ويُمسُون على قذائِف مُدمِّرة تستهدِفُ المنازِلَ والمتاجِرَ والمعابِدَ والمكاتِبَ والطوائِف.
إن المُراقِبَ لبعض القُوى الإقليمية والدولية الذين يُحاوِلون أن يُذكُوا الصراعات الطائِفيَّة القَبَلِيَّة والمذهبيَّة والمناطِقيَّة في منطقتنا يُحاوِلون أن يُذكُوا الصراع، ثم يُوظِّفُوه ليُقطِّعوا الدولَ، ويُبعثِروا الشُّعوبَ، ويُشرِّدوا الناسَ، ليتوزَّعوا الغنائِمَ، ولا يُهِمُّهم البَتَّة ولا يكترِثون لمصالح شعوب المنطقة وأهلِها أماتُوا جوعًا، أو تفرَّقُوا شِيَعًا، أو تناثَرُوا طوائِفَ، أو تقطَّعُوا أحزابًا؟
والسعيدُ الحكيمُ من وُعِظَ بغيره.
معاشر الإخوة والأحِبَّة:
نحن في هذه البلاد الطاهرة لقد تركَ لنا الآباءُ والأجدادُ وطنًا مُوحَّدًا وآمِنًا، بلدًا كريمًا عريضًا واسعًا مُترامِيَ الأطراف، عليه وُلاةُ أمرٍ جادُّون حازِمون في المُحافَظة على هذه الوحدة وعلى هذه الأمة تحت راية: (لا إله إلا الله، محمدٌ رسولُ الله) وخدمة الحرمين الشريفين ورعايتهما.
فيجبُ أتن تُقدَّر هذه النعمةُ الكُبرى، وأن يُحافَظَ عليها وتُورَّثَ للأبناء ثم الأجيال من بعدِهم - بإذن الله - لينعَموا بما ننعَمُ به من أمنٍ وإيمانٍ وخيرٍ وفضلٍ.
الحَذَرَ ثم الحَذَرَ من خُطباء الفتنةِ والتحريضِ، دُعاة تمزيق الأوطان، والعبَث بوحدتها، السُّعاة إلى تأجيج الفتنة وإثارة الفُرقة، في تُهمٍ باطلةٍ، وطعونٍ ظالمةٍ، وناصيةٍ كاذِبةٍ خاطِئةٍ، يصِفون أوطانَهم وأهلِيهم ورجالَهم بأقبَح الأوصافِ، في أسلوبٍ فجٍّ، وسوءٍ من القولِ.
يقومُ قائمٌ مأفونٌ هو الأغشُّ للأمة والأئمة، والأشدُّ على جماعة المسلمين ليهدِم الشوكة، ويُضعِف القوة، ويخدِم الأعداء، يزعُمُ أنه يُطالِبُ بحقوقٍ، ولن يكون نَيلُ الحقوق بفُحش القول، والتحريض، وامتِطاء مطيَّة العُنصريَّة والطائفيَّة، والاستِقواء بالسمَّاعين والدول الأجنبيَّة وأعداء الأمة، يُثيرُ الفتن، ويجرُّ الأغراب، ويتقوَّى بالخارجِ، وهذه خيانةٌ ظاهرةٌ، وتفريطٌ بالبلاد ومُقدَّراتها وأهلِها، ومثلُ هذا لا بُدَّ من الحَزم معه وأطرِه على الحقِّ وإلزامِه جادَّة الصواب، وحفظِ أمن البلاد والعباد، ووحدة الصفِّ والكلمة.
أيها المسلمون:
إن من مسؤولية الدولة وواجبِها أن تضرِبَ بيدٍ من حديدٍ على كل من يقتربُ من هذه الثوابِت ليهُزَّها أو ينالَ منها، إنه عبثٌ غيرُ مسؤولٍ ينالُ من الدين والوطن. الدولة مسؤولةٌ عن أمن الناس وحمايتهم وصيانة حقوقِهم ومُمتلكاتهم، وتنظيم شؤونهم في أسواقهم وبيوتهم ومرافِقهم.
الدولةُ بأجهزتها القضائيَّة والتنظيميَّة والتنفيذيَّة مسؤولةٌ عن أمن الناس واستِقرارهم، وتحقيق العيش الكريم لهم، مسؤولةٌ عن تحقيق العدل وتهيِئةٍ أسباب الحياة الطيِّبة.
وبعد، عباد الله:
فالحقوقُ مُتكافِئة، والحياةُ مُنظَّمة، والمصالِحُ مُعتبَرة، ولا يتحقَّقُ ذلك إلا في وطنٍ قويٍّ هادئٍ، مُستقرٍّ آمنٍ، تحكمُها دولةٌ قويةٌ مُهيمِنةٌ بقضائِها وأجهزتها وعدالتها.
وليحذَر المُسلمُ أن يكون مطيَّةً للإفساد وبثِّ روح الفُرقة، والخذلان لدينه، والخيانة لوطنه ولسائر أهله.
الحَذَر ثم الحَذَر أن يكون الإنسان من حيث يشعُر أو لا يشعُر وقودًا أو حطَبًا لمثلِ هذه الدعوات الفئويَّة الضيِّقة التي لا تأخُذُ حسابًا لأهلها وبلدِها وأمنِها وسلامتها، والضررُ سيلحقُ بالجميع، والنارُ ستُحرِقُ الجميع، ومن يتقاعسُ عن التصدِّي لهؤلاء الشُّذَّاذ والمُرجِفين والمُتطرِّفين، أو يُحاوِلُ إيجادَ أعذارٍ أو مُسوِّغاتٍ أو ينقُدهم بضعفٍ أو استِحياءٍ فهو شريكٌ في إضعاف الوطن وهزِّ كِيانه.
ووحدةُ الأوطان وسلامتُها والحفاظُ على دينها وأمنِها لا يجوزُ المِساسُ به أو العبَثُ به، بأي حالٍ وتحت أي مُسوِّغ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 25، 26].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، أنارَ بالإيمان قلوبَ أهل السعادة، فأقبَلَت على طاعة ربِّها مُنقادَة، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه وعَدَ على الشُّكر بزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعظِم بها من شهادةٍ، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المخصوصُ بالاصطِفاء والاجتِباء والسيادة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه صدَقوا في الإيمان وأحسَنوا العبادة، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما بقِيَت أعلامُ الدين مرفوعة وراياتُه مُشادَة، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد، فيا أيها المسلمون:
المُطالبةُ بالحقوق حقٌّ، وبابُ التناصُح مشروعٌ ومُشرَعٌ، وللناس حقوقُهم ومطالِبُهم، والنقصُ يجبُ أن يُسدَّد، والمطالِبُ تُرفَعُ وتُسمَعُ، ومسالِكُ النقد والمُطالبة بالإصلاح حقوقٌ مشروعةٌ إذا سُلِك بها المسالِكُ الصحيحةُ.
حقُّ النقد والتعبي والرأي كلُّ ذلك مشروعٌ مكفولٌ، ويجبُ أن يكون مبذولاً ومُتاحًا ما دام مُلتزِمًا بالثوابت من المُحافَظة على الدين بأُصوله، والوطن بوحدته، والأمة بمُكوناتها.
من المقبول أن يقسُو الناقِدُ والمُصلِحُ بعضَ القسوة في ألفاظه وعرضِه، ولكن لا يُمكنُ أن يُقبَل الاستِقواء بالأغراب، واستِعداء الأعداء، وامتِطاء مطيَّة الكذِب والتلبيس والتدليس.
إن في أوطاننا وبُلداننا كُتَّابًا وخُطباء ونُقَّادًا يكتُبون وينتقِدون بجُرأةٍ وقوَّةٍ وعقلٍ ويُطالِبون، لكنَّهم لا يتجاوَزون ثوابِتَ دينهم ومصالشحَ بُلدانهم، ولاؤُهم لأهلهم لا يُساوِمون، ولا يُدارُون، والقُصورُ وارِدٌ، والكمالُ عزيزٌ، والاجتِهاداتُ تُخطئُ وتُصيبُ.
يجبُ أن يكون الفرقُ واضِحًا بين حرية التعبير وحرية الرأي، وبين التحريض والتحريش ودقِّ معاوِل الهَدم والتفريق. فرقٌ بين النقد البنَّاء والدعوة للإصلاح، وبين زرع بُذور الفتن الطائفيَّة والقَبَليَّة والمناطقيَّة.
أصحابُ الحقوق والمطالِب المشروعة حقٌّ أن يُسمَع لهم، وأن تُستنهَضَ كلُّ المُؤسَّسات المُتخصِّصة الرسمية وغير الرسمية ليُستمَع إليهم، ويُنظَر في مطالبِهم، فما ثبَتَ من حقٍّ فيجبُ المُسارعةُ إلى تحقيقه حسبَ إمكانات الزمانِ والمكان والقُدرات، وما كان غير ذلك فيكونُ الردُّ بالحُسنى، وتقدير حقِّ المُطالبة.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فالسعيدُ من وُعِظ بغيره، والحكيمُ من نظرَ في العواقِب.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله، وهو الصادقُ في قِيلِه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك.
وإننا نحمدُك اللهم على ما مننتَ به عليه من الشفاء والعافية، فهو وليُّ أمرنا، وراعِي أمَّتنا، والدُنا خادمُ الحرمين الشريفين الملكُ الصالحُ، المؤمنُ بربِّه، الواثِقُ بفضلِه وبرِّه وإحسانه، فنسألُ الله أن يُتِمَّ عليه نعمةَ الصحةِ والعافيةِ، وأن يمدَّ في عُمره، ويُبارِكَ في عمله، وأن يحفظَ بلادَنا في أمنِها وإيمانها، وأن يرزُقنا الثباتَ على التقوى في ظلِّ هذه القيادة المُبارَكة.
لقد أتمَّ الله علينا نعمةَ الفرح والسرور، وبُشرى الصحة والبَهجة، فرحةٌ وبهجةٌ تغمُرُ كلَّ المُحبِّين، نابِعةً - بعد فضل الله ومنَّته - من مواقِف قائدِنا الثابتةِ الصادقةِ، وأيادِيه البيضاء، وصفاء قلبِه، وشفافية مسلكِه. ذلكم هو جسرُ العلاقة بينَه وبين أبناء شعبِه وأمَّته، فالحقائقُ والشفافيَةُ والعقلُ والاتِّزانُ هي النهجُ الذي ينتهِجُه ويُوجِّهُ إليه - حفظه الله -.
فلا عجبَ أن يتبوَّأ مكانة أكثر الشخصيات الإسلامية تأثيرًا في سنواتٍ مُتتالياتٍ.
فالحمدُ لله على فضلِه ونعمائِه، ولا عزاءَ لأسرَى الشائعات، ولا نامَت أعيُن المُتقوِّلين.
اللهم أدِم عليه نعمةَ الصحة والعافية، ووفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، وفي بورما، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، واجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم عليك اللهم بالطغاة الظلمة في سوريا وفي بورما، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في الطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، الله فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
سبحان ربك رب العِزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.

ابوحاتم 12-15-2012 10:47 AM

وقفةٌ مع معنى البركة

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 23 lpvl 1434iJ بعنوان: "وقفةٌ مع معنى البركة"، والتي تحدَّث فيها عن البركة ومعناها، وذكرَ بعضَ الآيات والأخبار والآثار التي وردَ فيها فضلُها وعِظَمُ أثرها ونفعِها، وبيَّن أن الذنوبَ والمعاصِي سببُ محقِها وذهابِها.

الخطبة الأولى

الحمد لله، تباركَ في ذاته وباركَ من شاءَ من خلقه، الحمدُ لله العليِّ الأكرم، لا يُوفِي قدرَه بشرٌ ولا يقومُ بحقِّه، ولا ينفكُّ مخلوقٌ من رِقِّه، ولا يستغنِي بشرٌ عن جُودِه ورِزقِه، هو الأولُ في هذا الوجود وله وحده القيامُ والسُّجود، وجودُه - سبحانه - لا يُشبِهُه وجود، وجُودُه - سبحانه - لا يُشبِهُه جُود، وبطشُه يبغَتُ المُعرِضين وهم في صحوِهم أو هم هُجود، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله؛ فهي العُدَّةُ في الشدائد، والعونُ في المُلِمَّات، وهي أُنسُ الروح والطُّمأنينة، ومُتنزَّلُ الصبر والسَّكينة، ومبعثُ القوةِ واليقينِ، ومِعراجُ السموِّ إلى السماء،وهي التي تُثبِّتُ الأقدامَ عند المزالِق، وتربِطُ على القلوبِ عند الفتن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].


أيها المسلمون:
في تحايانا وفي دعواتنا عباراتٌ تستحقُّ التأمُّلَ، كلماتٌ نُردِّدُها كل يومٍ بيننا، وفي صلواتنا، قد جمَعت خيرَي الدنيا والآخرة، وسعادةَ الحال والمآل، إنها الدعاءُ بالبركة.
يلقَى المُسلمُ أخاه فيقول له: السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته؛ فهل تأمَّلنا معنى الدعاء بالبركة؟
وفي صلاتنا ندعُو: «وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركتَ على إبراهيم»، وفي دُعاء قيام الليل: «وبارِك لي فيما أعطيتَ»، ونقول للزوجَين: «باركَ الله لكما، وباركَ عليكما».
فما حقيقةُ هذه البركات؟
عباد الله:
أصلُ البركة: الثُّبوتُ والدوامُ والاستِقرارُ، والبركةُ: النَّماءُ والزيادةُ وكثرةُ الخير. يُقال: باركَه الله وباركَ فيه وباركَ عليه وباركَ له، والمُبارَك: الذي قد باركَه الله تعالى، قال - سبحانه -: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ [الأنبياء: 50]، وذلك لكثرة خيرِه ونفعِه ووجوه البركةِ فيه.
البركةُ كلُّها من الله؛ فإن الربَّ تعالى هو الذي تباركَ وحدَه، وكلُّ ما نُسِبَ إليه مُبارَكٌ، فكلامُه مُبارَك، ورسولُه مُبارَك، وعبدُه المُؤمنُ النافعُ لخلقه مُبارك، وبيتُه الحرام مُبارَك، وكِنانتُه من أرضه - وهي الشام - أرضُ البركة، وصفَها بالبركة في آياتٍ من كتابه، وباركَ المسجدَ الأقصى وما حولَه.
والله تعالى يُقال في حقِّه: تبارك؛ أي: تعالى وارتفع وتقدَّس وتمجَّد، ولا يُقال: تبارك في حقِّ أحدٍ غير الله تعالى، تباركَ في ذاته، وباركَ من شاءَ من خلقه، كما يُقال: تعاظمَ وتعالى، فهو دليلٌ على عظمته وكثرة خيره ودوامِه واجتِماع صفات الكمال فيه، وأن كلَّ نفعٍ في العالَم فمن نفعِه - سبحانه - ومن إحسانه، فهو ذو العظمة والجلال وعلوِّ الشان.
ولهذا إنما يذكُره غالبًا مُفتتِحًا به كلامَه وعظمتَه وكبرياءَه، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1]، وقال - سبحانه -: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54].
أيها المسلمون:
وقد يجعلُ اللهُ بعضَ خلقه مُبارَكًا، فيكثُر خيرُه، ويعظُم أثرُه، وتتصِلُ أسبابُ الخير فيه، وينتفعُ الناسُ منه، كما قال المسيحُ عيسى - عليه السلام -: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ [مريم: 31].
البركةُ فضلُ الله يأتي للإنسان من حيث لا يُحِسُّ ولا يحتسِب، فكلُّ أمرٍ تُشاهَدُ فيه زيادةٌ غير محسوسة يُقال: مُباركٌ، وفيه بركةٌ.
البركةُ هِبةٌ من الله فوق الأسباب الماديَّة التي يتعاطاها البشرُ، وإذا باركَ الله في العُمر أطالَه على طاعته أو جمع فيه الخيرَ الكثيرَ، وإذا باركَ الله الصحةَ حفِظَها لصاحبِها، وإذا باركَ في المال نمَّاه وكثَّرَه، وأصلحَه وثمَّره، ووفَّق صاحبَه لصرفه في أمور الخير وأبواب الطاعة، وإذا باركَ الله في الأولاد رزقَ بِرَّهم وهداهم وأصلَحَهم، وإذا باركَ الله في الزوجة أقرَّ بها عينَ زوجا؛ إن نظرَ إليها سرَّتْه، وإن غابَ عنها حفِظَتْه.
وإذا باركَ الله في العمل امتدَّ أثرُه، وعظُم نفعُه وبِرُّه، وما باركَ الله الأعمالَ بمثلِ الإخلاصِ لله ومُتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وكلُّ شيءٍ لا يكونُ لله فبركتُه منزوعةٌ؛ فإن الله تعالى هو الذي تباركَ وحده، والبركةُ كلُّها منه".
وفي الأثر الإلهي: «يقول الربُّ - تبارك وتعالى -: إني إذا أُطِعتُ رضيتُ، وإذا رضيتُ باركتُ، وليس لبركتي نهاية»؛ أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" بسندٍ صحيحٍ إلى وهب بن مُنبِّه.
وكم رأى الناسُ من بركة الله في الأشياء والأوقات، والأقوال والأعمال والأشخاص، فيكثُر القليلُ، ويعمُّ النفعُ، ويتَّصِلُ الخيرُ، وتتمُّ الكفايةُ، ويعلُو الرِّضا، وتطيبُ النفوس.
في سِيَر العُظماء عِبَرٌ من البركات، وقد كانوا بشرًا من الناس، ولكنَّ الله باركَ في أعمالهم وأعمارهم، وأشرفُ الخلق محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - كا يومُه يومًا مُباركًا، وقد عمَّ نفعُه، وتوالَت بركتُه، ولا زالت تتْرَى إلى أن يرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، مع أن دعوتَه لم تتجاوَز ثلاثًا وعشرين عامًا.
وكانت خِلافةُ أبي بكرٍ - رضي الله عنه - سنتين وأشهُرًا، ومع ذلك حقَّقَ فيها ما يحتاجُ إلى عُقودٍ.
وفي العلمِ ترى من العُلماء عجبًا؛ فهذا الإمامُ الشافعيُّ - رحمه الله - تُوفِّي وهو في سنِّ الرابعةِ والخمسين، وهذا الطبريُّ والنوويُّ وابن تيمية وغيرهم تركُوا لنا إرثًا من العلم والتواليف والكتب ما تنقضِي دونَه الأعمار، ويعجزُ عنه الفِئامُ من الرجال، وليس ذلك إلا إعانةً من الله وبركةً جعلَها في أوقاتهم وفي آثارهم.
وأما البركةُ في حياة الناس؛ فقد كان يكفِيهم القليلُ رِزقُ كل يومٍ بيومِه، يُؤوِي البيتُ الواحدُ جمعًا من الأُسَر، وطعامُ الواحدِ يَكفِي الاثنين، تُظلِّلُهم القناعة، ويعلُوهم الرِّضا، وتُرفرِفُ عليهم السعادة.
فما بالُ الناس اليوم؟! ضاقَت أرزاقُهم أم ضاقَت نفوسُهم؟! قصُرَت أوقاتُهم أم قصُرَت هِمَمُهم؟!
لقد فُتِح على الناس من أسباب الرَّخاءِ ما لم يُفتَح على أحدٍ قبلَهم، وتفجَّرَت كنوزُ الأرض، وتوافَرَت الأموالُ والتجارات، وتعدَّدت طُرقُ الكسب تُذكِيها المُخترعات والمُكتشفات والصناعات؛ فهل ازدادَ الناسُ إلا فقرًا، وهل كسَبوا إلا شِقوةً وقهرًا؟!
غلَبَ على العالَم الشكوَى من الفقر، والقِلَّة، وضيقِ العيش، وشُحِّ الوقت، والخوف من المُستقبَل، مع توافُر كلِّ أسباب الرَّخاءِ؛ فأين الخلل؟! إنه محقُ البركة.
ومن نفيسِ الكلِم: "ليست البركةُ من الكثرة، ولكنَّ الكثرةَ من البركة".
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليست السَّنةُ بألا تُمطَروا، ولكنَّ السنةَ أن تُمطَروا وتُمطَروا ثم لا يُبارَكُ لكم فيه»؛ رواه مسلم.
وفي كتاب ربِّنا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
الإيمانُ والتقوى والعملُ الصالحُ سببُ البركة والرِّزق، والطُّمأنينة والرِّضا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه: 124].
نعم، الإعراضُ عن الله سببُ الشقاء الذي يشكُو منه الأفراد، كما تشكُو منه الأُمم.
ألا نتفكَّرُ في أسباب تضعضُع أكبر التجمُّعات الاقتِصاديَّة مع ما أقدرَهم الله عليه من العلم والتدبير؟! ألا نتفكَّرُ في غلَبَة الخوف وانعِدام الأمن في أقوى دول العالم وأشدِّها جبروتًا وبطشًا، وانتشار الحروب والقتل والاضطراب، مع ازدِحام القوانين والمُعاهَدات والمُنظَّمات.
إن الذي يُديرُ العالَمَ حقًّا هو الله - جلَّ في عُلاه -، ولا تسيرُ الأمورُ إلا وفقَ سُننه، ولا يحصُلُ الرخاءُ والسعدُ إلا وفقَ توجيهاته، وهو - سبحانه - القائلُ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة: 276]، وهو - سبحانه - القائلُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]، وهو - سبحانه - القائلُ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
الإيمانُ والتقوى والعملُ الصالحُ سببُ البركة والسعادة والرِّضا، والذنوبُ والمعاصي تمحَقُ البركةَ، وتُنغِّصُ العيشَ، وتُضيِّقُ الأرزاق، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112].
الجوعُ والخوفُ شبحٌ يُرعِبُ كلَّ الأحياء.
بل إن من آثار الذنوبِ والمعاصِي ما لا يخطُر على بالٍ؛ ففي الحديث: «ما توادَّ اثنان فيُفرَّقُ بينهما إلا بذنبٍ يُحدِثُه أحدُهما»؛ رواه البخاري في "الأدب المفرد".
وفي العلاقات الزوجية: تأمَّل تكرار التقوى وآثارَها في سُورة الطلاق، ثم التعقيبَ بقول الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [الطلاق: 8- 10].
إنها السُّننُ نفسُها تجري على البيوت والأفراد، كما تجري على الأُمم والقُرى.
عن حكيم بن حِزامٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «البيِّعانِ بالخِيار ما لم يتفرَّقَا، فإن صدَقَا وبيَّنَا بُورِكَ لهما في بيعِهما، وإن كذَبَا وكتَمَا مُحِقَت بركةُ بيعِهما»؛ رواه مسلم.
وفي حديث ابنِ عمر - رضي الله عنهما - ذكرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أُصولَ المعاصي الماحِقة للبركة والجالِبة للفقر والبلاء والضَّنْك، وهي: انتشارُ الفواحِش، ونقصُ المكاييل والموازين، ومنعُ الزكاة، ونقضُ العهود، وخيانةُ الأمانة، وتحكيمُ غير شرع الله.
فهل يعِي ذلك التجارُ والمُتبايِعون؟! هل يعِي ذلك من لا يتورَّعُ عن الغشِّ وأخذ الرِّشوة ونقضِ العهود والتلاعُب بالعقود؟! هل يعِي ذلك دُعاةُ الرَّذيلة والانحِلال ممن يُشيعون الفاحشةَ في الذين آمنوا؟!
لقد صدقَ الله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165].
عباد الله:
لازِموا التُّقَى والصلاحِ، وتأمَّلُوا أثرَ ذلك في صحةِ أبدانِكم، وطُمأنينة نُفوسكم، ورغَد عيشِكم، وتمام سعادتكم، اطلُبُوا البركةَ من الله، وخُذوا بأسبابها، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132].
اللهم بارِك لنا في القرآن العظيم، واهدِنا صراطَك المُستقيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، عباد الله:
في "الصحيحين" عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقِيَني كعبُ بن عُجرة - رضي الله عنه - فقال: ألا أُهدِي لك هديَّةً سمعتُها من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلتُ: بلى، فأهدِها إليَّ. فقال: سألْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقُلنا: يا رسول الله! كيف الصلاةُ عليكم أهلَ البيت؟ فإن اللهَ علَّمَنا كيف نُسلِّم. قال: «قُولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد».
فالدعاءُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقولِنا: «وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيم» يتضمَّنُ إعطاءَه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامتَه وثبوتَه له، ومُضاعفتَه له وزيادتَه، وقد قال تعالى في إبراهيم وآله: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ [الصافات: 113]، وقال تعالى في إبراهيم وأهل بيته: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 73].
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصُر المسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين، اللهم انصُر دينكَ وكتابك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجك القريب.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ونائبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم لك الحمدُ على ما أنعمتَ به من شفاء خادم الحرمين الشريفين، اللهم أتِمَّ عليه عافيتك، وألبِسه لباسَ الصحة وتمام الشفاء، اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سنة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المُسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِق الليل والنهار.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 147].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء. اللهم إنا نسألُك رِضاك والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطك ومن النار، اللهم اجعلنا من عُتقائِك من النار. نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ ونتوبُ إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبَقًا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والبَادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 12-15-2012 10:51 AM

سلوا الله اليقين

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة yvm wtv 1434iJ بعنوان: "سلوا الله اليقين"، والتي تحدَّث فيها عن اليقين وأثره في حياة المسلم، وذكرَ بعضَ الأدلَّة من القرآن والسنة وآثار الصحابة على أهميتِه وفضلِه وعِظَم أثرِه.

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
أيها المسلمون:
صفةٌ عزيزٌ نوالُها، ومطمعٌ تتوقُ إليه كلُّ نفسِ عاقلٍ لبيبٍ، هي طريقٌ قلَّ سالِكوه، وإنها الحادِي في المهامِه، والمُؤنِس في وحشَة الأثَرة، وهي القوةُ في زوبَعةِ الضَّعفِ، والرِّيِّ في ذروة العطَش. هي قبسٌ في ظُلمةٍ، وكثرةٌ في قلَّةٍ.
من اتَّصَفَ بها بلغَ عنانَ السماءِ وإن كان مُضطجِعًا على فِراشِه، للمُتدثِّر بها من الهيبة والوقار والرِّفعة ما لا يفتقِرُ معه إلى حسَبٍ أو نسَبٍ أو جاهٍ، فلا هي بالمال تُشتَرى، ولا بالقوة تُكتسب.
هي صفةٌ وخصلةٌ حضَّ عليها نبيُّنا وقُدوتُنا - صلوات الله وسلامه عليه -، ولا يأمرُنا إلا بما هو خير؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «سلُوا اللهَ اليقينَ والمُعافاة؛ فإنه لم يُؤتَ أحدٌ بعد اليقين خيرًا من المُعافاة»؛ رواه أحمد.
إنه اليقينُ - عباد الله -، اليقينُ الذي يستقرُّ معه العلمُ بالله - جل وعلا -؛ فلا ينقلِبُ ولا يحُول، ولا يتغيَّرُ في قلبِ المُوقِن؛ بل تغشاه طُمأنينةُ القلبِ على حقيقة الشيء، وتحقيق الإيمان بالغيب الغابِر والحاضر والمُستقبل، بإزالةِ كلِّ شكٍّ أو ريبٍ في جنب الله.
يُحقِّقُ المرءُ في ذلك من خلال يقينه جميعَ مراتبِ اليقين المشهورة، وهي: علمُ اليقين، وعينُ اليقين، وحقُّ اليقين.
هو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد؛ فمن عاشَ بلا يقينٍ ففيه من صفاتِ الميت بلا روحٍ، فلا بُدَّ للمُؤمنِ من اليقين في خبر الله - سبحانه -، فيُوقِنُ المرءُ بكل ما أخبرَ به - سبحانه -، وبكل ما أخبرَ به رسولُه - صلى الله عليه وسلم -، ويُؤمنُ بأمر الله ونهيِه وأمرِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم – ونهيِه.
ليشعُر بالرِّفعةِ والغِبطةِ بأن يصِلَ درجةً فيه قد سبقَه إليها خيارُ أمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بعده، وهو الصدِّيقُ - رضي الله تعالى عنه - الذي جعله اليقينُ صامِدًا ثابتًا في ثلاثة مواقف سجَّلها التأريخُ بمِدادٍ من نورٍ في زمنِ فتنةٍ تهتزُّ لها الجبالُ الراسيات:
أولُها: حينما أتاه كُفَّارُ قريشٍ يُريدون أن يُشكِّكوه في دينه، وما يُخبِرُ به نبيُّه وصاحبُه - صلوات الله وسلامه عليه -، فيقولون له: إن صاحبَك زعمَ أنه أُسرِيَ به لبيت المقدِس، وعُرِج به إلى السماء. فأجابَ دون تريُّثٍ حتى يسمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا يقول؛ بل قال - مُوقِنًا بعلمه بخبر الصادق المصدوق - صلوات الله وسلامه عليه -، فقال قولتَه المشهورةَ: "إن كان قالَه فقد صدقَ".
نعم، "إن كان قالَه فقد صدقَ".
والموقفُ الآخر: حينما صعدَ أمام الملأ وهم يصطرِخون غيرَ مُصدِّقين بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من كان يعبُدُ محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبُدُ اللهَ فإن اللهَ حيٌّ لا يموت".
والموقفُ الثالث: حينما صمَدَ فردًا كأمَّةٍ في قتال المُرتدِّين، وقال قولتَه المشهورةَ: "واللهِ لأُقاتِلنَّ من فرَّقَ بين الصلاةِ والزكاةِ، واللهِ لو منَعوني عِقالاً كانوا يُؤدُّونَها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتَلتُهم عليها".
فاليقينُ ليس اقتِناعًا عقليًّا مُجرَّدًا فحسبُ؛ بل لو كان الأمرُ كذلك لما احتاجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أكملُ الناس عقلاً، وأنقاهم لُبًّا قبل بعثتِه - صلوا الله وسلامه عليه -، ومع ذلك قال الله عنه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 52، 53].
ومن هذا المُنطلَق؛ سألَ هِرقلُ أبا سفيان - رضي الله عنه - قبل إسلامه -: هل يرجِعُ أحدٌ - أي: من أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دينه سخطةً له بعد أن يدخل فيه؟ قال: "لا"، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطَت بشاشتُه القلوبَ لا يسخطُه أحدٌ.
ومعلومٌ - عباد الله - أن الإيمانَ إذا لامسَت بشاشتُه القلبَ ارتفعَ بصاحبِه إلى درجةِ اليقين التي لا يعقبُها سخَطٌ على شيءٍ من دين الله.
إن المرءَ المُؤمِنَ بربِّه إذا عاشَ حياتَه باليقين بالله علِمَ أن الدنيا لا تُساوي عند الله جناحَ بعوضةٍ، وأنه لن يأخُذ منها إلا ما كُتِبَ له فيها؛ لأن له غايةً ساميةً ترتفعُ عن غايات الآخرين، ومن ذاقَ عرَفَ، وليس راءٍ كمن سمِع؛ لأنه عملٌ قلبيٌّ بين المرء وبين ربِّه لا يرى أثرَه عليه من الناس إلا ذوو البصيرة اللمَّاحُون، وبخاصَّةٍ حالَ خشية الله في الغيبِ والشهادة، وقولِ الحقِّ في الغضبِ والرِّضا، والامتِثال بأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في المنشَط والمكرَه.
وحُقَّ لصاحب اليقين هذا أن يُؤتَى البصيرة والهُدى والرحمة، وما قِوامُ الحياة الدينية الحقَّة إل بتلكُم الخِصال الثلاث، ولقد صدقَ الله - سبحانه -: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 20].
المُوقِنُ حقًّا - عباد الله - هو من لا يعرِفُ إلا الله، ولا يرجُو غيرَه، ولا يخافُ إلا هو، لا يضُرُّه من ضلَّ إذا هو اهتدَى، يرضَى أن يذهبَ الناسُ بالشاء والبعير، والدينار والدرهَم، والحسَب والجاهِ، ويذهبَ هو بربِّه - جلَّ شأنُه -؛ لأن من عرفَ اللهَ فلن يُبالِيَ بمن لا يعرِفُ الله، ومن عرفَ الحقَّ فلن يُضيرَه من لا يعرِفُ إلا الباطلَ.
ولا جرَم - عباد الله -؛ فمن وجدَ اللهَ فماذا فقدَ؟! ومن فقدَ اللهَ فماذا عساه أن يجِد؟!
لقد أكرمَ اللهُ الخليلَ إبراهيم - عليه السلام - باليقين؛ حيث قال: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75].
فكان يقينُه بالله لا يزيدُه إلا إيمانًا بربِّه، وأنه على الحقِّ المُبين، ولا يزيدُه إلا قناعةً بضلال قومِه وانحِرافِهم عن جادَّة الطريقِ، الذين اتَّخَذوا من دون الله آلهةً وصدُّوا عن سبيل الله وكانوا مُستبصِرين.
اليقينُ - باد الله - هو الذي جعلَ الخليلَ إبراهيم - عليه السلام - يمتثِلُ أمرَ ربِّه في ذبحِ ابنِه إسماعيل، وهو الذي جعلَ ولدَه إسماعيل يقول لأبيه: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102].
قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أحبُّ الأعمال إلى الله: إيمانٌ لا ريبَ فيه، أو لا شكَّ فيه»؛ رواه أحمد.
وهذه مرتبةُ علمِ اليقين المشهورة.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "الصبرُ شطرُ الإيمان، واليقينُ الإيمانُ كلُّه"؛ رواه البخاري.
إنه لا يُمكن لأحدٍ أن يكون هادِيًا مهديًّا في بيته وسُوقه، ومُجتمعه وأمَّته وهو فاقدٌ أهمَّ مُقوِّمات اليقين بالله؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]، ولم يقُل: يشكُرون، أو يعقِلون، أو يسمَعون؛ لأن المُتَّصفين بها كثُر.
ولأجل هذا؛ لما كانت الإمامةُ في الدين عزيزةً ربَطَها بأمرٍ عزيزٍ في القلوبِ - وهو اليقينُ بالله -، ولا يُدرِكُ حقيقةَ اليقين ولا يستطعِمُ ثمرتَه إلا من نظرَ للموت والحياةِ نظرَ العالِمِ العارِفِ.
ولقد اختصرَ أميرُ المؤمنين عليٌّ - رضي الله عنه - صورةَ اليقين في أوجز عبارةٍ في التعامُل مع العيش والموت، اللَّذَيْن هما محلُّ اليقين بالله، فقال - رضي الله تعالى عنه -:
أيُّ يوميَّ من الموتِ أفِرُّ يومَ لا يُقدَر أو يوم قُدِر
يوم لا يُقدَر لا أحذَرُه ومن المقدورِ لا ينجُو الحَذِر
فهذا يقينٌ استحضَرَ فيه كلَّ لحظةٍ تضعُفُ فيها النفسُ مع زُخرُف الدنيا على حسابِ خالقِها ومولاها، أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38].
بسم الله الرحمن الرحيم: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 1- 8].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاعلَموا - يا رعاكم الله - أن اليقينَ بالله قد أوصلَ عبادَه الراسِخين في العلمِ إلى أن يقولوا عن دين الله وأمرِه ونهيِه: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7]، لا يُمارُون في ذلك، ولا يُجادِلون في حقيقته، ولا ينكُثون عنه، ولا يُؤمِنون ببعضِه ويكفُرون ببعضٍ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور: 49، 50].
فارتِضاءُ شرع الله بحذافِيره على أكمل وجهٍ هو أساسُ اليقين بالله الذي لا يقبَلُ التجزِئةَ والتبعيضَ، ولقد صدقَ الله: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50].
ولقد كان من دُعاء المُصطفى - صلوات الله وسلامه عليه - في الحديث المشهور: «ومن اليقين ما تُهوِّنُ به علينا مصائبَ الدنيا»؛ رواه الترمذي.
أي: هبْ لنا من اليقين ما نرضَى به على كل بلاءٍ ومُصيبةٍ لك فيها حِكمة؛ لئلا نسخَطَ شيئًا من أمرِك وقدرِك، وألا نرتدَّ على أعقابنا بمُجادلتِنا في الاستِسلام لشرعِك.
إن يقينَ المُؤمن كالنور من فوقِه النور يُضيءُ في سمائه على الدوام؛ لأنه يُدرِكُ أن اللهَ يرى مكانَه، ويسمعُ نجواه، ويعلمُ بلْواه وأزيزَ صدره المُفعَم باليقين، ليُدرِك أن ما أصابَه لم يكن ليُخطِئه، وما أخطأَه لم يكن ليُصيبَه، وأنه ما ابتلاهُ إلا ليُعافِيَه، وما أخذَ منه إلا ليُعطِيَه، وما نقصَ منه إلا ليزيدَه، يأخُذ بيدِه في المضايِق، ويطوِي له الطريقَ إذا جدَّ به المسيرُ، وفي نهاية النفقِ المُظلِم ضوءٌ ساطِعٌ، وللأقفال مفاتيح، وللظمآن مورِد، وفي المِحَن منَح، وبعد التَّرَح فرَح، وتحت الرُّغوة اللَّبنُ الصريحُ، وما الدُّنيا إلا كسرابٍ بقيعةٍ، وأنَّ مردَّنا إلى الله، وأنَّ الآخرةَ هي دارُ القرار.
من رامَ أن يحيا حياةً حرَّةً ويُعزَّ في دنيا الورَى والدينِ
فليَرْجُ عافيةً يقَرُّ بمثلِها وليحمِ إيمانًا له بيقينِ
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ صاحبِ الوجه الأنور، والجبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أحسِن أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أحسِن أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم ألِّف بين قلوبِهم، اللهم كُن لإخواننا المُضطهَدين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، وانصُرهم ولا تخذُلهم، اللهم انصُرهم على من ظلمَهم.
اللهم انصُر إخواننا المُسلمين في بُورما، وفي سُوريا يا ذا الجلال والإكرام. اللهم اجعل شأنَ عدوِّهم في سِفال، وأمرَه في وبال يا حي يا قيوم، يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك فلا تمنَع عنا ذنوبِنا فضلَك.
اللهم لتَجْعلَه بلاغًا للحاضرِ والباد يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 12-28-2012 06:42 PM

اتقاء الفتن
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 15 محرم 1434هـ بعنوان: "اتقاء الفتن"، والتي تحدَّث فيها عن الفتنِ وكيفية اتِّقائِها والنجاة منها، وبيَّن أنها نوعان: فتنُ الشُّبُهات وهي أخطرُها وأشدُّها، وفتنُ الشَّهوات، وذكرَ بعضَ الآيات والأحاديث المُدعِّمةِ لذلك.

الخطبة الأولى
الحمد لله الملك القدوس السلام، أحمده - سبحانه - على آلائه ومِنَنه العِظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله قدوةُ المُتقين وسيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبِه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا أنكم وقوفَكم بين يديه - سبحانه -، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[الشعراء: 88، 89].
أيها المسلمون:
كمالُ الحِرصِ على اتِّقاءِ الفتنةِ، والحذرِ من سُلوك سبيلِها والتعرُّض لأسباب الوقوع فيها ديدَنُ أُولِي الألباب، وطريقُ من خشِيَ الرحمنَ بالغيب، ونهجُ ذوي البصيرة من عباد لله، يحدُوهم إلى ذلك قوةُ يقين، وكمالُ تصديقٍ بما جاء عن الله ورسوله - صلوات الله وسلامه عليه - من البيِّناتِ المُحذِّرة من غوائِلها، الدالَّة على سبيل السلامة من شُرورها، المُرشِدة إلى الطريق الواجبِ انتِهاجُه وقتَ وقوعِها.
وفي الطليعةِ من ذلك: قولُ ربِّنا - سبحانه - في التحذير منها، وبيان عمومِ الضَّرر بها: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[الأنفال: 25]، وقولُ نبيِّنا - صلواتُ الله وسلامه عليه -: «ستكونُ فتنٌ القاعِدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشِي، والماشِي فيها خيرٌ من السَّاعِي، ومن تشرَّف لها - أي: تُهلِكُه، بأن يُشرِفَ منها على الهلاك -». وحاصِلُه: أنَّ من تعرَّض لها بشخصِه تعرَّضَت له بشرِّها.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ومن وجدَ ملجَأً أو معاذًا فليَعُذْ به - أي: فليلْجَأْ إليه -»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
وقولُه - عليه الصلاة والسلام -: «بادِرُوا بالأعمال فِتَنًا كقِطع الليل المُظلِم، يُصبِحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، أو يُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدنيا»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ولا ريبَ أن معرفةَ حقيقة الفتنةِ أصلُ درءِ خطرِها،وصون النفس عن الاصطِلاء بنارِها.
والفتنةُ - كما قال ابن القيم - رحمه الله - نوعان: "فتنةُ الشُّبهات - وهي أعظمُ الفتنتَيْن -، وفتنةُ الشَّهوات. وقد يجتمِعان للعبد، وقد ينفرِدُ بإحداهما. ففتنةُ الشُّبُهات ناشِئةٌ من ضعفِ البصيرة، وقِلَّة العلم، لا سيَّما إذا اقترنَ بذلك: فسادُ القصد، وحُصولُ الهوَى، فهنالك الفتنةُ العُظمى، والمُصيبةُ الكُبرى".
فقُل ما شئتَ في ضلال سيِّئ القصدِ الذي حكَمَ عليه الهوَى لا الهُدى، مع ضعفِ بصيرتِه، وقِلَّة علمِه بما بعثَ اللهُ به رسولَه - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ[النجم: 23].
وقد أخبرَ الله - سبحانه - أن اتِّباعَ الهوى يُضِلُّ عن سبيلِه فقال: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ[ص: 26].
وهذه الفتنةُ - يا عباد الله - مآلُها إلى الكفر والنِّفاق، وهي فتنةُ المنافقين وفتنةُ أهل البِدَع على حسب مراتبِ بدَعهم، ولا يُنجِّي من هذه الفتنة إلا تجريدُ اتِّباع الرسُول - صلى الله عليه وسلم - وتحكيمُه في دقِّ الدين وجِلِّه، ظاهره وباطنِه، عقائِدِه وأعمالِه، حقائِقِه وشرائِعِه.
فيُتلقَّى عنه - عليه الصلاة والسلام - حقائقُ الإيمان وشرائعُ الإسلام، وما يُثبِتُه لله من الصفاتِ والأفعال والأسماء، وما ينفِيه عنه، كما يُتلقَّى عنه وجوبُ الصلوات وأوقاتُها وأعدادُها، ومقاديرُ الزكاة ومُستحقِّيها، ووجوبُ الوضوء، وصومُ رمضان، وحجُّ البيت لمن استطَاع إليه سبيلاً، وغيرُ ذلك من شرائع الإسلام.
فلا يجعلُه رسولاً في شيءٍ دون شيءٍ من أمور الدين؛ بل هو رسولٌ في كل شيءٍ تحتاجُ إليه الأمةُ في العلم والعمل، لا يُتلقَّى إلا عنه، ولا يُؤخَذُ إلا منه - عليه الصلاة والسلام -.
وأما النوعُ الثاني من الفتنة: فهي فتنةُ الشَّهوات. وقد جمع - سبحانه - بين ذكرِ الفِتنتَيْن في قوله - عزَّ اسمُه -: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ[التوبة: 69]؛ أي: تمتَّعوا بنصيبِهم من الدنيا وشهَواتِها، والخلاقُ هو النَّصيبُ المُقدَّر، ثم قال: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا، فهذا الخوضُ بالباطلِ وهو الشُّبُهات.
فأشارَ - سبحانه - في هذه الآية إلى ما يكونُ به فسادُ القلوب والأديان من الاستِمتاع بالخلاقِ والخوضِ في الباطل؛ لأن فسادَ الدين إما أن يكون باعتِقاد الباطلِ والتكلُّم به، أو بالعمل بخلافِ العلمِ الصحيح.
وأصلُ كلِّ فتنةٍ إنما هو من تقديمِ الرأي على الشرع، والهوى على العقل، وتقديمُ الرأي على الشرع أصلُ فتنةِ الشُّبهة، وتقديمُ الهوى على العقل أصلُ فتنةِ الشَّهوة. وفتنةُ الشُّبهات تُدفعُ باليقين، وفتنةُ الشَّهوات تُدفَعُ بالصبر.
ولذلك جعلَ - سبحانه - إمامةَ الدين منوطةً بهذَين الأمرَيْن؛ فقال - عز وجل -: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة: 24]، وهو دليلٌ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين، ودليلٌ أيضًا على أن فتنةَ الشَّهوة تُدفَعُ بكمال العقل والصبر، وأن فتنةَ الشُّبهة تُدفَعُ بكمال البصيرةِ واليقينِ؛ أي: بما جاء عن الله من البيِّنات والهُدى.
فاتقوا الله - عباد الله -، وحَذارِ ثم حذارِ من فتنِ الشُّبهات وفتنِ الشَّهوات.
اللهم إنا نسألك الثَّباتَ على دينِك، والاستِقامةَ على شرعِك، ونسألُك أن تقِيَنا من مُضِلاَّت الفِتَن، إنك سميعٌ مُجيبُ الدعاء.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلقَ فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرى، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله المُصطفى وحبيبُه المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن بهديِه اهتدَى.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن المُخالفَةَ عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سبيلُه، ومنهاجُه، وطريقتُه، وسُنَّتُه، وشريعتُه - هو من أعظم أسباب الفِتنةِ في الدين، كما قال - سبحانه -: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور: 63].
والمُراد: فليحْذَر وليَخشَ من خالفَ شريعةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - باطِنًا وظاهِرًا أن تُصيبَهم فتنةٌ - أي: في قلوبهم - من كُفرٍ، أو نفاقٍ، أو بدعةٍ، أو يُصيبَهم عذابٌ أليمٌ؛ أي: في الدنيا بقتلٍ، أو حدٍّ، أو حبسٍ. كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثَلي ومثَلُكم كمَثَل رجلٍ استوقَدَ نارًا، فلما أضاءَت ما حولَها جعلَ الفَراشُ وهذه الدوابُّ يقَعْنَ في النار، وجعلَ يحجِزُهنَّ ويغلِبْنَه فيقتحِمْنَ فيها». قال: «فذلِكَ مثلِي ومثَلُكم، أنا آخِذٌ بحُجَزِكم هلُمَّ عن النار فتغلِبُونَني وتقتحِمون فيها».
فاتقوا الله - عباد الله -، وحَذارِ من المُخالفَة عن أمر رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن عاقبةَ ذلك الإصابةُ بالفِتنةِ في الدنيا، والعذابِ الأليم في الآخرة.
واذكروا على الدَّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين، وإمام المُتَّقين، ورحمةِ الله للعالمين، فقال - سبحانه - في الكتابِ المُبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ، وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم التَّناد.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتِك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطك، اللهم إنا نسألُك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكَرات، وحُبَّ المساكين، وأن تغفِرَ لنا وترحمَنا، وإذا أردتَّ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتُونين.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم قِنا شرَّ الفتن، اللهم قِنا شرَّ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن عن بلدنا هذا خاصَّةً، وعن كافة بلاد المُسلمين عامَّةً يا رب العالمين.
اللهم إنا نجعلُك في نحورِ أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذُ بك من شرورهم، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[آل عمران: 8]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم احفَظ المُسلمين في كل دِيارِهم، اللهم احفَظهم في سوريا، وفي فلسطين، وفي ميانمار، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا رب العالمين، اللهم كُن لهم، الله اجبُر كسرَهم، وارحَم ضعفَهم، واشفِ جرحاهم، واكتُب أجرَ الشهادة لقتلاهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى اللهم وسلَّم على عبدِه ورسولِه نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-05-2013 10:37 AM

الفساد.. آثاره وكيفية مكافحته

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 22 صفر 1434هـ بعنوان: "الفساد.. آثاره وكيفية مكافحته"، والتي تحدَّث فيها عن الفساد وآثاره الوخيمة على الأفراد والمُجتمعات، وذكرَ في عدَّة نقاطٍ السُّبُل الصحيحةَ في كيفية مُحاربته ودفعِه والتخلُّص منه.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله العلي العظيم، الجوادُ الكريم، جلَّ عن الشبيه والنَّظير، وتعالى عن المَثيل والظَّهير، أحمدُه - سبحانه - على سوابِغ نعمه، وأشكرُه على ما صرفَ من أسباب سخَطه ونِقَمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ توحيدٍ يأتي صاحبُها آمنًا يوم القيامة ويُحِلُّه بها ربُّه دارَ الكرامة، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله علَّمه ربُّه ما لم يكن يعلم، وجعلَ أمَّتَه خيرَ الأمم، صلَّى الله عليه وبارَك وسلَّم، وعلى آله الطيبين الطاهرين نالُوا بهذا الدين عِزًّا وسُلطانًا، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين كانوا على الحق والخير إخوانًا وأعوانًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ممن إذا ذُكِّروا بآيات ربِّهم زادَتهم إيمانًا، ولم يخِرُّوا عليها صُمًّا وعُميانًا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، واستعينوا بربِّكم على تصاريف المقادير، آثِروا في الله حُبَّكم، وارعَوا حقوقَه في دينِكم، ولا يعظُمُ في أعيُنكم كبيرٌ من المعروف تفعلونَه، ولا تحتقِروا صغيرًا من المُنكَر تقترفُونَه، واعتبِروا بمن مضى، وتفكَّروا في مُنصرَف الفريقين: فريقٍ في الجنة يحبُّه الله ويرضاه، وفريقٍ في السَّعير يُبغِضُه الله ويأباه،
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ[المؤمنون: 101- 103].
أيها المسلمون:
حين يكونُ المُسلمُ الصالحُ في موقع المسؤوليَّة فهو الحارسُ الأمينُ - بإذن الله - لمُقدَّرات البلاد والعباد، يحفظُ الحقَّ، وينشُر العدل، ويُخلِصُ في العمل، ويُحافِظُ على مُكتسَبات الأمة. صاحبُ المسؤولية المُخلِصُ صالحٌ في نفسه مُصلِحٌ لغيره، يأمرُ بالصلاح، وينهى عن الفساد.
والإسلام قد جعلَ من الرَّقابة مسؤوليَّةً يتحمَّلُها الفردُ كما تتحمَّلُها الجماعة، وهذا هو الاحتِسابُ في بابِه الواسِع. فالاحتِسابُ بسَعته وشمُوله رَقابةً ومُراقبةً يحمِي الفردَ والمُجتمعَ والمُنشآت والدولة، يحميها - بإذن الله - من الفساد والإفساد، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[الحج: 41].
«من رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّرهُ بيدِه، فإن لم يستطِع فبلِسانِه، فإن لم يستطِع فبقلبِه وذلك أضعفُ الإيمان».
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[التوبة: 71]، وفي الحديث: «إن اللهَ لا يُعذِّبُ العامَّةَ بعملِ الخاصَّة، حتى يرَوا المُنكرَ بين ظهرانَيهم وهو قادِرون على أن يُنكِروه فلا يُنكِرونَه، فإذا فعلُوا ذلك عذَّبَ الله الخاصَّةَ والعامَّةَ».



معاشر المسلمين:
وظيفةُ الاحتِساب وظيفةٌ رقابيَّة في ميادين الأخلاق والدين والسياسة والاجتماع والإدارة والاقتصاد، وغيرها.
وقد قال أهلُ العلم: "إن الاحتِساب هو الأمرُ بالمعروف إذا ظهرَ تركُه، والنهيُ عن المُنكَر إذا ظهر فعلُ، تحقيقًا للعدل، ونشرًا للفضيلة، ومُكافحةً للفساد والرَّذيلة، وحمايةً للنَّزاهة والصلاح".
معاشر الإخوة:
الاحتِسابُ عملٌ رقابيٌّ توجيهيٌّ إرشاديٌّ لكل نشاطٍ مُجتمعيٍّ عامٍّ أو خاصٍّ؛ لتثبيتِ أصول الدين وأحكام الشرع، ومعايير الأخلاق، ورفع كفاءة الأداء كفاءةً وأداءً يتحقَّقُ به السلوك الرشيد، وتُعظَّمُ به المصلحةُ الفردية والاجتماعيَّة في الدنيا والآخرة.
إن العاملَ الصالحَ، والمُوظَّف الصالحَ، والمُواطِنَ الصالحَ بإيمانه بربِّه وبوازِعٍ من دينه يجتهِدُ في أداء عمله، ويحرِصُ على منع المُمارسات الخاطِئة، أو يكشِفُ عنها لمن يستطيعُ منعَها.
العاملُ الصالحُ عنده من الصدق في دينه، والأمانة في عمله، والولاء لمُجتمعه، والحِرص على المصلحة العامَّة ما يدفعُه إلى الإحسان وإلى الجدِّ وحُسن الإنتاجِ، وعدمِ الرِّضا بالفساد والانحِراف.
ذلكم - معاشر الأحبَّة - أن الفسادَ بكل أنواعه سلوكٌ مُنحرِفٌ في الأفراد وفي الفئات، يرتكِبُ صاحبُه مُخالفاتٍ من أجل أن يُحقِّقَ أطماعًا ماليَّةً غير شرعيَّة، أو مراتِبَ وظيفيَّة غيرَ مُستحقَّة، مما يُؤدِّي إلى الكسبِ الحرام، وإضعافِ كفاءة الأجهزة والمُؤسَّسات والمُنشآت.
الفسادُ منهجٌ مُنحرِفٌ مُتلوِّنٌ مُتفلِّتٌ مُتستِّرٌ، مُحاطٌ بالسريَّة والخوف، يدخلُ في كل مجالٍ: في الدين، وفي السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الاجتماع، وفي الثقافة، وفي الإدارة.
الفسادُ تواطُؤٌ وابتِزازٌ، وتسهيلٌ لارتكِاب المُخالفات الممنوعة والمُمارسات الخاطِئة. الفسادُ استِغلالٌ مقيتٌ للإمكانات الشخصيَّة والرسميَّة والاجتماعية، يستهدِفُ تحقيقَ منافع غير شرعيَّة، ومكاسِب مُحرَّمة لنفسِه ولمن حولَه. سوءُ استِغلالٍ للسُّلطة والصلاحيَّة، في مُخالفةٍ للأحكام الشرعيَّة، والقِيَم الأخلاقيَّة، والأنظمَة المرعيَّة.
الفسادُ داءٌ مُمتدٌّ لا تحُدُّه حدودٌ، ولا تمنعُه فواصِلُ، يطَالُ المُجتمعات كلَّها مُتقدِّمها ومُتخلِّفها بدرجاتٍ مُتفاوِتة، وفي التنزيل العزيز: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[الروم: 41].
معاشر المسلمين:
وكل انحرافٍ بالوظيفة العامَّة أو الخاصَّة عن مسارِها الذي وُضِعَت له ووُجِدت لخدمته فهو فسادٌ وجريمةٌ وخِيانةٌ. بالفساد تضطربُ الأولويات في برامج الدولة، وفي برامج الدول ومشاريعِها، وتُبدَّدُ موارِدُها، وتُستنزَفُ مصادِرُها.
بالفساد تتدنَّى مُستوى الخدمات العامَّة، وتتعثَّرُ مشارِيع، ويسُوءُ التنفيذ، وتضعُفُ الإنتاجيَّة، تُهدَرُ مصالحُ الناس، ويضعُفُ الاهتِمامُ بالعمل وقيمة الوقت، ويضطربُ تطبيقُ الأنظمة وعدالةُ المعايير.
الفساد يُؤدِّي إلى التغاضِي عن المخاطِر التي تلحَقُ الناسَ في مآكِلهم وفي مشاربِهم وفي مرافِقِهم الصحيَّة والتعليمية، وفي طُرقهم، وفي أنظِمة الأمان والحصول على الخدمات العامَّة.
الفسادُ يُزعزِعُ القِيَم الأخلاقيَّة القائمةَ على الصدق والأمانة والعدل وتكافُؤ الفرص وعدالة التوزيع، وينشُر السلبيَّة، وعدمَ الشعور بالمسؤولية، والنوايا السيئة، وينشُر الشعورَ بالظلم، مما يُؤدِّي إلى حالاتٍ من الاحتِقانِ والحِقدِ والتوتُّر والإحباط واليأسِ من الإصلاح.
الفسادُ يجعلُ المصالحَ الشخصيَّة تتحكَّمُ في القرارات، ويضعُفُ الولاءُ الصادقُ للحق وللأمة وللدولة، ويُعزِّزُ العصبيَّةَ المذمومة مذهبيَّةً أو قبَليَّةً أو حِزبيَّةً، فهو يُهدِّدُ الترابُط الأخلاقيَّ، وقِيَم المُجتمع الحميدة المُستقرَّة.
الفسادُ يُولِّدُ مُشكلاتٍ خطيرةً على استِقرار المُجتمعات وأمنِها وقِيَمها الأخلاقيَّة، وسيادة الأنظمة. الفسادُ يتواصَلُ مع أشكال الجريمة المُنظَّمة والجرائم الاقتصادية بما فيها ما يُعرَفُ بـ "غسيل الأموال".
الفسادُ يُعيقُ تطبيقَ الخُطط الصحيحة، والسياسات الإيجابيَّة، كما يُعرقِلُ جهودَ التغيير نحو الأفضل؛ بل إنه يُقوِّضُ الدولَ والمُؤسَّسات، ويُبعثِرُ الثَّروات، وينخَرُ في الإدارات، ويتناسَبُ طردًا مع الانحِرافات والمُنكَرات والأمراض المُجتمعيَّة والأخلاقيَّة.
معاشر الأحبَّة:
وللفساد مظاهرُ كثيرة، وصورٌ عديدة، ومسالكُ مُتنوِّعة؛ من الاختِلاس، والرِّشوة، وسوء استِخدام السُّلطة والصلاحيات، وإفشاء أسرار العمل، أو كِتمانِ معلوماتٍ حقُّها أن تكون معلومةً مُعلَنةً؛ سواءً في شأنٍ ماليٍّ أو وظيفيٍّ، والتزوير، والعبثُ بالوثائق والمُستندات والقرارات، وعدم احتِرام العمل وأوقات الدَّوام حُضورًا أو انصِرافًا، وضعف الإنجاز، والتشاغُل أثناء العمل بقراءاتٍ خارجيَّة، أو استِقبال من لا علاقةَ لهم بالعمل، والبحث عن منافِلَ وأعذارٍ، والتهرُّب من تنفيذِ الأنظِمة والتعليمات والتوجيهات، وعدمِ المُبالاة، والعُزوف عن المُشاركة الفاعِلة، والإسرافِ في استِخدامِ المالِ العام - ولو كان يسيرًا - في الأثاث والأدواتِ المكتبيَّة، والمُبالَغة في إقامةِ المُناسَبات، وسُوء توظيف الأموال، وإقامة مشارِيع وهميَّة، والعبَث بالمُناقَصات والمُواصَفات، في صُورٍ وأشكالٍ لا تقعُ تحت حصرٍ.
أيها المسلمون:
إذا كان الأمرُ كذلك؛ فلا بُدَّ من مُحاربة الفساد ومُكافحته، والتِزام الصلاح والإصلاح والنزاهة والشفافية، وذلك هو المِفتاحُ القائدُ - بإذن الله - لأسباب الخير والفلاح، والتوفيق والصلاح، والأمن والطمأنينة، وانتشار العدالة.
ومُحاربةُ الفساد ليست وظيفةً لجهةٍ مُعيَّنةٍ أو فِئةٍ خاصَّةٍ؛ بل هي مسؤوليَّةُ الجميع ديانةً وأمانةً وخُلُقًا ومسؤوليَّة.
النزاهةُ والعدالةُ في الإصلاح تحفَظُ هيبةَ الدول وكرامتَها وتُؤكِّدُ التلاحُم بينَها وبين مُواطِنيها، وتغرِسُ الثِّقةَ في الأجهزة والأنظمة. النزاهةُ تُعطِي قيادات الدول دفعًا أكبر في مُحاربة الفساد في جميع صُوره وأشكاله؛ إداريًّا وماليًّا وأخلاقيًّا.
مقاييسُ النزاهة هي: الديانة، والصدق، والعدالة، والوضوح والشفافية. في أجواء النَّزاهة تكونُ المُنافَسات النَّزيهة، والتنافُس الشريف على تقديم الأفضل والأجود والأنسَب.
أيها المسؤولون:
ومما يُعينُ على ذلك: تحديدُ مسؤوليَّات المُوظَّف، وإصدارُ الأدلَّة الإرشاديَّة، والتوعيَّة المُنظَّمة، وتبصيرُ الناس بحقوقِهم، وتشجيعُهم على المُساعَدة في كشفِ المُفسِدين.
ومما يُعينُ على ذلك كذلك: إصلاحُ أجهزة الرَّقابة، وتقويتُها، ودعمُها في كفاءاتها، وتبسيطُ أساليب العمل الإداريِّ، وتقويةُ الرَّقابة المُحاسبيَّة الإداريَّة والنظاميَّة والماليَّة، وسنُّ الأنظمة الصارِمة في مُواجَهة الفساد، وتطبيقُها بحزمٍ وعدالةٍ وحياديَّةٍ، والبُعدُ عن المُجاملات المُضعِفة، والعناية ببرامِج الإصلاح الإداريِّ ومنحُها الأولوية، وتوسيعُ دائرة تكافُؤ الفُرص والمُساواة على أساسِ معايير الجدارة والاستِحقاق، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ[القصص: 26].
وغرسُ قِيَم الجدِّ في العمل، وحِفظُ الوقت، والتواصِي بالحقِّ، والتِزامُ الأخلاق؛ من الصِّدقِ، والأمانة، والإخلاص، وحُسن الظنِّ، بعد الإيمان بالله وصدقِ التعلُّق به والاعتِماد عليه، والاهتِمام بالمصلحة العامَّة، والشعور الحق بالمسؤوليَّة، وزرعُ الثِّقَة من الجميع، مع بثِّ أجواء حرية الرأي والمناقَشة والمُكاشَفة.
وبعدُ - حفِظكم الله -؛ فالخللُ ليس في الأنظمة والقوانين والنُّصوص، ولكنَّه في الإدارات والمُجتمعات والنفوس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[القصص: 77].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله المُتفرِّد بكمال الذات، وجميل الصفات، لا إله إلا هو وسِعَ سمعُه جميعَ الأصوات، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على سوابِغ نعَمه المُتوالِيات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُبلِّغُ من رِضوانه أعلى الدرجات من الجنَّات، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه الهادي إلى الحقِّ والمُنقِذ - بإذن ربِّه - من الضلالات، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أُولِي الفضائل والمكرُمات، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما دامَت الأرضُ والسماوات، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون:
في حماية النَّزاهة وأهلِها ومُحارَبة الفساد ومُكافَحة المُفسِدين ليس الهدفُ محصورًا في البحث عن المُذنِبين والفاسِدين؛ بل يُضمُّ إلى ذلك ويتوازَى: إيجادُ الوعيِ الفعَّال بحجم الأضرار الناجِمة عن الفساد، وهي أضرارٌ دينيَّةٌ وسياسيَّةٌ وماليَّةٌ وأمنيَّةٌ وثقافيَّةٌ واجتماعيَّةٌ، في برامِج إصلاحٍ شاملةٍ، وتعاوُنٍ من الأجهزة كلِّها العامَّة والخاصَّة، ومُشاركة المُجتمع بكل مُؤسَّساته، وإعطاء الفُرص للاستِماع إلى آراء العامِلين ومُلاحظاتهم ومُقترحاتهم وشكاواهم ومُناقشاتهم.
وفي هذا البابِ للإعلام دورُه الفعَّال في نشر الوعيِ الصحيحِ، والمعلومات والحقائق، في تثبُّتٍ وتحرٍّ وحِياديَّةٍ ووقارٍ، وعدم التسرُّع في توجيه الاتهام للأفراد أو الجِهات، مع الثَّناء على ما يستحقُّ الثَّناء، والإشادة بالصالحين والشُّرفاء، وأصحاب الأداء الحسن والإيجابيَّة في العمل، وهم كثيرٌ في بلاد المُسلمين - ولله الحمد -، والحِفاظُ على العلاقات الطيبة والإيجابيَّة بين زُملاء العمل، والتعاوُن فيما بينهم، وتجنُّب تصيُّد الأخطاء وتتبُّعها، وتغليب حُسن الظنِّ.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وأصلِحوا واعمَلوا صالحًا، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[الأعراف: 56].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك سيِّدنا ونبيِّنا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، ووفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، اللهم واجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم انصرهم على عدوِّك وعدوِّهم.
اللهم عليك اللهم بالطغاة الظلمة في سوريا، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعَل ما أنزلتَه قوَّةً لنا على طاعتِك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَك، اللهم واجعَل ما أنزلتَه عونًا لنا على طاعتِك، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[يونس: 85]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكُروا اللهَ يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.

ابوحاتم 03-05-2013 10:41 AM

غزوة أُحُد وبشائر النصر
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 29 صفر 1434هـ بعنوان: "غزوة أُحُد وبشائر النصر"، والتي تحدَّث فيها عن غزوة أُحُد وبعض الوقفات والعِبَر والتأمُّلات، وبيَّن أنها ليست مجرَّد قصةٍ ذهبَت وانقضَى زمانُها؛ بل إن أحداثَها تتكرَّر في زماننا هذا وفي كل زمانٍ، وينبغي على المُسلمين التنبُّه لأحداثِها وتركِ المُخالفات لأوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يقَعوا فيما وقعَ فيه سلَفُهم.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحديد: 28].
أيها المسلمون:
يعيشُ العالمُ اليوم أحداثًا كُبرى، وتحوُّلاتٍ تاريخيَّة هائلة، وآلامًا تضيقُ بها النفوسُ، تموجُ الأرضُ بالفتن والتحوُّلات في النُّظم وفي المُعتقَدات، في تسارُعٍ يدَعُ الحليمَ حيرانًا. فتنٌ كقطع الليل المُظلِم، ولا عاصِمَ اليوم من أمر الله إلا من رحِم. ونحن أمةُ دينٍ وأتباعُ رسالة، وفي أيدينا كتابٌ وسنةٌ.
ومعجزةُ القرآن الخالِدة: أنه نزل قبل أربعة عشر قرنًا، وخاضَ بهذه الأمة معركةً كُبرى حوَّلت تاريخَها وتاريخَ البشريَّة كلَّه معها، ومع ذلك فهو يُعايِشُ الحياة الحاضِرة وكأنَّما هو يتنزَّلُ اليوم لتوجيه المُسلمين في أحداثِهم الراهِنة، وفي صِراعهم مع الأحداث حولَهم.
أيها المسلمون:
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ[آل عمران: 137، 138]. إن القرآن ليربِطُ حاضِر الأمة بماضِيها، فيرسُمُ بذلك مُستقبلَها.
عباد الله:
تلكم الآيات الماضِيات نزلَت في معركة أُحُد، والتي وقعَت في شهر شوال من السنة الثالثة من الهِجرة؛ وذلك أن المُشركين أرادوا الانتقام لهزيمتِهم في بدرٍ، فحشَدوا جيشَهم ثلاثة آلاف مُقاتلٍ على أطراف المدينة، واستشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه، وكان يُريد التحصُّن في المدينة، لكنَّ كثيرين ألحُّوا على الخروج، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبعمائةٍ من أصحابه بعد أن قام رأسُ المُنافِقين بتخذيل الناس والرجوع بثُلُث الجيش، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن بقِيَ معه عند جبل أُحُد، وجعل الرُّماةَ على مُرتفعٍ وأمرَهم ألا يبرَحوا مواقِعَهم.
ودارَت رحا المعركة، وانتصَر المُسلمون في بادِئ الأمر، حتى فرَّ المُشرِكون وسقَط لواؤُهم، واستعجلَ بعضُ الرُّماة فنزَلوا من الجبل يظنُّون الأمرَ انتهى، ثم التفَّ المُشرِكون وكرُّوا على المُسلمين من خلفِهم، فقتلُوا سبعين من خِيار الصحابة المؤمنين، وشجُّوا رأسَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسَروا رباعيَّته، وأشاعُوا أنهم قتَلوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأوقعَ ذلك في قلوب المؤمنين حُزنًا عميقًا، وألمًا شديدًا، وهزيمةً وانكِسارًا.
ثم أشاعَ المُشرِكون أنهم سيقصِدون المدينةَ، فنادَى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجرحَى والمُنهَكين المُصابِين، فاستجابُوا للنداء على ما بِهم من الجِراحات، ونفَروا لمُناجَذة العدو، وصدَقوا مع العدوِّ ولم يأبَهوا للمُخذِّلين.
وصدَرَت خلال ذلك مقالاتٌ وعبارات، ومواقِفُ وبُطولات، وانتِكاساتٌ وانكِسارات، ونزل في هذه الواقِعة قرآنٌ يُتلَى إلى يوم القيامة، ستون آيةً من سورة آل عمران ليست مجرد تأريخٍ لواقعةٍ مضَت وانتهَت، وإنما يعيشُ قارِئَها تلك الأحداث، ويرى المُسلمين ومن حولهم أعداؤُهم يتربَّصُون بهم، ويُبيِّتون لهم، ويُلقون بينهم بالفِرية والشُّبهة، ويتحاقَدون عليهم، ويجمَعون لهم، ويلقَونهم في الميدان، وينهزِمون أمامَهم، ثم يكِرُّون عليهم فيُوقِعون بهم. فما أشبهَ الليلة بالبارِحة.
أيها المؤمنون:
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 140، 141]. إن تعاقُب الشدَّة والرخَاء تكشِفُ معادِن النفوس وطبائِع القلوب، ودرجة الهلَع فيها والصبر، ومدَى الثِّقَة فيها بالله أو القُنوط.
وإن من مصلَحة الأمة أن تُصابَ برجَّاتٍ عنيفةٍ تعزِلُ الخبَثَ عنها، وقد اقتضَت حكمةُ الله أن يقعَ هذا التمحيصُ في أُحُد، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ[آل عمران: 179].
ومُداولةُ الأيام، وتعاقُبُ الشدَّة والرخاء محكٌّ لا يُخطِئُ، وميزانٌ لا يظلِم.
وفي معركة أُحُد انكشَفَت عورةُ المُنافِقين، وظهرَ أثرُهم كما هو في كل زمانٍ، يستغِلُّون أوقاتِ الضعفِ لبلبَلَة القلوب، وخلخلَة الصُّفوف، وإشاعة الخَوَر، مع إثارة الفتن والشُّبُهات لهَدم كِيان المُجتمع المُسلم، بدءًا بعقيدته وقِيَمه، حتى يستسلِم للأقوياء الغالِبين.
وكانت آثارُ المعركة تمحيصًا للنفوس، وتمييزًا للصفوف، وتحرُّرًا من تمييع القِيَم وتأرجُح المشاعِر؛ وذلك بتميُّز المُنافِقين ووضوحِ سِماتِهم.
ولئِن نجحَ ابنُ أُبيٍّ في التأثير على ثُلُث الناس حتى رجَعوا إلى المدينة وتخلَّوا عن نُصرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقد صمَدَت صفوةٌ نقيَّةٌ، حمَلَت أعباءَ الدين، وأنفقَت وقاتَلَت، وصبَرَت وصابَرَت، رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[الأحزاب: 23].
بجِهادِهم وتضحياتِهم حفِظَ الله مصيرَ الإسلام في أول الزمان، وبمثلِ بُطولتهم وثباتِهم وصبرِهم يحفظُ الله وجودَ الإسلام في آخر الزمان.
أيها المسلمون:
لقد كان الله - سبحانه وتعالى - قادرًا على أن ينصُر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - ودينَه وأولياءَه منذ اللحظةِ الأولى، وأن يُهلِك أعداءَهم بلا كدٍّ من المؤمنين ولا عناءٍ، ولكنَّ الله تعالى أراد تربيةَ المُسلمين ليُبتلَوا، وليقُودوا البشريَّةَ قيادةً راشِدةً على ما تحمِلُه البشريةُ من شهواتٍ ونزَواتٍ وانحرافٍ.
وهذه القيادةُ تقتضِي صلابةً في الدين، وثباتًا على الحق، وصبرًا على الشدائد، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد: 4]. هذه سُنَّةُ الله؛ الابتلاءُ قبل التمكين.


عباد الله:
وقبل أن تمضِي الآياتُ في عرضِ المواقفِ في معركة أُحُد؛ يُذكِّرُ الله بالمعركة التي انتهَت بالنصر، وهي معركةُ بدرٍ الكُبرى، لتكون هذه أمام تلك مجالاً للمُوازَنة وتحمُّل أسباب النصر وأسباب الهَزيمة، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ[آل عمران: 125].
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} إنه الصبرُ والتقوى بكل معانيها ومعالِمِها، وذلكم هو سرُّ النصر.
أيها المؤمنون:
وفي سُورة آل عمران وفي غمرة التوجيهات واللَّفَتات يُحذِّرُ الله من دسائِسِ أهل الكتاب، ولم يكن يُجاوِرُهم في المدينة إلا اليهودُ، ويُحذِّرُ الله من الرُّكون إلى الكافِرين أو طاعتِهم، ونصفُ السورة الأول يُصوِّرُ جانِبًا من جوانِبِ الصِّراع بين العقيدة الإسلامية والعقائِد المُنحرِفة، ويُحاجُّ أهلَ الكتاب ويُناظِرُهم، ويُحاوِرُهم ويردُّ شُبُهاتهم. وهو ليس جِدلاً نظريًّا فحسبُ؛ إنما هو جانِبٌ من المعركة الكبيرة الشامِلة بين المُسلمين وأعدائِهم الذين يتربَّصُون بهم، ويتحفَّزون من حولهم، ويستخدِمون في حربِهم كلَّ الأسلِحة وكلَّ الدسائِس والوسائل، وفي أولِها: زعزعةُ العقيدة، وهي ذاتُها المعركةُ التي ما تزالُ ناشِبةً إلى هذه اللحظة بين المُسلمين وأعدائِهم.
وفي ثنايا الآيات يُحذِّرُ اللهُ من الرِّبا ويأمُرُ بالتقوى والمُسارَعة إلى الجنة، وتطهير النفوس وتقوية القلوب، والسيطرة على الأهواء والشَّهوات، ويحُثُّ على الصدقة والعفو، وإشاعة الوُدِّ والتسامُح والإحسان، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[آل عمران: 134].
فالنفسُ لا تنتصِرُ في الحروبِ إلا حين تنتصِرُ في القِيَم والمبادِئ، والذين تولَّوا يوم التقَى الجمعَانِ في أُحُد إنما استزلَّهم الشيطانُ ببعضِ ما كسَبُوا من الذنوب، والذين انتصَروا في معارِك العقيدة وراء أنبيائِهم هم الذين بدؤُوا المعركةَ بالاستِغفار من الذنوب، والالتِجاء إلى الله، والتطهُّر من المعاصِي.
ولعلَّ ما ترتَّبَ على عِصيان الرُّماةِ لأمر الرسول القائِدِ في معركة أُحُد درسٌ عميقٌ يتعلَّمُ منه المُسلمون في كلِّ مواجهةٍ قيمةَ الطاعة، وأن الجماعةَ التي لا يحكُمُها أمرٌ واحدٌ ويغلِبُ على أفرادِها وطوائِفِها النزاعاتُ الفردية لن تنجحَ في معركةٍ، ولن تُفلِحَ في مُواجهةٍ، ما لم تتَّفِق على رغبةٍ واحِدةٍ ووِجهةٍ واحِدةٍ، وما لم تُخمِدْ كلَّ شُذوذٍ يحصُلُ في صُفُوفِها.
ولما دُهِشَ المُسلِمون للكارِثة التي قلَبَت عليهم الأمورُ قال الله لهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[آل عمران: 165].
عباد الله:
إن المُؤمنين مهما أصابَهم في سبيلِ الله فإنهم لا يفقِدون صِلتَهم بربِّهم، وثِقَتَهم بوعدِه الصادقِ لجُندِه بأنهم هم الغالِبون، وأن لن يخذُلَهم؛ بل سوف ينصُرُهم ويُؤيِّدُهم ويُعلِيهم ويُظفِرُهم بأعدائِهم، ويُظهِرُهم عليهم.
ولقد تركَت معركةُ أُحُدٍ آثارًا غائِرةً في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أُصيبَ في بدنِه إذ كُسِرَت سِنُّه، وجُرِحَ وجهُه، وشُجَّ رأسُه، فلم تزَل دماؤُه الزكِيَّةُ تسيلُ على وجهه الطاهِر حتى أُحرِقَت قطعةٌ من حصيرٍ فأُلصِقَت به، وأجهدَه العطشُ حتى جعلَ يقعُ على رُكبتَيْه، وأُصيبَ في أتباعِه؛ إذ أودعَ في سفْحِ الجبل سبعين رجلاً من أعزِّ الناس عليه وأقربِهم إلى قلبِه، وهو يقول: «أما واللهِ لوِددتُ أني غُودِرتُ مع أصحابِي بحِضن الجبل».
وأُصيبَ في أهلِه؛ حين أُخبِرَ بمقتل عمِّه حمزة، فوقفَ عليه وقد بُقِر بطنُه وجُدِعَ أنفُه ومُثِّلَ به، فكرِهَ أن ينظُرَ إليه وقال: «ما وقفتُ قطُّ موقِفًا أغيَ إليَّ من هذا».
بَيْدَ أن التسليمَ لله لم يلبَثْ أن مسحَ الأحزانَ العارِضة، وعادَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتفقَّدُ أصحابَه، ويُخفِّفُ ما نزلَ بهم، ويسكُبُ من إيمانِه على نفوسِهم ما يملؤها عزاءً ورِضًا عن الله، واستِكانةً لقضائِه.
عن رِفاعة الزُّرقيِّ - رضي الله عنه - قال: لما كان يومُ أُحُد وانكفَأ المُشرِكون، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابِه: «استَوُوا حتى أُثنِيَ على ربِّي»، فصارُوا خلفَه صُفُوفًا، فقال: «اللهم لك الحمدُ كلُّه، اللهم لا قابِضَ لما بَسَطتَّ، ولا باسِطَ لما قبضتَ، ولا هادِيَ لما أضلَلتَ، ولما مُضِلَّ لمن هدَيتَ، ولا مُعطِيَ لما منَعتَ، ولا مانِعَ لما أعطَيتَ، ولا مُقرِّبَ لما باعَدتَ، ولا مُباعِدَ لما قرَّبتَ، اللهم ابسُط علينا من بركاتك ورحمتِك، وفضلِك ورِزقِك، اللهم إني أسألُك النعيمَ المُقيمَ الذي لا يحولُ ولا يزولُ، اللهم إني أسألُك النعيمَ يوم العَيْلة، والأمنَ يوم الخوف، اللهم إني عائِذٌ بك من شرِّ ما أعطيتَنا وشرِّ ما منَعتَ، اللهم حبِّب إلينا الإيمانَ وزيِّنه في قلوبِنا، وكرِّه إلينا الكُفرَ والفسوقَ والعِصيان، واجعَلنا من الراشِدين، اللهم توفَّنا مسلمين، وأحيِنا مُسلمين، وألحِقنا بالصالِحين، غير خزايا ولا مفتُونين. اللهم قاتِلِ الكفَرَة الذين يُكذِّبُون رُسُلَك، ويصُدُّون عن سبيلِك، واجعَل عليهم رِجزَك وعذابَك، اللهم قاتِلِ الكفَرَة الذين أُوتُوا الكِتاب، إلهَ الحقِّ»؛ أخرجه الإمام أحمد وغيرُه.
عباد الله:
لقد ترفَّقَ القرآنُ الكريمُ في خِطابِ المُؤمنين بعد ما أصابَهم في أُحُدٍ؛ لكي لا يتحوَّل انكِسارُهم في الميدان إلى قُنوطٍ يفُلُّ قُواهم، وحسرةٍ تشُلُّ إنتاجَهم، قال الله - عز وجل -: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[آل عمران: 139، 140].
فجمعَ - سبحانه - في خِطابِه لهم بين تشجيعِهم وتقويةِ نُفوسِهم، وإحياءِ عزائِمِهم وهِمَمهم، وبين حُسن التعزِيَة وذِكر الحِكَم الباهِرَة التي اقتَضَت إدالَةَ الكفار عليهم، وعزَّى اللهُ نبيَّه وأولياءَه عمَّن قُتِلَ منهم في سبيلِه أحسنَ تعزِيةٍ وألطَفَها، وأدعاها إلى الرِّضا بما قضاهُ لهم، وأخبرَهم بما نالُوه من ثوابِه وكرامَته؛ ليُنافِسُوهم فيه، ولا يحزَنوا عليهم، وأعلَمَهم أن سببَ المُصيبةِ من عند أنفُسِهم ليحذَروا، وأنها بقضائِه وقدَرِه ليُوحِّدُوا ويتَّكِلوا، ولا يخافُوا غيرَه، وسلاَّهم بما أعطاهم مما هو أجلُّ قدرًا وأعظمُ خطَرًا مما فاتَهم من النصر والغنيمةِ.
فلقد كانت حصيلةُ معركة أُحُدٍ ومن بعدها التوجيهات القُرآنية بعد الأحداث أكبرَ من حصيلةِ النصر والغَنيمة، ولقد علِمَ المُؤمنون أن الهزيمةَ حين تقَع؛ فإنها جارِيةٌ على سُنَّة الله وفقَ ما يقعُ من تقصيرٍ وتفريطٍ، وأنها تُحقِّقُ غاياتٍ يُقدِّرُها الله بحِكمته وعلمِه لتمحيصِ النفوس، وتمييز الصفوف، وتجلِيَة الحقائِق، وإقرار القِيَم، وإقامَة الموازين، وجلاء السُّنن للمُستبصِرين.
إن النصرَ لا يتوقَّفُ إلا على نُصرة ربِّ العالمين؛ فمن نصرَه اللهُ - عز وجل - فلا غالِبَ له من الناس، ولن يضُرَّه خُذلانُ الخاذِلين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[آل عمران: 160]. وفي كل هذا دروسٌ وعِبَرٌ للمُسلمين هذا اليوم في كل أرضٍ وتحت كلِّ سماءٍ.
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.






الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملِكِ يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون:
لئن تكلَّف المُسلمون الأوائل عشراتٍ من الرِّجال وأشهرًا من الزمان، ليستعيدوا قوَّتَهم ويتفوَّقُوا في الوقائع اللاحِقة؛ فإن المُسلمين في هذا الزمان استنَزَفوا الملايين من أرواحِهم وعقودًا من أعمارهم، ولم يتغيَّر حالُهم، وكان الفارِقُ بينهم وبين سلَفِهم هو الفرقُ في تعلُّمهم الدروس واستِلهامِهم العِبَر.
لئِن كان المُسلِمون الأوائلُ بعد كل خسارةٍ يثُوبون لدينِهم، ويلجؤُون لربِّهم، ويُحِيطُون بنبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن المُسلمين اليوم يُذادُون عن دينهم، ويُقصَون عن شريعتِهم، ويُحالُ بينهم وبين وسائل النصر ومَدَده.
ولك أن تُجيلَ بصرَكَ في كثيرٍ من بلاد المُسلمين خلال القرن الماضي بعد استِعمارهم وذهاب شوكتِهم وحتى اليوم، لقد جرَّبُوا كلَّ طريقٍ، وطرَقُوا كلَّ بابٍ، وأخَذوا من العلوم العصريَّة، وحازُوا الأسلِحةَ والعتادَ، وسالَت تحت أيديهم كُنوزُ العالَم، ونبعُ وقوده. ومع ذلك أصبَحوا ولا يسيلُ من الدماء إلا دماؤُهم، ولا تُجتاحُ إلا أراضِيهم، ولا يُقهَرُ إلا رِجالُهم. بل حتى في بلادِهم تتحكَّمُ أقلِّيَّاتُ الطوائِف في مصائِرِهم.
يا أيها المسلمون:
لهيبُ الأحداث يسُوقُكم لدينِكم، وسِياطُ المقادِير تُلجِئُكم لخالِقِكم، وفجائِعُ الدهر تُنادِيكم: أن هلُمُّوا لما عزَّ به سلَفُكم، واستقوَى به أوائلُكم.
أيها المسلمون:
راجِعوا أنفُسَكم؛ ففي الفضاء إعلامٌ وقنواتٌ لا تنتمِي لماضٍ مُحافِظٍ، ولا تُبالِي بواقعٍ مُؤلمٍ، وفي الناس غفلةٌ، والجِراحاتُ في كل وادٍ تسيلُ.
كيف يكونُ السَّرَفُ والتَّرَفُ وفي المُسلمين أوجاعٌ، وبهم جِياعٌ؟! ألم ترَوا أن الأيام دُوَلٌ، والدهرُ قُلَّب؟!
ويا أهلَنا في الشام! لكُم الله، وما لكم غيرُ الله، لقد أسلمَكم العالَمُ ليقوَى بالله تعلُّقُكم، ودانَ الشَّرْقُ تحرُّرَكم ليقوَى دينُكم، ومنَعُوكم المَدَد لتُخلِصُوا في طلبِ المَدَد من الله، اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف: 128].
لقد أسرفَ طاغيةُ الشام في الدمِ، وأظهرَ عداوتَه لبلده أكثرَ من أي عدوٍّ، وهو مقطوعُ السَّبَب بالله موصولُ السَّبَب بالمخذُولين من أهل الأرض، وما أظهرَه أخيرًا من استِعلاءٍ واستِقواءٍ وعدمِ مُبالاةٍ لما يحدُثُ في الشامِ لهِيَ صحوَةُ الموت، ولكأنَّ البِشاراتِ بنصر الله عمَّا قريبٍ في الشام ستعلُو، وشمسُ الخلاصِ تُشرِقُ، وتعودُ الطيورُ التي طالَت هِجرتُها، وسيفرحُ المُؤمنون بنصر الله. وإنما الشجاعةُ صبرُ ساعةٍ.
اللهم يا جبَّارُ يا مُنتقِم، اللهم عجِّل بمصارِع القوم الظالِمين، اللهم عجِّل بمصارِع القوم الظالِمين، والطُف بعبادِك المُستضعَفين من المظلومين، واشفِ صُدورَ قومٍ مُؤمنين.
إن على المُسلمين قبل كلِّ أحدٍ أن يُبادِروا لغوثِ إخوانِهم في سُوريا، وقد زادَ بلاؤُهم بالبردِ الشديدِ وقسوةِ الثُّلُوج، وجَرْفِ السُّيُول، كان الله في عونِهم.
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين، اللهم انصُر دينكَ وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم، واجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم أسبِغ عليه لباسَ الصحةِ والعافِية، اللهم أسبِغ عليه عافِيَتك وألبِسه لباسَ الصحةِ وأتِمَّ عليه الشفاءَ، اللهم وفِّقه ونائبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سنة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المُسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 147].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم إنا نسألُك رِضاك والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطك ومن النار.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبَقًا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والبَادِ.
اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-05-2013 10:48 AM

سلوا الله العافية
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 6 ربيع الاول 1434هـ بعنوان: "سلوا الله العافية"، والتي تحدَّث فيها عن العافية وأهميتها في حياة المسلم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم – كان يُكثِرُ سؤالَ الله إياها؛ بل ونصحَ كثيرًا أن يُسألَ الله بها، وذكرَ بعضَ الآيات والأحاديث والآثار الدالَّة على عِظَم قدرِها وفضلِها.

الخطبة الأولى
الحمد لله ذي العزة والجلال، غافر الذنب وقابلِ التوب شديد المِحال، مانِح كلِّ غنيمةٍ وفضلٍ، كاشِفِ كل عظيمةٍ وضيقٍ، أحمده - سبحانه - على سوابغِ نعمِه وواسع كرمِه وعظيمِ آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، أرسلَه إلى الثَّقَلَيْن الإنسِ والجنِّ بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصِيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -، فما أنتم في هذه الدنيا إلا مأمورون مُكلَّفون، تعترِيكم البلايا وتخترمُكم المنايا، وتترادَفُ عليكم النِّعَم، فلا تنالُون منها نعمةً إلا بفِراقِ أُخرى، ولا يحيا لكم أثر إلا ماتَ لكم أثر، ولا يتجدَّدُ لكم جديد إلا ويبلَى لكم جديد. وقد مضَت أصولٌ نحن فُروعُها، فما بقاءُ فرعٍ بعد أصل، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ[الرعد: 26].


أيها الناس:
إن البشرَ بعامَّةٍ محكومون بالجِدِّ والكَدْحِ، وقد خلقَهم الله في كبَد، «كلُّ الناس يغدُو؛ فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقُها».
وهم بين كادحٍ مُلتذٍّ وآخر مُتألِّمٍ، قد يضعُفُون مع المتاعِب إلى حدِّ الهَوان، وقد ينتَشُون مع المنافعِ إلى حدِّ الطُّغيان، والكيِّسُ من هؤلاء جميعًا من لا يزيغُ ولا يطغَى، ويظلُّ رابطَ الجأشِ مُتماسِكًا في حالَيْه كلتَيْهما، ويدفعُ نفسَه دفعًا إلى الوقوفِ ببابِ خالقهِ ومولاه يسألُه العفوَ والعافيةَ في دينه ودنياه وأهلِه وماله؛ لأن إيثارَ العافية فِطرةٌ فطَرَها الله في الأنفُس؛ إذ لا يحبُّ البلاءَ والأوجاعَ إلا مُختلُّ المزاج مختومُ الفؤاد.
وإنه لا يُدرِكُ قيمةَ العافية إلا من فقَدَها في دينه أو دُنياه؛ فالعافيةُ إذا دامَت جُهِلَت، وإذا فُقِدَت عُرِفَت، وثوبُ العافية من أجمل لباس الدنيا والدين، وفيهما تلذُّ الحياةُ الدنيا ويحسُن المآلُ في الأخرى.
ومن هنا كان توجيهُ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأمَّته رحمةً بهم وحِرصًا عليهم، حينما قال: «سلُوا اللهَ العفوَ والعافيةَ؛ فإن أحدًا لم يُعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية»؛ رواه أحمد.
ولم يكتفِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولِه هذا لأمَّته، وإنما أردَفَ ذلك بفعلِه المُتكرِّر؛ لتشعُر أمَّتُه بقيمة هذه النعمةِ العظيمةِ، فكان - صلوات الله وسلامه عليه - يقول: «اللهم إني أسألُك العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألُك العفوَ والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي .. الحديث»؛ رواه أبو داود وغيره.
قال ابن الجزري - رحمه الله -: "من أُعطِيَ العافية فازَ بما يرجُوه ويُحبُّه قلبًا وقالَبًا، ودينًا ودُنيا، ووُقِيَ ما يُخافُه في الدارَيْن".
العافيةُ - عباد الله - قيمةٌ مُطلقةٌ لا تقبلُ التجزِئةَ والنسبيةَ، ولذلك يُخطِئُ من يقصُرُها على عافيةِ البدن فحسبٍ دون عافيةِ الدين؛ فمن اقتصَرَ على طلب العافية في البدن دون الدين فقد أسرفَ في الصُّدود وانحازَ عن جادَّة الصواب، ومن طلبَ العافيةَ في الدين دون البدن فقد ظلمَ نفسَه، وربما أضعفَ دينَه بضعفِ عافية دينِه، والمؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المُؤمن الضعيف.
والسعيدُ - عباد الله - كما قال ابن الجوزي - رحمه الله - هو من ذلَّ لله وسألَ العافية؛ فإنه لا تُوهَبُ العافيةُ على الإطلاق؛ إذ لا بُدَّ من بلاءٍ، ولا يزالُ العاقلُ يسألُ اللهَ العافيةَ ليتغلَّبَ على جمهور أحوالِه.
ومن عُوفِيَ فشكَرَ - عباد الله - أحبُّ إلى كل ذي لُبٍّ من أن يُبتلَى فيصبِر، كما قال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -.
عباد الله:
يلحظُ كلُّ نبيهٍ رامقٍ بعين بصيرته اهتمامَ عموم الناس بعافية البدن؛ إذ يُعطُونَ في تحصيلِ هذه النعمة الوقتَ والجُهدَ والتذكيرَ والدعاءَ، في حين إنهم يغفُلُون عن قيمةِ العافيةِ في الدين وسلامته من الآفات والابتلاءات؛ لأن فتنَ الدين تُوهِنُ الأفرادَ الذين هم مجموعُ المُجتمعات.
ومتى ما فرَّطَ المرءُ في تحصيلِ العافيةِ في دينه فقد آذَنَ نفسَه بهلاكٍ وتيهٍ، ويشتدُّ الهلاكُ والخُسران حينما يُجاهِرُ المرءُ بما بُلِيَ به من معصيةِ ربِّه؛ فيستُرُه اللهُ ثم هو يفضحُ نفسَه. ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد صحَّ عنه أنه قال: «كلُّ أُمَّتي مُعافَى إلا المُجاهِرين».
نُقصانُ العافية في الدين تكونُ بالانحرافِ عن شِرعةِ الله؛ إما بطُغيانِ شهوةٍ بهيميَّةٍ تردُّ صاحبَها إلى حضيضٍ أوحَد يعبُّ فيه من الشهوات كما الهِيم، أو بطُغيانِ شُبهةٍ من الدين تنحرِفُ بصاحبِها إلى مصافِّ الذين يقعُدون بكلِّ صراطٍ يُوعِدون ويصدُّون عن سبيل الله من آمنَ يبغُونَها عِوَجًا.
وقد حذَّرَنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من خوارمِ العافيةِ في الدين؛ فقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «ستكونُ فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائِمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرَّفَ لها تستشرِفه»؛ رواه البخاري ومسلم.
وقد كان مما علَّمَه النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسنَ بنَ عليٍّ - رضي الله تعالى عنهما - أن يقول في دُعائِه وقُنوتِه: «اللهم اهدِني فيمن هدَيت، وعافِني فيمن عافَيت .. الحديث»؛ رواه أحمد وأصحاب السنن.
إن من أعظم فُقدان العافية في الدين: أن يكون المرءُ مُفسِدًا لا مُصلِحًا، مُستهزِئًا لا جادًّا، مِعولَ هدمٍ لمُجتمعه لا عاملَ بناءٍ لبُرجِه المشيد، لا تجِده إلا في مظانِّ الاستِهزاءِ، أو سنِّ ما يخدُشُ الدينَ والفِطرة التي فطَرَ الله الناسَ عليها؛ ليحمِلَ وِزرَه ووِزرَ من عملَ بسُنَّته إلى يوم القيامة.
وقد جاء في السُّنَّة ما يدلُّ على نسبةِ الأحداثِ إلى مُحدِثِها، وأنه يتحمَّلُ إثمَه إلى يوم القيامة جرَّاءَ ما أوقعَ فيه غيرَه من إخلالٍ بنهجِ الله وشِرعته، فمن ذلك: قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من نفسٍ تُقتلُ ظُلمًا إلا كان على ابنِ آدم كِفلٌ منها؛ لأنه أولُ من سنَّ القتلَ»؛ رواه البخاري ومسلم.
ورحِمَ الله الإمامَ مالِكًا حينما أوصَى أحدَ تلاميذه، فقال: "لا تحمِلنَّ الناسَ على ظهرِك"؛ أي: لا تحمِل إثمَه بما يُحدِثُه "وما كنتَ لاعبًا به من شيءٍ فلا تلعبنَّ بدينِك".
نعم، عباد الله:
ليحذَر كلُّ من يضعُ لبِنةَ فتنةٍ أو إفسادٍ في دينٍ أو خُلُقٍ أنهم سيحمِلون أوزارَهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضِلُّونَهم بغير علمٍ.
وليحذَر كلُّ من غرَّه ما في الباطلِ من تزويقٍ وما في الفتنِ والافتِتان من رُقوشٍ؛ فالحقُّ أبلَج مهما أُسدِلَت دونَه السُّتُور، والباطلُ لَجلَج وما هو إلا كسرابٍ بقِيعةٍ يُغرِي ولا يُروِي، ولو نظرَ كلُّ ماشٍ تحت قدمَيْه لما وطِئَ شوكةً ولا عثَرَ بحُفرةٍ.
احذَر وُقِيتَ فتحت رجلِك حُفرةٌ
كم قد هوَى فيها من الإنسانِ
ومن عُوفِيَ فليحمَد اللهَ ما زلَّ من، طلبَ السلامةَ إنها للمرءِ حِصنٌ في الصُّرُوفِ العاتِية، لم يُعطَ إنسانٌ ولا ذو همَّةٍ بعد اليقين بمثلِ تلك العافية.
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
فاعلَموا - يا رعاكم الله - أن إيثارَ المرء السلامةَ والعافيةَ في دينه لا يُفهَمُ منه الرِّضا بالدَّعَة والقعود عما هو خيرٌ، وما هو واجبٌ لا يجوزُ القعودُ عنه، وإنما تُؤثَرُ السلامةُ والعافيةُ في مواطِنِ الفتنِ والرياء، وتساوِي الأمرَيْن معًا بحيث يشتبِهُ الحقُّ بغيره، فيدَعُ المرءُ ما يَريبُه إلا ما لا يَريبُه، ومن اتَّقَى الشُّبُهات فقد استبرَأَ لدينه وعِرضِه، ومن وقعَ في الشُّبُهات وقعَ في الحرام.
وقد كان الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - يقول: "إني لأدَعُ ما لا بأسَ فيه خشيةَ الوقوعِ فيما فيه بأسٌ".
ولقد أحسنَ القاضي الجُرجاني - رحمه الله - حينما قال واصِفًا قيمةَ العافية فيما يشكُوه في زمانِه:
ولم أبتذِل في خدمةِ العلمِ مُهجَتي
لأخدِمَ من لاقيتُ لكن لأُخدَمَا
ولم أقضِ حقَّ العلمِ إن كان كُلَّما
بدَا طمَعٌ صيَّرتُه ليَ سُلَّمًا
إذا قيل: هذا منهَلٌ، قلتُ: قد أرى
ولكنَّ نفسَ الحُرِّ تحتمِلُ الظَّمَا
أُنهنِهُها عن بعضِ ما لا يشينُها
مخافةَ أقوالِ العِدَا فيمَ أو لِمَا
ولهذا كان من اعتقاد أهل السُّنة والجماعة في الفتنِ والخُطوبِ المُدلهِمَّة أن السلامةَ لا يعدِلُها شيءٌ، والقعودَ أسلمُ إلا إذا تبيَّن لهم الحقُّ بالأدلَّة الشرعيَّة الواضِحةِ الصريحةِ الصحيحةِ؛ فإنهم ينصُرونَه ويُؤيِّدُونَه دون تردُّدٍ.
وقد ذكرَ بعضُ أهل العلم في قصة أصحاب الكهف قولَ بعضِ المُفسِّرين: "وفي هذه القصة دليلٌ على أن من فرَّ بدينِه من الفتنِ سلَّمَه الله منها، وأن من حرِصَ على العافيةِ عافاه الله، ومن أوَى إلى الله آواه الله، وذلك حالَ استِحكام الفتنِ أيَّمَا استِحكامٍ".
وإن مما ينبغِي الحَذَرَ منه: الفهمَ الخاطِئَ لبعض القَعَدة الذين يفهمُون العافيةَ في غير موضِعِها، فيستدلُّون بقولِه - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ[المائدة: 105]، فيظنُّون أن معناها تركُ الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، وإصلاح الناس وبيان الصحيح في الفتن. وهذا ليس هو مُراد الله في كتابه، كما قال الصدِّيقُ - رضي الله تعالى عنه -.
بل إن المعنى: أنه لا يضرُّ المرءَ ضلالُ غيره، إذا هو اهتدَى وقامَ بما أمرَ الله به تِجاهَ الآخرين؛ من دِلالتهم للحقِّ وتحذيرِهم من الباطِل؛ لأن الهدايةَ بيدِ الله، وما على المرءِ إلا البلاغ، والله الهادي إلى سَواءِ السَّبيل.
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافية، اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافية في دينِنا وأموالنا وأهلِينا يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في كل مكان، اللهم انصُرهم في كل مكان، اللهم انصُرهم على من ظلمَهم وخذَلَهم، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم اجعل شأنَ عدوِّهم في سِفال، وأمرَه في وبال، اللهم عجِّل لهم بالنصرِ والفرَج يا أرحم الراحمين، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك فلا تمنَع عنا ذنوبِنا فضلَك يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-05-2013 10:51 AM

السيرة النبوية ووجوب تعلُّمها
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة 13 صفر 1434هـ الجمعة بعنوان: "السيرة النبوية ووجوب تعلُّمها"، والتي تحدَّث فيها عن سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهميتها وضرورة تعلُّمها وتعلُّم السنَّة المُطهَّرة، والذبِّ عنها، ولا بُدَّ من استِشعار أخلاقِه - عليه الصلاة والسلام - ونشرِها في رُبوع الأرض.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده - سبحانه - حقَّ حمده، ونُسبِّح بعظمته ومجده، ونسألُه صلاحَ الحال وحُسنَ العواقِب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له منَّ علينا ببعثة المُصطفى الحاشِر العاقِب، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا وحبيبَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُجتبى بأشرف الخِصال وأبقَى المناقِب، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه المخصُوصين في الاقتِداء بأسمى المراتِب، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ما دامَ الجَديدان في دأبٍ وتعاقُب، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حقَّ تُقاته، واعلَموا أن تقواه - سبحانه - أعظمُ مِصداق، وأقوى مِيثاق، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: 52].
أيها المسلمون:
كل قضيةٍ إلى انمِحاءٍ وطموس، وكل أمرٍ إلى نِسيانٍ ودُروس، وكل باطلٍ - لا محالةَ - إلى اندِحارٍ ونُكوص، ولكن دينَ الإسلام الرباني العالمي حياة الأرواح والنفوس إلى إباءٍ وشُموس، وسيرةَ خير الأنام - عليه الصلاة والسلام - في انتِصارٍ وائتِلاق، وانتِشار وانطِلاق، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
والأمةُ الإسلامية المُبارَكة إنما تسنَّمَت قِمَم السُّؤدَد والإباء، وساقَت الإنسانيَّة إلى مرابِع الحضارة والعَلياء، وأفياء الأمن والاستِقرار والإخاء أوانَ استِعصامها بالوحيَيْن الشريفين، وإبَّان كان مُفعَمُ روحِها ومُستولَى مشاعِرها سيرةَ نبيِّها - صلى الله عليه وسلم - الغرَّاء وشمائلَه الفَيْحاء.
ويوم أن تنكَّبَت أمةُ الاتحاد والقوة والإنجاد عن ذلك الهديْ الربَّاني الرَّقراق فاءَت إلى يَباب التَّبعيَّة والوَهَن، وصارَت والتنافُر والتناثُر في قَرَن، والتأمَت مع الأسَى المُمِدّ على الشَّتات والانبِتات، والله المستعان.
معاشر المسلمين:
منذ ما يربُو على أربعة عشر قرنًا من بعثة سيد الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - وسيرتُه المُؤنَّقةُ البَلْجاء تُعطِّرُ الأقطارَ والأرجاء.
والكونُ أشرقَ والفضاءُ تعطَّرا
والأفقُ ضلَّلَه السرورُ فهل ترَى
بما انهمرَت به من حقائق المهابة والجمال، والخشية والجلال، والحِكمة المُجلِّيَة في الأقوال والفِعال؛ لأنها المكنَزُ التأريخيُّ، والمنهَلُ الحضاريُّ، والمِنهاجُ العلميُّ، والمِعراجُ العمليِّ الذي يُبوِّئُ الأمةَ السُّؤدَدَ والمهابَة، والتوفيقَ والإصابَة.
أليست هي سيرةَ الحبيب المُصطفى والخاتَم المُقتفَى - صلى الله عليه وسلم -، ما ذرَّ شارِق وحنَّ إلى إلفِه المُفارِق، رسول الملكِ العلاَّم، وحاملِ ألوية الحق والخير والعدل والسلام، من هدى البشريَّةَ من الضلالة، وعلَّمَها من الجَهالة، وانتحَى بها قِمَم الرِّفعَة والجلالة.
نبيِّ المُعجِزات، وآخِذنا عن النار بالحُجُزات، أمنِّ الناس على كل مسلمٍ ومسلمة، وأحقِّهم نقلاً وعقلاً بالمحبَّة الوادِقة، والطاعَة الصادقة.


إذا ما المجدُ فاخرَ في عُلاهُ

بدَا محبوبُنا أبهَى انتِسابًا
إذا ما العزُّ أخجَلَنا صدَاهُ
بدَا في الناس أرفعَهم جنابًا
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِه ووالدِه والناس أجمعين»؛ أخرجه الشيخان.
أنت الحبيبُ بأمر الله قد خفَقَت
لك القلوبُ بلا خوفٍ ولا تعبِ
أنت الذي خصَّه بالحبِّ خالِقُه
لما اصطفَاهُ حبيبًا عالِيَ الرُّتَبِ
وتلكم هي المحبةُ المُفضِيَة إلى أصل الطاعة والتسليم الذي دلَّ عليه قولُ المولَى الكريم: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء: 65].
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إنما أنا رحمةٌ مُهداةٌ». الله أكبر! يا له من نبيٍّ ما أعظمَه، ومن رسولٍ ما أكرَمَه.
أقامَ مُجتمعَ الفضيلةِ والتُّقَى
وأشادَ مجدًا شامِخَ البُنيانِ
العدلُ جوهرهُ وأُسُّ بِنائِه
بمكارِمِ الأخلاق والإحسانِ
أيها المؤمنون:
ومع كلِّ هذا الجلاء في سيرة خير الورَى والبَهَاء لا ينفكُّ عفاكِلَةُ الشِّقاق ودَهماءُ الآفاق ينشُرُون أباطِيلَهم وحِقدَهم الأرعَن عبرَ الحمَلات والشَّبَكات، ويَطالُون في النَّيْل والبُهتان رُموزَ النبُوَّات، وعُظماءَ الرِّسالات، وشريفَ المُقدَّسات، وخاصَّةً حِيالَ الجنابِ المُحمديِّ الأطهَر وهديِه الأزهَر.
ولكن بَلسَمُنا وسلوانَا قولُ ربنا ومولانا: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 95]، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 3].
إنا لنعلَمُ أن قدرَ نبيِّنا
أسمَى وأن الشَّانِئين صِغارُ
سقطَت مكانةُ شاتِمٍ وجزاؤُه
إن لم يتُبْ مما جناهُ النارُ
وقد علِموا يقينًا قاطِعًا أن النبيَّ الكريمَ - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - قد جاء للبشريَّة بأسمَى القِيَم والآداب الخُلُقيَّة، وأدقِّ الحقائق الكونيَّة، وأرقَى النُّظُم الاجتِماعيَّة، وأزكَى الشرائعِ التعبُّديَّة، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ[النمل: 14].
أمة الإسلام:
وإذا كانت المَآسِي تلفَحُ وجهَ الأمة في كل شبرٍ ووادٍ من كل باغٍ وعادٍ، وخصوصًا في أرضِ الشام من قِبَلِ من فاقُوا جورَ عاد؛ فإنه لِزامًا على الأمة - وقد رثَّ حبلُ صِلَتِها بهذه السيرة الهادِية أو كاد، ولم تُلقِ لها فهمًا أو بالاً، فجرَّ ذلك تِرَةً ووبالاً - لزِمَ الأمةَ وبكل الوسائل التِّقانيَّة والفضائيَّة أن تنثنِيَ إلى السيرة النبويَّة في شُمولٍ وعُمقٍ، وأن تكون أشدَّ تعلُّقًا بنبيِّها وسُنَّته - عليه الصلاة والسلام -، تأسِّيًا وفهمًا واستِبصارًا، وسلوكًا وفِكرًا واعتِبارًا، لتنتشِلَ نفسَها من هُوَّة العجز والهُونِ الواضح، والتمزُّق والانحِدار الفاضِح التي مُنِيَت بها في هذه الآونة العَصيبة القَلِقَة.
ولْنُعلِنها مُدوِّيَّةً خفَّاقَة، وشجًى في اللَّهَوات المُغرِضَة الأفَّاكَة أن السيرةَ النبوية والسنَّة السنِيَّة - على صاحبها أزكى صلاةٍ وتحيَّة - هُما مَناطُ العزِّ والنصر، وأجلَى لُغاتِ العصر، التي تُؤصِّلُ للأمة الفوقيَّة والتمكِين. نعم، يا أمةٍ عزَّت بأعظم سيرة، وقادَت بأكرَم مسيرة.
لا بُدَّ من بعث هِدايات السيرة المُشرِقة، وإشراقات معانيها ومرامِيها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بُعِثتُ لأُتمِّمَ صالحَ الأخلاق»؛ أخرجه البخاري في "الأدب المفرد".
وقد أتمَّها - عليه الصلاة والسلام - بأبي هو وأمي - بالرحمة والرِّفق، والصدق والنزاهة والأمانة والحِوار، والتسامُح والاعتِدال والإصلاح.
خُتِمَت به الأخلاقُ فهو تمامُها
ولقد يفوقُ بدايةً إنهاءُ
جاء الأُلَى قبلاً بألفِ فضيلةٍ
فأتَى بهيمَنةٍ على ما جاؤُوا
بل لا بُدَّ للأمم من استِشعار الأخلاق المُحمديَّة في سِياساتِها وفِكرِها وثقافاتها وطُموحاتها وعلاقاتها وحِواراتها واقتصادِياتها وإعلامِها؛ لأنها الخِرِّيتُ الحادِي والمُرشِدُ الأمينُ الهادِي، يقول - جلَّ اسمُه -: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا[النور: 54].
أمة السيرة والسنة:
ونظيرُ التحقُّق بالسيرة الزكيَّة: التمسُّكُ بالسنَّة السنيَّة والذبُّ عن حِياضِها، والرُّتُوعُ مظهرًا ومخبَرًا في رِياضِها، والنَّهْلُ بالفهم السَّديد من سَلْسالِ غِياضِها، في نَأْيٍ عن مسالكِ التعصُّباتِ المذهبيَّة، والنَّعَرات الطائفيَّة.
معاشر الأحِبَّة:
ولن تُترجَمَ نوابِضُ الحبِّ والإحساس، ومقاصِدُ الأنفاسِ في اتباعِ خير الناس - عليه الصلاة والسلام - إلا بالوقوفِ عند هديِه وسُنَّتِه، والاقتِباسِ من مِشكاةِ سيرتِه؛ فأنَّى وعلامَ، وكيف وحتَّامَ يكونُ الهديُ النبويُّ المَكين مدى الأعمار والسِّنين قصرًا على مُحدثاتٍ ومُخالفاتٍ، في ليالٍ وأيامٍ معدودات، وانبِتاتٍ عن معينِ السُّنَّة البَلْجاءِ أيِّ انبِتات. ليتَ شِعري! إنه الحبُّ الهَباءُ الأخفُّ، وفي الموازينِ هو الأطَفُّ.
سلْهُم عن الحب الصحيحِ ووصفِه
فلسوفَ تسمعُ صادقَ الأخبار
إحياءُ سُنَّته حقيقةُ حُبِّه
في القلبِ في الكلماتِ في الأفكارِ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 31، 32].
بارك الله ولي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه كان توابًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله، جعل التمسُّكَ بالسنَّة الغرَّاء إلى مراضِيهِ سبيلاً، وشاهدًا على توفيقه ودليلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُبجَّلُ في العالمين تبجيلاً جِيلاً فجِيلاً، من امتثَلَ حُبَّه فيا بُشراه نهَلَ من السعادة سَلسبيلاً، صَلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الأطهار، وصحابتِه الأبرار المُفضَّلين تفضيلاً، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ صلاةً وسلامًا يتعاقَبَان بُكرةً وأصيلاً.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله وأطيعوه، واقتَدوا بنبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - ولا تَعصُوه.
أمة السيرة وأزكى المسيرة:
ومُقتضى محبَّة المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -: محبَّةُ آل بيته وأزواجه الأطهار، وصحابته الميامين الأبرار؛ فحُبُّهم جوازٌ على الصراط، ومُورِثٌ للتقوى والاغتِباط، وقد نوَّهَ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - بحقِّهم وقدرِهم، كما صحَّ في الخبر عن سيد البشر - عليه الصلاة والسلام -: «لا يُحبُّهم إلا مُؤمن، ولا يُبغِضُهم إلا مُنافِق، ومن أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضَهم أبغضَه الله».
فمن تطاوَلَ عليهم وافترَى، فقد ظلَمَ واجتَرَى، ومن نالَ منهم وخاضَ فيما شجَرَ بينهم فقد جاء بأعظم الفِرَى.
وربَّى سادةً نُجُمًا كِرامًا
أضاؤُوا الكونَ أخلاقًا رِطابًا
تسامُوا في الوُجودِ هُداةَ حقٍّ
فكانُوا أنجُمَ الدنيا صوابًا
إخوة الإيمان:
ويُؤكَّدُ في هذا السِّياق على تربية الأُسَر والشباب والفَتَيات في مسيرتهم العلميَّة والعمليَّة، لا سيما في صرِ العولمة والتِّقنيَّة، وفقَ إشراقات السيرة النبويَّة والسُّنَّة المُصطفَويَّة التي تُنمِّي مَكَاتهم الإبداعيَّة ومواهِبَهم الربَّانيَّة صوبَ الفلاح والنجاح.
يا أيها الجيلُ المُحبُّ في المشارِقِ والمغارِب! غُلُّوا المسير، وكونُوا قادةَ التَّشمير للتحلِّي بشمائل نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقِه، وتزيَّنُوا بمناقِبِه، وتمثَّلُوا هديَه وأوصافَه، عضُّوا عليها بالنواجِذ تغنَموا وتسُودوا، وتنعَموا وتقودوا، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ[الروم: 4، 5].
وتحرير المُقدَّسات الإسلاميَّة، وإنهاء أزمَات الأمة المأساويَّة في فلسطين وبُورما والأراضي السوريَّة، ورفع الحَصانَة الدائِمة عن الظَّلَمة والطُّغاة والمُعتَدين، والمُغتصِبين المُحتلِّين، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج: 40].


هذا، واعلَموا - رحمكم الله - أن الله قد أمرَكم بأمرٍ بدأَ فيه بنفسِه، ثم بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، فقال تعالى قولاً كريمًا تشريفًا لمقام نبيِّنا وتكريمًا، وإرشادًا للأنام وتعليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
يا فوزَ من صلَّى عليه فإنه
يحوِي الأمانِيَ بالنعيمِ السَّرمَدِ
صلَّى عليه اللهُ جلَّ جلالُه
ما لاحَ في الآفاق نجمٌ فرقَدِ
اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين الذين قضَوا بالحق وبه كانُوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ والتابعين، وعن الطاهِرات أمهات المُؤمنين، وعن آل بيته الطيبين الطاهرين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمِك يا أكرمَ الأكرَمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، اللهم أسبِغ عليه لِباسَ الصحة والعافية، والسلامة الدائِمة يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة المسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين.
اللهم كُن لإخواننا المُستضعَفين المُضطَهدين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم كُن لهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلِح حالَهم، اللهم أصلِح حالَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم عافِ مرضاهم، اللهم عافِ مرضاهم، وداوِ جرحاهم، وارفع عن مُبتلاهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم عليك بأعدائِك أعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عِبرةً للمُعتبِرين.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من المُعتدين المُحتلِّين، اللهم اجعله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين، اللهم كُن لإخوانِنا في سُوريا وفي بُورما وفي فلسطين، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِث قلوبَنا بالإيمان واليقين، وبلادَنا بالخيراتِ والأمطارِ والغيثِ العَميم.
اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مِدرارًا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذُنوبِنا فضلَك.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، وارحَم موتانا وموتَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10].
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالِدِينا ووالدِيهم وجميع المُسلمين والمسلِمات، الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدَّعَوات.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 03-05-2013 10:53 AM

حرمة التجسُّس على المسلمين

ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة20 ربيع الاول 1434هـ بعنوان: "حرمة التجسُّس على المسلمين"، والتي تحدَّث فيها عن التجسُّس وخُطورته، وحشَدَ الأدلةَ من الكتاب والسنة على تحريمه وبيان مذمَّته، وعِظَم ضرره.
الخطبة الأولى
الحمد لله الكريم المنَّان، أحمده - سبحانه - حمدًا نرجُو به الرِّضوانَ والغُفران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كريمُ العطايا قديمُ الإحسان، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله المبعوثُ رحمةً للخلق من إنسٍ وجان، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبِه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا أنكم موقوفُون بين يديه، يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا[النبأ: 40].
أيها المسلمون:
إن من فضائل هذا الدينِ ومحامِدِه التي شهِدَ بها القاصِي والدانِي: تلك التشريعاتُ الفَذَّةُ التي أرسَى بها قواعِدَ المُجتمع الراشِد، وحفِظَ بها بناءَه، وحاطَه بأسوارٍ مَنيعةٍ عصِيَّةٍ على معاوِلِ الهَدم، وجعلَها قائِمةً على عقيدةٍ تغرِسُ في النفوس أن أساسَ الرابِطَة بين المؤمنين هي الأُخُوَّة في الدين؛ حيث قال ربُّنا - سبحانه -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات: 10].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المُسلمُ أخُو المُسلِم .. الحديث»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.
وهي رابِطةٌ تُورِثُ الإخوةَ في الإسلام شُعورًا يبعثُ على ألا يرَى أحدٌ منهم نفسَه أحقَّ بالخير من أخيه؛ فهو يُحبُّ الخيرَ له كما يُحبُّه لنفسِه، مُستيقِنًا بأن إيمانَه لا يكمُلُ إلا بذلك، كما أخبر الصادقُ المصدوق - صلوات الله وسلامه عليه -: «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه»؛ أخرجه البخاري ومسلم - رحمهما الله - من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
وإذا كان مُقرَّرًا في العقول، مركوزًا في الفِطَر: محبَّةُ المرء حفظَ ما يعنِيه ويختصُّ به من أمورِه وشُؤونِه وأسرارِه، بعيدًا عن تطفُّل المُتطفِّلين، واقتِحامِ المُقتحِمين، وكراهتُه كشفَ أستارٍ يضُرُّ به كشفُها أبلغَ ضررٍ، ويُوقِعُه في أشدِّ الحرَج، ويُعطِّلُ عليه مصالِحَه.
فقد جاءَت الشريعةُ المُكرَّمة بصَون هذا الحقِّ، وسدَّت كلَّ ذريعةٍ لاختراقِه بأيِّ وسيلةٍ، تجلَّى ذلك في نهيِ الله - عز وجل - المُؤمنين عن خُلُق التجسُّس، وحقيقتُه: ألا يترُك المُتخلِّقُ به عبادَ الله تحت سِتر الله؛ بل يسعَى إلى معرفة ما خفِيَ عليه من خاصِّ أحوالِهم - كما قال أهلُ العلم - حتى ينكشِفَ له ما لو كان مستورًا عنه كان أسلمَ لقلبِه ودينِه.
وجاء النهيُ عنه تاليًا للنهي عن سُوء الظنِّ بالمُسلِم؛ لأنه من ثمراتِه، فإن قلبَه - أي: قلب هذا المُتجسِّس - لا يكتفِي بالظنِّ؛ بل يحمِلُه ذلك إلى التحقُّق مما ظنَّ، فيشتغِلُ بالتجسُّس، فيحمِلُ وِزرَهما معًا.
ولذلك جاء النهيُ عنهما بقولِه - عزَّ اسمُه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[الحجرات: 12].
قال ابنُ جريرٍ - رحمه الله -: "أي: لا يتَّبِع بعضُكم عورةَ بعضٍ، ولا يبحَث عن سرائِرِه يبتغِي بذلك الظهورَ على عُيوبِه، ولكن اقنَعوا بما ظهرَ لكم من أمره".
وجاء في الحديث الذي أخرجه البخاري - رحمه الله - في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تجسَّسُوا، ولا تحسَّسُوا، ولا تباغَضُوا، ولا تدابَرُوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا».
ومما يدخلُ في التجسُّس أيضًا - يا عباد الله -: أن يستمِعَ إلى حديثِ قومٍ بغير إذنٍ ولا رِضًا منهم بذلك؛ فقد توعَّدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعِلَه بقولِه: «من تحلَّم بحلمٍ لم يرَه كُلِّفَ أن يعقِدَ بين شعيرتَيْن، ولن يفعَل، ومن استمعَ إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهون أو يفِرُّون منه صُبَّ في أُذنِه الآنُك - أي: الرَّصاص المُذاب - يوم القيامة .. الحديث»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -، واللفظُ للبخاري.
وشرعَ اللهُ الاستِئذانَ عند دُخولِ البيوتِ حمايةً لهذا الحقِّ أيضًا، وصِيانةً وسترًا لعوراتِها، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النور: 27].
وبيَّن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حكمةَ هذا الاستِئذان والغايةَ من تشريعِه، فقال للذي اطَّلَع من جُحرٍ في حُجَر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعه - صلوات الله عليه وسلامه - مِدرَى يحُكُّ بها رأسَه، فقال: «لو أعلمُ أنك تنظُر لطعنتُ به في عينِك، إنما جُعِل الاستِئذانُ من أجل البصر»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث سهل بن سعدٍ - رضي الله عنه -.


عباد الله:
إنه إذا كان إيمانُ المرء لا يكمُلُ حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه، وحتى يكرَهَ له ما يكرَهُ لنفسِه؛ فإن أدنَى درجات ذلك: أن يُعامِلَ أخاه بما يُحبُّ أن يُعامِلَه به، ولا ريبَ أنه ينتظِرُ من أخيه أن يستُرَ عورتَه، ولا يكشِفَ عيبَه، وأن يتجاوزَ عن زلَّتِه.
فإذا كان على الضدِّ من ذلك - أي: لم يفعَل ذلك - لم يكُن مُنصِفًا لأخيه ولا مُحِبًّا للخير له، فيُوجِبُ ذلك ويُحدِثُ لرابِطة الأُخُوَّة فسادًا بيِّنًا لما صلَحَ من شُؤون الناس، وما استقامَ من ظاهر أحوالِهم، وتجرِئةً لهم على الإيغال في القبائِح بترك الحياء، ولذا حذَّر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولِه لمُعاوية - رضي الله عنه -: «إنك إن اتَّبَعتَ عورات الناس أفسدتَّهم، أو كِدتَ أن تُفسِدَهم»؛ أخرجه أبو داود في "سُننه" بإسنادٍ صحيحٍ.
كما أخبر - عليه الصلاة والسلام - أن عقوبةَ من يتتبَّعُ العورات هي من جنسِ عملِه، بأن يُفتضَحَ في عُقر دارِه، فيخرُج إلى الناس ما هو خفِيٌّ عليهم ومستورٌ عنهم؛ ليذوقَ وبالَ أمره، ويُسقَى من نفسِ كأسِه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشرَ من آمنَ بلسانِه ولم يخلُص الإيمانُ إلى قلبِه! لا تتَّبِعوا عورات المُسلمين؛ فإنه من تتبَّعَ عورةَ امرئٍ تتبَّعَ الله عورتَه، حتى يفضحَه ولو في جوفِ رحْلِه»؛ أخرجه الترمذي في "جامعه" بإسنادٍ حسنٍ من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.
فاتقوا الله - عباد الله -، وحَذارِ من تتبُّع العورات حَذارِ؛ فإنه مثَلٌ صارِخٌ لانتِهاك الحُرُمات، وتنكُّرٌ لحقوق الأُخُوَّة في الله، وسبيلُ مذمَّةٍ وضعَةٍ وصَغارٍ يترفَّعُ عنه الأبرارُ المُتَّقون الأخيار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه كان غفَّارًا.


الخطبة الثانية
الحمد لله الكريم الرحيم، أحمده - سبحانه - على فضلِه السابِغِ وخيرِه العَميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يدعُو إلى دار السلام ويهدِي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صاحبُ النَّهج الراشِدِ والخُلُق القَويم، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن ما جاء من وعيدِ من تتبَّع العورات لهُوَ وعيدٌ لا يصِحُّ أن يُسقِطَه من حسابِه كلُّ من اتَّخَذَ من هذا الخُلُق الذَّميم والخَصلَة المرذولة عادةً ودَيدَنًا له، وغايةً يسلُكُ إليها كلَّ سبيل، ويستعمِلُ فيها كلَّ وسيلةٍ، ويركَبُ لها كلَّ مركَب، ويجِدُ ضالَّتَه فيما وصَّلَه الإعلامُ الجديدُ من وسائلَ، وما أتاحَه للناس من مواقع للتواصُل.
هذه المواقِعُ التي كادَ كثيرٌ منها أن يغدُوَ سببًا للتدابُرِ والتقاطُعِ بما يشيعُ فيها من إذاعةِ أسرارٍ، واقتِحامٍ للخُصوصيَّاتِ؛ بتتبُّع العورات، ونشرِ العيوبِ والزلاَّت، وبثِّ الأخبار المكذوبة، والشائعات المُغرِضة، والتعليقات والتعليلات والتغريدات التي لا ِمامَ لها ولا خِطام، ولا مرجعيَّةَ لها غيرُ الأهواءِ والظُّنون والأوهام، لاسيَّما حين تصدُرُ عمَّن تُجهَلُ عينُه، ولا تُعرَفُ حالُه من الصِّدقِ والكذبِ وغير ذلك.
فإذا اجتمعَ إلى هذا: مقاطِعُ ومشاهِدُ وصُور تُؤذِي المُؤمنين، وتسُرُّ العابِثِين؛ كان الضررُ شديدًا، والبلاءُ عظيمًا، يُوجِبُ تنادِيَ العُقلاء إلى وضعِ الحُلول لدفعِ هذا الضَّرر، ورفعِ هذا البلاء بحُسنِ نظرٍ وحُسن تأمُّلٍ لنظَر ذلك، وشدَّة خطره في العاجِلِ والآجِلِ.
فاتقوا الله - عباد الله -، وتعاونوا على البرِّ والتقوى - كما أمرَكم ربُّكم -، ولا تعاونوا على الإثم والعُدوان.
ولتكُن هذه المواقِعُ سببًا للتواصُل، وسبيلاً للتواصِي بالحقِّ والتواصِي بالصبر، لا طريقًا للتدابُر والتقاطُع، وانتِهاك الحُرُمات، وتتبُّع العورات؛ فإنه يُغضِبُ ربَّ الأرض والسماوات.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتمِ رُسُل الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتابِ الله؛ حيث قال ربُّنا - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم التَّناد.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتِك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطِك، اللهم إنا نسألُك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكَرات، وحُبَّ المساكين، وأن تغفِرَ لنا وترحمَنا، وإذا أردتَّ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتُونين.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحورِهم، ونعوذُ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورِهم، ونعوذُ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورِ أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذُ بك من شرورهم.
اللهم احفَظ المُسلمين في كل دِيارِهم وأوطانِهم، اللهم احفَظهم في سوريا، وفي فلسطين، وفي بورما، وفي جميع ديارِ المُسلمين يا رب العالمين، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم انصُرهم، الله اجبُر كسرَهم، وارحَم ضعفَهم، واشفِ جرحاهم، واكتُب أجرَ الشهادة لقتلاهم يا رب العالمين.
اللهم احفَظ المُسلمين في مصر، اللهم احفَظهم في مصر، وحافَظ شعبَها، واحفَظهم من الفتن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطَن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطَن، اللهم وحِّد صُفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، وأصلِح قادةَ المسلمين يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[آل عمران: 8]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى اللهم وسلَّم على عبدِه ورسولِه نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-05-2013 11:00 AM

أصول منهج السلف الصالح
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "أصول منهج السلف الصالح"، والتي تحدَّث فيها عن أصول منهج السلف الصالح، وبيَّن أنه ليس اسمًا لجماعة أو حزبٍ أو تكتُّلٍ، وإنما هو منهجٌ وسِمةٌ بارِزةٌ لكل من اتَّبعَ سنةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وسارَ على نهجِ الصحابة والتابعين، ثم ذكرَ الكثيرَ من معالِمِ منهَج السَّلَف التي يستضِيءُ بها كلُّ سالِكٍ إلى ربه.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله كتب على نفسه الرحمة، وأفاضَ على الخلائق سوابِغَ النِّعمة، دعا إلى الإسلام فخصَّ من شاءَ بالهداية والتوفيق منَّةً منه وفضلاً، وأقامَ الحُجَّةَ على من خالَفَ حكمةً منه وعدلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبده وابنِ عبده وابنِ أمَته ومن لا غِنى له طرفةَ عينٍ عن فضلِه ورحمتِه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، رحمةُ الله للعالمين، وقدوةُ العامِلين، ومحجَّةُ السالِكين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله السادة الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، واعلَموا أن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار، وما قلَّ وكفَى خيرٌ مما كثُرَ وألهَى، وإن ما تُوعَدون لآتٍ وما أنتم بمُعجِزين، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[البقرة: 235].
أيها المسلمون:
إن من العقلِ والحكمة: إدراكَ أن أعداءَ الإسلام والمُتربِّصين به يقِفُون موقفًا صارِمًا من كل دعوةٍ تدعُو إلى الحق، وإلى الرجوع إلى أصول الإسلام وثوابتِه ومبادئِه وحقائقِه التي تبعثُ روحَ العِزَّة في الأمة، وتقودُ إلى المجدِ والمَنَعة، حتى قال قائلٌ منهم: "إننا لا نُحارِبُ الإرهاب، ولكنَّنا نُحارِبُ من أجل أن نُقرِّرُ الإسلام الذي نُريد".
وفي عالَمنا تجتاحُه موجاتٌ من التغيير، وطُوفاناتٌ من التحديات؛ يبرُزُ منهجُ الاتباع عند وجود الأضداد المُتخالِفة والمُتنافِرة؛ من التكفير والتنفير، وتعظيم الأشخاص، وتصنيف الأحزاب والانتماءات.
يبرُزُ منهجُ الاتباع حين يأخذُ التفرُّقُ الفكريُّ والعقائديُّ في الانتِشار، وتنمُو مذاهبُ ومناهِج، وتياراتٌ وفلسَفاتٌ يتميَّزُ فيها منهجُ السلف الصالح، وتظهرُ معالِمُه؛ فهو يأوِي - بقوة الله وحولِه - إلى جبلٍ من الأصول وأدوات والاستِعدادات يعصِمُه به من اللاَّت والانحِرافات، بإدراكٍ لفقهِ الواقع وأدوات التمكين، مع اللِّين والحزمِ والرحمةِ، والدفعِ بالتي هي أحسن.
السَّلفُ الصالحُ هم الصدرُ الأول، الراسِخون في العلمِ، المُهتَدون بهديِ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، الحافِظون لسُنَّته، مُقدَّمُهم صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ورضي عنهم أجمعين -، اختارَهم الله لصُحبة نبيِّهم، وانتخبَهم لإقامة دينِه، ورضِيَهم أئمةً للأمة.
يقول - عزَّ شأنُه -: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة: 100].
يقول السفَّارينيُّ - رحمه الله -: "المرادُ بمذهبِ السَّلَف: ما كان عليه الصحابةُ الكرامُ، وأعيانُ التابعين بإحسانٍ، وأتباعُهم من أئمةِ الإسلام العُدُول، ممن شُهِد لهم بالإمامة، وعُرِف عظيمُ شأنِهم في الدين، وتلقَّى الناسُ كلامَهم خلفًا عن سلَف، دون رميٍ ببدعةٍ، أو شهرٍ بلَقَبٍ غير مرضِيٍّ".
ويقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إنكم قد أصبَحتم اليوم على الفِطرة، وإنكم ستُحدِثون ويُحدَثُ لكم، فإذا رأيتُم مُحدثةً فعليكم بالعهد الأول".
ويقول أيضًا - رضي الله عنه -: "من كان مُستنًّا فليستنَّ بمن قد ماتَ؛ فإن الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كانُوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقَهم علمًا، وأقلَّهم تكلُّفًا".
ويتساءَلُ إمامُ الحرمين عبد الملك الجُوينيُّ - رحمه الله - يتساءلُ: "ما الحقُّ الذي يحملُ الإمامُ الخلقَ عليه في الاعتِقاد إذا تمكَّنَ منه؟"، ثم يُجيبُ - رحمه الله - بقوله: "إن الذي يحرِصُ الإمامُ عليه جمعَ عامَّةِ الخلقِ على مذاهبِ السَّلَف السابِقين قبل أن نبَغَت الأهواء، وزاغَت الآراء، وكانُوا ينهَون عن التعرُّض للغوامِض، والتعمُّق في المُشكِلات، والإمعانِ في مُلابَسَة المُعضِلات، والاعتِناء بجمعِ الشُّبُهات". انتهى كلامُه - رحمه الله -.
ويقول الإمامُ الذهبي: "فالذي يحتاجُ إليه الحافظُ: أن يكون تقيًّا ذكيًّا نحويًّا لُغويًّا حيِيًّا سلفيًّا".
السَّلَفُ ليس لهم لقبٌ يُعرَفُون به، ولا نسَبٌ ينتسِبُون إليه، كما قال بعضُ الأئمة - وقد سُئِل عن السُّنَّة - فقال: "السُّنَّةُ ما لا اسمَ له سِوى السُّنَّة، أما غيرُهم فينتسِبُون إلى المقالةِ أو إلى القائِل".
يُوضِّحُ ذلك الإمامُ مالكٌ - رحمه الله -، وقد جاءَه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله! أسألُك عن مسألةٍ أجعلُك حُجَّةً فيما بيني وبين الله - عز وجل -. قال مالكٌ: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ سَلْ". قال: من أهلُ السُّنَّة؟ قال: "أهلُ السُّنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرَفون به، لا جهميٌّ ولا قدَريٌّ".
قال أهلُ العلم: "إنما برَزَ الانتِسابُ إلى السَّلَف الصالحِ حينما ظهرَت الفِرقُ في الأمة التي قال فيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «وستفترِقُ هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فِرقة»، ثم بيَّن - عليه الصلاة والسلام - النهجَ الحقَّ في قوله: «ما أنا عليه وأصحابي»".
الصحابةُ وتابِعُوهم بإحسانٍ هم خيرُ هذه الأمة، وأزكاها دينًا، وأعلاها مقامًا، وأعلمُها بما كان عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
معاشر المسلمين:
منهجُ السَّلَف الصالح ليس حِقبةً تاريخيَّةً محدودة، ولا جماعةً مذهبيَّةً محصورة؛ بل هو منهجٌ مُستمرٌّ لا يتقيَّدُ بزمَانٍ، ولا ينحصِرُ بمكانٍ. وعليه؛ فإن هذا المنهجَ ليس حِزبًا، ولا تيَّارًا، ولا حركةً، وليس تكتُّلاً سياسيًّا، هو منهجٌ لا جماعة.
يُوضِّحُ ذلك: أن المُنضوِين تحت هذا المنهَج قطاعٌ عريضٌ من المُسلمين شُعوبًا وديارًا؛ بل هم الأصلُ في عُموم المُسلمين؛ فالمُسلمُ يتَّبِعُ الدليلَ ويسيرُ خلفَه، ويُعظِّمُ السَّلفَ الصالحَ، ويُحبُّهم ويقتدِي بهم، وكلُّ إمامٍ من أئمةِ المُسلمين يقول: "إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي".
يقولُ شيخُنا الشيخُ الإمامُ عبدُ العزيز بن باز - رحمه الله -: "السَّلَفُ الصالحُ هم الصحابةُ - رضي الله عنه -، ومن سلكَ سبيلَهم من التابِعين وأتباعِ التابِعين من الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابِلَة، وغيرهم ممن سارَ على الحقِّ، وتمسَّك بالكتابِ العزيزِ والسُّنَّة المُطهَّرة في بابِ التوحيد وبابِ الأسماء والصفات، وفي جميع أمورِ الدين".
ومن القُصور في النظر والفهمِ: حصرُ منهج السَّلَف الصالح في قضايا مُعيَّنة، أو علمٍ مُعيَّن، أو بلدٍ مُعيَّن، أو فئةٍ مُعيَّنة.
السَّلَفُ الصالحُ ليس يدَّعِي تمثيلَهم أحدٌ، ولا ينطِقُ باسمِهم عالِمٌ، فليس ثمَّة جماعةٍ محصورةٍ تُمثِّلُ هذا المنهجَ، وإنما يوجدُ أفرادٌ وجماعاتٌ ينتَمون إلى هذا المنهَجِ، وينتسِبُون إليه، ويسعَون لتحقيقِ مذهبِ السَّلَف الصالحِ. إنه منهجٌ ليس محصورًا في انتِساب، وعدمُ الانتِساب لا ينفِي الانتِساب؛ لأنه منهجٌ ورُؤيةٌ.
وهذا المنهجُ ليس مسؤولاً عن أخطاء بعضِ المُنتسِبِين إليه، وإنما تُنسَبُ الأقوالُ والأفعالُ والتصرُّفات إلى أصحابِها وجماعاتِها لا إلى المنهَج.
معاشر المُسلمين:
منهجُ السَّلَف الصالح يعتمِدُ النصَّ الشرعيَّ، وفهمَ السَّلَف الصالح، وطُرُقَ استِدلالِهم، ومصدرَ التلقِّي عندهم، وليس ذلك محصورًا في فهمِ عالِمٍ بعينِه.
أُصولُ منهج السَّلَف الصالحِ ومبادئُه لم يُولِّدها فكرٌ بشريٌّ، ولا ظرفٌ تأريخيٌّ، ولا اجتِهادُ مُجتهِدٍ؛ بل عِمادُها الكتابُ والسُّنَّةُ.
ومن معالِمِ هذا المنهجِ: لُزومُ اتباعِ الكتابِ العزيزِ والسُّنَّة الصحيحة الثابتة، والحَذَرُ من اتباع الهَوَى والبِدَع، على حدِّ قولِه - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الراشِدين المهديِّين من بعدِي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرُهم من حديث العِرباضِ بن سَارِيَة - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
ومن معالِمِ هذا المنهَج: العنايةُ بلُزومِ الجماعة، والسَّمع والطاعةِ بالمعروف في المنشَطِ والمكرَه، على حدِّ قولِه - عزَّ شأنُه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء: 59].
وحديثِ عُبادة بن الصَّامِت - رضي الله عنه - قال: دعانا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فبايَعناه، فقال فيما أخذَ علينا: "أن بايَعَنا على السَّمع والطاعة في منشَطِنا ومكرَهنا، وعُسرِنا ويُسرِنا، وأثَرَةٍ علينا، وألا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، إلا أن ترَوا كُفرًا بواحًا عندكم من الله فيه بُرهانٌ"؛ أخرجه البخاري في "صحيحه".
وهو بيانٌ جلِيٌّ في عظيمِ أثَر السَّمع والطاعة، وضرورةِ تقديمِها مهما احلَولَكَت الظروف، وأظْلَمَت الدُّرُوب، غيرَ أن الذي ينبغي تبيُّنُه وبيانُه: أن السمعَ والطاعةَ لا تعنِي ضياعَ الحقوق أو التفريطَ فيها، فمع لُزوم السَّمع والطاعة من حقِّ الناسِ المُطالَبَةُ بحُقوقِهم من الوُلاةِ ظلَمَةً كانوا أو عادِلين، ولا تنافِي بين لُزوم السَّمع والطاعة وظُهور بعضِ المظالِمِ وحقِّ المُطالَبَة بالحقوق ورفع المظالِمِ.
ومن معالِمِ هذا المنهَج: النصيحةُ المدلولُ عليها بقولِه - عليه الصلاة والسلام -: «الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة». قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابِه، ولرسولِه، ولأئمة المُسلمين وعامَّتِهم»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث تميمٍ الدارِيِّ - رضي الله عنه -.
نصيحةٌ في إخلاصٍ وصدقٍ ودِيانةٍ، وحفظِ الحقِّ والمكانةِ، والبُعد عن التَّشنيعِ والتَّشهير، أو سُلُوك مسالِكَ تُؤدِّي إلى التفرُّق والشَّحناء.
ومن معالِمِ هذا المنهَج: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكَر، كما قال - عزَّ شأنُه -: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[آل عمران: 110]، وقولُه - عزَّ شأنُه -: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[التوبة: 71]، وقولُه - جل وعلا -: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[الحج: 41].
ومن معالِمِ هذا المنهَج: مصدرُ التلقِّي هو الوحيُ، ويعرِضُون عقولَهم وفهُومَهم وآراءَهم على الكتاب والسُّنَّة؛ فما وافقَها قبِلُوه، وما خالَفَها أعرَضُوا عنه، ونصُّ الشارِعِ هو الأصلُ، تنقادُ إليه النفوسُ، وتعتمِدُ عليه، تتبَعُه ولا يتبَعُها، «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يكون هواهُ تبَعًا لما جِئتُ به»؛ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، أخرجه الأئمة في مسانيدِهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.
والحُجَّةُ للنصِّ الشرعيِّ، وظاهرُ النصِّ يُؤخَذُ به، ويُصارُ إلى التأويل بدليلٍ، وحُجَّةُ النصِّ لا تُرَدُّ قطعيًّا كان النصُّ أو ظنيًّا، والالتِزامُ بنُصوصِ الكتابِ والسُّنَّة لا يُنكِرُ العقلَ ومنزلتَه؛ فالعقلُ أعظمُ ما منَحَ الله الإنسانَ وميَّزَه به، فبِهِ يُتعرَّفُ على الأحكام الشرعيَّة، وهو مَناطُ التكليفِ وأداةُ الاستِنباط.
وهذا المسلَكُ المُستقيمُ هو الذي يُحقِّقُ التوازُنَ بين لفظِ النصِّ ومعناه، وظاهرِه وفَحواه، هذا منهجُ السَّلَف حين يأخُذون بظواهِر النُّصوص عملاً لا يُنافِي الاستِفادة المُنضبِطة من إشاراتها ودلالاتها ومقاصِدها.
هذا هو الوسطُ بين جفاء الحرفيَّة، وذوَبَان التأويل البعيد المُتعسِّف، في مسلَكٍ توافُقيٍّ لا يسمَحُ بإهدارِ أحدِ الجانِبَيْن على حِسابِ الآخر، ولا يطغَى أحدُهما على الآخر، فيُحفَظُ للنصِّ حقُّه ومكانتُه، كما تُقدَّرُ أبعادُه ودلالاتُه ومقاصِدُه، مع الاستِفادة مما يُمكِنُ الاستفادةُ منه من العلوم والمعارِف القديمِ منها والجَديد.
يقول الشاطبيُّ - رحمه الله -: "والعقلُ إذا لم يكن مُتَّبِعًا للشرع لم يبقَ إلا الهوى والشهوة".
معاشر المُسلمين:
ومن معالِمِ هذا المنهَج: أنه لا تعصُّب إلا للحقِّ وما جاء في كتاب الله وكلامِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وعدمُ التعصُّب يقترِنُ بعدمِ ادِّعاءِ العِصمةِ لأحدٍ كائِنًا من كان من عُلماء الدين وأئمَّتِه من الصحابةِ ومن بعدَهم، فضلاً عن غيرِهم. فلا عِصمةَ إلا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يُبلِّغُ عن ربِّه - عز وجل -.
ومن هنا؛ فإنهم لا يمنَعون من الخلافِ فيما يسُوغُ فيه الخِلاف، بناءً على فهمِ النصِّ وتقدير المصالحِ والمفاسِد، وتحقيق الغايات والمقاصِد، إذا صدرَ الاجتهادُ من أهلِه في محلِّه. ولهذا كان السَّلَفُ الصالحُ يختلِفون ويعذُرُ بعضُهم بعضًا.
ومن معالِمِ هذا المنهَج: التفريقُ الظاهِرُ بين الحُكم على الأوصافِ والحُكم على الأعيان؛ فالحُكمُ على الأعيان فيه من الضَّبط والتورُّع والاحتِياط ما هو معلومٌ في هذا المنهَج المُبارَك.
وبعدُ، عباد الله:
فإن سَعَة هذا المنهَج وثراءَ موروثِه لا تعنِي ذوَبَانَه أو عدمَ وُضوح معالِمِه، غيرَ أن مساحَة الاجتِهاد في مُحيطِه واسِعة، وكلَّما وفَّق اللهُ العبدَ واقتربَ من السُّنَّة ولُزومِها كان أكثرَ مُتابعةً ومُوافقةً واقتِداءً، وكلَّما زادَ صلاحُ العبد والتِزامُه بالسُّنَّة كان أعمقَ علمًا، وأقلَّ تكلُّفًا، وأكملَ بصيرةً، مع الحِرصِ على أُصول العلوم وقواعِدِها ومعاقِدِها، وقد جعل الله لكل شيءٍ قدرًا، وفي ذلك كلِّه يكونُ المرجِعُ أهلَ الذِّكرِ من حمَلَة الكتابِ وحُفَّاظِ السُّنَّة، ليعلَمَه الذين يستنبِطُونه منهم المدلولُ عليه بقولِه - جل وعلا -: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا[النساء: 83].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على آلائِه، والشكرُ له على نعمائِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جلَّ في عليائِه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرتُه من خلقِه وصفيُّه من أوليائِه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأصفِيائِه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تنزَّلَ أمرُه بين أرضِه وسمائِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم لقائِه.



أما بعد، أيها المسلمون:
فإن منهجَ السَّلَف هو الدينُ بجميعِ شرائِعِه في التوحيد والإيمان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحجِّ، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكَر، في العلاقات والحقوق، والمُعاملات، والسياسة في حقائقِها وحُدودِها وشرائِطِها، في وحدةٍ لا تفرُّق فيها.
يقول عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - في كلمةٍ جامعةٍ: "سَنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وُولاةُ الأمر من بعدِه سُنَنًا؛ الأخذُ بها اتِّباعٌ لكتابِ الله - عز وجل -، واستِكمالٌ لطاعة الله، وقوةٌ على دين الله، ليس لأحدٍ من الخلقِ تغييرُها ولا تبديلُها، ولا النظرُ في شيءٍ خالَفَها. من اهتدَى بها فهو مُهتدٍ، ومن استنصَرَ بها فهو منصورٌ، ومن تركَها اتَّبَع غيرَ سبيلِ المُؤمنين وولاَّه الله ما تولَّى وأصلاهُ جهنَّم وساءَت مصيرًا".
أئمةُ أهل العلم وأساطينُه مُجدِّدون لا مُؤسِّسُون، فأيُّ دعوةٍ تُعظِّمُ النصَّ الشرعيَّ وتصُونُ دلالَتَه وتقِفُ دون تحريفِ الغالِين، وتأويلات الجاهِلين، وانتِحالات المُبطِلين فهي دعوةُ حقٍّ.
ولا يُوصَفُ سُلوكُ المرء بالاعتِدال والوسَط والسَّمَاحة إلا إذا سلِمَ من نوعَي التطرُّف: التشدُّد والتنطُّع، والمُيُوعَة والذَّوَبان، وإدخالُ نِزاعات النفس والقَناعات الشخصية في الأحكام سُلُوكٌ لا يمُتُّ للعلمِ بصِلَةٍ، ولا لحُرِّيَة الفِكرِ بنَسَبٍ.
فإذا قال عالِمٌ بتحريمِ ما يرَى غيرُه حِلَّه، أو وجوبِ ما يرَى زميلُه استِحبابَه لا يُوصَفُ بأنَّه مُتشدِّد؛ فهذا ليس من العلمِ ولا من الاتِّصاف به، ناهِيكُم إذا كان ما يقولُ به هو قولَ جماهير أهل العلم.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، والزَموا الجادَّة، وخُذوا بالسُّنَّة، واستمسِكوا بالهديِ الأولِ.
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، ووفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخوانَنا في سوريا، اللهم احفظ إخوانَنا في سوريا، وفي بُورما، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، واشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، واجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم.
اللهم عليك بالطغاة والظلمة في سوريا، وفي بُورما، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكُروا اللهَ يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.

ابوحاتم 03-05-2013 11:04 AM

الإيمان واليقين والثبات على الدين
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 5 ربيع الثاني 1434هـ بعنوان: "الإيمان واليقين والثبات على الدين"، والتي تحدَّث فيها عن الإيمان واليقين، وبيَّن أنهما أعظم أسباب النصر والتمكين والثبات على دين الله تعالى، ووجَّه برسائل مهمة لجميع العلماء والدعاة بضرورة التصدِّي للملاحِدة وأصحاب الدعوات والأفكار الهدَّامة بمُحاربة البدع والضلالات، ونشر الإيمان بين الناس، وبيان فضلِه لهم.

الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، اللهم باسمِك نبتدِي وبهديِك نهتدِي، وبك يا مُعين نسترشِدُ ونستعين، نسألُك أن تكحَلَ بنور الحق بصائرَنا، وأن تجعلَ إلى رِضاك مصائِرَنا، نحمدُك على أن سدَّدتَ على جادَّة الدين خُطواتنا، وثبَّتَّ على صِراط الحق أقدامَنا، ونُصلِّي ونُسلِّم على نبيِّك الذي دعا إليك على بصيرةٍ، وتولَّاك فكنتَ وليَّه ونصيرَه، وعلى آله المُتَّبعين لسُنَّته، وأصحابه المُبيِّنين لشريعته.
اللهم يا وليَّ المؤمنين تولَّنا، وخُذ بنواصِينا إلى الحق، واجعل لنا في كل غاشيةٍ من الفتنة رِداءً من السَّكينة، وفي كل داهِمةٍ من البلاءِ دِرعًا من الصَّبر، وفي كل داجِيةٍ من الشكِّ علمًا من اليقين، وفي كل نازِلةٍ من الفَزَع واقِيَةً من الثَّبات، وفي كل ناجِمةٍ من الضَّلال نورًا من الهداية، ومع كل طائفٍ من الهوَى رادِعًا من التقوى، وفي كل عارِضٍ من الشُّبهة لائِحًا من البُرهان، وفي كل مجهَلةٍ من الباطلِ معالِمَ من الحق واليقين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرَّد بالخلق والحُكم، ما شاءَ كانَ وما لم يشَأ لم يكُن، لا تتحرَّك ذرَّةٌ إلا بإذنه، والخلقُ مقهورون تحت قبضَته، ما من قلبٍ إلا وهو بين أُصبعين من أصابِعه إن شاءَ أقامَه وإن شاءَ أزاغَه، فهو الذي آتى نفوسَ المؤمنين تقواهَا، وهو الذي هداها وزكَّها، وألهَمَ نفوسَ الزائِغين فُجورَها وأشقاهَا.
يهدِي من يشاءُ بفضلِه ورحمتِه، ويُضِلُّ من يشاءُ بعدلِه وحِكمته، هذا فضلُه وعطاؤُه، وما فضلُ الكريمِ بممنون، وهذا عدلُه وقضاؤُه لا يُسألُ عما يفعلُ وهم يُسألُون.
وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانَة، ونصحَ الأمة، وتركَنا على البيضاء ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالِك، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وراقِبُوه، وأطيعُوا أمرَه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
حين أرادَ الله بالبشرية الخيرَ بعثَ فيها النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وأنزلَ عليه القرآن؛ فهدَى به من الضلالة، وبصَّر به من العَمَى، وأخرجَ الناسَ من الظلمات إلى النور، فقامَت حضارةٌ، وسادَت أُمم، ونهَضَت شُعوب، وما تمَّ ذلك - بعد توفيق الله - إلا بوَقودٍ تُشحَذُ به الطاقات، ودافعٍ تتغذَّى به الهِمَمُ وتقوَى الإرادات؛ إنه وَقودُ الإيمان، ودافعُ العقيدة.
إيمانٌ صنَع جيلاً لم تعرفِ الدنيا مثلَه، وحضارةٌ لم يهنَأ العالَمُ بمثلِها، عملٌ وجِدٌّ وبِناء، وخُلُقٌ ورُقِيٌّ ومرحَمَة، وجهادٌ وفتحٌ للقلوب والبصائر، وعدلٌ وسِع الدنيا، ومع ذلك كلِّه عزمٌ يدُكُّ الجبال، وثباتٌ يُوازِي الرَّواسِي، ونصرٌ وعِزَّةٌ وكرامةٌ. إنه الإيمانُ الذي يصنعُ المُعجِزات.
العقائِدُ والتصوُّرات، والإيمانُ واليقين أسلحةٌ لا قِبَلَ لجيُوش الأرض بها، وعَتادٌ لا طاقةَ للمُحارِبين بمُواجَهَته، وقد جاءَ في مُحكَم التنزيل: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ[الأنفال: 65]، ومعلومٌ أن غلبَتَهم بشيءٍ وقَرَ في القلبِ لا تُقاوِمُه العُدَدُ ولا العَدَدُ.
أيها المسلمون:
الإيمانُ الصادقُ خيرُ ما أضمرَ الإنسانُ، وأفضلُ ما أظهَر، والإيمانُ ليس مُجرَّد كلمةٍ تُقال، ولكنَّه مع ذلك إحساسٌ بجلالِ الله، وخُشوعٌ لعظَمته، وانقِيادٌ لأمره، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا[الأنفال: 2].
الإيمانُ مشاعِرُ نبيلة، وصفاتٌ كريمةٌ، وعقلٌ مُستقيمٌ، وضميرٌ حيٌّ، وشِفاءٌ من كل عِلَل النفوس وأدوائِها، الإيمانُ تصديقٌ وعملٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ[الحجرات: 7].
الإيمانُ يقينٌ يسكُنُ الأعماقَ، ومعرفةُ الله لها ذوقٌ حُلوٌ يطبعُ النفوسَ على النُّبْلِ والتسامِي، ويُصفِّي النفوسَ من كَدَرها، إنه شوقٌ إلى الله، ومُسارعةٌ إلى مرضاتِه.
الإيمانُ ينفَحُ القلبَ نورًا، ويملأُ الصدورَ سُرورًا، وأيُّ إيمانٍ فوق الطُّمأنينة بالله والرُّكون إليه، وامتلاءِ القلب به وحده دون سِواه؟
أصحُّ القلوبِ وأسلمُها، وأقومُها وأرقُّها، وأصفَاها وأقواها وأليَنُها من اتَّخَذ اللهَ وحدَه إلهًا ومعبُودًا، وأخلصَ القلبَ له دون سِواه، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ[النساء: 125].
وإسلامُ الوجهِ لله هو إقبالُ العبدِ بكلِّيَّته على الله وإعراضُه عمَّن سِواه، والخُضوع لإرادتِه، والتذلُّل لعظمَته وكبريائِه، والإيمانُ بوحدانيَّته وشريعته، وبه يكونُ كمال الإيمان وتمامُه.
الإيمانُ جعلَ نبيَّ الله هُودًا يقول لقومِه: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ[هود: 55، 56].
وحين وقفَ موسى - عليه السلام - أمام البحر، وخلفَه فرعون وجيشُه، وتراءَى الجَمعان، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[الشعراء: 61، 62].
الإيمانُ جعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو في مرمَى بصر المُشرِكين: «يا أبا بكر! ما ظنُّك باثنَين اللهُ ثالِثُهما».
قال ابن القيم - رحمه الله -: "ومتى وصلَ اليقينُ إلى القلبِ امتلأَ نورًا وإشراقًا، وانتفَى عنه كلُّ ريبٍ وشكٍّ، وسُخطٍ وهمٍّ وغمٍّ، فامتلأَ محبَّةً لله، وخوفًا منه، ورِضًا به، وشُكرًا له، وتوكُّلاً عليه، وإنابةً إليه".
وفي قول الله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء: 65]، قال - رحمه الله -: "التسليمُ هو الخلاصُ من شُبهةٍ تُعارِضُ الإيمانَ بالخبر، أو شَهوةٍ تُعارِضُ أمرَ الله، أو سُخطٍ يُعارِضُ القضاءَ والقدَر".
أيها المسلمون:
الإيمانُ يصنعُ المواقِفَ كما يصنعُ الرِّجال، الإيمانُ وَقودُ الهِمَم كما هو رُوحُ الأُمم، وبه بلغَ الصحابةُ - رضي الله عنهم - بالإسلام ما بلَغوا، وعطَّرَت سيرتُهم ومسيرتُهم ذرَّات الكون، وصفَ اللهُ ثباتَ المؤمنين وقتَ المِحَن فقال: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[آل عمران: 173].
ووصفَ استِسلامَهم لأحكام الشريعةِ فقال: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[النور: 51].
لقد بلغَ الإيمانُ واليقينُ بالصحابةِ مبلغًا صنعَ التاريخَ، في علمِهم وفقهِهم، وجهادِهم وعبادتِهم، وحُبِّهم وتعامُلهم، وبَذل مُهَجهم لله، مُستيقِنين قولَ الله - عز وجل -: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ[التوبة: 111].
بلغَ بهم الإيمان أن أنسَ بن النَّضر - رضي الله عنه - يقول: "والذي نفسي بيده؛ إني لأجِدُ ريحَ الجنةِ دونَ أُحُد". قال أنسُ بن مالكٍ - راوي الحديث -: ونزلَت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ[الأحزاب: 23]، قال: "وكنا نقولُ: أُنزِلَت هذه الآية فيه وفي أصحابِه"؛ رواه مسلم.
وهذا عُميرُ بن الحِمام - رضي الله عنه - يقولُ: "بَخٍ بَخٍ؛ ليس بيني وبين الجنة إلا أن يقتُلَني هؤلاء، لئِن بقيتُ حتى آكُلَ هذه التَّمَرات إنها لحياةٌ طويلةٌ". ثم رمَى ما في يدِه وقاتَلَ حتى قُتِل.
هذا يقينُ الصحابة - رضي الله عنهم -، فهم يرَون عالمَ الغيب أمامَهم كأنَّه عالمُ الشهادة.
ولما علِمَ المُشرِكون بخبَر الإسراء والمِعرَاج سخِرُوا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، سخِروا من أمرٍ لم تبلُغه عقولُهم، فتجهَّزَ ناسٌ من قريشٍ إلى أبي بكرٍ - رضي الله عنه -، فقالوا: هل لكَ في صاحبِك؟ يزعُمُ أنه جاء إلى بيت المقدسِ ثم رجعَ إلى مكَّة في ليلةٍ واحدةٍ! فقال أبو بكر: أوَقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أشهدُ لئن كان قالَ ذلك لقد صدقَ. قالوا: فتُصدِّقُه في أن يأتي الشامَ في ليلةٍ واحدةٍ ثم يرجِعُ إلى مكَّة قبل أن يُصبِح؟ قال: نعم، أنا أُصدِّقُه بأبعَدَ من ذلك، أُصدِّقُه بخبَر السماء.
قال أبو سلَمة: فبِها سُمِّي "أبو بكر الصدِّيق".
عباد الله:
وعلى مدَى القُرون السَّالِفة لم يُسجَّل للعربِ مجدٌ إلا بدينِهم، ولم يكُن لهم عِزٌّ إلا بإيمانِهم، وكأنَّ اللهَ أرادَ أن تكون القيادةُ الرُّوحيَّةُ للبشرية لهم، وحين تخلَّوا عن هذه الرُّوح، وتخلَّوا عن هذا الدَّور انتكَسَت حالُهم، ولم تتمَّ لهم نهضةٌ بعد عُصور الانحِطاط؛ لأنهم نحَّوا الإيمانَ تأسِّيًا بباقِي الأُمم، فلا حفِظوا الدين، ولا كسَبُوا الدنيا، طرَقُوا مسالِكَ القومية والشُّيوعيَّة والعلمانيَّة، فإذا دُرُوبُهم يَباب، ومجدُهم سَرَاب.
أيها المؤمنون:
لقد أدركَ أعداءُ الإسلام حقيقةَ الإيمان وأثرَه في حياة المُسلمين، وماذا صنعَ بأوائلِهم، وكيف صنعَ أوائلُهم به، وأدرَكوا أنه روح الأمة وسرُّ قوَّتها، فاستَهدَفوا عقيدةَ الأمة في حربٍ شَعواء، واستخدَموا كلَّ وسائل الشُّبُهات والشَّهَوات، عبرَ الكِتابات والقَنَوات، والبرامِج والخُطَط المُمنهَجة، حتى نبَتَت نابِتةٌ الزَّيغ والإلحاد، ونجَمَ النفاق، وظهرَ للتَّشكيكِ رُؤوسٌ ومدارِس تنسِفُ التوحيد، وتُزعزِعُ اليقين، وتُحيلُ القلوبَ إلى هشيمٍ تلتهِمُه النارُ من أول شَرارةٍ.
وفي كل يومٍ ترى أو تسمعُ باقِعةً إلحاديَّة، أو فِكرةٍ شيطانيَّة، في رَتابَةٍ تُدرِكُ معها أن الأمرَ ليس خطأً فرديًّا؛ بل عدوانًا مقصودًا، ولقد كان يستحيلُ بالأمس أن تسمعَ هذا الزَّيغ، بَيْد أن الأعداء عرَّضُوا الأمةَ للسِّنين العِجاف، والأزمات العَضُود، وشغَلُوها بالملاهِي والتسالِي، واللَّهاثِ خلف لُقمة العيش وحُطام الدنيا. وخُلِق جيلٌ هزيلٌ زهيدٌ في دينِه، يَهابُ كلَّ الأديان ولا يهَابُ من عقيدتِه.
إن الإلحادَ آفةٌ نفسيَّةٌ، وليس شُبهةً علميةً، إن الله يأمرُ بأن تكون العقيدةُ هي رابِطةَ التجمُّع، ولكنَّ قومًا يُريدون استِبعادَها وإحلالَ النَّزَعات القوميَّة والعُنصريَّة، وإن الله يأمرُ بالعِفَّة والحِشمَة والفَضيلة، ولكنَّ الذين يُحبُّون شُيُوع الفاحِشة يستنجِدون بالمُساواة والرَّغبة في الإنتاجِيَّة ولو على حساب الفضيلة، ودخلَ الدينُ في مِحنةٍ هائِلةٍ، حتى صارَ حُماةُ الإسلام يقِفُون عند آخر خُطوط الدِّفاع.
وإذا حقَّقتْ طائفةٌ من الأمة بعضَ ما تصبُو إليه من الإيمان، واختارَت ما تُصلِحُ به دينَها ودُنياها بادَرَ شانِئُوها لزرع الفِتَن والاضطرابات، ومنع الأمة من العودة إلى سرِّ قوَّتها وروح نهضَتها، وقمع الحقِّ بكل وسيلةٍ ولو بالتدخُّلات العسكريَّة، في مُبادراتٍ سريعةٍ لافِتةٍ للنظر، ضارِبين بالعُهود والمواثِيق، والقوانين والمُعاهَدات والأعراف عرضَ الحائِط، مُصادِرين للحريات واختِيار الإنسان، في تناقُضٍ عجيبٍ في المواقِف.
وها أنت ترَى شعبَ سُوريا المظلوم يئِنُّ منذ عامَين تحت الظلم والقهر والقتل، ولا يرغَبُ العالَمُ في إنهاء هذه المظالِم ولا يُريد؛ لأن له حِساباتِه الأنانيَّة، ومقاصِدَه اللَّئِيمة، وليس للأخلاق والقِيَم عنده ميزانٌ إلا للتزيُّن والدِّعاية وذرِّ الرَّماد في العُيون.
إن التخاذُلَ عن نصر المُستضعَفين في سُوريا مع سُرعة التدخُّل في غيرها لهُوَ عُنصريَّةٌ مفضُوحةٌ، وحَيفٌ دوليٌّ وتواطُؤٌ مكشوف، وهذا يُنمِّي الكراهية والعِداء، وينسِفُ جُهودَ التقارُبِ والتعايُشِ والسلام.
إن على الصادِقين أن يُطفِئوا نارَ الفتن، وأن يتحرَّكوا سِراعًا للعمل الجادِّ لكل ما يُحيِي القلوبَ ويُطهِّرُها، ويُزكِّي النفوسَ ويُجمِّلُها، ويُعيدُ للأمة عِزَّتَها وكرامتَها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[البقرة: 105].
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.




الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالِكِ يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتِه الغُرِّ المَيامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أيها المسلمون:
إن الدواءَ الذي نهضَت به أمَّتُنا مُنزَّلٌ من لدُن حكيمٍ خبيرٍ على قلبِ خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، فلا تِرياقَ بعدَه ولا حلَّ سِواه.
إن خَواء النفوسِ من الإيمان كارِثةٌ دينيَّةٌ ودنيويَّةٌ، وإن الدينَ ليس ضمانًا للآخرة فحسب؛ بل هو ضمانٌ للبقاء، وإن استِلالَ الإيمان من النفوس وتركَ القلوب خَواءً من الدين لهُوَ الضربةُ القاضِيَةُ المُهلِكة، ومن يُعينُ عدوَّه في تحقيق ذلك فهو خائِنٌ لله ولرسُولِه ولأمته.
وقد تورَّطَ بعضُ المُسلمين في تحقيق بعض رَغَبات العدو؛ إما جهلاً، أو من ضعفِ وعيٍ وقلَّة دين، وتغليبِ الدنيا على الآخرة. وبعضُهم سخَّر ما رزقَه الله من مالٍ وقلمٍ وإعلامٍ في تَهوينِ الدِّيانة في نفوس المُسلمين، وفتحِ أبوابِ الشَّهوات والشُّبُهات، حتى بِتْنا نخشَى على أنفُسنا قبل أجيالِنا.
ألا فاتقوا الله - أيها المسلمون -، وإياكُم وتقديسَ العقل واتباعَ الهوَى، والإعجابَ بالرأي.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "من تعوَّد مُعارضَة الشرع بالرأي لا يستقِرُّ في قلبِه الإيمان".
والواقعُ شاهِدٌ، كما في اضطِرابِ المُعاصِرين، أدمَنوا الشَّغَبَ على الشريعة. فالحَذَرَ كلَّ الحَذَر من تعريضِ النفس للشُّبُهات، وورودِ المناهِل العَكِرة أو مُجالَسة أصحابها، أو التعرُّض لمراتِعِها؛ من القنوات والكتب والروايات، والمواقِع الآسِنات؛ فإن القلوبَ ضعيفة، والشُّبَهَ خطَّافة، واللهُ تعالى يقول: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[الأنعام: 68]، وقال - سبحانه -: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا[النساء: 140].
الإيمانُ كنزٌ يجبُ النَّأْيُ به عن العوارِضِ والآفات، كم سُلِبَه علماء، واستُلَّ من عُبَّاد، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ[الأعراف: 175].
وإذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد خافَ الفتنةَ على الفاروق - رضي الله عنه - حين أتاه بكتابٍ أصابَه من بعض أهلِ الكتابِ فقرأَه عليه، فغضِبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «أمُتهوِّكُون أنتم فيها يا ابنَ الخطَّاب؟!» - أي: هل أنتم مُتحيِّرُون في الإسلام، لا تعرِفون دينَكم حتى تأخذوه من اليهود والنصارى؟! - «والذي نفسي بيده؛ لقد جِئتُكم بها بيضاء نقيَّة».
فمن يأمَنُ على نفسِه الفتنةَ بعد عُمر؟! ولقد خلَت من قبلِنا المثُلات، وسِيقَت لنا العِظات، فعلى المُؤمنِ تجنُّبُ الشُّبُهات ومواطِن الفِتَن، وكم يتهاوَنُ المُفرِّطُون في تقحُّمِها بدافعِ الفُضولِ أو تطلُّبِ المعرِفة، خصوصًا وقد تيسَّرَت سُبُل الوصول إليها، فزلَّت أقدام، وانتكَسَت أفهام، وزُيِّن لبعضِهم سُوءُ عملِه فرآهُ حسنًا.
وقد كان رسولُ الإيمان - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يدعُو: «يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِك».
وفي الإكثار من العمل الصالحِ، وتلاوة القرآن، ومُجالَسَة الأخيار من الأبرار، والتِزام الدعاء عصمةٌ - بإذن الله - من الأهواء والشُّبُهات.
يجبُ استِنهاضُ هِمَم العُلماء والمُصلِحين ليقِفُوا سدًّا مَنيعًا دون عوادِي الإلحاد، ورياح التَّشكيك؛ حِراسةً للدين، وحِمايةً له من العادِيات عليه وعلى أهلِه، قِيامًا بالواجِب، ورحمةً بالإنسانيَّة، وحِفاظًا على وحدة الصفِّ، وجمع الكلِمة، ومدِّ بَشاشَة الإيمان.
ألا إن النَّفيرَ لرَدع المُلحِدين ونقضِ شُبَههم وكشف فُتونِهم وتعرِيَتهم هو من حقِّ الله على عباده، وحقِّ المُسلمين على عُلمائِهم في ردٍّ كل مُخالِفٍ ومُخالفَته، ومُضِلٍّ وضلالته، ومُخطِئٍ وخطئِه، وزلَّة عالِمٍ وشُذُوذه، حتى لا تتداعَى الأهواءُ على المُسلمين، تعثُو فسادًا في فِطَرهم، وتقسِمُ وحدتَهم، وتؤولُ بدينِهم إلى دينٍ مُبدَّل، وشرعٍ مُحرَّف، ورُكامٍ من النِّحَل والأهواء.
اللهم يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلوبَنا على دينِك، اللهم يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلوبَنا على دينِك.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصُر المسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين، اللهم انصُر دينكَ وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ إخواننا في مصر وفي كل مكان، اللهم اجمَعهم على الهدى، واكفِهم شِرارَهم، وأصلِح أحوالَهم.
اللهم كُن لإخواننا في سُوريا، اللهم كُن لإخواننا في سُوريا، اللهم اجمَعهم على الحق والهُدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، وأتِمَّ عليه عافِيَتك وألبِسه لباسَ الصحةِ وتمامَ الشفاءِ، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سنة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين. اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المُسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 147].
اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم إنا نسألُك رِضاك والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطِك والنار.
نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ ونتوبُ إليه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطِين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبَقًا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والبَادِ. اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-05-2013 11:07 AM

العمل التطوعي .. أهميته وآثاره
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 13 ربيع الثاني 1434هـ بعنوان: "العمل التطوعي .. أهميته وآثاره"، والتي تحدَّث فيها عن العمل التطوُّعي ومدى أهميته وعظيمَ أثره على الأفراد والمُجتمعات، وحضَّ المُسلمين عليه وذكرَ شيئًا من آثاره، وبيَّن أن المُسلمين أولَى به من غيرهم.

الخطبة الأولى
الحمد لله الكبير المُتعال، ذي العزَّة والكمال والجلال، بيده مقاليدُ السماوات والأرض يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد وإليه المردُّ والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، عظيمُ السَّجايا كريمُ الخِصال، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وأزواجه وأصحابه، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولةَ لي ولكم - أيها الناس - هي تقوى الله - سبحانه -؛ فما خابَ من عضَّ عليها بالنواجِذ، واتَّقى ربَّه في منشطِه ومكرهِه، وغضبِه ورِضاه، هي النورُ في الظُّلَم، والحادي في الغُربَة والمُلِمَّات، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: 52].
أيها الناس:
إن من أهم سِمات المُجتمع الناجِح المُتكامِل: أن يكون في بُنيانِه مُتماسِكًا، تجمعُه لبِناتٌ مرصوصة تُمثِّلُ حقيقةَ أفرادِه وبَنِيه، لا تختلِفُ فيه لبِنَةٌ عن أخرى، ولا فرقَ فيها بين ما يكونُ منها أسفلَ البِناءِ أو أعلاه؛ لأن البِناءَ لن يكون راسِيًا يسنُدُ بعضُه بعضًا إلا بهذا المجموع، ومتى كان التصدُّع أو الإهمال لأي لبِنَةٍ من لبِنَاته فإنه التفكُّكُ والانفِطار ما منه بُدٌّ، فضلاً عن أن هذا بدايةُ تساقُطه شيئًا فشيئًا. وهذه حالُ كل مُجتمع وواقعُه.
ولذا فإن المُجتمع إذا لم يكن كالأسرة الواحِدة في ترابُطه وتعاهُدِ بعضِهم بعضًا، وأن يسمعَ الشريفُ للوضيع، والغنيُّ للفقير، والكبيرُ للصغير، وألا يشعُر أيُّ فردٍ بين المُجتمع أنه إنما يعيشُ وحدَه؛ كالعِيس في البَيْداء مهما كان بين ظهرانَي أمةٍ مُترامِيَة في بُقعةٍ واحدةٍ.
نعم، إنه إذا لم يكن المُجتمعُ بهذه الصورة فإنه يأذَن لنفسِه بالنُّفرة والتفرُّق، ويُمهِّدُ الطريقَ لمعاوِل الأنانِيَّة والأثَرة وعدم الاكتِراث بالآخرين، وما قيمةُ مُجتمعٍ الهَدمُ فيه أكثرُ من البِناء.
إنه مهما بلَغَت الدول من العَظَمة والثَّروات والتقدُّم الاقتصاديّ فلن يكون ذلكم وحده كافِيًا في تلبِيَة جميع رغباتِ أفرادِها، وتحقُّق جميع تطلُّعاتهم لحظةَ الاحتِياج، فضلاً عن تحقيقها على الدَّوام.
وهنا يأتي دورُ المُجتمع المُترابِط المُتماسِك، حينما تُذكَى بين جَنَبَاته روحُ العمل التطوُّعي الذي يُعدُّ رُكنًا أساسًا من أركان رأبِ صَدع الشُّعوب المادِّي، والاجتِماعيِّ، والغذائيِّ، والأمنيِّ، والفِكريِّ، وغير ذلكم من الضرورات والحاجيَّات والتحسينَات.
إنه حينما يعُمُّ العملُ التطوُّعيُّ جنَبَات المُجتمع، ويفرِضُ نفسَه شُعورًا ساميًّا لذَوِيه وبنِي مُجتمعه ليقضِيَنَّ على الأثَرَة والشُّحِّ والاحتِكار والمَسْكَنة، شريطةَ ألا تغتالَ صفاءَه أبعادٌ مصلحيَّةٌ أو حِزبيَّةٌ أو إقليميَّةٌ، وليس هناك حدٌّ لمن يحقُّ له أن يستفيدَ من العمل التطوُّعيِّ؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: «في كل كبدٍ رطبةٍ أجر»؛ رواه البخاري ومسلم.
العملُ التطوُّعيُّ – عباد الله – لا يُحدُّ بحدٍّ، ولا ينتهِي بزمنٍ، وامتِدادُ حدِّه بامتِدادِ طبيعتِه؛ فكلُّ عملٍ احتِسابيٍّ لا نظرةَ فيه للأُجرة والمِنَّة فهو تطوُّعيٌّ إذا كان في وجهِ خيرٍ، وهو مُمتدٌّ ومُتَّسِعٌ بامتِداد واتِّساع كلمةِ "خيرٍ"، وهو هنا يختلفُ بعضَ الشيء عن العملِ الخيريِّ؛ لأن العملَ التطوُّعيَّ يكونُ بالمُبادَرة قبل الطلَب، بخلافِ العملِ الخيريِّ؛ فإنه – في الغالب – لا يكون إلا بعد الطلَب، وكلا العَمَلَيْن وجهان لعُملةٍ واحِدةٍ. مُحصِّلتُهما: بذلُ المعروف للناس دون أُجرةٍ أو مِنَّةٍ، وإنما احتِسابًا لما عند الله، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان: 9].
إن كل عاقلٍ يُدرِكُ أن قيمةَ المُجتمعات في نُهوضِها والحِفاظ على نفسِها من التهالُك والتصدُّع، ويُدرِكُ أن العملَ التطوُّعيَّ مطلبٌ منشودٌ في جميعِ الشرائع السماوية والوضعيَّة، في الإسلام وقبل الإسلام.
وهو علامةٌ بارِزةٌ على صفاء معدن صاحبِه ونخوَته وعاطفته ولُطفِه؛ لأن هذه صفاتُ من خلقَهم الله حُنفاء ولم تجتلْهُم شياطينُ الأنانية وحبّ الذات.
ولا أدلَّ على ذلكم من قولِ خديجَة - رضي الله تعالى عنها – تصِفُ حالَ النبي - صلى الله عليه وسلم – قبلَ البِعثة حينما جاءَها من دار حِراء، بعد أن رأى جبريلَ - عليه السلام -، فقال لها: «لقد خشيتُ على نفسي». فقالت له: "كلا، أبشر؛ فوالله لا يُخزيكَ الله أبدًا، والله إنك لتصِلُ الرَّحِمَ، وتصدقُ الحديثَ، وتحمِلُ الكلَّ، وتكسِبُ المعدومَ، وتقرِي الضيفَ، وتُعينُ على نوائِبِ الحقِّ"؛ رواه البخاري ومسلم.
وإن مما يُؤكِّدُ أن العملَ التطوُّعيَّ فطرةٌ سوِيَّةٌ في الإسلام وقبل الإسلام: ما ذكرَه حكيمُ بن حِزامٍ - رضي الله تعالى عنه – لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال له: يا رسول الله! أرأيتَ أمورًا كنتُ أتحنَّثُ بها في الجاهِليَّة؛ من صدقةٍ، أو عتاقةٍ، أو صِلَة رحِمٍ، أفيها أجرٌ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أسلَمتَ على ما أسلَفتَ من خيرٍ»؛ رواه مسلم.
هذه هي سَعَةُ الإسلام وسمَاحتُه ورحمتُه؛ إنه الحثُّ على البرِّ والتعاوُن عليه، وتلمُّس احتِياجات الناس.
والعملُ التطوُّعيُّ إنما هو ترجمانٌ لصورةٍ من صُور الإسلام الرَّاشِدة الخالِدة التي تتَّصِفُ بالشُّموليَّة وتنوُّع مجالات العمل التطوُّعيِّ، لتشملَ الأهدافَ التنمويَّة؛ ففي المجالِ الاقتصاديِّ يُمثِّلُ العملُ التطوُّعيُّ الاهتمامَ الدقيقَ من خلال بذل الأوقاف وتفعيل الوعيِ للأنشِطة الوقفيَّة؛ لأن لها أثرًا بالِغًا في تنميَة الاقتصاد؛ حيث تتَّسعُ الحركةُ الماليَّة مع حفظِ الأصول المُثمِرة من الاندِثار.
وقولوا مثلَ ذلكم في المجال الفِكريِّ، والاجتماعيِّ، والدعويِّ، وما شابَه، شريطةَ أن يخرجَ عن إطار الرَّتابَة والبُرود إلى دائرة المُواكَبة، ومُسابَقة الزمن، واستِقطاب الكفاءات، وإنشاء مكاتب الدراسات والبُحوث التي تُعنَى بحاجات المُجتمع وحُلولها، وتطرحُ الدراسات العلاجِيَّة والوِقائيَّة من خلال توعِية المُجتمع بقيمَة العمل التطوُّعيِّ، وأثره في التقارُب الاجتماعيِّ المعيشيِّ، والإحساس الدينيِّ.
ولو نظرنا نظرةً خاطِفةً إلى مجالٍ واحدٍ من مجالات العمل التطوُّعيِّ، وهو: سدُّ العَوزَة والفقر، وإكساب المَعدومين؛ لوَجَدنا أن الذي يُنفِقُه المُوسِرُون على الترفُّه والتحسينات رُبَّما سدَّ حاجات فُقراء بلدةٍ بأكلمها.
ولو نظَرنا إلى كُلفَة فرحٍ من أفراح الأغنياء لأدرَكنا أن نِصفَها لو كان لإطعام يتيمٍ ذي مقرَبةٍ، أو مِسكينٍ ذي مترَبَةٍ لكان في ذلك من البركةِ للزوجَين، وجَبْر كسرِ قلوبِ الفقراء، واتِّقاءً للعين والحسد، والعقوبة على السَّرَف والبَذْخ، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا[الإسراء: 26، 27].
هذا هو دينُنا، وهكذا علَّمَنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، إنه يُريدُ منا جميعًا أن نكونَ أيادِيَ خيرٍ وبناءٍ وسدادٍ، نعملُ ولا نقعُدُ، ونشعُر بالآخر لا نصُمُّ عنه ونعمَى؛ فقد قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «على كل مُسلمٍ صدقةٌ». قيل: أرأيتَ إن لم يجِد؟ قال: «يعملُ بيدَيْه، فينفعُ نفسَه ويتصدَّق». قيل: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجَة الملهُوف». قيل له: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يأمُرُ بالمعروف أو الخير». قال: أرأيتَ إن لم يفعَل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنها صدقةٌ»؛ رواه البخاري ومسلم.
فما قيمَةُ مُجتمعٍ قليلِ الخير إذًا؟! وما ظنُّكم بمُجتمعٍ شرُّه طغَى على خيرِه؟! وأيُّ عقَبَةٍ كئُودٍ أعظمُ من ذلكم؟! ومن هو التقيُّ النقيُّ الذي سيقتحِمُ هذه العقَبَة؟! فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ[البلد: 11- 18].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه.
وبعد:
فإن كلَّ مُؤمنٍ غَيُورٍ على أمَّته لتستوقِفُه ظاهرةُ العمل التطوُّعيّ في هذه الآوِنة؛ حيث باتَت من أبرَز الظواهِر الإنسانيَّة العالميَّة، فقد بلغَت في ديار غير المسلمين مبلغًا عظيمًا، مُحاطًا بالدقَّة والإتقان، والتفانِي، ورُوح الرجُل الواحد. في حين أنه ليستوقِفُ المُسلِمَ المُراقِبَ ما يُقارِنُه بين العمل التطوُّعيِّ في الغرب وما وصلَ إليه، وبين العمل التطوُّعيِّ في بلاد الإسلام، وما يُعانِيه من نقصٍ في المفهوم الحقيقيِّ له، والإعداد المُتقَن، ونسبة التأخُّر والتراجُع عما هو عليه المفهومُ عند الآخرين.
فإن من المُؤسِف جدًّا أن تكون جُملةٌ من النماذِج للعمل التطوُّعيِّ في المُجتمعات المُسلِمة تُقدَّمُ لهم على صورةِ عملٍ إجباريٍّ، أو واجبٍ لا يُمكنُ التراجُع عنه قبل أن يسبِقَ ذلكم تهيِئَةٌ نفسيَّةٌ، ودينيَّةٌ، واجتِماعيَّةٌ لفهم هذا العمل الجليل.
إذا يُمكن أن يُدرِك طلاَّبُ المدارِس أو الجامِعات معنى العملِ التطوُّعيِّ مثلاً حينما يُزجُّ بهم في وادٍ أو حيٍّ أو طريقٍ ليقوموا بتنظيفِه، كعملٍ تطوُّعيٍّ بقالَبٍ إجباريٍّ؛ لأنه أمرٌ من المدرَسة أو الجامِعة أو المعهَد أو ما شابَه، دون أن يسبِقَ ذلكم المُقدِّماتُ الأساس لإذكاء قيمة هذا العمل الشريف، وأن يسبِقَ ذلكم عنصرُ التخلِية والتصفِية لشَوائِبِ المِنَن التي اعتادَ عليه المُجتمعُ في حياته مُقابِلَ كلِّ عملٍ يكون.
وهذا ما يتعارَضُ مع العمل التطوُّعيِّ من بدايتِه؛ لأن العملَ التطوُّعيَّ يتطلَّبُ قُدرةً فائِقةً على العطاء دون مِنَّةٍ، أو ترقُّب أُجرةٍ؛ بل إن مبعثَه الحبُّ والعطف، والإحسان الذي لا يكترِثُ بماهيَّة الردِّ، وإنما يحرِصُ على رِضا الضمير وخُلُوِّه من التقصير، والخُذلان تجاه مُجتمعه.
راحتُه وسعادتُه تكمُنُ في رسمِ ابتِسامةٍ على مُحيَّا مسكينٍ، أو سماع تمتَمَاتٍ بالدعاء على لسانِ ملهوفٍ مكرُوبٍ.
ولا يُمكنُ لنا أن نتصوَّر حبًّا بلا عطاءٍ، ولا أن نتصوَّرَ عطاءً بلا حبٍّ، كما أنه لا يكونُ مُكتمِلاً ناجِحًا دون أن يكون عملاً مدرُوسًا ومُنظَّمًا، يعمُّ في الفهم والإدراك للدوافِع والمهارات، والمُقوِّمات الشخصية، والمبادئ المُعرِّفة بالعمل التطوُّعيّ ونُبْلِه وأثره على المُجتمع المُكوَّن مني ومنك، وقرابَتي وقرابَتك، وجيراني وجيرانك.
والمُجتمعُ الناجِحُ الكريمُ البارُّ هو من لا ينتظرُ أحدًا يقول له: أعطِني؛ لأن يدَه تسبِقُ سمعَه، وفعلَه يُغنِي عن قولِه.
وما أحوجَنا جميعًا في هذا الزمن الذي كثُرَت فيه الحروبُ والكُرُوب والمُدلهِمَّات، وطالَت نيرانُها إخوةً لنا في الدين، سُقوفُهم قد وكَفَت، وجُدرانُهم قد نزَّت، لا تكادُ تمنعُ عنهم بردًا ولا بلَلاً. في سوريا، وفي بورما، وفي غيرهما من بلاد المسلمين ما يستدعِي شحذَ الهِمَم، وإذكاءَ العمل التطوُّعيِّ بكل وجوهِه وصُوره، وعلى رأسِها شُريان الحياة الذي هو المال.
فاللهَ اللهَ في إخواننا وبني مِلَّتِنا، ولنُشمِّر عن سواعِد الجدِّ والبَذل والتضحِيات؛ فإن النِّعَم لا تدُوم، وإن مع اليوم غدًا، وإن بعد الحياة موتًا، وبعد الموت حِسابًا، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ[الأنفال: 28].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال – صلوات الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّك وعبدك ورسولك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم اهدِنا فيمن هدَيت، وعافِنا فيمن عافَيت، وتولَّنا فيمن تولَّيت، وبارِك لنا فيما أعطَيت، وقِنا شرَّ ما قضَيت، فإنك تقضِي ولا يُقضَى عليك.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم كُن لإخواننا المُستضعَفين المُضطهَدين في دينِهم في سائر الأوطان، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم انصُرهم في بُورما، وفي سوريا، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل شأنَ عدوِّهم في سِفال، وأمرَه في وبال، وعجِّل لهم بالنصرِ والفرَج يا ذا الجلال والإكرام، يا رب العالمين.
اللهم مُنزِل الكتاب، ومُجرِي السحاب، وهازِمَ الأحزاب، اهزِم عدوَّهم عاجلاً غير آجِل يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندَك بشرِّ ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-05-2013 11:10 AM

الافتراء على الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة 19 ربيع الثاني 1434هـ الجمعة بعنوان: "الافتراء على الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن الإسلام وعلوِّ شأنِه، وأن الواجبَ على الأمة أفرادًا وجماعات أن تسعَى بكل الوسائل المُباحة للذبِّ الدين ونشرِه صحيحًا وعدم تشويهِه، وبيَّن أن الخوفَ من الإسلام والتخويفَ منه كثيرًا ما يكونُ من بعض المُسلمين بمُعاملاتهم وتصرُّفاتهم، وحثَّ على وجوبِ العمل للإسلام، والسعيِ لنشرِه.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونشكرُه - سبحانه - سرًّا وجهارًا، أسبغَ على عباده نعمًا غِزارًا، أجلُّها الإسلامُ عظُم جلالاً وتلألأَ أنوارًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُعلِي للشِّرعة الغرَّاء منارًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا المُصطفى من أرُومَة الطُّهر مُختارًا، صلَّى الله عليه وعلى آله الطاهرين الطيبين، السَّامِين تبجيلاً وإكبارًا، وصحبِه الأُلَى بذَلوا للدين مُهَجًا وأعمارًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجُو من المولَى مُبوَّءًا في الجِنان وقَرارًا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا زاكِيًا مِدرارًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله - تبارك وتعالى -؛ ففي التقوى العزُّ والسَّنا، وبها يتحقَّقُ المجدُ والغِنى، ويندفعُ الوهَنُ والعَنَا، وينجلِي الكربُ والوَنَا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].

من يتَّقِ اللهَ العظيمَ بفعلِه
ويُخالِفُ النفسَ التي لا تقنعُ
ذاكَ الذي غنِمَ الدُّنَا بمفازةٍ
وتراهُ في الفِردوس قدرًا يُرفَعُ
أيها المسلمون:
في عصرٍ احتدَمَت فيه التنازُعات، وكشفَت دون مُوارَبَةٍ عن قسَمَاتها الأضاليلُ والشُّبُهات، وفي عالمٍ اعتسَفَت طرائقَ الحقِّ الصُّراح فيه أقوالٌ خاطِئات، وتصوُّراتٌ عن الصوابِ جانِحات، مما أسفرَ عن قضيَّةٍ تطايَرَ في الخافِقَيْن شرَرُها، واستشرَى في العالمين ضرَرُا، فصدَّت عن أهنَى معينٍ كثيرًا من الناس، حتى غدَوا جرَّاءَها في تردُّدٍ والتِباس.
ألا وهي: قضيةُ التوجُّس من الإسلام وأنواره، والخوف من فَلَجه وانتِشاره، ووصمِه بنقيضِ حقائقه، وتكدير صفوِ زُلالِه ورائِقِه، أو ما يُعرَفُ في عالَم الغرب اليوم بـ "ظاهرة الإسلام فوبيا".
ولكن أنَّى وهيهات؟! فالإسلامُ دينُ فاطر الأرض والسماوات. الإسلامُ الذي آتَى الروحَ معراجَها، وهدَى البريَّة أدراجَها، وأحلَّها من الحضارات والعلوم شُمَّ أبراجها، وكان لها في آفاق المجد والخُلد ضياءَ سِراجِها، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ[البقرة: 138].
معاشر المسلمين:
والمقصِدُ المُستكِنُّ في ذلك الخوف المُروَّج، والأباطيل المُنتحَلَة إنما هو لخدش الإسلام والتشكيك في عدله ورحمته، وسماحته ورأفته، والحيلولة دون سُطوع كوكبه الساري، ونهرِه المُبارَك الجارِي، الذي يحملُ للبشرية صلاحَها وفلاحَها، ورُشدَها ونجاحَها.
الإسلام ولا غير، الإسلام الذي يحسِمُ شِرَّة الخُطوب والكُروب، وينتشِلُ الإنسانيَّة من أوهاقِ البغضاء والشَّحناء إلى مراسِي التوافُق والصفاء، والسِّلم والوفاء، يقول - جل وعلا -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ[الإسراء: 9]، ويقول - جل وعلا -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
ألا فليعلم العالَمُ أجمع أن الإسلام هو النِّبراسُ لأعظم المصالح والمقاصِد، والتحكيمُ الإلهي لكل مُلتمِسٍ للحقِّ وقاصِد، ليس لحاجةٍ ذرائعيَّةٍ عالميَّةٍ أو دوليَّةٍ، ولكن عقيدةٌ إيمانيَّةٌ، وحقيقةٌ كونيَّةٌ شرعيَّةٌ واقعيَّةٌ؛ لأنه دينُ رب البريَّة، والفِطر السَّوِيَّة، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك: 14].
هو البلسمُ الشافِي لكل عويصةٍ
أعيَت مخاطِرُها عقولَ أُباتِها
الله قد فطَرَ النفوسَ على الهُدى
وأنارَ بالإسلام دربَ هُداتِها
أيها المؤمنون:
ومن الفِرَى التي أُلصِقَت بالإسلام دون إرواءٍ أو إحجامٍ، وكانت مثارَ التوجُّس والخوف منه: اتِّهامُه بالإرهاب والسَّيف، والعُنف والظلم والحَيْف، وتلك أُكذوبةٌ ظاهرٌ عوارُها، ويُفنِّدُها أُوارُها.
بل إن دعوَتَه السلامُ ودينُه
رفقٌ ولم يثلِم تُقاهُ خِصامُ
فوعودُه دارُ السلامِ وربُّه
منه السلامُ ودينُه الإسلامُ
الإسلامُ كان ولا يزال في علوٍّ وانتِشار، وانتِصارٍ وازدِهارٍ؛ لأنه دلَفَ إلى القلوب بالحكمةِ والموعظة الحسَنَة والمعروف، لا بالغِلظَة والحُتوف، وأيُّ نعمةٍ تُزجَى أو ثمرةٍ إيمانيَّةٍ تُرجَى ممن أُكرِه على الإيمان بالهُندوانيِّ والسِّنان؟! ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل: 125].
أما العدلُ: فقد تنزَّل فيه أعظم الإنصاف والانتِصاف، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة: 8].
يقول الإمام الطبري - رحمه الله -: "أي: ليكن من أخلاقِكم وصِفاتِكم القيامُ بالعدل، ولا تحمِلنَّكم عداوةُ قومٍ على ألا تعدِلوا في حُكمكم فيهم من أجل ما بينَكم من العداوة".
ويقول الفخرُ الرازيُّ - رحمه الله -: "اعدِلوا فيهم وإن أساؤُوا إليكم، وأحسِنوا إليهم وإن بالَغوا في إيحاشِكم".
الحقُّ والعدلُ العظيمُ ورحمةٌ
مثَّلْنَ أمةَ أحمدٍ تمثيلاً
فاسأَل عن القِبطيِّ يأخُذُ ثأرَهُ
من عمرو عاصٍ تلقيَنَّ ذُهولاً
واقرأ أبا بكرٍ يُوصِّي جُندَه
لترَى غريبًا في العُقول ضئيلاً
إخوة الإسلام:
ومما زادَ الطينَ بِلَّةً، والداءَ عِلَّةً في إذكاء هذه الظاهرة الغريبة: ثورةُ التِّقانة، وغزوُ الفضاء ووسائلُ التواصُل الحديثة، ولا يخفَى ما للإعلام المُؤدلَج المُتحيِّز، الذي لا ينتصِفُ للمِصداقيَّة ولا يُميِّز، من امتِطاء صهَوات التهويلِ والتضخيم، والتشهير والتعميم، واستِغلال بعض الوقائع المُعاصِرة النادَّة، والتصرُّفات الخاطِئة الشاذَّة التي لا تُمثِّلُ بهاءَ الإسلام ولا جمالَه شروَى نقيرٍ أو قِطميرٍ. وإن هي إلا تصرُّفاتٌ آحاديَّة، وأفعالٌ فرديَّةٌ لا مسؤولة، ومُجرَّمةٌ لا مقبولةٌ ولا معقولة، يتصيَّدُها الإعلامُ المأجور، المُغرِضُ المسعور؛ لوصمِ الإسلام والمُسلمين بالقسوة والعُنجُهيَّة أجمعين.
وهنا كلا ولا، وحاشاهما على الوِلا؛ فالإسلامُ هو الملَّةُ التي لا تقومُ الدنيا إلا على ضيائِها، ولن ترشُدَ إلا بهديِها وسَنائِها، وألِيَّةٌ لا حِنثَ يعرُوها، أن العالَمَ قد خسِرَ الخُسرانَ المُبينَ بتأخُّر المُسلمين عن منازل السيادة والرِّيادة.
ولما أوصَدَت كثيرٌ من المُجتمعات دون تشريعاته أبوابَها، وأرصَدَت دون إنسانيَّة تعاليمِه شِهابَها، وها هي شهاداتُ الغرب المُنصِفين، وأعلامِه البارِزين الذين عنَّاهم رشقُ الإسلام بالتشويه والشَّنَآن، هاهُم يهتِفون بفِطَرهم السليمة، وعقولِهم القَويمة قائلين: "لا يُوجد دينٌ أُسيءَ فهمُه، وكثُر الهُجومُ عليه من الجهَلة والمُتعصِّبين مثلَ ما أُسيءَ فهمُ الإسلام ومثلَ ما هُوجِم".
وقال آخر: "إن الإسلام يمتدُّ في العالَم كلِّه ومعه تسيرُ الفضائلُ حين سار، وتدورُ معه المكارِمُ حيث دار".
وقال ثالث: "فالحقُّ أن الأمم لم تعرِف فاتِحين راحِمين مُتسامِحين مثلَ العرب والمُسلمين، ولا دينًا مثلَ دينهم".
الله أكبر، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[الروم: 30].
فإلى النابِذين للماديَّة الشائِهة، وشهَوات النفس الزائِلة وأهوائِها، في ديار الغرب وسوائِها. إلى الذين تناوشَتهم سِهامُ الإحباط والقُنوط، واجتالَتهم رياحُ الضلال والشكوك، من الذين يتجرَّعون الهزيمةَ النفسيَّة، ممن تنكَّروا لثوابِت أمَّتهم الإسلامية.
إلى الذين سمِعوا على الإسلام قبل وُروده، ولم يتنسَّموا عبَقَ رياحينه ووروده:
هلُمُّوا جميعًا إلى معينِ الإسلام الرَّقراق، وتوحيده الخفيِّ الخفَّاق. هلُمُّوا إلى أفياء العدل والحقِّ والزَّكاء، حيَّهلاً إلى قِمَم الشرف والعَفاف والفضيلة، وسَنآت الهُدى والرَّحمات الظَّليلة.
فلا خوفَ من الإسلام، ولا خطَرَ من شريعة الملكِ العلاَّم، هلُمُّوا إليه بكل تفاؤُلٍ وحيادٍ وتحرُّرٍ من النَّزعة التشاؤُميَّة، والمعايير والمكاييل الازدِواجيَّة، وستُلفُونَه البحرَ الزخَّار بأكرم الآداب وأصدق الأخبار.
ودونَكم شَذراتٌ من جماليَّاته وإشراقاته، وثماره اليانِعات وأخلاقيَّاته، وإنها المِسكُ المُتضوِّعُ الفيَّاح، والأَلَقُ الباهرُ الليَّاح، في الصَّفو والعَفو والتسامُح، والتجاوُز والإغضاء عمَّن أساء، وفي بهاء الرِّفق والإحسان، والتعاوُن والحوارِ والاعتِدال والاتِّزان.
يقول الحبيبُ - عليه الصلاة والسلام -: «والكلمةُ الطيبةُ صدقة، وتبسُّمُك في وجه أخيك صدقة، وإماطةُ الأذى عن الطريق صدقة». فيا لَها من آدابٍ وقِيَمٍ روائِع، وأخلاقٍ عُلويَّةٍ بدائِع.
إخوة الإيمان في كل مكان:
وعلى إثرِ بعضِ الغوائِل السُّلُوكيَّة، والجُنوحات المأزومة الفِكريَّة؛ لزِمَ الأمةَ ساسَتها وعلماءَها ودُعاتَها، ونُخبَ الفِكر والثقافة والإعلام، وكذا النَّصَفة في العالمين، لزِمَ الجميع بشتَّى الوسائل والقنوات تبرِئةُ الدين والتديُّن من تلك المزالِّ الفواقِر، والمسالِك البواقِر، والتوارُد على التحذير من أمرٍ عظيمٍ زادَ المرارَة على الواقع، والخرقَ على الرِّاقِع، لطالَما استُغِلَّ في الخوف من الإسلام الحق، ألا وهو: الفتاوى المُتجاسِرة على استِحلال الدماء المعصومة والأموال دون تورُّعٍ أو استِمهالٍ، فجرَّت على المُسلمين الغُصَص والإعنات، والتضييق والويلات، واستغلَّها الإعلامُ في التخويف من الإسلام وبثِّ الشُّبُهات.
فيا سُبحان الله! حِيالَ من يُقدِمُ على سفك الدماء المعصومة وقتل الأبرياء! أين تقوى الله والوجَلُ من المُحرَّم والجريرة؟! أين طُهرُ النفس ورقَّةُ السَّريرة؟! أين نفاذُ العقل والحكمة والبَصيرة؟!
فيا أيها الغالُون! إن الإسلام دينُ التقوى والمُعاملة الحسنة والسماحة، والحَصافة في الأقوال والأفعال والرَّجاحة، وكم جنَت هذه المسالِكُ على الأمة في تأريخِها المَديد، فحوَّلَت الخِلافات السياسيَّة إلى صِراعاتٍ دينيَّة، تُبدِّدُ المُجتمعات، وتُروِّجُ العداوات والخُصومات؟!
وكم من صادقين أساؤُوا في دعوتهم للإسلام، فصدُّوا كثيرًا من الفِئام؟! وما ذلك إلا لضَحالَة علمِهم، وقلَّة حلمِهم، وقُصور أفهامِهم، ونَزَق أحلامِهم، ومُجافاتهم للعلماء الموثوقين الرَّاسِخين علومًا، الباذِخين في التربية والتوجيه فُهومًا.
مما أثارَ حفائِظَ القوم في النَّيل من الإسلام، والإساءة لرموزه، وإذكاء التعصُّب والكراهية، والتمييز والعُنصريَّة، والعُنف والطائفِيَّة، وهنا لا بُدَّ من التعاوُن لمُواجَهة ظاهرة الخوف من الإسلام، لاسيَّما في مناهج التعليم ووسائل الإعلام.

هذا هُتافُ الحبِّ من خير ناصحٍ
بأن يسِّروا يا أمتي لا تُعسِّروا
فماذا يكونُ العُذرُ يا من تفلَّتُوا
من المنهَج الأسمَى فتاهُوا وغرَّرُوا
وبعد، معاشر الأحِبَّة:
فإن مما يُسهِمُ في علاج هذه الظاهرة الخطِرة: أن تُؤصَّل الدعوةُ إلى الله - سبحانه -، وتُبنَى على التيسير لا على التعسير، وعلى الرِّفق والحكمة والمُحاسَنة، لا الغِلظة والشدَّة والمُخاشَنة، وأن نجُبَّ طوقَنا ما أُلحِقَ بالدين من مُنكَر القول وفَدَامَة، ونُبرِزُ ما فيه من جلالٍ ووسامَة، وأن تكون الأمةُ قاطِبةً أصدقَ سفير لرسالة العليِّ الكريم الكبير، وسيرة الحبيب البشير - عليه الصلاة والسلام -.
هذا الرجاءُ وذاك الأمل، ومن المولَى نستلهِمُ سديدَ القول وصوابَ العمل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[المائدة: 15، 16].
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، وبسُنَّة سيد المُرسَلين، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو التوابُ الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا يعمُر القلبَ هُدًى وإشراقًا، ونشكُره - سبحانه - خصَّنا بشِرعةٍ سمَت رحمةً وعدلاً وإشفاقًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُحقِّقُ للعالمين تُآلُفًا ووِفاقًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه نحَلَ البريَّة مكارِمَ أعلاقًا، وعلى آله وصحبِه الغُرِّ الميامين الذين ابتدَروا الخيرات تنافُسًا واستِباقًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله حقَّ تُقاته، وكونوا من الشريعة السَّمحة خيرَ دُعاتها، وأبِينوا للعالَم دُرَّ صدَفَاتِها، وأنوارَ هِداياتِها؛ تنالُوا العِزَّ والنصرَ في جنبَاتِها.
إخوة الإيمان:
ومن الرحمات المُشرِقات التي يجبُ التحقُّقُ بها ذُخرًا وطُهرًا، وإشاعتها سرًّا وجهرًا؛ لتُسهِم في تبديد هذه المُغالَطات: اكتِنازُ هذه الدين للهدايات والخيرات، حتى فيما ظنَّه الخُصومُ سُبَّةً ومعرَّة، وهو الحقُّ والعدالةُ والطُّهرة في القِصاص والحُدود، والاقتِصاد وقضايا المرأة والأُسرة.
يقول الحق - تبارك وتعالى -: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ[آل عمران: 104]، ويقول - سبحانه -: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ[الحج: 77]، الخيرُ بشتَّى ضُروبه، ومُتعدَّد دُرُوبه، في أسمَى معانِيه، وأجلَى مبانِيه؛ لأن أمة المشاعِر الشَّفيفة، والأفعال الوَريفة ترنُو لها العيونُ بالإجلال والإكبار، ودوليًّا وعالميًّا تنقُلُها بالتقدير والأنظار.
فيا أحبَّتنا الأكارِم في سائر الأقطار والديار! تسامَحوا، وتراحَموا، وتآلَفوا، واتَّحِدوا ولا تَخالَفوا، وصُونوا أوطانَكم عن أوابِد العُنف والتخريب، وانأَوا عن مغبَّات التلاوُم والتثريب، والتخذيل والإرجاف؛ فإنهما من أنكَر الأوصاف، ويأبَى اللهُ ورسولُه وأهلُ الإسلام الحق أن يكون الخيرُ والإصلاح مُمتطِيًا صهوةَ الفوضَى، والعبَث بالأمن، وتدمير المُمتلَكات، وإعاقة النماءِ والبناءِ والعطاءِ.
كونوا المرآةَ العاكِسة لجمالِ الشريعة ومبادِئها العِظام، وخيريَّتها على سائر الأنام. وتلك هي المداميك التي تُحقِّقُ الطُّموحات ذات العزيمة، وتشمخِرُّ عنها المُجتمعاتُ المُتراصَّةُ الكريمة، المُتعانِقةُ الرحيمة، وبذلك تُفوِّتُون الفُرَص على اتِّهام الإسلام بالعُرَر اللئيمة، والهُراءات السَّقيمة.
وتُدرِكون يقينًا ألا خوفَ من الإسلام، ولا على الإسلام، وإنما هو كيدُ الألِدَّاء، وجهلُ الأوِدَّاء، وإلا فالإسلامُ - وبكل فخرٍ واعتِزازٍ - قدَّم للعالَم أعظمَ حضارةٍ عرفَها التأريخ، وهو - بفضل الله - أبِيٌّ على التنطُّع والغلُوِّ، عصِيٌّ على الانهِزاميَّة والتمييع والذَّوَبان، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[التوبة: 32].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على المُصطفى الهادِي الأمين، أُسوة المُؤمنين، المُرسَل بالشرع المُبين، كما أمرَكم بذلك ربُّكم ربُّ العالمين في الكتاب المُستَبين، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
عليه صلاةٌ بحرُها يتدفَّقُ
وأزكَى سلامٍ نورُه يتألَّقُ
عليه منَّا صلاةٌ فاحَ نسيمُها
ومن الورَى أزهارُها تتفتَّقُ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين، وعلى إخوانه من الأنبياء والمُرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عن الأئمة الخُلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ ورِضوانٍ يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين، ودمِّر أعداءَ الدين، وارفع كلمةَ الحق والدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد.
اللهم احفَظ هذه البلاد شامِخةً عزيزةً آمنةً مُطمئنَّة، اللهم احفَظها من كيد الكائِدين، وعُدوان المُعتدِين، اللهم ادفَع عن هذه البلاد وسائر بلاد المُسلمين شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِق الليل والنهار، يا عزيز يا غفار.
اللهم ولِّ على المسلمين في كل مكانٍ خيارَهم، واكفِهم شرَّ شِرارهم، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه، اللهم أصلِح لنا شأنَنا كلَّه.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم احفَظ عقيدتَهم وإيمانَهم، وأدِم أمنَهم وأمانَهم، وصُن أعراضَهم وأموالَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، وفي سوريا، وفي بورما، اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلهم، وجِياعٌ فأطعِمهم، وضُعفاءُ فقوِّهم، ومظلومون فانصُرهم، ومظلومون فانصُرهم، ومظلومون فانصُرهم، يا ناصرَ المُستضعَفين، يا وليَّ المُؤمنين.
اللهم عليك بأعداء الدين؛ فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عِبرةً للمُعتبِرين يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمُسلمين والمُسلمات، وألِّف بين قلوبِهم، واهدِهم سُبُل السلام، اللهم اشفِ مرضانا، وارحَم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنَّا بذنُوبِنا فضلَك.
اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مِدرارًا. ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ووالدِينا ووالدِيهم وجميع المُسلمين والمُسلِمات، الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات. وآخرُ دعوانا

ابوحاتم 03-05-2013 11:14 AM

النصيحة وفضل قبولها
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "النصيحة وفضل قبولها"، والتي تحدَّث فيها عن النصيحة وبيان فضائل ومآثر قبولها، وأن ذلك دليل الرَّشَد، وذكر الأدلة من القرآن وبعض الآثار على مآلات الرافِضين للنُّصح والإرشاد وذمِّهم، وحذَّر من ذكر الأدلة من الكتاب والسنة مع التأويل الفاسِد.

الخطبة الأولى
الحمد لله بارئِ النَّسَم، ومُحيِي الرَّمَم، ومُجزِلِ القِسَم، أحمدُه حمدًا يُوافِي ما تزايَدَ من النِّعَم، وأشكرُه على ما أولَى من الفضلِ والكرَم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تعصِمُ من الزَّيغِ وتدفعُ النِّقَم، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ رحمةً للعالمين من عُربٍ وعجَم، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تبقَى وسلامًا يَتْرَى إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
قبولُ النصيحة دليلُ الرَّشَد، والرجوعُ إلى الحق فضيلةٌ، وراجِحُ العقل كاملُ النُّهَى إذا وقعَ فيما يشينُه فوُعِظَ وزُجِرَ؛ أقصرَ وانتهَى وارتدعَ وانثنَى، وأسرعَ إلى الإجابة وأظهرَ التوبةَ والإنابةَ.
والمُستولِغُ لا يُبالي ذمًّا ولا عارًا، ولا يخافُ لومًا ولا عَذلاً، لا يردعُه توبيخ، ولا يقبَعُه تأنيب، ولا ينفعُه تعنيف. لا يُصغِي لناصحٍ، ولا يلتفِتُ إلى موعظةٍ، تراه على غيِّه مُصِرًّا، وفي ضَلالته مُستمرًّا،
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ[البقرة: 206]، أخذَته الحميَّةُ والغضبُ، ولم يُقابِل النصيحةَ إلا بالصُّدوف والصُّدود، والتعالِي والتعامِي.
يقول عبدُ الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "كفَى بالمرء إثمًا أن يقول له أخوه: اتَّقِ الله. فيقولُ: عليك بنفسِك، مثلُك يُوصِيني!".
وردُّ النصيحة واحتِقارُ الناصِح والتعالِي على التذكِرة دأبُ السُّفهاء والمُتكبِّرين، وصفةُ الفُجَّار والمُنافقين، قال الله تعالى: وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ[الصافات: 13]، ويقول تعالى مُخبِرًا عن جواب قومِ هودٍ - عليه السلام - له بعدما حذَّرهم وأنذرَهم، ورغَّبَهم ورهَّبَهم، وبيَّن لهم الحقَّ ووضَّحَه، قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ[الشعراء: 136]؛ أي: لن نرجِع عما نحن فيه.
وقال نبيُّ الله صالحُ - عليه السلام - لقومِه بعد هلاكِهم تقريعًا وتوبيخًا، وهم يسمَعون ذلك: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ[الأعراف: 79].
أيها المسلمون:
ومن عرفَ الحقَّ وجبَ عليه الخضوع له والرجوعُ إليه، والرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادِي في الباطلِ، وقبولُ الحقِّ والنصيحة لا يحُطُّ من رُتبَة المنصوحِ، ولا ينقُص من قدرِه، ولا يغُضُّ من مكانته ورِياستِه؛ بل يُوجِبُ ذلك له من جلالة القدر، وسامِي المنزلة، وحُسن الثَّناء، وعلوِّ الذِّكر ما لا يكونُ في تصميمِه على الباطِل.
ومن أصرَّ على باطلِه، واستثقلَ كلامَ ناصحِه؛ ازدُرِي عقلُه، وحُقِّرَ شانُه، وصُغِّر مكانُه.
قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: "ما نصحتُ أحدًا فقبِلَ مني إلا هِبتُه واعتقدتُّ مودَّتَه، ولا ردَّ أحدٌ عليَّ النصحَ إلا سقطَ من عيني، ورفضتُه".

أيها المسلمون:
لماذا تميلُ النفوس إلى من يتملَّق ويُجامِل ولا ينصحُ، مع أن صنيعَه الغشُّ والخِداعُ والمُطاوَعة فيما يضُرُّ؟! وتفِرُّ من الناصِح المُشفِق مع أن نُصحَه صدرَ عن رحمةٍ ورأفةٍ وإحسانٍ وغيرةٍ على المنصُوح.
فطوبَى لمن أطاعَ ناصحًا يهدِيه، واجتنَبَ غاويًا يُردِيه، وشقِيَ من استخفَّ بعِظَة المُشفِق الناصِح، وتعالَى عن تذكِرة الأمينِ الصالحِ، وتمادَى في غوايتِه، ولجَّ في عمايتِه، جاريًا على عاداته القبيحة، وماضِيًا في أخلاقِه الرَّذِيلة.
ويقِظُ القلب، وافِرُ الفِطنة، فهِمُ العقل يعِي الموعظةَ، وتنفعُه الذِّكرَى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى[الأعلى: 10، 11].
أيها المسلمون:
ومن الطوامِّ العِظام: أن يُذكَّر المنصوحُ بدليلٍ من كتاب الله أو سُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيُصِرَّ على باطلِه، ويدفعُ الدليلَ الصحيحَ بالمُجادلَة والمُراوَغة والتأويل الفاسِد.
قال الشعبيُّ - رحمه الله -: "إنما هلكتُم حين تركتُم الآثار - يعني: الأحاديث الصحيحة -"؛ أخرجه البيهقي.
والحقُّ أبلجُ لا لبسَ فيه، ولكنَّ الهوَى يُعمِي ويُصِمُّ، ويُردِي ويُغوِي.
فاتقوا الله - أيها المسلمون -، واخضَعوا للحقِّ، واقبَلوا نُصحَ الأمين، ولا تكونوا ممن لا يُحبُّون الناصِحين.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآيات والبيِّنات والعِظات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.


الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
الوالِدان أعظمُ النَّصَحة شفقةً، وأشدُّهم غيرةً، وأقربُهم رحمةً وحُبًّا ووُدًّا، وأكثرُهم للنصيحةِ بذلاً، ولا أشقَى من ولدٍ يصُمُّ أُذنَيْه عن نصيحةِ والدَيْه، ويُسلِمُ قيادَه لأصحاب السُّوءِ وأهلِ الفُجور والشُّرور والفحشاء والمُنكَر، يقودُونه لكل رذيلة، ويُوقِعُونَه في كل هاويةٍ. ولا يفعلُ ذلك إلا عاقٌّ مرذولٌ، وفاجِرٌ مخذولٌ.
ولا أسعدَ من ولدٍ أصغَى لإرشاد والدَيْه وأنصتَ لنُصحِهما، وأسرعَ إلى إنفاذِ أمرِهما، وأين المهاوِي من المراقِي؟! وأين الظُّلمة من الإشراقِ؟!
أيها المسلمون:
ابذُلوا النصيحةَ واقبَلُوها، فلا سعادةَ إلا في بذلِها، ولا فوزَ إلا في قبُولِها؛ فعن أبي رُقيَّة تميم بن أوسٍ الدَّاريِّ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدينُ النصيحةُ». قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المُسلمين وعامَّتهم»؛ أخرجه مسلم.
وصلُّوا وسلِّموا على خيرِ الورَى؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنَّة المُتَّبعة: أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وجُودِك وإحسانِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصُر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصُر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصُر المسلمين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، وألبِسه ثوبَ الصحة والعافِية يا كريم، اللهم واحفَظ وليَّ عهده وإخوانَه، وانفع بهم العبادَ والبلاد يا رب العالمين.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة أمور المسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سُنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم ادفَع عنا الغلا والوبا والرِّبا والزِّنا والزلازِلَ والمِحَن، اللهم ادفَع عنا الغلا والوبا والرِّبا والزِّنا والزلازِلَ والمِحَن، وسُوءَ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن، عن بلدنا هذا خاصَّةً وعن سائر بلاد المُسلمين عامَّةً يا رب العالمين.
اللهم إن لنا إخوانًا في العقيدة والدين، اللهم إن لنا إخوانًا في الشام تسلَّط عليهم أعداءُ المِلَّة والسُّنَّة فدمَّروا بيوتَهم، وقتلُوا رجالَهم ونساءَهم وأطفالَهم، وانتهَكوا أعراضَهم، اللهم عجِّل بهلاكِهم وهزيمتِهم يا قوي يا عزيز يا رب العالمين، اللهم أنزِل عليهم عذابَك ورِجزَك وسخَطَك إلهَ الحق يا رب العالمين.
اللهم أنت ملاذُنا، اللهم انقطَع الرجاءُ إلا منك، وخابَت الظُّنونُ إلا فيك، وضعُفَ الاعتمادُ إلا عليك، أنت ملاذُنا، أنت ملاذُنا وأنت عِياذُنا وعليك اتِّكالُنا، اللهم انصُر أهلَنا في الشام عاجلاً غيرَ آجِل، اللهم انصُر أهلَنا في الشام عاجلاً غيرَ آجِل، اللهم عليك بأهل الخُرافة الذين تسلَّطوا على أهلِنا يا رب العالمين يا قوي يا عزيز.
اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجس يهود، اللهم عليك باليهود الغاصِبين، والصهايِنة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على من عادانا يا رب العالمين.
اللهم وفِّق أبناءَنا الطلابَ وبناتِنا الطالِبات في اختِباراتهم الدراسية، اللهم اكتُب لهم التوفيقَ والنجاحَ والسعادةَ والصلاحَ يا رب العالمين، اللهم اكتُب لهم التوفيقَ والنجاحَ والسعادةَ والصلاحَ يا رب العالمين، واعصِمهم من مُضِلاَّت الفتن يا كريم.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.

ابوحاتم 03-05-2013 11:26 AM

طلب المعالي بالأعمال الصالحة
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 29 صفر 1434هـ بعنوان: "طلب المعالي بالأعمال الصالحة"، والتي تحدَّث فيها عن كثيرٍ من الأعمال الصالحة فرائِض ونوافِل، والتي يسعى بها المرءُ لمرضاة الله تعالى وأعالي الجِنان، وذكر العديدَ من الأحاديث الدالَّة على ذلك.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
اتقوا الله حقَّ التقوى؛ فتقوى الله نورُ البصائر، وبها تحيا القلوبُ والضمائر.
أيها المسلمون:
اتَّصَفَ الله - جل وعلا - بالأسماء الحُسنى وبالصفات العُلَى، وهو - سبحانه - يُحبُّ مُقتضَى صفاتِه وظُهورَها في العبادِ، وأفعالُ الله تعالى على التمام والكمال؛ فخلقَ الخلقَ وأتقنَ ما صنَع، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ[النمل: 88].
وأنزلَ كتابَه فأحكَمَ ألفاظَه وفصَّلَ معانِيَه، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ[هود: 1].
والله تعالى مُحسِنٌ وأمرَ عبادَه بالإحسان، فقال: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[البقرة: 195].
قال البغوي - رحمه الله -: "أي: أحسِنوا أعمالَكم وأخلاقَكم".
وإحسانُ العمل واجبٌ على كل عبدٍ، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كل شيءٍ»؛ رواه مسلم.
قال ابن رجبٍ - رحمه الله -: "أي: كتبَ على كل مخلوقٍ الإحسانَ".
وأثنَى النبي - صلى الله عليه وسلم - على من أحسنَ عملَه، فقال: «خيرُ الناس من طالَ عُمرُه وحسُنَ عملُه»؛ رواه الترمذي.
وكانت أعمالُ الرُّسُل على الإتقان وكمال النُّصح؛ فنوحُ - عليه السلام - دعا قومَه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا ليلاً ونهارًا، ثم دعاهم جِهارًا، ثم أعلنَ لهم وأسرَّ لهم إسرارًا.
وأثنَى الله على إبراهيم بقولِه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى[النجم: 37].
قال قتادةُ - رحمه الله -: "وفَّى طاعةَ الله وأدَّى رسالتَه إلى خلقِه".
وحياةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت على تمام المِثال والإحسانِ، وأمرَ الله العبادَ بالاقتِداء به، فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[الأحزاب: 21].
ومن فضل الله على عباده: أن نوَّع لهم الطاعات اعتِقادًا وعملاً وقولاً، وجعلَ أعظمَ الثوابِ للمُحسنين، قال - سبحانه -: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ[الرحمن: 60].
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "ما لمن أحسنَ العملَ في الدنيا إلا الإحسانَ إليه في الآخرة".
وإذا حسُنَ مُعتقدُ العبدِ ضُوعِفَت أجورُه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا أحسنَ أحدُكم إسلامَه فكلُّ حسنةٍ يعملُها تُكتَبُ له بعشر أمثالِها إلى سبعمائة ضِعفٍ، وكلُّ سيئةٍ يعملُها تُكتَبُ له بمثلِها»؛ متفق عليه.
ومن قال كلمةَ التوحيد بيقينٍ، وعمِلَ بمُقتضاها بصدقٍ وإخلاصٍ واجتنَبَ نواقِضَها حرَّم الله وجهَه عن النار، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله قد حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغِي بذلك وجهَ الله»؛ متفق عليه.
وإذا حقَّقَ العبدُ منزلةَ التوكُّل وفوَّضَ جميعَ أموره لله أدخلَه الله الجنةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ، «همُ الذين لا يسترقُون، ولا يتطيَّرون، ولا يكتَوُون، وعلى ربِّهم يتوكَّلُون»؛ متفق عليه.
وأكملُ مراتِبِ الدين مرتبةُ الإحسان؛ لاشتِمالِها على الصِّدقِ ظاهرًا وباطنًا: «أن تعبُدَ اللهَ كأنَّك تراهُ، فإن لم تكُن تراهُ فإنه يراكَ»؛ رواه مسلم.
وإذا أتقنَ المُسلمُ عبادتَه نالَ ثوابًا جزيلاً؛ فمن توضَّأَ فأسبغَ الوضوءَ ثم قال: «أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ إلا فُتِّحَت له أبوابُ الجنةِ الثمانيةُ يدخلُ من أيِّها شاء»؛ رواه مسلم.
ورفعُ الصوت بالأذان مُستحبٌّ؛ «فإنه لا يسمعُ مدَى صوتِه جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلا شهِدَ له يوم القيامة»؛ رواه البخاري.
وإذا قال المُؤذِّنُ آخر الأذان: لا إله إلا الله، «فقال من سمِعَه: (لا إله إلا الله) من قلبِه دخلَ الجنةَ»؛ رواه مسلم.
«وإقامةُ الصفِّ من حُسن الصلاة»؛ متفق عليه. و«خيرُ صُفوف الرجال أوَّلُها»، ومن السبعَة الذين يُظِلُّهم الله في ظِلِّه: «ورجلٌ قلبُه مُعلَّقٌ بالمساجِد»؛ متفق عليه.
وإحسانُ الصلاة ثوابُها مُتوالِي؛ «فما من امرئٍ مُسلمٍ تحضُرُه صلاةٌ مكتوبةٌ، فيُحسِنُ وضوءَها وخُشوعَها ورُكوعَها إلا كانت كفَّارةً لما قبلَها من الذنوبِ ما لم يُؤتِ كبيرةً، وذلك الدهرَ كلَّه»؛ رواه مسلم.
قال النووي - رحمه الله -: "التكفيرُ بسببِ الصلاةِ مُستمرٌّ في جميع الأزمان، لا يختصُّ بزمانٍ دون زمانٍ".
«ومن توضَّأَ فأحسنَ الوضوءَ ثم أتَى الجُمُعةَ فاستمعَ وأنصَتَ؛ غُفِرَ له ما بينَه وبين الجُمعة وزيادةُ ثلاثة أيام»؛ رواه مسلم.
«وركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها»؛ رواه مسلم.
«وصلاةُ المرءِ في بيتِه أفضلُ من صلاتِه إلا المكتوبة، وأفضلُ الصلاة بعد الفريضةِ صلاةُ الليل».
وللأمواتِ حقٌّ في الإحسانِ إليهم؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا كفَّن أحدُكم أخاهُ فليُحسِّن كفَنَه»؛ رواه مسلم.
وقال عن صفةِ قبرِ الميت: «احفِروا وأعمِقُوا وأحسِنوا»؛ رواه النسائي.
والبذلُ والعطاءُ ليس في الأجر سواء؛ فأفضلُ الصَّدَقَة: «أن تصَّدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ». وإخفاؤُها خيرٌ من إظهارها، قال - سبحانه -: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ[البقرة: 271]. ومن السبعَة الذين يُظلِّهُم الله في ظلِّه: «ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه»؛ متفق عليه.
والصيامُ وجزاءُ الصائمين على درجاتٍ؛ فـ «من صامَ رمضان إيمانًا واحتِسابًا؛ غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه». و«أحَبُّ الصائمين إلى الله أعدلُهم فِطرًا، وأحَبُّ صيام النافِلة صيامُ داود - عليه السلام - كان يصومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا». و«أفضلُ الصيام بعد رمضان شهر الله المُحرَّم».
و«الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة».
وأجلُّ العلوم: علمُ الشريعة، قال - سبحانه -: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة: 11].
وأسهلُ طريقٍ إلى الجنةِ سُلُوكُ العلم، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من سلَكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهَّلَ الله له طريقًا إلى الجنة»؛ رواه الترمذي.
وأفضلُ أهل العلم همُ الرَّاسِخون فيه بالحفظِ والفهمِ والعملِ، قال الترمذي - رحمه الله -: "إنما تفاضَلَ أهلُ العلم بالحفظِ والإتقان".
وخيرُ المُتعلِّمين من تعلَّم القرآن وعلَّمَه، ومن حفِظَ حديثًا وبلَّغَه للناس دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنَّضَارة: «نضَّرَ اللهُ امرأً سمِعَ منا حديثًا فبلَّغَه كما سمِعَه؛ فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعَى من سامِعٍ»؛ رواه ابن حبان.
«والقاعِدُ في الفتن خيرٌ من القائِمِ إليها»؛ متفق عليه. و«العبادةُ في الهَرْجِ كهِجرةٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -»؛ رواه مسلم.
وأعلى منازِل الصبرِ: ما كان برِضًا لا سخَطَ فيه ولا جزَع.
وأصدقُ الحديث كتابُ الله، والماهِرُ به من السَّفَرة الكِرامُ البَرَرة، ويؤُمُّ القومَ أقرؤُهم له، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمعُ بين رجُلَيْن من قتلَى أُحُدٍ ثم يقول: «أيُّهم أكثرُ أخذًا للقرآن؟». فإذا أُشيرَ له إلى أحدِهما قدَّمَه في اللَّحْدِ؛ رواه البخاري.
وخيرُ ما تحرَّك به اللِّسانُ ذِكرُ الله تعالى، و«أحبُّ الكلام إلى الله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»؛ رواه مسلم.
و«من قال حين يُصبِحُ وحين يُمسِي: سُبحان الله وبحمده مائةَ مرَّةٍ لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضلَ مما جاء به إلا أحدٌ قال مثلَما قال أو زادَ عليه»؛ رواه مسلم.
وقولُ الداعِيةِ إلى الله على بصيرةٍ لا أحسنَ من قولِه، قال - جل وعلا -: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[فصلت: 33].
والدعاءُ هو العبادة، والمُسلمُ يتخيَّرُ من الدعاء أجمعَه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «فإذا سألتُم اللهَ فاسألُوه الفردَوسَ؛ فإنه أوسطُ الجنةِ وأعلى الجنةِ، أُراهُ فوقَه عرشُ الرحمن، ومنه تُفجَّرُ أنهارُ الجنة»؛ رواه البخاري.
«وفي الجُمعة ساعةٌ لا يُوافِقُها عبدٌ مُسلمٌ وهو قائمٌ يُصلِّي يسألُ اللهَ شيئًا إلا أعطاه إياه»؛ رواه البخاري.
وفي الثُّلُث الأخير من الليل الدعاءُ لا يُردُّ.
والمؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمنِ الضعيفِ، ومُعاملةُ الناس عبادةٌ يرتقِي المؤمنُ بحُسن خُلُقه أعلى المنازِل، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسُنَ خُلُقُه»؛ رواه أبو داود.
وردُّ السلام أفضلُه أكملُه، وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساء: 86].
و«من صُنِع إليه معروفٌ فقال لفاعِلِه: جزاك الله خيرًا فقد أبلغَ في الثناء»؛ رواه الترمذي.
وفاضلَ الشرعُ بين صفاتٍ في الناس؛ فـ «خيرُ متاع الدنيا المرأةُ الصالِحةُ»؛ رواه مسلم. وخيرُ الزوجاتِ ذواتُ الصلاحِ منهنَّ؛ «فاظفَر بذاتِ الدين ترِبَت يداكَ»؛ متفق عليه.
وأنفعُ الأولاد للوالِدَين: الولدُ الصالحُ الداعِي لهما بعد مماتهما: «.. أو ولدٍ صالحٍ يدعُو له»؛ رواه مسلم.
و«من ابتُلِيَ من البنات بشيءٍ فأحسنَ إليهنَّ كُنَّ له سِترًا من النار»؛ متفق عليه.
وأحبُّ الأسماء إلى الله: عبدُ الله وعبدُ الرحمن. وخيرُ الأُجراءِ القويُّ الأمينُ.
وبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجملَ الطيبِ وأشرفَ المياه؛ فـ «أطيَبُ الطِّيبِ المِسْكُ»؛ رواه البخاري. وسيِّدُ المياه ماءُ زمزَم، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إنها مُبارَكةٌ، إنها طعامُ طُعمٍ»؛ رواه مسلم.
وخصَّ الدينُ أزمِنةً فاضِلةً ليتسابَقُوا إلى الطاعات فيها؛ فخيرُ يومٍ طلَعَت فيه الشمسُ يوم الجُمعة. وأعظمُ الأيام عند الله يومُ النَّحر. وليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهر. وأفضلُ كلِّ ليلةٍ الثُّلُث الأخيرُ منها. وخيرُ الشهور شهرُ رمضان. وبُورِكَ لهذه الأمة في بُكورِها.
والأماكنُ يشرُفُ بعضُها على بعضٍ؛ فأحبُّ البِقاع إلى الله المساجِد، وأفضلُها: المسجدُ الحرام، ثم مسجدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم المسجدُ الأقصى. ومجالسُ العلمِ رياضُ الجنة.
وعلى هذا الأصلِ العظيمِ في الإسلام في إحكامِ الأعمال والإخلاصِ سارَ سلَفُ الأمة؛ صنَّفَ الإمامُ البخاريُّ - رحمه الله - صحيحَه في ستة عشر عامًا، لا يضعُ فيه حديثًا إلا صلَّى لله ركعتَيْن، وقال: "جعلتُ هذا الكتابَ حُجَّةً بيني وبين الله".
وبعدُ، أيها المسلمون:
فالإسلامُ إحسانُ عبادةٍ وحُسنُ مُعاملةٍ، والمُسلمُ مع إخلاص نيَّته فيها لله إن رأى خيرًا ولو يسيرًا عمِلَه، وإن كان فاضِلاً سابَقَ إليه، وإن كان شرًّا نأَى عنه، وذوو الإيمان يرجُون أعلى ما عند الكريم من الجزاء؛ ذكرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا أسماءَ أبواب الجنة، فقال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما على من دُعِيَ من تلك الأبوابِ من ضرورة؟ فهل يُدعَى أحدٌ من تلك الأبوابِ كلِّها؟ قال: «نعم، وأرجُو أن تكون منهم»؛ متفق عليه.
والنفوسُ إذا عظُمَت طلبَت المعالِي وأحسنَت ظنَّها بالله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[البقرة: 197].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أيها المسلمون:
من إتقان العملِ: المُداوَمةُ عليه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أحبُّ الأعمالِ إلى الله: أدوَمُها وإن قلَّ»؛ متفق عليه.
قال ابن حجر - رحمه الله -: "الصبرُ على المُحافَظة على الصلوات وأدائِها في أوقاتِها، والمُحافظة على برِّ الوالِدَيْن أمرٌ لازمٌ مُتكرِّرٌ دائمٌ لا يصبِرُ على مُراقبَة أمر الله فيه إلا الصِّدِّيقُون".
والمُسلمُ يُنوِّعُ من العبادات لتتنوَّع لذَّاتُه في الآخرة من النعيم، وجاء الشرعُ ببيان الفاضِلِ منها؛ لئلا يفوتَه شيءٌ منها ليرتقِيَ بذلك إلى أعلى الجِنان.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم اجمع كلمتَهم على الحق والهُدى والتوحيد يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر المُستضعَفين من المؤمنين في كل مكانٍ، اللهم كُن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، اللهم عجِّل لهم بالفرَج والنَّصر يا قوي يا عزيز.
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ومتِّعه بالعافية، ووفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك، وتحكيمِ شرعك.
اللهم إنا نسألُك الفردوسَ الأعلى من الجنة.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 03-05-2013 11:28 AM

أنين سوريا..

ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 6 ربيع الاول 1434هـ بعنوان: "أنين سوريا"، والتي تحدَّث فيها عن أحوال إخواننا المُشرَّدين والنازِحين من سُوريا إلى بلادٍ مُتفرِّقة، وذكرَ طرفًا مما يُعانُونَ منه من بردٍ وجوعٍ ومرضٍ وغير ذلك، وحضَّ المُسلمين القادِرين على إعانتهم والبذلِ لهم ابتغاءَ وجه الله تعالى.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله ناصرِ المظلومين، وقامِع الظلَمة المُعتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائلُ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ[القصص: 5]، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تبقَى وسلامًا يَتْرَى إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أقوى ظَهير، وأوفَى نصير، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
المُشرَّدون في الأرض صُورٌ من المأساة، وفصولٌ من المُعاناة، مُشرَّدون ومُهجَّرون، ولاجِئون ونازِحون، فرُّوا من وَيلات الحُروب والصِّراعات، والعُنفِ والمُواجَهات، هجَروا دُورَهم ودِيارَهم، هربًا من القصفِ والقتل والدمار، والمجازِرِ المُفجِعة، والجرائمِ المُروِّعة التي يرتكِبُها الخونةُ الفجَرة في شام العزَّة والكرامة والإباء، وفي غيرها من بلاد المُسلمين.
حتى أضحَوا يعيشون في العراءِ، لا مساكنَ تُؤوِيهم ولا دُورَ تَقِيهم، سوى خيامٍ تُمزِّقُها الرِّيح، وتقتلِعُها العواصِف، وتجرِفُها السيول، يُقاسُون شدَّة الجوع، وقسوةَ الشتاء، وخطرَ المرض والفناء، في زمنٍ قاتمٍ بالقسوة والعُنف والرُّعب والدماءِ ورائحةِ الموت.
نسألُ الله أن يُفرِّجَ كربَهم، نسألُ الله أن يُفرِّجَ كربَهم، نسألُ الله أن يُفرِّجَ كربَهم، وأن يُهلِكَ عدوَّهم.
أيها المسلمون:
والنُّصرةُ لازِمةٌ مع القدرة، فكونوا أهلَ العون والغوث والمُواساة، كونوا أهلَ البَذلِ والعَطاءِ، ولا تكونوا من أهل التخاذُلِ والتقاعُس والإبطاءِ، كونوا من أهل الشَّفَقَة والصَّدَقة والإحسان، ولا تكونوا ممن كرِهَ السَّخَاءَ واستثقَلَ النداءَ وأخلَفَ الرَّجاءَ.
أمِدُّوهم وأعينُوهم وأغيثُوهم وأغنُوهم، ولا تُسلِموهم ولا تخذُلُوهم؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نفَّسَ عن مُسلمٍ كُربةً من كُرَب الدنيا نفَّسَ الله عنه كُربةً من كُرَب يوم القيامة، ومن يسَّرَ على مُعسِرٍ يسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن سترَ على مُسلمٍ ستَرَه الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبدِ ما كان العبدُ في عون أخيهِ»؛ أخرجه أبو داود.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجته»؛ متفق عليه.
فطُوبَى لمن أعانَ نازِحًا أو لاجِئًا أو مُشرَّدًا بسكنٍ، أو كِساءٍ، أو غِطاءٍ، أو غِذاءٍ، أو دواءٍ، أو ماءٍ يبتغي بذلك وجهَ الله تعالى، لا يرجُو عرَضًا زائلاً، ولا غرَضًا دُنيويًّا حائِلاً.
ولا أقسى قلبًا ولا أكثرَ شُحًّا ممن يشبَعُ وجارُه جائِع، وممن يبِيتُ وأخوهُ مُشرَّدٌ ضائِعٌ؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنها - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس المُؤمنُ الذي يشبَعُ وجارُه جائعٌ إلى جنبه»؛ أخرجه الحاكمُ، وصحَّحه الذهبي.
فيا مَن أنفقتُم الأموالَ الكثيرة في اللَّهو والبَذَخ والسَّرَف، والفُجور والطَّرَب! اتَّقُوا اللهَ - عز وجل -، واحذَروا حُلولَ سخَطه، وتحوُّلَ عافيته، وتذكَّرُوا أن إخوانَكم يُعانُون الحِصار، ويلُفُّهم الدمار، تستغيثُ منهم الحرائرُ ويصرُخُ منهم الصِّغار.
فهُبُّوا لنُصرتهم، وابذُلُوا المالَ لمُواساتهم، حتى تزولَ مِحنتُهم، وتنكشِفَ شِدَّتُهم.
عن أنسٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصدقةُ تُطفِئُ غضبَ الرَّبِّ»؛ أخرجه الترمذي.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، فقد فازَ المُستغفِرون، وربِحَ التائِبون.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
انكشَفَ الغِطاءُ وسقطَ القِناع، تحالَفَت الأفاعي، وتمالأت الأعادي، ولا يُرجَى من الحيَّةِ الرَّقطاء سِلمٌ ولا حلٌّ، وخبيثُ المذهَب نتِنُ المشرَب، لا أمانَ له ولا عهد، وأما القاتلُ السفَّاحُ فسينالُ عاقِبةَ ظُلمِه وجزاءَ صُنعِه، وما ربك بغافلٍ عما يعملُ الظالمون.
ولا رحِمَ الله منه شعرةً، ولا أسكنَ منه عِرقًا، وعجَّلَ الله حتْفَه، ومنحَ المُجاهِدين كتِفَه، ومزَّقَ مُلكَه وحِزبَه وجُندَه، ونصرُ الله قريب، وآمالُ أهل الشرك تخيب.
وصلُّوا وسلِّموا على خيرِ الورَى؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنَّة المُتَّبعة: أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وجُودِك وإحسانِك يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، وانصُر المُجاهِدين في الشام يا رب العالمين، اللهم انصُر المُجاهِدين في الشام يا رب العالمين، اللهم تقبَّل قتلاهم في الشُّهداء، واشفِ جَرحاهم يا سميعَ الدُّعاء، اللهم وكُن للمُستضعَفين والمنكوبين والمُشرَّدين يا رب العالمين.
اللهم عليك بالقتلَة المُجرمين، اللهم اهزِمهم وزلزِلهم وزعزِعهم يا رب العالمين، اللهم اقتُلهم بسِلاحهم، وأحرِقهم بنارهم، ومكِّن المُجاهِدين من رِقابِهم يا قوي يا عزيزُ يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا المُشرَّدين في بُورما، اللهم كُن لإخواننا المُشرَّدين في بُورما، اللهم ارحَم ضعفَهم، اللهم ارحَم ضعفَهم، اللهم كُن لهم ناصِرًا يوم قلَّ الناصِر يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها وعِزَّها واستِقرارَها يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، وألبِسه ثوبَ الصحة والعافِية يا رب العالمين، اللهم احفَظه ووليَّ عهده، وأعِزَّ به دينَك يا رب العالمين.
اللهم مُنَّ على جميع أوطان المُسلمين بالأمن والاستقرار والرخاء يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحم موتانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على من عادانا يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.

ابوحاتم 03-05-2013 11:31 AM

اغتنم حياتَك للآخرة
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة 12 ربيع الاول 1434هـ الجمعة بعنوان: "اغتنم حياتَك للآخرة"، والتي تحدَّث فيها عن وجوب اغتِنام المسلم لحياته وعُمره في البلوغ لمرضاة الله تعالى وجنته، وتوجَّه بالنصائح لعموم المسلمين - لا سيما الشباب - بضرورة الالتزام والتمسُّك بسُنَّة النبي وتعلُّم سيرته - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق كلَّ شيءٍ فقدَّرَه تقديرًا، يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ[الزمر: 5]، أحمد ربي وأشكره، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحدُ القهَّار، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفى المُختار، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه المُتقين الأبرار.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى؛ فمن اتَّقَى اللهَ وقاهُ الشُّرورَ والمُهلِكات، وعافاه من خِزيِ العُقوبات، وفازَ في أُخراه برِضوان ربِّه والجنات.
عباد الله:
إن ربَّكم - عز وجل - قد جعل هذه الدنيا دارَ عمل، لكلٍّ فيها أجل، وجعلَ الآخرةَ دارَ جزاء،على ما كان في هذه الدارِ من الأعمال؛ إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى[النجم: 31]، وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الكهف: 7].
وقد أعانَ الله الناسَ على ما خُلِقُوا له بما سخَّرَ لهم من مخلوقاتِه، وما آتاهم من الأسباب، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً[لقمان: 20]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[الجاثية: 12، 13]، وقال - عز وجل -: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ[إبراهيم: 32- 34].
وإذا تفكَّرَ الإنسانُ واعتبَر، وعلِمَ ما منَّ الله به عليه من عطاياه وهِباته، وما خصَّه الله به من الصِّفات والسَّجايا، والتمكُّن من عمل الخيرات وترك المُنكرات والمُحرَّمات، وعلِمَ أن الدارَ الآخرة هي دارُ الأبَد؛ إما نعيمٌ مُقيمٌ، وإما عذابٌ أليمٌ، إذا علِمَ الإنسانُ ذلك حفِظَ وقتَه، وحرِصَ عليه، وعمَرَ زمنَ حياته بكل عملٍ صالحٍ، وأصلَحَ دُنياه بالشَّرع الحَنيف؛ لتكون دُنياه خيرًا له ولعقِبِه، ولتكون حسنةَ العاقِبَة.
فلا خيرَ في دُنيا امرئٍ لا يحكُمُها الدينُ القيِّمُ، ولا بركةَ في حياةٍ دُنيويَّةٍ لا يُهيمِنُ عليها الإسلام، قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا[الإسراء: 18- 20]، وقال تعالى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ[التوبة: 55]، وقال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الأعراف: 32].
وهل تشُكُّ أيها العاقِلُ أن الحياةَ الدنيا متاعٌ زائِل، ونعيمٌ حائِل؟! إن كنتَ في غفلةٍ من هذا فاعتبِر بمن مضَى، ففي ذلك عِبرةٌ لأُولِي النُّهَى.
وإذ قد تبيَّن لك - أيها المُكلَّف - قولُ الله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[الأعلى: 16، 17].
فاعمَل للآخرة التي تبقَى، واجتهِد لتفوزَ بالنعيم الذي لا يحُولُ ولا يزُولُ، ولتنجُوَ من نارٍ حرُّها شديد، وقعرُها بعيد، وطعامُ أهلها الزقُّوم، وشرابُهُم الحميمُ والصَّديد، قال الله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ[الحج: 19- 22].
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُؤتَى بأنعَم أهل الدنيا من أهل النار فيُصبَغُ في النار صبغَةً، ثم يُقال له: يا ابنَ آدم! هل رأيتَ خيرًا قط؟ هل مرَّ بك من نعيمٍ قط؟ فيقول: لا والله يا ربِّ، ما رأيتُ نعيمًا قط، ويُؤتَى بأشدِّ الناس بُؤسًا من أهل الجنة، فيُصبَغُ صبغةً في الجنة، فيُقال له: يا ابنَ آدم! هل رأيتَ بُؤسًا قط؟ هل مرَّ بك من شدَّةٍ قط؟ فيقول: لا والله يا ربِّ، ما مرَّ بي بُؤسٌ قط، ولا رأيتُ شدَّةً قط»؛ رواه مسلم.
عباد الله:
إنه لا يُنالُ ما عند الله من الخير إلا بطاعتِه، ألا إن سِلعةَ الله غالية، ألا إن سِلعَةَ الله هي الجنة.
ومُدَّةُ عُمر المُكلَّف هي التجارة التي يُفلِحُ فيها إن وظَّفَها في الخيرات، أو يشقَى فيها إن ضيَّعَها في اللَّهوِ والمُحرَّمات، وأولَى الناس بالحياة الطيبة والحياة النافعة المُبارَكة: من اقتدَى بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياتِه؛ فهديُ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أكملُ هديٍ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - في خُطَبه: «إن أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وكلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ»؛ رواه مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه -.
فمن اقتدَى بهدي سيِّدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته؛ فقد حازَ الخيرَ كلَّه، وفازَ بجنَّات النعيم، ومن فاتَه هديُه فقد فاتَه الخيرُ كلُّه، ومن فاتَه بعضُ هديِه - عليه الصلاة والسلام - فقد فاتَه من الخير بقدرِ ما فاتَه من هديِه - صلى الله عليه وسلم -.
قال بعضُ الصحابة - رضي الله عنهم -: "كنا نُعلِّمُ أولادَنا سيرةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نُعلِّمُهم القرآنَ الكريمَ".
وقصدُهم بذلك: الاقتِداءُ به - عليه الصلاة والسلام -، وقد تمَّ لهم ما أرادُوا؛ فكانوا خيرَ أمةٍ أُخرِجَت للناس.
ولو اختبَرَ كلُّ مُسلمٍ نفسَه في العمل بسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعمل بهديِه في العبادة والمُعامَلة والإخلاص ونُصرة الدين واستِقامة أحوالِه كلِّها؛ لعلِمَ ما قصَّرَ فيه من العمل، ولاستدرَكَ ما فاتَه مما يقدِرُ عليه بمعُونَة الله تعالى، ولاستقامَت أمورُه على الصراط المُستقيم.
وليحذَر المُسلمُ من تضييعِ عُمره في الغفلَة، وفي الإعراض عن العلم النافع والعمل الصالح، والاشتِغال بما لا يُفيد ولا ينفع في دينٍ ولا دُنيا، ولا سيّما الشباب الذين هم بأشدِّ الحاجةِ إلى كل ما يحفَظُ دينَهم وأخلاقَهم وبراءَتَهم، ويحفَظُ مُستقبَلَ حياتِهم وسعادتِهم.
فكلُّ مرحلةٍ من مراحلِ حياةِ الإنسان تتأثَّرُ بما قبلَها، وأضرُّ شيءٍ على المُسلم وعلى الشباب خاصَّةً: تتبُّعُ المواقعِ الضَّارَّة في الإنترنت التي تهدُمُ الأخلاقَ الإسلامية، والتأثُّر بذلك، وقراءةُ كتب الإلحاد والفساد، وصُحبة الأشرار أصحاب الشهوات والمُوبِقات، وقضاءُ الأوقات مع مُسلسلات الفضائيَّات التي تصدُّ عن الخير وتُزيِّنُ الشرَّ والمُحرَّمات.
ومن العادات الضارَّة: تعوُّدُ السهر وعدم النوم ليلاً والنوم نهارًا؛ فهذه العادةُ الضارَّة تُغيِّرُ طِباعَ من اعتادَها، وتكونُ مع فراغ الوقتِ كثيرًا، ومن عرِفَ هذه الطريقة قلَّ إنتاجُه، وتعثَّرَ في دراستِه، وكثيرًا ما ينقطِعُ الشبابُ في الدراسةِ بهذه الطريقة، ويعترِي صاحبَها أمراضٌ بدنيَّةٌ ونفسيَّةٌ، وتسُوءُ أخلاقُ المُستمرِئين لها، ويقِلُّ صبرُهم وتحمُّلُهم، ويظهرُ الخللُ في أداءِ وظائِفِهم، ويقوَى تسلُّطُ الشياطين عليهم؛ لأن الشيطانَ ينالُ من الإنسان في الليل ما لا يقدِرُ عليه في النهار.
ونومُ النهار بدلاً من الليل يُضيِّعُ العُمر والمصالِح، وقد يجُرُّ السهرُ إلى المُخدِّرات والانحِراف، وإنه يُؤدِّي إلى ترك الصلوات.
وقضايا الشباب كثيرةٌ جدًّا، ودواؤُها في التمسُّك بهديِ سيِّدنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الوالدَيْن والمُدرِّسين وأُولِي العقول من المُجتمَع أن يكونوا قُدوةً صالحةً للشباب - ولا سيما الصغار - فإنهم لا يتمكَّنُون إلا بالاقتِداء بما يرَون، ولا قُدرةَ لهم في المُوازنَة والاطِّلاع على سِيَر الصالحين.
ومُعاونة كل أحدٍ على الاستِقامة مما أمرَ الله به وحثَّ عليه رسولُه - صلى الله عليه وسلم -، قال - عليه الصلاة والسلام -: «مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمَثَل الجسَد الواحد إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَد بالسَّهَر والحُمَّى»، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ[الحشر: 18- 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيِّد المُرسَلين وقولِه القَوِيم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم وللمسلمين.



الخطبة الثانية
الحمد لله العليِّ العظيم، يهدِي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم، لربِّنا النعمةُ والفضلُ وله الثَّناءُ الحسن، يغفرُ لمن يشاءُ ويتوبُ على من يشاءُ، وهو الغفورُ الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحكيم، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه المتقين.
أما بعد:
فاتقوا الله في السرِّ والعلانية، يُصلِح لكم الأعمال، ويُحسِن لكم العاقبَة والمآل.
أيها المسلمون:
اذكُروا نِعَمَ الله عليكم ما ظهرَ منها وما بطَن، وقُوموا بشُكرِها بما تقدِرون عليه من الفرائضِ والمُستحبَّات؛ فما شُكِرَ الله إلا بطاعتِه وترك معصيتِه.
وأنتم - معشر المُسلمين - أخبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - الذي رواه مسلم - أخبر أن هذه الأمة جُعِلَت العافيةُ في أوَّلِها، وسيُصيبُ آخرَها بلاءٌ. وجعلَ الله عافيتَكم في أوِّلكم بتمسُّك الأولين بالسُّنَّة؛ فتمسُّكهم بالسُّنَّة عافاهم الله - تبارك وتعالى - من كل بلاءٍ، وسيُصيبُ آخرَ الأمةِ بلاءٌ بما كسبَت أيدي الناس.
وقد أرشدَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاة من البِدَع والمُحرَّمات، والفوز بالدرجات، فقال: «أُوصِيكم بتقوى الله، والسمعِ والطاعةِ وإن تأمَّرَ عليكم عبدٌ، فإنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة»؛ رواه الترمذي من حديث العِرباض بن سارِية - رضي الله عنه -.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]؛ فقد أمرَكم الله بذلك؛ ففي قوله - عز وجل - في هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، في ذلك من الأجر العظيم ما لا يقدُرُ قدرَه إلا الله - عز وجل -، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلُّوا وسلِّموا على سيدِ الأولين والآخرين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم صلِّ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأزواجه وذريَّته، اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصَّحابةِ أجمعين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافرين، اللهم وأذِلَّ الشركَ والمُشركين ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدين يا رب العالمين.
اللهم اجعل بلادَنا آمنةً مُطمئنَّةً، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم احفَظ بلادَنا من كل شرٍّ ومكروه، اللهم عافِنا والمُسلمين مما يُغضِبُك علينا يا رب العالمين، اللهم ارزُقنا والمسلمين التمسُّك بسُنَّة رسولِك - صلى الله عليه وسلم -، وارزُقنا والمُسلمين العافيةَ من البدَع التي تهدِمُ الدين يا رب العالمين، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاةَ أمورنا.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك يا رب العالمين، اللهم وفِّقه وأعِنه على ما فيه الخيرُ لشعبِه ووطنِه والمُسلمين وعِزِّ الإسلام والمُسلمين يا رب العالمين، اللهم وفِّق وليَّ عهده لما تحبُّ وترضَى.
اللهم إنا نسألُك أن تغفِر لموتانا وموتى المُسلمين، اللهم اغفِر لموتانا وموتى المسلمين يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألُك أن تُغيثَنا، اللهم أغِثنا يا رب العالمين إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إنا نسألُك أن ترفعَ الكُربَةَ وأن ترفعَ الضِّيقَ الذي نزلَ بإخواننا المُسلمين في الشام، اللهم ادفَع عنهم يا رب العالمين، اللهم اكفِهم شرَّ أعداء الإسلام يا رب العالمين، اللهم إنا نسألُك أن ترفعَ ما بهم من الضرَّاء، اللهم ارفَع ما نزلَ بهم من الكُرُبات، اللهم إنا نسألُك أن تُطعِمَ جائِعَهم، وأن تكسُوَ عارِيَهم، وأن تُغنِيَ فقيرَهم يا رب العالمين، اللهم لا تكِلهم إلا أحدٍ من خلقِك، اللهم إنه نزلَ بهم من الضُّرِّ والبأساء والكرب ما لا يكشِفُه غيرُك يا رب العالمين.
اللهم عليك بمن ظلمَهم وتسلَّطَ عليهم، وعليك بمن آذاهم يا رب العالمين وتسلَّطَ عليهم، اللهم أنزِل به بأسَك العاجِلَ غيرَ الآجِل، إنك على كل شيء قدير، واجعله عِبرةً للمُعتبِرين، إنك على كل شيء قدير.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ[النحل: 90، 91].
اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 03-05-2013 11:33 AM

فضل العطاء والسخاء
ألقى فضيلة الشيخ عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة 20 ربيع الاول 1434هـ بعنوان: "فضل العطاء والسخاء"، والتي تحدَّث فيها عن العطاء والسخاء وفضلِهما، وبيَّن أن أعظم من أعطى من البشر محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وأن فرحتَه بالعطاء أكبر من فرحةِ الآخِذ بما يُعطاه، وذكرَ نُبَذًا من أحوال الصحابة في عطائهم وإنفاقِهم، وذكرَ بعضَ الأحاديث عن سُؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - العافية من العجزِ والبُخلِ والشُّحِّ.

الخطبة الأولى
الحمد لله القائل: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[الليل: 5- 7]، أحمده - سبحانه - وأشكرُه على نعَمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا[الإسراء: 20]، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه قال له ربُّه: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى[الضحى: 5]، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
العطاءُ - عباد الله - عبادةٌ وشكرٌ لله على النِّعَم، ورسولُنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - قدَّم أروعَ صور العطاء؛ أعطى كلَّ شيء، ومن كلِّ شيء، ولم يُبقِ في يده ولا من نفسه أيَّ شيء.

يقول جابرٌ - رضي الله عنه -: "ما سُئِل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قطُّ فقال: لا، سألَه رجلٌ غنَمًا بين جبلَيْن فأعطاه إيَّاها"، وبلغَ من عطائه: أنه أعطى ثوبَه الذي على ظهره، ومن عطائه لأمَّته: أنه سخَّر حياتَه لها نذيرًا وبشيرًا قائلاً: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ[سبأ: 46].
ومن عطائه: أنه وهبَها حُبًّا لا يُبارَى، وشفقةً لا تُجارَى، وكان كثيرًا ما يقول: «لولا أن أشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهم ..» بكذا.
وعندما سألَه رجلٌ عن الحجِّ: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ قال: «لو قلتُ: نعم، لوجبَت ولما استطعتُم».
وما زال يقول: «اللهم أمَّتي، أمَّتي»، حتى قال له ربُّه: «إنا سنُرضِيكَ في أمَّتِك ولا نسوؤُك».
ومن فيضِ خير النبي - صلى الله عليه وسلم - وبركتِه: أن عطاءَه موصولٌ إلى يوم القيامة، ومضى أصحابُه وإخوانُه على نهجِه، ينهَلون من مَعين عطائه حتى غدَوا قِمَمًا في العطاء.
قال في أبي بكرٍ - رضي الله عنه -: «ما نفعَني مالٌ قطُّ ما نفعَني مالُ أبي بكر»، فبكى أبو بكرٍ - رضي الله عنه - وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟!
وكان المِعطاءُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يتعاهَدُ كلَّ ليلةٍ عجوزًا عمياءَ مُقعَدةً بما يُصلِحُها ويُخرِجُ الأذَى عن بيتِها.
ومُصعبُ بن عُميرٍ - رضي الله عنه - يُقدِّمُ صورةً من صُور العطاء؛ فيقدُمُ المدينة وفي غُضونِ عامٍ يدخلُ الإسلامُ أكثرَ بيوت المدينة.
ووقفَ سعدُ بن معاذ مُعبِّرًا عن عطاء الأنصار بالنَّفسِ والنَّفيس فقال: "يا رسول الله! والذي بعثَكَ بالحقِّ؛ لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخُضتَه لخُضناه معك، صِل من شئت، واقطَع من شئت، وخُذ من أموالِنا ما شِئت، وما نكرهُ أن نلقَى عدوَّنا غدًا، وإنا لصُبرٌ عند الحرب، صُدْقٌ عند اللقاء، لعلَّ اللهَ يُريكَ منَّا ما تقرُّ به عينُك".
أما ابنُ عباس - رضي الله عنهما - فكان عطاؤه: أنه يجلِسُ في الحرم بعد الفجر فيقول: "هيَّا، عليَّ بأهل القرآن"، فيأتي أهلُ القرآن فيقرؤون إلى طلوع الشمس فيقول: "ارتفِعوا، ائتُوا بأهل الحديث"، فيسألونَه، ثم إذا انتهَى منهم قال: "ارتفِعوا، ائتُوا بأهل الفقهِ"، ثم أهل التفسير، ثم أهل العربية، وهكذا، ثم يُربِّي أصحابَه؛ فجمعَ في عطائِه الحُسنَيَيْن: بذلَ العلمِ، وكرمَ اليد.
عطاءٌ مُتدفِّقٌ في كلِّ ميدان، غيَّر به الجيلُ الأولُ مسارَ الأحداث وأعادُوا كتابةَ التاريخ، وما أجملَ أن يتَّصِفَ المسلمُ بالعطاء وحبِّ الخير للآخرين، والعطاءُ الصادقُ لا يحُدُّه حدٌّ، ولا يُقيِّدُه شرطٌ، عطاءٌ لمن تحبُّ ومن لا تحبُّ.
وأهلُ العطاء لا يعرِفونَ البُخلَ والشُّحَّ والكراهيةَ، إذا منحتَ الآخرين شيئًا فستربَحُ أضعافَ ما منَحتَ، وعطاؤُك سوف يُدخِلُ الأملَ والفرحَ على قلوبٍ تألَّمَت وحزِنَت ليتيمٍ فقدَ حنانَ الأُبُوَّة، وأرملةٍ فقدَت عائِلَها. بالعطاء لإخوانك المُسلمين في كلِّ مكانٍ، وللأقربين، والعطاءُ بين الزوجَين بالحبِّ والمودَّة والرحمة.
بابُ العطاء واسعٌ؛ بالعفو عمَّن ظلمَك، والتجاوُز لمن أساء إليك، صِلَة من قطعَك، بدعوة المُسلمين ودعوةِ غير المُسلمين، وقَبولِ عُذر المُعتذِرين، وعثرَة العاثِرين، والتنازُلُ عن بعض حقوقِك عطاءٌ.
العطاءُ فكرةٌ نافعةٌ تُهدِيها في عملِك ولمُجتمعِك، عطاءُ مالٍ وعطاءُ علمٍ ومعرفةٍ ومعلوماتٍ وخبرةٍ، عطاءُ نفسٍ من جاهٍ، عطاءٌ من وقتٍ وسُمعةٍ وشفاعةٍ، عطاءُ جسَدٍ من خدمةٍ وإماطةِ أذى ومشيٍ في مصالِحِ الناس، وعطاءُ تضحيةٍ ببذلِ النفسِ في سبيلِ الله.
العطاءُ بابٌ مُشرَعٌ لكل فئاتِ وطبقاتِ الناس، وهو سهلٌ يسيرٌ؛ ابتسامةٌ، زيارةٌ، كلمةٌ طيبةٌ، دعاءٌ، نفقةٌ، دواءُ طبيبٍ. فلِمَ لا نلِجُ بابَ العطاء؟! لِمَ لا نتعلَّمُ العطاء ونسقِي منه مُجتمعَنا ووطنَنا وأُمَّتَنا؟!
وهنا يكونُ للحياة معنًى، وللتعامُل طعمٌ، وللمشاعِر روحٌ، هذه النفوسُ التي تحمِلُ سعادةَ العطاء تتعَب ليشبَعَ الآخرون، تبذُلُ لتجِدَ عطاءَها أمامَها يوم القيامة عونًا وسنَدًا.
لا أحدَ في الأمةِ غيرُ قادرٍ على العطاء، إنه بنُكولِه عن العطاء يُجمِّدُ حركتَه، ويئِدُ ذاتَه، ويُحطِّمُ قُدراتِه، وتغدُو مشاعِرُه جُثَّةً هامِدةً، كلُّ واحدٍ منا قادرٌ على العطاء، يخدُم أمَّتَه بقولِه وفعلِه. وعلينا أن ننفُضَ عن أنفُسنا عوائِقَ العطاء وأبرزُها العجز الذي استعاذَ منه رسولُنا - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذُ بك من العَجز»، فهو سببُ الإخفاقِ والفشلِ غالبًا.
قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «واستعِن بالله ولا تعجِز». العجزُ يُضعِفُ الهمَّة، يُحطِّمُ الطموحَ، يُفقِدُك الرغبةَ في العطاء؛ فتخسرُ جُزءًا كبيرًا من نفسِك وعطائِك، فتبقَى مقتولَ القُدرة، ويُسوِّغُ العاجزُ لنفسِه العجزَ بأسبابٍ واهِيةٍ وحُجَجٍ ساقِطةٍ.
وبهذا العجز المُثبِّط تحوَّلَ بعضُ المُسلمين إلى اليدِ السُّفلَى السائِلة، يأخُذُ ويأخُذُ ولا يشبَع، وعاشَ حياتَه مُتقوقِعًا أنانيًّا، نفسُه شحيحة، وهمَّتُه ضعيفة، عيونُه مُتطلِّعةٌ إلى ما لدَى الآخرين، ولو كان ميسورَ الحال يعيشُ الفقرَ ويكرهُ العطاءَ.
«استعِن باللهِ ولا تعجز»؛ أي: قُم وانهَض وبادِر وانطلِق، وقبل ذلك ومعه وبعده: استعِن بالله، وستجِدُ الخيرَ يتدفَّق، والعونَ يتزايَد، والتوفيقَ من ربِّك حادِيكَ وناصِرُك.
للعطاء - أخي المُسلِم - أثرٌ على المُعطِي وعلى مُجتمعِه وأمَّتِه؛ فالعطاءُ يُفجِّرُ طاقاتِ الفردِ والأمَّة، ويفتَحُ آفاقًا لبناء التنمية وعِزَّة الأمة والثقةِ بين أفرادِها، والمِعطاءُ يُحبُّه مُجتمعُه، ويحترِمُه قومُه، ويرضَى عن ذاتِه، ويرضَى عنه ربُّه. المِعطاءُ يظلُّ بابُه مطروقًا، وعطاؤُه مُتواصِلاً، ونفعُه مُتعدِّيًا وعظيمًا، مع حُضورِه الدائِم وخيرِه القائِم.
وحين يستقرُّ في قلبِك العطاءُ من أجل الله فسُرعان ما تتوالَدُ فيه مسرَّاتُه؛ فإن للعطاء لذَّةً خاصَّةً تفوقُ لذَّةَ الآخِذ بما أخَذ، فالانغِماسُ في عملِ الخير والبذلِ ومُساعَدةِ الآخرين يقِي المرءَ همومًا كثيرةً قد تُعيقُ حياتَه.
فسجِّل نفسَك في عِداد المُعطِين، وكُن من رُوَّاد العطاء، أصحابِ اليد العُليا، ومن أعطَى أعطاه الله، وعطاءُ الله فيضٌ لا ينقطِع ومدَدٌ لا ينتهِي.
وأمَّتُنا اليوم وهي تُعاني ما تُعاني، وتكتوِي بلظَى الحروبِ والفتنِ أحوجُ ما تكونُ لإحياء معاني العطاء؛ لندفعَ الجهلَ الذي فشا بالعلمِ، والفقرَ الذي عمَّ بالإنفاقِ والتنميةِ، واليُتمَ الذي زادَ بالكفالَة والرِّعاية، والخوفَ الذي شاعَ بالأمن، والحربَ بالسلام، والفسادَ بالرَّقابة والنَّزَاهَة، فهذا وقتُ العطاء، قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ[الزلزلة: 7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي أنعمَ علينا بنعمةِ الإسلام، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجُو بها الأمنَ في دار السلام، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى دار السلام، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه صلاةً قائِمةً على التَّمام.
أما بعد:
فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله.
وحتى يكون عطاؤُك مقبولاً نافِعًا دافِقًا؛ احذَر حظَّ النفسِ والرياءَ والسُّمعَةَ والكسلَ، داوِم على العطاء ولو كان قليلاً؛ فقليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطِع، والقطرةُ الدائمةُ تُصبِحُ سيلاً عظيمًا، ثبَتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أحبُّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قلَّ».
العطاءُ ولو كان يسيرًا فإن الله - تبارك وتعالى - يُبارِكُه ويُنمِّيه، ولا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً، «مرَّ رجلٌ بغُصن شجرةٍ على ظهر طريقٍ فقال: والله لأُنحِّيَنَّ هذا عن المُسلمين لا يُؤذِيهم، فأُدخِلَ الجنة»،
وفي "الصحيح": «أن امرأةً بغيًّا سقَت كلبًا يلهَث، فغفَرَ الله لها»، وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم للناس».
ألا وصلُّوا - عباد الله - على رسولِ الهُدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآل والصحبِ الكرام، وعنا معهم بعفوِك وكرمِك وإحسانِك يا أرحمَ الراحِمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافرين، ودمِّر اللهم أعداءَك أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلَدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم إنه قد حلَّ بإخواننا في الشام ما أنت عليمٌ به وقادرٌ على كشفِه، اللهم اكشِف عنهم البلوَى والضرَّاءَ التي نزلَت بهم يا رب العالمين، اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلهم، وعُراةٌ فاكسُهم، وجياعٌ فأطعِمهم، ومظلومون فانتصِر لهم، ومظلومون فانتصِر لهم، ومظلومون فانتصِر لهم.
اللهم مُنزِل الكتاب، مُجرِيَ السحاب، هازِم الأحزاب، اهزِم عدوَّهم وانصُرهم عليهم يا رب العالمين، اللهم انصُرهم عاجلاً غير آجِل، اللهم انصُر إخواننا في الشام عاجِلاً غيرَ آجِلٍ، اللهم وحِّد صفوفَهم، واربِط على قلوبِهم، واجمَع كلمتَهم، وانصُرهم وسدِّد رميَهم يا رب العالمين، يا رحمنُ يا جبَّار يا قويُّ يا عزيزُ، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إنا نسألُك الهُدى والتُّقَى والعفافَ والغِنَى، اللهم إنا نسألُك الجنةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ، ونعوذُ بك من النار وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل اللهم الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ يا رب العالمين.
اللهم أعِنَّا ولا تُعِن علينا، وانصُرنا ولا تنصُر علينا، وامكُر لنا ولا تمكُر علينا، واهدِنا ويسِّر الهُدى لنا، وانصُرنا على من بغَى علينا.
اللهم اجعَلنا لك ذاكِرين لك شاكِرين، لك مُخبِتين، لك أوَّاهِين مُنيبين.
اللهم تقبَّل توبتَنا، واغسِل حوبتَنا، وثبِّت حُجَّتَنا، وسدِّد ألسِنَتَنا، واسلُل سخيمَةَ قلوبِنا يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألُك رِضوانَك والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطِك ومن النار.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم وفِّق إمامنا لما تُحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك يا رب العالمين، وألبِسه ثوبَ الصحةِ والعافيةِ، إنك على كل شيءٍ قدير.
ووفِّق جميعَ وُلاة أمور المُسلمين للعمل بكتابِك، وتحكيم شرعِك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10].
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنَعون.

ابوحاتم 03-05-2013 11:35 AM

فضلُ أمة الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 27 ربيع الاول 1434هـ بعنوان: "فضلُ أمة الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن فضائل هذه الأمة المُبارَكة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكرَ كثيرًا من فضائلَها مما وردَ في كتاب الله وسنة رسولِه - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فعند الله للأتقياء المَزيد، ولهم النجاةُ يوم الوعيد.
أيها المسلمون:
خلقَ الله الخلقَ وفاضَلَ بينهم؛ فخلقَ آدم بيده وأسجدَ له الملائكةَ تكريمًا له، ثم أهبطَه وزوجَه إلى الأرض، وتفرَّقَت ذريتُه في الأمصار وطالَت بهم الأزمان، وجعلَهم في الأرض أُممًا مُتفاضِلين، قال - سبحانه -: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ[الأنعام: 165].
وخصَّ هذه الأمةَ بالفضلِ والتكريم على سائر الأُمَم، قال - سبحانه -: هُوَ اجْتَبَاكُمْ[الحج: 78].
قال - عليه الصلاة والسلام -: «أنتم تُتِمُّون سبعين أمَّةً أنتم خيرُها وأكرمُها على الله»؛ رواه الترمذي.
وجاء القُرآنُ بمدحِها والثناءِ عليها، قال - جل وعلا -: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[الأنبياء: 10].
قال ابنُ عباس: "أي: شرفُكم".
وقد فاقَت الأُمَمَ في خيريَّتها لقِيامِها بأُسُس الدين، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[آل عمران: 110].
قال القرطبيُّ - رحمه الله -: "هذا مدحٌ لهذه الأمة ما أقامُوا ذلك واتَّصَفُوا به، فإذا ترَكوا التغييرَ وتواطَؤُوا على المُنكَر زالَ عنهم اسمُ المَدحِ ولحِقَهم اسمُ الذَّمِّ، وكان ذلك سببًا لهلاكِهم".
ولكمال دينِها وأفضليَّتِها نسَخَ الله جميعَ الأديان بها، قال - سبحانه -: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ[آل عمران: 19].
ولا يقبَلُ الله من أحدٍ دينًا سِواه، قال - سبحانه -: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ[آل عمران: 85].
وأمَرَ جميعَ الخلق باتِّباعه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «والذي نفسُ محمدٍ بيده؛ لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمةِ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ثم يموتُ ولم يُؤمنْ بالذي أُرسِلتُ به إلا كان من أصحابِ النار»؛ رواه مسلم.
وأخذَ الله المِيثاقَ على الأنبياءِ ليتَّبِعوه إن بُعِثَ فيهم، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لو أن موسَى كان حيًّا ما وسِعَه إلا أن يتَّبِعَني»؛ رواه أحمد.
وأخبَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإسلامَ سيبلُغُ الآفاق، فقال: «إن اللهَ زوَى ليَ الأرضَ فرأيتُ مشارِقَها ومغارِبَها، وإن أمَّتي سيبلُغُ مُلكُها ما زُوِيَ لي منها»؛ رواه مسلم.
ووعَدَ الله بنشرِه في جميع الأرض، قال - عليه الصلاة والسلام -: «ليبلُغنَّ هذا الأمرُ - أي: الدين - ما بلَغَ الليلُ والنهارُ، ولا يترُكُ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وبَرٍ إلا أدخلَه الله هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ»؛ رواه أحمد.
وحفِظَ الله لهذه الأمة دينَها ووعَدَ بإظهاره، فقال - جلَّ شأنُه -: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[التوبة: 33].
وكتابُها نورٌ وهُدًى وموعظةٌ، هيمَنَ على جميع الكُتب السابِقة حافِظًا لها وأمينًا عليها، قال - عز وجل -: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ[المائدة: 48].
وقد حفِظَه الله تعالى من التبديل والتحريف والزيادة والنُّقصان، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر: 9].
ومن حفظِ القرآن حفظُ السُّنَّة بالإسناد والرواية، فهي أحدُ الوحيَيْن، قال أبو حاتم الرازي - رحمه الله -: "لم يكن في أمةٍ من الأُمم منذ خلقَ الله آدمَ أمَّةً يحفَظون آثارَ نبيِّهم وأنسابَ سلَفهم مثلُ هذه الأمة".
ونبيُّها خيرُ الأنبياء، قال عن نفسِه: «أنا سيدُ ولد آدم يوم القيامة»؛ رواه مسلم.
وصلَّى الأنبياءُ خلفَه في بيتِ المقدسِ في الإسراء، وأُعطِيَ جوامِع الكلِمِ وبعثَه الله إلى الناس كافَّةً، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ[سبأ: 28].
وخُتِم به النبيون، قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "وإنما حازَت هذه الأمةُ قَصب السَّبق إلى الخيراتِ بنبيِّها محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه أشرفُ خلق الله، أكرمُ الرُّسُل على الله، وبعثَه الله بشرعٍ كاملٍ عظيمٍ لم يُعطِه نبيًّا قبلَه ولا رسولاً من الرُّسُل، فالعملُ على منهاجِه وسبيلِه يقومُ القليلُ منه ما لا يقومُ العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامَه".
وصحابتُه - رضي الله عنهم - هم خيرُ رجالٍ بعد الأنبياء، قال - عليه الصلاة والسلام -: «خيرُ الناس قَرْني»؛ رواه البخاري.
وكما حفِظَ الله دينَه حفِظَ رجالاً يقومون به في الأمصار وعلى مرِّ العُصور، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا تَزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهِرين على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذَلَهم حتى يأتي أمرُ الله وهم كذلكِ»؛ رواه مسلم.
وعلماؤُها ورثَةُ الأنبياء ولا يجتمِعون على ضلالةٍ، وعلى رأس كلِّ قرنٍ يبعثُ الله من يُجدِّدُ لها أمرَ دينِها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن اللهَ يبعثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يُجدِّدُ لها دينَها»؛ رواه أبو داود.
وهي شاهِدةٌ على جميع الأُمَم بأن رُسُلَهم قد أنذرَتهم، قال - جل وعلا -: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ[البقرة: 143]. وهي عدلٌ خِيارٌ في الأُمم، قال - سبحانه -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[البقرة: 143].
وتشريعاتُها كذلك تامَّةً كاملةً مُوافِقةً للفِطرة، وأحكامُها على التيسير، قال - جلَّ شأنُه -: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ[البقرة: 185].
وقد ضُيِّق على الأُمم في شرائِعِهم ووسَّع اللهُ على هذه الأمةِ أمورَها، وسهَّلَها لهم؛ فمن يُسرِها: أن الأرضَ مسجدٌ وطهورٌ لها، «فأيُّما رجلٍ أدركَتْه الصلاةُ فعنده مسجدُه وطَهورُه».
وشُرِع التيمُّمُ والمسحُ على الخُفَّين تخفيفًا لها، وعباداتُها مُفضَّلةٌ على عبادات الأُمَم السابِقة؛ فصلواتُها خمسٌ في العدد ولكنَّها خمسون في الأجر، وصُفوفُها كصُفُوف الملائِكة عند ربِّها يُتِمُّون الصُّفُوفَ الأُوَل ويتراصُّون في الصَّفِّ، قال - عليه الصلاة والسلام -: «فُضِّلنا على الناسِ بثلاثٍ: جُعِلَت صُفُوفُنا كصُفُوف الملائِكة، وجُعِلَت لنا الأرضُ كلُّها مسجِدًا، وجُعِلَت تُربتُها لنا طهورًا إذا لم نجِد الماء»؛ رواه مسلم.
وفي المآكِل والمشارِبِ أباحَ اللهُ لها طيباتٍ كثيرةً ليستعينوا بها على طاعته، ومن قبلَنا وقَعوا في الظلمِ فحرمَهم طيباتٍ مُباحةً عقوبةً لهم، قال - سبحانه -: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ[النساء: 160].
ووضعَ عنها آصار وأغلالاً كانت على من قبلَها، قال - سبحانه -: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[الأعراف: 157]، فتوبةُ سابِقِينا بقتلِ نفوسِها، قال - عز وجل -: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ[البقرة: 54]، وتوبةُ هذه الأمة: تركُ الذنبِ، والندمُ على فعلِه، والعزمُ على ألا يعود.
والقِصاصُ في النفس والجِراح كان حتمًا في التوراة على اليهود ولم يكن لهم أخذُ الدِّيَة، وكان في شرع النصارى الدِّيَةُ ولم يكن لهم فيها القِصاص، فخيَّرَ الله هذه الأمةَ بين القِصاصِ والعفوِ والدِّيَةِ، وقال: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ[البقرة: 178].
وأُحِلَّت لها المغانِمُ وكانت مُحرَّمةً على من سبقَها، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا[الأنفال: 69].
ورُفِع عنها إثمُ الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه، والوسوسةُ في الصدور لا تُؤاخَذُ به ما لم تعمَل أو تتكلَّم.
وأمراضٌ أنزلَها الله بلاءً وعذابًا على الأُمم السابقة، وهذه الأمة من أُصيبَ بها فمات منهم بها وهو مؤمنٌ كان شهيدًا، قال - عليه الصلاة والسلام -: «الطاعونُ شهادةٌ لكل مُسلمٍ»؛ متفق عليه.
أمةٌ مُهابةٌ في القلوبِ بين الأُمم إن تمسَّكَت بدينها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «نُصِرتُ بالرُّعبِ مسيرة شهرٍ».
ولعِزَّتها وكمال دينِها نُهِيَت عن مُشابَهة الكافرين في المُعتقَد؛ فنُهِيَت عن البناء على القبور أو اتِّخاذها مساجِد، «ألا وإن من كان قبلَكم كانوا يتَّخِذون قبورَ أنبيائهم وصالحِيهم مساجد، ألا فلا تتَّخِذوا القبورَ مساجد، إني أنهاكُم عن ذلك»؛ رواه مسلم.
ونُهِيَت عن الصور، قال - عليه الصلاة والسلام - لأم سلمة - رضي الله عنها - لما رأَت كنيسةً فيها تصاوير، قال: «أولئكِ إذا ماتَ فيهم العبدُ الصالحُ - أو الرجلُ الصالحُ - بنَوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصُّوَر، أولئكِ شِرار الخلقِ عند الله»؛ رواه البخاري.
ونُهِيَت عن مُشابَهة الأُمم في الظاهِر؛ فأُمِرَت بإرخاء اللِّحَى وحلق الشاربِ، وعن مُشابَهتها في عبادتها؛ فأكلةُ السّحور مُخالفةٌ لأهل الكتاب، ونُهِيَت عن التشبُّه بالأعرابِ والبهائِم، وخُصَّت بعيدَيْن لا ثالث لهما.
وبقاءُ أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا قليلٌ، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إنما بقاؤُكم فيما سَلَفَ قبلَكم من الأُمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس»؛ رواه البخاري.
وأعمارُ أفرادِها بين الستِّين والسبعين، ولكنها أمةٌ مُبارَكة شبَّهَها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغيثِ، فقال: «مثَلُ أمتي مثَلُ المطَر»؛ رواه الترمذي.
فبُورِك لها في بُكُورِها، وباركَ تعالى في ليلِها ونهارِها، فأعمالٌ صالحةٌ في أيامٍ وليالٍ عن شهورٍ وأعوامٍ؛ فليلةُ القدر عن ألفِ شهرٍ، وصوم عرفة يُكفِّرُ السنةَ الماضيةَ والباقيةَ، وصيامُ عاشُوراء يُكفِّرُ السنةَ الماضيةَ، وصيامُ ثلاثة أيامٍ من كلِّ شهر كصيامِ سنةٍ.
وتكرَّم عليها بأمكِنةٍ فاضِلةٍ مُبارَكة؛ فصلاةٌ في المسجد الحرام عن مائة ألف صلاةٍ، وصلاةٌ في المسجد النبوي عن ألف صلاةٍ فيما سِواه، وصلاةٌ في المسجد الأقصى عن خمسمائة صلاةٍ.
وأعمالٌ يسيرةٌ شرعَها الله لها وثوابُها عند الله عظيمٌ؛ فمن صلَّى العشاءَ في جماعةٍ فكأنَّما قامَ نصفَ الليل، ومن صلَّى الفجرَ في جماعةٍ فكأنَّما قامَ الليلَ كلَّه، ومن قرأَ حرفًا من القُرآن فله بكلِّ حرفٍ حسنةٌ.
و«من قال: سبحان الله وبحمده مائةَ مرَّة؛ حُطَّت عنه خطاياه وإن كانت مثلَ زبَد البحر»، و«من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غُرِسَت له نخلةٌ في الجنة»، و«من قال: سبحان الله مائةَ مرَّة كُتِبَت له ألفُ حسنةٍ، أو حُطَّت عنه ألفُ خطيئةٍ»، و«من صلَّى اثنتَي عشرة ركعة في يومٍ وليلةٍ بنَى الله له بهنَّ بيتًا في الجنة».
أمةٌ مُوفَّقةٌ للخير؛ وُفِّقَت لخير يومٍ طلَعَت عليه الشمسُ، قال - عليه الصلاة والسلام -: «هُدِينا إلى الجُمعة وأضلَّ الله عنها من كان قبلَنا»؛ رواه مسلم.
والسلامُ هُدِيَت له هذه الأمة بصِيغتِه وكثرةِ ثوابِه وحُرِم غيرُنا منه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «ما حسَدَتكم اليهودُ على شيءٍ ما حسَدَتكم على السلام والتأمين».
وأُجورُها مُضاعفةٌ مرتين، قال - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ[الحديد: 28].
قال - عليه الصلاة والسلام -: «لكمُ الأجرُ مرتين. فغضِبَت اليهودُ والنصارى، فقالوا: نحن أكثرُ عملاً وأقلُّ عطاءً! قال الله: هل ظلمتُكم من حقِّكم شيئًا؟. قالوا: لا، قال: فإنه فضلِي، أُعطِيه من شِئتُ»؛ رواه البخاري.
والقابِضُ على دينِه في آخر الزمان له أجرُ خمسين من الصحابة، وللصحابة أكثرُ من ذلك الأجر، والعبادةُ في الهَرْج - أي: الفتن - كهِجرةٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفضائلُها تُظهِرُها هذه الأمةُ من الأُمم لتلحَقَ بخير رِكابِها وتدعُو غيرَها للإسلام، قال - عليه الصلاة والسلام -: «فمن آمنَ كان له أجرُه مرتين»، قال - جلَّ شأنُه -: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ[القصص: 52- 54].
وكما أكرمَها الله بالدين فتَحَ لها من أرزاق الدنيا ما لم يُفتَح لغيرها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «وأُعطِيتُ الكَنزَيْن: الأحمر والأبيض - أي: الذهب والفِضة -»؛ رواه مسلم.
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «فبينما أنا نائمٌ أُوتِيتُ بمفاتيح خزائن الأرض فوُضِعَت في يدي»؛ رواه البخاري.
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "وقد ذهبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنتم تمتثِلُونَها"؛ أي: تستخرِجون ما فيها من الخيرات والكُنوز.
ومنَعَ الله بفضله عن هذه الأمة أن تهلَكَ جميعًا بالجُوع أو الغَرَق كما هلَكَت أممٌ من قبلِنا بالرِّيح والخَسفِ والصَّيحة والغَرَق، قال - عليه الصلاة والسلام -: «سألتُ ربي ثلاثًا فأعطاني ثِنتَيْن ومنَعَني واحدةً؛ سألتُ ربي ألا يُهلِكَ أمتي بالسَّنَة - أي: بالجُوع - قأعطانِيها، وسألتُه ألا يُهلِكَ أمتي بالغرَق فأعطانِيها، وسألتُه ألا يجعلَ بأسَهم بينهم فمنَعنيها»؛ رواه مسلم.
وأعطاه الله ألا يُسلِّط عليهم عدوًّا من سِوَى أنفُسهم ولو اجتمعَ عليه من بأقطارِها، وأعطَى الله لأمة أمانَيْن يمنعُها من العذاب؛ فحياةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمانٌ، وقد زالَ ذلك الأمانُ بوفاتِه، والأمانُ الآخرُ استِغفارُ الله تعالى، قال - عز وجل -: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[الأنفال: 33].
وكما أُكرِمَت هذه الأمةُ في حياتِها أُكرِمَت بعد مماتها؛ فاللَّحدُ في القبرِ لنا والشقُّ لغيرِنا، وأولُ من ينشقُّ عنه القبرُ في المحشَر نبيُّ هذه الأمة، وهو أولُ شافِعٍ وأولُ مُشفَّعٍ.
وتُعرَفُ هذه الأمةُ في عرسَة القيامة من بين سائرِ الأُمم ببياضٍ في أعضاء وُضوئِها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن أمتي يُدعَون يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء»؛ رواه البخاري.
ولكل نبيٍّ دعوةٌ مُستجابةٌ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - اختبَأَ دعوتَه لأمته يوم القيامة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «لكل نبيٍّ دعوةٌ مُستجابةٌ، فتعجَّل كلُّ نبيٍّ دعوتَه، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأُمَّتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ - إن شاء الله - من مات لا يُشرِكُ بالله شيئًا»؛ متفق عليه.
وأولُ من يُجيزُ الصِّراطَ هذه الأمة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «ويُضربُ الصِّراطُ بين ظهرَي جهنَّم، فأكونُ أنا وأمتي أولَ من يُجيزُ»؛ رواه مسلم.
ونحن الآخرُون السَّابِقون يوم القيامة؛ فنبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - أولُ من يستفتِحُ بابَ الجنة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «آتِي بابَ الجنة يوم القيامة فأستفتِحُ - أي: أطلبُ فتحَه -، فيقول الخازِنُ: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أُمِرتُ، لا أفتحُ لأحدٍ قبلَكَ»؛ رواه مسلم.
وأولُ الأُمم دخولاً لها أمَّتُه، وهم أكثرُ أهل الجنة، صُفُوفُهم فيها ثمانُون صفًّا، وسائرُ الأُمم أربعون صفًّا، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أهلُ الجنة عشرُون ومائةُ صفٍّ، وهذه الأمةُ من ذلك ثمانُون صفًّا»؛ رواه أحمد.
وفيهم «سَبعون ألفًا يدخُلون الجنةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ»؛ متفق عليه. قال - عليه الصلاة والسلام -: «فاستزَدتُّ ربي - عز وجل - فزادَني مع كلِّ واحدٍ سبعين ألفًا»؛ رواه أحمد.
وبعد، أيها المسلمون:
فالمُؤمنُ من هذه الأمةِ مُفضَّلٌ مُكرَّمٌ مُشرَّفٌ منصورٌ، حقيقٌ به أن يعتزَّ بدينِه، وأن يتمسَّك به، وأن يدعُو غيرَه إليه، وألا يتشبَّه بأهل الباطِل، وأن يحمدَ الله على كونِه من هذه الأمة ويتزوَّد من الصالِحات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[الأنعام: 161].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه.




الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
لا يعظُمُ فردٌ من أفراد هذه الأمة إلا بالعمل بأُصول دينِها وشرائِعِها؛ من توحيد الله وتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، وإتقان العبادة والإحسانِ للخلق، ومن فاتَه الخيرُ الذي فيها لم ينفَعه كونُه منها، قال - سبحانه -: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا[سبأ: 37].
وقد رأى أقوامٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يُؤمِنوا به، فلم ينتفِعوا بذلك، ومن أهانَه الله لم يُكرِمه أحد، والفضلُ والتكريمُ في الإيمان والاتِّباع والمُسابَقة إلى الخيرات، واغتِنام الفضائل.
ثم اعلموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم إنا نسألُك الإخلاصَ في القولِ والعملِ، اللهم انصُر المُستضعَفين من المؤمنين في كل مكانٍ، اللهم كُن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، اللهم عجِّل لهم بالفرَج والنَّصر يا قوي يا عزيز، اللهم وأدِر دوائرَ السَّوء على عدوِّك وعدوِّهم.
اللهم اجمع كلمةَ المُسلمين على الحقِّ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ومُنَّ عليه بالعافية والشفاء يا رب العالمين، ووفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك، وتحكيمِ شرعك.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 03-05-2013 11:37 AM

الجنة ونعيمها
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 5 ربيع الثاني 1434هـ بعنوان: "الجنة ونعيمها"، والتي تحدَّث فيها عن الجنة وعدَّد بعضًا من صفاتِها؛ فبيَّن أن الله خلقَها بيدِه، وجعلها دارًا لأوليائِه، ومقرًّا لأصفيائِه، وحثَّ على عدم التفريطِ في هذا النعيم المُقيم وإيثارِ الدنيا الفانِية على الآخرة الباقِية.

الخطبة الأولى
الحمد لله، آوَى من إلى لُطفه أوَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له داوى بإنعامِه من يئِسَ من أسقامِه الدوا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه القائلُ: «كلُّ أمتي يدخُلون الجنةَ إلا من أبَى». قيل: ومن يأبَى يا رسول الله؟ قال: «من أطاعَني دخلَ الجنةَ، ومن عصانِي فقد أبَى»، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تبقَى وسلامًا يَتْرَى إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
خلقَ الله الجنةَ وجعلَها دارًا لأوليائِه، ومقرًّا لأصفيائه، وملأها من رحمته وكرامته ورِضوانِه، ورغَّبَ فيها، ودعا إليها، وسمَّاها دارَ السلام، دارٌ لا ينفَدُ نعيمُها ولا يَبِيد، دارٌ فيها من كل خيرٍ مَزيد، قد تشوَّقَت لطالِبِيها، وتزَيَّنَت لمُريدِيها، ونطقَت أدلَّةُ الكتاب والسُّنَّة بوصفِ ما فيها.
فيا سعادةَ ساكنِيها، ويا فوزَ وارِثِيها.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: أعددتُ لعبادي لصالحِين ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سمِعَت، ولا خطَر على قلبِ بشر»؛ متفق عليه.
دارٌ أشرقَ بهاؤُها، وطابَ فِناؤُها، وعظُم بناؤُها، بناؤُها لبِنَةُ ذهبٍ ولبِنَةُ فِضَّة، ومِلاطُها المِسكُ الأذفَر، وحَصباؤُها اللُّؤلؤُ والجوهَر، وترابُها الزَّعفَران، من يدخلُها ينعَمُ ولا يبأَس، ويخلُدُ ولا يموت، لا تبلَى ثِيابُه، ولا يفنَى شبابُه.
وأولُ من يقرعُ بابَ الجنة هو نبيُّنا وسيِّدُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فيقول له الخازِنُ: من أنت؟ فيقول: «محمد». فيقول: أُمِرتُ ألا أفتحَ لأحدٍ قبلَكَ. صلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ.
وللجنةِ ثمانيةُ أبوبا، وإن ما بين المِصراعَين من مصارِيع الجنَّةِ لكما بين مكَّة وهجَر، أو مكَّة وبُصْرَى.
وأولُ زُمرةٍ يدخُلون الجنةَ على صُورة القَمر ليلة البدر، والذين يلُونَهم على أشدِّ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السماء إضاءَةً، لا يبُولون ولا يتغوَّطُون ولا يمتخِطون ولا يتفِلُون، أمشاطُهم الذهب، ورشحهُم المِسك، ومجامِرُهم الأُلُوَّة، لا اختلافَ بينهم ولا تباغُض، على قلبِ رجلٍ واحدٍ، على صورةِ أبِيهم آدم ستون ذِراعًا في السماء في عرض سبعة أذرُع، يُسبِّحون اللهَ بُكرةً وعشِيًّا.
يدخلُ أهلُ الجنةِ الجنةَ جُردًا مُردًا، بيضًا جِعادًا، مُكحَّلين أبناءَ ثلاثٍ وثلاثين، قد أشرقَ على وجوهِهم السَّناءُ والضياءُ، والجمالُ والبَهاءُ، تعرِفُ في وجوهِهم نضرةَ النَّعيم، يُنادَون: إن لكم أن تحيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تصِحُّوا فلا تسقَموا أبدًا، وإن لكم أن تشِبُّوا فلا تهرَموا أبدًا، وإن لكم أن تنعَموا فلا تبأسُوا أبدًا، ولهم فيها من كل الثَّمرات. ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطَّلَع فبدَا سِوارُه لطمَسَ ضوءَ الشمسِ كما تطمِسُ الشمسُ ضوءَ النجوم.
وإذا سألتُم اللهَ فاسألُوه الفِردوسَ؛ فإنه وسطُ الجنة، وأعلى الجنة، وفوقَه عرشُ الرحمن، ومنه تُفجَّرُ أنهارُ الجنة، وأعظمُ الأنهار وأحلاها وأحسنُها نهرُ الكوثر، جعلَه الله مكرمةً لنبيِّنا وسيِّدنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، حافَّتاه قِبابُ اللُّؤلؤ المُجوَّف، وتربتُها مِسكةٌ ذفِرَة، وحَصباؤُه اللُّؤلؤ، ماؤُه أبيضُ من اللبن، وأحلى من العسل، آنيتُه كعَدَد النُّجوم، ترِدُه طيرٌ أعناقُها مثلُ أعناقِ الجُزُر.
وحوضُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أرض الموقف، عرضُه مثلُ طولِه ما بين ناحِيَتيه مسيرةُ شهرٍ، أو كما بين صنعاء والمدينة، يشخُبُ فيه مِيزابان من الجنة، يرِدُه أهلُ الإيمان، من شرِبَ منه لم يظمَأْ بعدَه أبدًا، وليُذادَنَّ عنه أُناسٌ غيَّرُوا وبدَّلوا وأحدَثُوا.
وأدنَى أهل الجنة منزلةً رجلٌ يجِيءُ بعد ما أُدخِل أهلُ الجنةِ الجنة، فيُقال له: ادخُل الجنة. فيقولُ: أيْ ربِّ! كيف وقد نزل الناسُ منازِلَهم، وأخَذوا أخذَاتهم؟! فيُقال له: أترَى أن يكون لك مثلُ مُلك ملِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضِيتُ ربِّ. فيقول: لك ذلك، ومثلُه، ومثلُه، ومثلُه، ومثلُه، فيقول في الخامِسَة: رضِيتُ ربِّ. فيقول: هذا لكَ وعشرةُ أمثالِه، ولك ما اشتهَت نفسُك ولذَّت عينُك. فيقول: رضِيتُ ربِّ.
وأما أعلاهُم منزلةً فيقول الله فيهم: أولئك الذين أردتُّ، غرستُ كرامتَهم بيدي، وختَمتُ عليها، فلم ترَ عينٌ، ولم تسمَع أُذنٌ، ولم يخطُر على قلب بشرٍ.
وإن في الجنة لشجرةٌ يسيرُ الراكبُ في ظلِّها مائةَ سنةٍ ما يقطعُها، وإن للمؤمن في الجنة لخَيمة من لُؤلؤةٍ واحدةٍ مُجوَّفة، طولُها في السماء ستُّون ميلاً، للمؤمن فيها أهلُون، يطُوفُ عليهم المُؤمنُ فلا يرَى بعضُهم بعضًا.
ولو أن امرأةً من أهل الجنةِ اطَّلَع على أهل الأرض لأضاءَت ما بينهما، ولملأَتْه رِيحًا، ولنَصِيفُها على رأسِها - يعني: خِمارَها - خيرٌ من الدنيا وما فيها، وما في الجنة أعزب.
وإن الله - عز وجل - يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبَّيك ربَّنا وسعدَيك، والخيرُ في يدَيك. فيقول: هل رضِيتُم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضَى يا ربَّنا، وقد أعطَيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا من خلقِك. فيقول: ألا أُعطِيكم أفضلَ من ذلك؟ فيقولون: وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رِضوانِي فلا أسخَطُ عليكم بعدَه أبدًا.
فما أعظمَ هذا النعيم! وما أجلَّ هذا التكريم!
وإن العطاءَ الأعظم، والنعيمَ الأكبر الذي يتضاءَلُ أمامَه كلُّ نعيمٍ هو النَّظرُ إلى وجهِ الله الكريم؛ فعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظرَ إلى القمر ليلةَ البدر، وقال: «إنكم سترَون ربَّكم عِيانًا كما ترَون هذا القمرَ، لا تُضامُون في رُؤيتِه»؛ متفق عليه.
وما بين القوم وبين أن ينظُروا إلى ربِّهم إلى رِداءُ الكِبرياء على وجهه في جنَّة عدنٍ، ويُنادِي مُنادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعِدًا يُريد أن يُنجِزَكمُوه. فيقولون: ما هو؟ ألم يُثقِّل موازِينَنا، ويُبيِّض وجوهَنا، ويُدخِلنا الجنة، ويُزحزِحنا عن النار؟! فيكشِفُ الحِجاب، فينظرُون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه.
الله أكبر، الله أكبر، أنعمَ عليهم وأفاد، وأعطاهم مُناهم وزاد.
جعلَني الله وإياكم من أهل السعادة، ورزَقَنا الحُسنى وزيادة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا يُوافِي نعمَاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معبُود بحقٍّ سِواه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه ومُصطفاه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا دائِمَين مُمتدَّين إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
تلك بعضُ أوصافِ الجنة ونعيمِها؛ فكيف يُفرِّطُ في هذا النعيمِ المُفرِّطُ لأجل دُنيا دنِيَّة قد أفِدَ منها الترحُّل، وأزِفَ عنها التزيُّل؟! ولم يبقَ منها إلا حمأةُ شرٍّ، وصُبابَةُ كَدَر، وأهاوِيلُ عِبَر، وعقوباتٌ غُبُر، وأرسانُ فِتن، وتتابُع زعازِع، وتفريطُ خلَف، وقِلَّةُ أعوان في عيشٍ مشُوبٍ بالنَّغَص، ممزوجٍ بالغُصَص.
فالحَذَر الحَذَر - يا عباد الله -، فالموتُ معقودٌ بنواصِيكم، والدنيا تُطوَى من ورائِكم، ورُبَّ جِراحةٍ قتلَت، ورُبَّ عثرةٍ أهلَكَت، ومن خافَ أدلجَ، ومن أدلجَ بلغَ المنزِلَ، ألا إن سِلعةَ الله غاليةٌ، ألا إن سِلعةَ الله غاليةٌ، ألا إن سِلعةَ الله غاليةٌ، ألا إن سِلعةَ الله الجنة.
وصلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنَّة المُتَّبعة: أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين يا رب العالمين.
اللهم انصُر أهلَنا في الشام، اللهم انصُر أهلَنا في الشام، اللهم انصُر أهلَنا في الشام، اللهم عجِّل بنصرِهم وفرَجِهم يا كريمُ يا سميعَ الدعاء، اللهم عجِّل بفرَجهم ونصرِهم يا سميعَ الدعاء، اللهم عجِّل بنصرِهم وفرَجهم يا سميعَ الدعاء.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعِزَّها واستِقرارَها.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، ووفِّق جميعَ ولاة أمور المُسلمين لتحكيم شرعِك، واتِّباع سُنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم مُنَّ على جميع أوطان المُسلمين بالأمن والاستقرار والرخاء والوحدة يا كريمُ يا رب العالمين، اللهم اكفِهم شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار يا قويُّ يا عزيز، يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحم موتانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على من عادانا.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين برحمتِك يا أرحم الراحمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.

ابوحاتم 03-05-2013 11:39 AM

الإكثار من عمل الخير

ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة 12 ربيع الثاني 1434هـ بعنوان: "الإكثار من عمل الخير"، والتي تحدَّث فيها عن أعمال الخير وفضل الإكثار منها، وعدَّد بعضَ الأمثلة على ذلك من سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، ذي المُلك الذي يُرام، والعزة التي لا تُضام، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القدوسُ السلام، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ بالهُدى ودين الحقِّ، فمحَا الله به الشرك والضلال، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى بالتقرُّب إليه بما شرَع، ومُجانبَة المُحرَّمات والبِدع؛ فقد أفلحَ من استقامَ على الصراط المُستقيم، وفازَ بجنَّات النعيم.
أيها الناس:
حاسِبوا أنفسَكم قبل الحساب؛ لتكثُر حسناتُكم وتقلَّ سيئاتُكم، وأنتم في فُسحةٍ من الأجل، وتمكُّنٍ من العمل، ولن يضُرَّ عبدًا دخل عليه النقصُ في دُنياه، وسلِمَ له دينُه، وعظُمَ أجرُه في أُخراه؛ إذ الدنيا متاع، وما قدَّره الله للإنسان من الرزق مع العمل الصالح فهو رزقٌ مُبارَك، ولا خيرَ في رزقٍ ودُنيا لا دينَ معها يرضَى الله به عن العبد.
وقد تكفَّل الله بالرزق لعِظَم شأن العبادة؛ إذ عليها مدارُ السعادة، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات: 56- 58].
وفعلُ الأسباب المُباحة لاكتِساب الرزقِ الحلالِ مما شرَعَه الإسلام، ولكنَّ ربَّنا الرحمنَ الرحيمَ الحكيمَ العليمَ، ذا المجد والكرَم، وهَّابَ النعم أرشدَنا إلى أن يكون همُّ المُسلم الأعظم هو الأعمالَ الصالحات التي رحمُه الله بها ويُدخِلُه الجنة، ويُنجِّيه من النار، قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس: 25]، وقال تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ[البقرة: 221]، وقال – تبارك وتعالى -: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[آل عمران: 185].
وكان من دُعاء نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم – فيما روى ابنُ عمر -: «اللهم لا تجعَل مُصيبَتَنا في ديننا، ولا تجعَل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلغَ علمِنا»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ".
وفي الحديث: «من أصبحَ والآخرة همُّه جمعَ الله شملَه، وجعلَ غِناه في قلبه، وأتَتْه الدنيا وهي راغِمة، ومن أصبحَ والدنيا همُّه شتَّت الله شملَه، وأفشَى ضيعتَه، وجعلَ فقرَه بين عينَيْه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كُتِب له».
وقد وصفَ الله لنا في كتابه نعيمَ الجنات بما لا مزيدَ عليه في كُتب الله المُتقدِّمة، ووصفَ لنا رسولُنا - صلى الله عليه وسلم – ذلك النعيمَ المُقيمَ بما لم يصِفه نبيٌّ قبلَه، وكذلك وصفُ النار وعذابِها الأبَديِّ، كأنَّ الجنة والنار رأي العَين؛ ليتسابَقَ المُتسابِقون، ولينزجِرَ عن المعاصِي الغافِلون الجاهِلون.
وبيَّن الله - سبحانه – لنا الأعمالَ التي تُدخِلُ الجنات، وبيَّنها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم – إجمالاً وتفصيلاً.
فأعظمُ ما يُدخِلُ الجنات العُلَى: توحيدُ الله – عز وجل – بأن لا يُشرِكَ المُكلَّفُ بالله شيئًا في أي عبادةٍ، وإقام الصلاة، والزكاة، واجتِناب المظالِم، وأداء الحُقوق لأهلِها.
عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: «من عبَدَ الله لا يُشرِكُ به، وأقامَ الصلاة، وآتَى الزكاة، وصامَ رمضان، واجتنَبَ الكبائرَ؛ دخل الجنة»؛ رواه أحمد، والنسائي، وإسناده صحيح.
والاستِكثارُ من فضائل الأعمال والمُستحبَّات من الخيرات بعد القيام بالواجِبات، وترك المُحرَّمات، مما يرفعُ الله به للعبد الدرجات، وينالُ به الخيرات، ويُكفِّرُ به السيئات، قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا[النساء: 31].
ولا تزهدَنَّ – أيها المسلم – في أي حسنةٍ صغيرةٍ كانت أو كبيرةٍ، ولا تحقِرَنَّ من فعل الخير والقُرُبات شيئًا، فما تدري أيّ حسنةٍ يثقُلُ بها ميزانُك، ويُغفَرُ بها ذنبُك؟!
وأبوابُ الخير كثيرة، والفضائل واسِعة، والحسناتُ مُتشعِّبة وافِرة، فاحرِص عليها زادًا لأُخراك، وعُمرانًا لدارِك دار القرار؛ فمنها:
الأذكار المُستحبَّةُ بعد الصلوات؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سبَّح دُبُر كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، وحمِدَ ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر ثلاثًا وثلاثين، وختَمَ المائةَ بـ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيء قدير؛ غُفِرَت ذنوبُه ولو كانت مثلَ زبَدِ البَحر»؛ رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه – عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: «من قرأَ آيةَ الكُرسيِّ دُبُر كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنَعه من دخول الجنة إلا أن يموت». وفي روايةٍ: «وقل هو الله أحد»؛ رواه النسائي، والطبراني، وابن حبان.
والأذكارُ في الصلاة وبعدها مُباركةُ المنافع، فالمسلمُ يحرِصُ ويتعلَّم ويعمل، والله قد ضمِنَ له أعظمَ الأجر.
ومما رغَّبَ فيه الله ورسولُه: التطوُّع بجنسِ الفرائض والواجبات؛ فإن العبدَ إذا حاسبَه الله على الفرائض والواجِبات، ووُجِد فيها النقص، قال الله تعالى: «انظُروا هل لعبدي من تطوُّعٍ تُكمِلون به الفريضة؟» فيلتمِسون أعمالَ التطوُّع لإكمال الواجِبات؛ كالوِتر، والراتِبة، ونوافِل الصلاة، والصدقات مع الزكاة، وصيامِ النوافِل مع رمضان، وتطوُّع الحجِّ مع العُمرة، والخُلُق الحسن إذا ضعُف عن بعضِ العمل.
فيا فوزَ من استكثَرَ من فضائل الأعمال المُستحبَّات، ويا خسارةَ من فاتَه الكثيرُ من نوافِل الطاعات، فنقَصَت في حقِّه الدرجات.
واستمِعوا فضلَ عملٍ قليلٍ عليه ثوابٌ جليلٌ: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صيامُ يوم تطوُّع، وصدقةٌ على مِسكين، واتِّباعُ جنازة، وعيادةُ مريضٍ، ما اجتمَعن لرجُلٍ مُسلمٍ في يومٍ إلا دخلَ الجنة»؛ رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
والذِّكرُ بابٌ عظيمٌ من أبوابِ الجنة، يجلُو صدأَ القلوب، ويغفرُ الذنوب، ويُفرِّجُ الله به الكُروب؛ عن ابن عباس - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُخبِرُكم بأفضل أعمالِكم، وأزكاهَا عند مليكِكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهبِ والوَرِق، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم، ويضرِبوا أعناقَكم؟». قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «ذكرُ الله»؛ رواه الحاكم، وقال: "صحيحُ الإسناد".
وعن عبد الله بن بُسْرٍ - رضي الله عنه – قال: قلتُ: يا رسول الله! إن شرائِعَ الإسلام قد كثُرت، فبابٌ نتمسَّكُ به جامعٌ؟ قال: «لا يزالُ لِسانُك رطبًا من ذكرِ الله»؛ رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يُصبِح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيء قدير مائةَ مرة؛ كتبَ الله له بها مائةَ حسنة، ومحَا عنه مائةَ سيئة، وكانت كعِدلِ عشر رِقابٍ، وكانت حِرزًا له من الشيطان يومَه ذاك»؛ رواه البخاري ومسلم.
«ومن قال: سبحان الله وبحمده مائةَ مرة في أول يومِه، ومائةَ مرة أول ليلته؛ لم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجلٌ عمِلَ مثلَ عمله، أو زادَ»؛ رواه مسلم.
والأذكارُ في أول النهار وفي إقبال الليل، الوارِدةُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم – مُباركةٌ، جمَعَت كلَّ الخيرات؛ ففيها الأجورُ العظيمة، والمنافعُ التي لا تُحصَى، وحِرزٌ للعبد من شياطين الإنس والجنِّ.
ومن أحسن الكُتب التي جمعَتها: "تحفةُ الذاكِرين شرحُ الحِصن الحَصين".
وجامِعُ خيرَي الدنيا والآخرة: الدعاء؛ عن أنس - رضي الله عنه – عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: «الدعاءُ مُخُّ العبادة»؛ رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: «ليس شيءٌ أكرمُ على الله من الدعاء»؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وهو صحيحُ الإسناد.
لأن الدعاءَ يعتمِدُ القلبُ فيه على الله، ويتعلَّقُ به، ويتوكَّلُ عليه، ولا يلتفِتُ لغيره؛ فمن لزِمَ دعاءَ ربِّه وحدَه قُضِيَت حاجاتُه، وحسُنَت عاقِبَتُه، وصحَّت دِيانتُه، ومن دعا غيرَ الله تعالى خابَ وخَسِرَ، وخُذِلَ، وحُرِم قضاء الحاجات، واقترفَ الشركَ الأكبر.
والصلاةُ والسلام على سيِّدنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم – يُغفرُ بها الذنب، ويكفِي الله بها العبدَ ما أهمَّه، ويُصلِّي الله بها عشرًا على قائلِها؛ عن ابن مسعود - رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: «أولَى الناسِ بي يوم القيامة: أكثرُهم عليَّ الصلاة»؛ رواه الترمذي، والنسائي، وابن حبان، وصحَّحه.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الحج: 77].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيِّد المُرسَلين وقولِه القَويم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيمَ لي ولكم وللمسلمين؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، غافر الذنوب، ويكشِف الكُروب، ويستُر العيوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له علاَّم الغيوب، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه هدَى الله به من الضلال، وبصَّر به من العَمَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أولِي البرِّ والتُّقَى.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى.
عباد الله:
وكما أن للجنة أعمالاً مُبارَكة يُحبُّها الله ويرضَاها، فكذلك للنار أعمالاً يُبغِضُها الله ويكرَهُها، ويُعاقِبُ عليها.
وأكبرُ الأعمال المُوجِبَة للنار: أنواعُ الشرك الأكبر، وترك الصلاة، ثم الكبائر، قال الله تعالى عن أهل النار: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ[المدثر: 42- 47].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم ومُحقِّرات الذنوب؛ فإنهنَّ يجتمِعنَ على الرجلِ حتى يُهلِكنَه».
ومثَلُ ذلك كمثَل قومٍ حضَرَ صنيعُهم، فجمعَ هذا عودًا، وهذا جمع عودَين، وهذا أتَى بِبعْرة، فجمَعوا كثيرًا، ثم أوقَدوا نارَهم فأنضَجوا طعامَهم.
وسيئاتُ اللسان من أعظم الخطَر على الإنسان؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوهِهم إلا حصائِدُ ألسِنَتهم؟!»؛ رواه الترمذي من حديث مُعاذ - رضي الله تعالى عنه -.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلُّوا وسلِّموا على سيدِ الأولين والآخرين وإمام المُرسلين، اللهم صلِّ على محمدٍ وأزواجه وذريته وأهل بيته، كما صلَّيتَ على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذِلَّ الكفرَ والكافرين، اللهم دمِّر أعداءَك أعداءَ الدين يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
يا حي يا قيوم، برحمتك نستغيث، أصلِح لنا شأنَنا كلَّه، اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلمُ به منَّا، أنت المُقدِّمُ وأنت المُؤخِّرُ، لا إله إلا أنت.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أعِذنا من شرور أنفسِنا، وأعِذنا من شرِّ كل ذي شرٍّ يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك في كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك، اللهم أبطِل كيدَ أعداء الإسلام يا رب العالمين، اللهم أبطِل مُخطَّطات أعداء الإسلام التي يكِيدون بها للإسلام والمُسلمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصُر المُسلمين في الشام، اللهم ارفع ما بهم من البلاء، اللهم اكشِف ما بهم من الضُّر، اللهم اكشِف ما نزلَ بهم من اللأواء والشدائد يا رب العالمين، إنك أنت رحمنُ الدنيا والآخرة.
اللهم أنزِل بأسَك على من ظلمَهم، وعلى من اضطَهدهم، وعلى من تسلَّط عليهم بغير حقٍّ يا رب العالمين، اللهم عليك بمن آذَى المُسلمين في الشام، اللهم عليك يا رب العالمين بمن ظلَمَ المُسلمين يا رب العالمين وآذاهم في دينهم في أي مكانٍ كانوا يا رب العالمين، اكفِ المُسلمين شرَّ الأشرار.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام اللهم إنا نسألُك أن تُغيثَنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا مُغيثًا هنيئًا مريئًا، اللهم سُقيا رحمة لا سُقيا عذاب ولا هدمٍ ولا غرق يا أرحم الراحمين، إن بالبلاد والعباد من اللأواء والشدَّة ما لا يكشِفه غيرُك فأنزِل علينا الغيثَ يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاةَ أمورنا.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، اللهم يا ذا الجلال والإكرام وانفَع به الإسلام والمسلمين، وانصُر به الإسلام والمُسلمين، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم وفِّق نائِبَه وليَّ عهده لما تحبُّ وترضى، ولما فيه نُصرة الإسلام والمُسلمين يا رب العالمين.
ربَّنا اغفر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمرنا يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
اللهم اغفر للمُسلمين الميتين يا رب العالمين، اللهم اغفر للمُسلمين والمُسلِمات، إنك على كل شيء قدير.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 03-05-2013 11:42 AM

وسائل نصرة دين الله
ألقى فضيلة الشيخ عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "وسائل نصرة دين الله"، والتي تحدَّث فيها عن نُصرة الدين وعِظَم فضله وجليل مرتبته، وبيَّن أن نُصرة الدين لها صورٌ عديدة ووسائل كثيرة؛ منها: نشرُ الدين والحِرصُ عليه، وبيان محاسنِه، ونشر سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والدفاع عنه، ونُصرة المظلومين بما يستطيعه المرء، وحثَّ على الإكثار من الدعاء، وأنه من أنفع وسائل نُصرة المظلوم.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي دعا إلى القوة والنُّصرة، أحمده - سبحانه - وأشكرُه على نعمة الهداية التي أخرجَنا بها من النور إلى الظُّلمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزلَ القرآن الذي عصَمَنا به من التفرُّق وأحلَّ به المحبَّةَ والأُلفَة، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه خيرُ رسولٍ وأُسوة، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين طهَّر الله بهم الأرضَ من أهل البغيِ والطُّغْمة.
أما بعد:
فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
حين تُقلِّبُ ناظِرَيك في الأحداث التي تتكالَبُ اليوم تُبصِرُ مظاهرَ المُدافَعة أو الصِّراع بين الخير والشرِّ، هذه السُّنَّة التي لا يُمكنُ أن تخلُو الحياةُ البشريَّةُ منها بحالٍ من الأحوال؛ سبٌّ للذَّات الإلهيَّة، استِهزاءٌ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، امتِهانٌ للمُصحف، سُخريةٌ بالقرآن، انتِهاكٌ للمُقدَّسات.
ومن المظاهر: الحربُ الشَّرِسةُ على بلاد الإسلام، وما ينجُمُ عنها من قتلٍ وتشرُّدٍ، وآلامٍ، ويُتمٍ، وفقرٍ، وجوعٍ، وغرقٍ، وفي خِضَمِّ ذلك كلِّه يتساءَلُ المُسلمُ الصادقُ عن دورِه وموقفِه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ[الصف: 14].
النُّصرةُ فريضةٌ دينيَّةٌ، نُصرةُ الله، نُصرةُ كتابه، نُصرةُ دينِه ورسولِه، نُصرةُ المظلومين، نُصرةُ الأيتام والفُقراء، قال الله تعالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ[الأنفال: 72].
وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «انصُر أخاكَ ظالِمًا أو مظلومًا».
تكونُ نُصرةُ الدين بنشره ورِفعتِه، وأن نكون حُماةً له، مع التمسُّك بأحكامه، وتطبيقِ أوامِره ونواهِيه، وبيان محاسِنِه، وأنه سبيلُ السعادة في الدنيا والآخرة.
نُصرةُ الدين مرتبةٌ عُليا وهدفٌ أسمَى، وعزٌّ وتمكين، وهي ميدانٌ فَسيح لكل مسلمٍ ومُسلمة، أساسُ نُصرة الدين هجرُ الذنوبِ والصِّدقُ مع الله - تبارك وتعالى -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما ينصُرُ اللهُ هذه الأمة بضعيفِها، بدعوتِهم وصلاتِهم وإخلاصِهم».
ثم لا تحقِرنَّ من المعروف شيئًا لنُصرة دينِك، وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّبُ في الجنةِ في شجرةٍ قطعَها من ظهر الطريقِ كانت تُؤذِي الناس».
لقد سخَّر الصحابةُ إمكاناتهم وقُدراتِهم لخدمة الدين؛ فبلالُ بن أبي رباحٍ خدمَ الدينَ بصوتِه الشجِيِّ مُؤذِّنًا. وزيدُ بن ثابتٍ حفِظَ الوحيَ بكتابتِه. وخالدُ بن الوليد يقودُ الجيوشَ، سيفٌ من سُيوف الله المُسلول. وحسَّانُ بن ثابتٍ يُنافِحُ عن الدين وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ميدان الإعلام. وعثمانُ بن عفَّان يُسخِّرُ مالَه لخدمة الدين، يحفِرُ بئرًا، ويُجهِّزُ جيشَ العُسرة، ويُواسِي الفُقراء. ومُصعبُ بن عُميرٍ إمامُ الدعوة إلى الله في المدينة. أما أبو بكرٍ وعمر فهما أعمدةُ النُّصرة وأركانُ الدولة - رضي الله عنهم أجمعين -.
إن الوسائلَ التي ننصُرُ بها الدين لا حصرَ لها، وهي تَسَعُ الجميعَ؛ فمن شاركَ في نُصرة الدين ولو باليسير نالَ الأجرَ الجزيلَ، كما جاء في الحديث: «إن اللهَ ليُدخِلُ بالسَّهم الواحِد ثلاثةً الجنة؛ صانِعَه يحتسِبُ في صنعَته الخيرَ، والرامِي به، والمُمِدَّ به».
ومن صدَقَ مع الله لنُصرة دينِه كتبَ الله أجرَه ولو حِيلَ بينَه وبين العمل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الدُّنيا لأربعة نفَر: عبدٍ رزقَه الله مالاً فهو يتَّقِي فيه ربَّه، ويصِلُ فيه رحِمَه، ويعلمُ لله فيها حقًّا؛ فهذا بأفضل المنازِل. وعبدٍ رزقَه الله علمًا ولم يرزُقه علمًا، فهو صادقُ النيَّة، يقول: لو أن لي مالاً لعمِلتُ بعملِ فلانٍ، فهو بنيَّته، فأجرُهما سواء ..».
والنُّصرةُ - عباد الله - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[الأعراف: 157].
ومن أعظم وسائلِ النُّصرة لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: نشرُ سُنَّته، وطاعتُه، والحِرصُ على الاقتِداءِ به، قال الله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء: 65].
ومن نُصرته: محبَّةُ آل بيته، محبَّةُ أصحابِه وتوقيرُهم، واعتِقادُ فضلِهم، وتربيةُ الأبناء على محبَّته، وبيانُ خصائصِ دعوته، ودحرُ الشُّبُهات والأباطِيل التي تُثارُ حولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرتِه، وترجمتُها إلى اللُّغات الأخرى.
والنُّصرةُ للمظلومين في أصقاع الأرض، المظلومُ له حقُّ النُّصرة حتى يأخُذَ حقَّه، والأخذُ على يدِ الظالِمِ حتى يكُفَّ عن تعدِّيه؛ فكم في المُسلمين من ذوِي حاجةٍ، وأصحابِ هُموم، وصَرعَى مظالِم، وجرحَى قلوب، والظالمُ والمُعينُ على الظُّلم والمُحبُّ له سواء.
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من التنصُّل عن نُصرة المُسلمين: «المُسلمُ أخو المُسلم؛ لا يظلِمه، ولا يُسلِمه».
لا يُسلِمُه في مُصيبةٍ نزلَت به، ولا يتركُه ولا يتخلَّى عنه، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ[الأنفال: 73]؛ أي: أن الكفارَ ينصُرُ بعضُهم بعضًا، وأنتم - أيها المسلمون - إن لم تتناصَروا تكُن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير.
نُصرةُ المظلومين - إخوة الإسلام - بمُسانَدتهم بالقول والعمل، تتأكَّدُ النُّصرةُ للمظلومين في الشام وبُورما وغيرها، ونحن نسمعُ أنينَهم، وتطرقُ آذانَنا صرخاتُ استِغاثتهم، ونُبصِرُ دماءَهم تنزِف، وأشلاءَهم تتناثَر، جرائِمُ بشِعة، وإبادةٌ جماعيَّة، لم يعرِف التاريخُ لها مثيلاً؛ أحرَقَت الأجساد، وأدمَت القلوب، وشرَّدَت الآلاف، وأفزَعَت وقتَلَت الأطفال، ودمَّرَت المُمتلكات، وأهلَكَت الأخضرَ واليابِسَ.
فيا عجبًا من عالَمٍ ماتَ ضميرُه حين أدارَ ظهرَه لهذا الظُّلم وهذه المآسِي!
ومن النُّصرة - عباد الله -: حثُّ المُسلمين على الإنفاق؛ فيُواسِي المُسلِمُ إخوانَه بمالِه، ويبسُطُ يدَه بالبَذل والعَطاء، يُطعِمُ الجائِعَ، ويفُكُّ الأسيرَ، ويُداوِي المريضَ.
والإعلامُ - عباد الله - له رسالةٌ فاعِلةٌ في النُّصرة، يُذكِّرُ المُسلمين بالله، ويُقوِّي إيمانَه، يُجلِّي للأمة واقِعَها، يرفعُ المعنويَّات، يشحَذُ الهِمَّة.
رسالةُ الإعلام: التعريفُ بقضايا المُسلمين المهضُومة؛ لإحقاقِ الحقِّ وإزهاقِ الباطِل، تقول عائشة - رضي الله عنها - فيما رواه مُسلم -: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسَّان - رضي الله عنه -: «إن روحَ القُدُس لا يزالُ يُؤيِّدُك ما نافَحتَ عن الله ورسولِه».
فمن نافَحَ عن الله ورسولِه أيَّدَه الله وأعزَّه.
ومن النُّصرة - عباد الله -: النُّصرةُ بالدعاء، وهي من أهم وسائلِ النُّصرة وأنفعِها وأقواها، ولا يُعذرُ مُسلمٌ بتركِها، وهي وسيلةٌ مُؤثِّرةٌ ولا غِنَى عنها، أشارَ القرآنُ الكريمُ إلى أثرِها، قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ[القمر: 9- 12].
وكان رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يدعُو في القُنوت على من اضطَهَد المُسلمين وآذاهم بأسمائِهم وأشخاصِهم.
مهما اشتدَّت الخُطوبُ وادلهَمَّت الأحداث، فلا ملجَأَ لنا إلا الله، لا يكشِفُ الكربَ والضُّرَّ إلا الله، قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا[الإسراء: 56].
مهما كادَ الكائِدون، ومكَرَ أهلُ الشرِّ والبَغي، وخطَّطَ المُتربِّصُون؛ فإن المُستقبَلَ لهذا الدين، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «بشِّر هذه الأمةَ بالسَّنَاءِ والرِّفعَةِ والنُّصرةِ والتمكينِ في الأرض»، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[التوبة: 32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الفضلِ العظيم، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه وهو الحكيمُ العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ بالهُدى والنور المُبين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين.

أما بعد:
فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
نُصرةُ المُسلمين المظلومين نجاةٌ للأنفُس، وحمايةٌ للأوطان، وتثبيتٌ للأركان، وسببٌ لمعونة الله وحِفظِه، تحِلُّ بها رحمتُه في البلاد والعباد، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد: 7].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ومن فرَّجَ عن مُسلمٍ كُربةً فرَّجَ الله عنه بها كُربةً من كُرَب يوم القيامة، واللهُ في عون العبدِ ما كان العبدُ في عون أخيه، والرَّاحِمون يرحمُهم الرحمن». وهذا الجزاءُ من جنسِ العمل.
النُّصرةُ من أحبِّ الأعمال إلى الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله سُرورٌ تُدخِلُه على مُسلمٍ، أو تكشِفُ عنه كُربةً، أو تطرُدُ عنه جوعًا، أو تقضِي عنه دَينًا».
ألا وصلُّوا - عباد الله - على رسولِ الهُدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وأزواجه وذرِّيَّته كما صلَّيتَ على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك اللهم على محمدٍ وأزواجه وذرِّيَّته كما بارَكتَ على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآل والصحبِ الكرام، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك وإحسانِك يا أرحمَ الراحِمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، وأذِلَّ الشِّركَ والمُشركين، ودمِّر اللهم أعداءَك أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلَدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم من أرادَنا وأرادَ بلادَنا وبلادَ المُسلمين بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، واجعَل تدبيرَه تدميرَه يا سميع الدعاء.
اللهم احفَظ وانصُر إخوانَنا في الشام، اللهم احفَظ إخوانَنا في بُورما والشام، اللهم انصُرهم بنصرِك، وأيِّدهم بتأييدك يا رب العالمين، اللهم كُن لهم مُؤيِّدًا ونصيرًا وظهيرًا يا رب العالمين.
اللهم ألِّف بين قلوبِهم، ووحِّد صفوفَهم، واجمَع كلمتَهم يا قوي يا عزيز، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إنا نسألُك الجنةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ، ونعوذُ بك من النار وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ يا رب العالمين.
اللهم أعِنَّا ولا تُعِن علينا، وانصُرنا ولا تنصُر علينا، وامكُر لنا ولا تمكُر علينا، واهدِنا ويسِّر الهُدى لنا، وانصُرنا على من بغَى علينا.
اللهم اجعَلنا لك ذاكِرين، لك شاكِرين، لك مُخبِتين، لك أوَّاهِين مُنيبين.
اللهم تقبَّل توبتَنا، واغسِل حوبتَنا، وثبِّت حُجَّتَنا، واسلُل سخيمَةَ قلوبِنا يا رب العالمين، اللهم إنا نسألُك الهُدى والتُّقَى والعفافَ والغِنَى.
اللهم ارحَم موتانا، واشفِ مرضانا، وفُكَّ أسرانا، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا لما تُحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك يا رب العالمين.
ووفِّق جميعَ وُلاة أمور المُسلمين للعمل بكتابِك، وتحكيم شرعِك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألُك يا الله بأسمائِك الحُسنى، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم سُقيا رحمةٍ، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ.
اللهم إنا نسألُك رِضوانَك والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطِك ومن النار.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنَعون.

ابوحاتم 03-18-2013 10:43 AM

شكر النعم
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 26 ربيع الثاني 1434هـ بعنوان: "من فقه العبد: شكر النعم"، والتي تحدَّث فيها عن نعمتَي السمع والبصر، وأنهما من أعظم النعم بعد الهداية إلى الطريق المُستقيم، وحثَّ على وجوب شُكر النعم لئلا تزول بالجُحود والنُّكران.

الخطبة الأولى
الحمد لله البرِّ الرؤوف الرحيم، أحمده - سبحانه - على نعمه وإحسانِه القديم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو الأولُ والآخرُ والظاهرُ والباطنُ وهو بكل شيءٍ عليم، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله الصادقُ المصدوقُ ذو الخُلُق العظيم، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبِه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[البقرة: 281].
أيها المسلمون:
صرفُ النعم فيما يُرضِي المُنعِم، والتقوِّي بها على طاعته، وتوجيهُها الوِجهةَ الصالحةَ، واستِعمالُها في كل خيرٍ عاجلٍ أو آجِلٍ آيةٌ بيِّنةٌ على سعادة المرء؛ إذ سلَكَ مسالِكَ أُولِي الألباب، واقتفَى أثرَ المُتقين الذين يبتغون الوسيلةَ بذِكره - سبحانه - وشُكرِه الذي أمرَهم به في قولِه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ[البقرة: 152].
وهو شكرٌ يبلغُ به صاحبُه المزيدَ الذي وعَدَ الله به عبادَه الشاكِرين بقوله: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم: 7].
ولئن تعدَّدَت نعمُ الله على عباده؛ فإن من أجلِّ هذه النِّعم - بعد نعمة الهداية إلى الإسلام - نعمة السمع والأبصار والأفئدة التي خصَّها الله بالذكرِ في قوله: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[النحل: 78].
وإنما خصَّها - سبحانه - بالذكر لشرفِها ومنزلتِها؛ إذ هي مفاتيحُ كلِّ علمٍ، وسببٌ مُوصِلٌ إلى الهداية إلى صراط الله المُستقيم، وسبيلٌ يُدرِكُ به المرءُ ما يرجوه ويُؤمِّلُه، ويُميِّزُ به بين ما يضُرُّه وما ينفعُه.
وقد قرَنَ - جل وعلا - هذه النعم بلُزوم شُكره عليها شُكرًا يتجاوَزُ التلفُّظَ به إلى استِعمالها في طاعته، وصرفِها إلى ما يحبُّه ويرضاه من الأقوال والأعمال، بأن يستعينَ العبدُ بكل عُضوٍ من أعضائِه، وبكل جارِحةٍ من جوارِحِه على طاعة خالقِه ومولاه، فتكون عاقِبةُ هذا الشُّكر العمليِّ أن تغدُو كلُّ أفعاله لله - عز وجل -، فلا يسمعُ إلا ما أحلَّ الله، ولا ينظُرُ إلا إلى ما أحلَّ الله، ولا يعتقِدُ إلا ما يرضاه - سبحانه -.
فيكونُ كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري - رحمه الله - في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضْتُ عليه، وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِلِ حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، وإن سألَني لأُعطِيَنَّه، وإن استعاذَني لأُعِيذَنَّه ..» الحديث.
وما أحسنَ هذه العاقبة، وما أعظمَ هذا الجزاء الضَّافِي، وما أجدرَه أن يكون مُبتغَى كل لبيبٍ ناصحٍ لنفسِه، مُريدٍ سعادتها وفلاحها، راغِبٍ في تزكِيَتها ونجاتها. وعلى العكس من ذلك: من استعملَ هذه النعمَ فيما يُسخِطُ ربَّه؛ فنظرَ إلى ما حرَّم الله، واستمعَ إلى ما لا يحِلُّ له، ومنه ما تبُثُّه قنواتٌ فضائيَّةٌ، أو تنشُرُه صحفٌ ومجلاَّت، أو تشتمل عليه أماكنُ، أو تُروِّجُ له مواقِع ومشاهِد؛ فإنه قابلَ النعمَ أقبحَ مُقابَلة، وكان ممن بدَّل نعمةَ الله كُفرًا، وآلاءَه جُحودًا؛ مُتناسِيًا أن العينين تزنِيَان وزِناهُما النظر، وأن الأُذنَين تزنِيَان وزِناهُما السماع.
كما أخبرَ بذلك الصادقُ المصدوقُ - صلوات الله وسلامه عليه - في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
فبذلك يكون قد باءَ بغضبٍ من الله، واستحقَّ من عاجلِ عقوبة المعصية - إذا أصرَّ عليها ولم يتُب منها - أنها تُوجِبُ القطيعةَ بين العبد وبين ربِّه - تبارك وتعالى -، كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "وإذا وقعَت القطيعةُ انقطَعت عنه أسبابُ الخير، واتَّصَلت به أسبابُ الشر؛ فأيُّ فلاحٍ وأيُّ رجاءٍ وأيُّ عيشٍ لمن انقطَعت عنه أسبابُ الخير، وقَطَع ما بينه وبين وليِّه ومولاه الذي لا غِنى له عنه طرفَة عينٍ، ولا بُدَّ له منه، ولا عِوَض له عنه، واتَّصَلت به أسبابُ الشر، ووصل ما بينه وبين أعدَى عدوٍّ له، فتولاَّه عدوُّه وتخلَّى عنه وليُّه، فلا تعلمُ نفسٌ ما في هذا الانقطاع والاتِّصال من أنواع الآلام وأنواع العذاب". وهذه من أعظم العقوبات.
ومنها: أنها تستدعِي نسيانَ الله لعبده، وتركَه، وتخلِيَته بينه وبين نفسِه وشيطانه، وهناك الهلاكُ الذي لا يُرجَى معه نجاة، وأنها تُزيلُ النِّعَم وتُحِلُّ النِّقَم؛ فما زالَت عن العبد نعمةٌ إلا بذنبٍ، ولا حلَّت به نقمةٌ إلا بذنبٍ.
وأنها تُمرِضُ القلبَ وتُضعِفُه، وتُعمِي البصيرة، وتُسقِطُ الكرامةَ، وتُصغِّرُ النفوس وتُدسِّيها وتُحقِّرُها، وتسلُبُ صاحبَها أسماءَ المدح والشرف، وتكسُوه أسماءَ الذمِّ والصَّغَار، وتجعلُه من السَّفَلة، وتمحَقُ البركةَ في العُمر والرِّزق والعمل. وهذا هو شأنُ المعاصِي كلِّها، وأثرُها في حياة العبد، وضررُها على دينِه ودُنياه.
فاتقوا الله - عباد الله -، واعمَلوا على شُكر نعمة الله عليكم، وخاصَّةً نعمتَيْ: السمع والبصر، باستِعمالهما في طاعة الله، تكونوا من الشاكرين حقًّا، الفائزين يوم الدين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن محقَ البركة في العُمر وفي الرِّزق، وفي العلم وفي العمل، وفي الدين والدنيا، هذا الذي يجِده كل عاصٍ لله، بصرفِ نعمِ الله عليه إلى ما يُسخِطُه، إنما كان ذلك - كما قال بعضُ أهل العلم -: "لأن الشيطان مُوكَّلٌ به وبأصحابه، فسُلطانُه عليهم، وحوالَتُه على هذا الديوان وأهلِه وأصحابِه، وكل شيءٍ يتَّصِل به الشيطانُ ويُقارِنُه فبركتُه ممحوقة".
ولهذا شُرِع ذكرُ اسم الله تعالى عند الأكل والشرب، واللبس، والركوب، ودخول الدار، وغيرها؛ لما في مُقارنة اسم الله من البركة، وذِكرُ اسمه يطرُدُ الشيطان فتحصُلُ البركة، وكلُّ شيءٍ لا يكونُ لله فبركتُه منزوعة؛ فإن الربَّ هو الذي يُبارِكُ وحدَه، والبركةُ كلُّها منه، وكلُّ ما نُسِبَ إليه فهو مُبارَكٌ، وكل ما باعَدَه من نفسه من الأعيان والأقوال والأعمال فلا بركَةَ فيه، وقد لعَنَ عدوَّه إبليس وجعلَه أبعدَ خلقه منه، فكلُّ ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قُربِه منه واتِّصاله به.
فمن ها هنا، كان للمعاصِي أعظم تأثير في محقِ بركة العُمر والرِّزق، والعلم والعمل.
وكل وقتٍ عُصِيَ الله فيه، أو مالٍ عُصِيَ الله به، أو بدَنٍ أو جاهٍ أو علمٍ أو عملٍ فهو على صاحبِه ليس له، فليس له من عُمره وماله وقُوَّتِه وجاهِه وعلمه وعمله إلا ما أطاعَ الله به.
فاتقوا الله - عباد الله -، واتَّخِذوا من طاعة ربِّكم والاستِعانة عليها بكل نعمةٍ أنعمَها عليكم سببًا لحُصول البركة في أعماركم وأعمالكم وأرزاقِكم، والحَظوة بالنعيم المُقيم عند خالقِكم.
واذكُروا على الدوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خاتَم النبيين، وإمام المتقين، ورحمة الله للعالمين؛ فقال - سبحانه - في الكتاب المُبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتِك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطِك، اللهم إنا نسألُك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكَرات، وحُبَّ المساكين، وأن تغفِرَ لنا وترحمَنا، وإذا أردتَّ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتُونين.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحورِهم، ونعوذُ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورِهم، ونعوذُ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورِهم، ونعوذُ بك من شرورهم.
اللهم احفَظ المُسلمين في كل دِيارِهم وأمصارِهم، اللهم احفَظهم في سوريا، وفي فلسطين، وفي بورما، وفي كل ديارِ الإسلام يا رب العالمين، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم واشفِ جرحاهم، وارحم موتاهم، واكتُب أجرَ الشهادة لقتلاهم يا رب العالمين.
اللهم أطعِم جائِعَهم، واكسُ عارِيَهم، واكشِف عنهم الضُّرَّ برحمتك يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[آل عمران: 8]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى اللهم وسلَّم على عبدِه ورسولِه نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-18-2013 10:46 AM

المُعوِّذتان .. فضائل وآداب
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 3 جمادى الاول 1434 هـ بعنوان: "المُعوِّذتان .. فضائل وآداب"، والتي تحدَّث فيها عن المُعوِّذتين (سورة الفلق وسورة الناس)، وما وردَ فيهما من فضلٍ، وبعض الآداب المُتعلِّقة بهما، مع ذكرِ شيءٍ من اللطائِف التي وردَت فيهما.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - بما وصَّى الله به الأُممَ الغابِرة، كما وصَّى الأمةَ الحاضِرة: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131].
من تنبَّه سلِم، ومن غفَل ندِم، وسوف يُبعث الناس، وتُنصَبُ الموازين، فأعِدُّوا لذلك اليوم عُدَّته، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ[البقرة: 281].
أيها المسلمون:
كانت الجنةُ موطنَ الإنسان الأول، والجنةُ هي الخيرُ الذي لا شرَّ فيه، كما أن النارَ هي الشرُّ الذي لا خيرَ فيه، أما الدنيا ففيها الخيرُ والشرُّ.
ولما كانت الشُّرور تعرِضُ للإنسان في مسيرة حياته من حيث لا يحتسِب؛ فقد تعلَّق الإنسانُ الجاهلُ بما يعتقِدُ أنه يدفعُ تلك الشُّرور من غير خبرٍ من السماء، ولا إشارةٍ من أنبياء، فزادَ الشرُّ وفسدَت الأديان، كما قال الله - عز وجل -: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا[الجن: 6].
ثم إن الله تعالى برحمته ولُطفه شرعَ لخلقه وأخبرَهم بمن يلوذون، وكيف يستعيذُون؛ لتصلُحَ أديانُهم وتسلمَ أبدانُهم.
روى عقبةُ بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألم ترَ آياتٍ أُنزلَت هذه الليلة لم يُرَ مثلهنَّ قط: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ[الفلق: 1]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ[الناس: 1]»؛ رواه مسلم.
هكذا وصفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - السورتَين العظيمَتَين. وإذ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الكلمات، فإنه يعني أنها تحوِي سرًّا إلهيًّا كبيرًا، وحِصنًا من الله عظيمًا، وسلاحًا يدفعُ به المؤمنُ شياطينَ الجنِّ والإنس، ويُواجِهُ بها شُرورَ الحياة ومصاعِبها وشدائدَها، والكائدِين فيها والحاسِدين، والسحرةَ والمُشعوِذين، وما يعترِضُه من أخطاءٍ تُؤثِّرُ في حياتِه، وتضرُّه وتُؤذِيه.
وسورةُ الفلق وأختُها سورةُ الناس آياتٌ بيِّناتٌ تذكُر الداء والدواء، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُولِيهما عنايةً خاصَّةً، ويتعوَّذُ بهما كما أمرَه ربُّه - عز وجل -.
عن أبي سعيد قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذ من الجانِّ وعين الإنسان، حتى نزلَت المُعوِّذتان، فلما نزلَتا أخذَ بهما وتركَ ما سِواهما"؛ رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: "حديثٌ حسن".

أيها المسلمون:
هاتان السورتان توجيهٌ من الله تعالى لنبيِّه - عليه السلام - ابتِداءً، وللمُؤمنين من بعده جميعًا؛ للعِياذ بكنَفِه، واللِّياذ بحِماه من كل مخُوفٍ خافٍ وظاهرٍ، مجهولٍ ومعلومٍ، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل.
وكأنما يفتحُ اللهُ تعالى للمُؤمنين حِماه، ويبسُط لهم كنفَه، ويقول لهم في مودَّةٍ ورحمةٍ: تعالَوا إلى الحِمَى، تعالَوا إلى مأمنِكم الذي تطمئِنُّون فيه، تعالَوا فأنا أعلمُ بضعفِكم وما حولَكم من مخاوف، وأقدرُ على عدوِّكم. وفي كنَفِ الله الأمنُ والطمأنينةُ والسلام.
والمُتأمِّلُ في السورتَين يجِدُ أنها حِصنٌ من شُرورٍ خفيَّةٍ غير ظاهرةٍ، وتُصيبُ الإنسانَ دون أن يُعرَف من قامَ بها في كثيرٍ من الأحيان، ولذلك جاء الأمرُ الربَّانيُّ يخصُّ هذه الشُّرورَ بالذكر من بين الأخطار والآفات المُحدِقة بالإنسان، وجاءَ الأمرُ الربَّانيُّ بطلَبِ الغوثِ والمعونة والاستِجارةِ والاستِعاذَة بالله - سبحانه - من كل الشُّرور بشكلٍ عامٍّ، ومن هذه الشُّرور المذكورةِ بشكلٍ خاصٍّ.
والقصدُ: هو تعميقُ التوحيد في النفوس، وذلك لحاجتِها لمن يحفَظُها ويدفعُ عنها أنواعَ الشُّرور والأذَى، وتعلُّقُها بمن يحمِيها ويدفعُ عنها الشرَّ. فتضمَّنَت هاتان السُّورتَان الاستعاذَةُ من هذه الشُّرور كلِّها بأوجَزِ لفظٍ وأجمعِه، وأدلِّه على المُراد، وأعمِّه استِعاذة.
ومعنى أَعُوذُأي: ألُوذُ وألتجِئُ وأعتصِمُ بالله، وأطلبُ منه الحماية.
فالاستِعاذةُ عبادةٌ نسترضِي بها من نستعيذُ به - سبحانه -، وهي الثقةُ بأنه وحده القادرُ على دفع الخطَر ورفعِه.
ففي المُعوِّذة الأولى أمرَ الله نبيَّه أن يستعيذَ ويحتمِي بربِّ الفلق، وهو الله - سبحانه - ربُّ الصباح المُنفلِق عن الليل، الكاشِف لظلامه.
وتخصيصُ الصُّبح بالتعوُّذ هو أن انبِثاق نور الصُّبح بعد شدَّة الظُّلمة كالمثَل لمجِيء الفرَج بعد الشدَّة، فكما أن الإنسانَ يكونُ مُنتظِرًا لطلُوع الصباح، فكذلك الخائِفُ يترقَّبُ مجيءَ الفرَج والأمان، فقال - عز وجل - لنبيِّه ولكل مؤمنٍ به: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَأي: من شرِّ خلقِه إطلاقًا وإجمالاً، وهو عامٌّ لكل شرٍّ في الدنيا والآخرة، وشرِّ الإنس والجنِّ والشياطين، وشرِّ السِّباع والهوامِّ، وشرِّ النار، وشرِّ الذنوب والهوَى، وشرِّ النفس، وشرِّ العمل، وشرِّ كل ذي شرٍّ.
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَالغسقُ شدَّةُ الظلام، والغاسِق هو الليلُ أو من يتحرَّكُ في جوفِه، ومعنى وَقَبَأي: دخل.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "هو الليلُ إذا أقبلَ بظلامِه".
قال مُجاهد والزهريُّ: "هو وقتُ غروب الشمس".
والمقصودُ: الاستِعاذةُ من الليل وما فيه، والليلُ إذا غمرَ الأرضَ بجلاله فهو حينئذٍ مخُوفٌ بذاتِه، ويتحرَّكُ في جُنحِه الهوامُّ والوُحوشُ، وينشطُ المُجرِمون والكائِدون، وتشتدُّ الغرائزُ والشهواتُ، وتهيجُ الوساوسُ والهواجِسُ والهمومُ والأشجانُ التي تتسرَّبُ في الليل، وتخلقُ المشاعرَ والوِجدان.
والشيطانُ تُساعِدُه الظُّلمةُ على الانطِلاق والإيحاء، لذلك أمرَ الله تعالى نبيَّه بالاستِعاذة من الليل وما فيه من شُرورٍ، فقال - سبحانه -: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِوهنَّ النساءُ الساحِراتُ، الساعِياتُ بالأذَى بالنَّفثِ على عُقَدٍ يعقِدنَها في خيوطٍ ونحوِها على اسمِ المسحور، فيُؤذِي بذلك، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ[البقرة: 102].
وقد عدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - السحرَ من كبائر الذنوبِ المُوبِقات التي تُهلِكُ الأُممَ والأفرادَ، وتُرضِي أصحابَها في الدنيا قبل الآخرة.
ومن ابتُلِي بمرضٍ أو سحرٍ فلا يجوزُ له أن يلجَأَ إلى السَّحَرة والمُشعوِذين، وقد برِئَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يفعلُ ذلك، وشرعَ الله لنا الاستِعاذةَ به - سبحانه -، والرُّكونَ إليه، والاستِعانةَ به.
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ[الفلق: 5] الحسدُ خُلُقٌ مذمومٌ طبعًا وشرعًا، وهو تمنِّي زوال النعمة التي أنعمَ الله بها على المحسُود، وشرُّ الحاسِدِ ومضرَّتُه إنما تقعُ إذا أمضَى حسدَه فأصابَ بالعين أو سعَى للإضرار بالمحسود، لذلك أمرَ الله تعالى بالاستِعاذة من شرِّه فقال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ.
ولو أن الناسَ توكَّلُوا على الله، وحصَّنُوا أنفسَهم بهؤلاء الآيات؛ لكانُوا في مأمنٍ من الحسَد، وسلامةٍ من الإصابةِ بالعين، كما أن سُورةَ الفلق من أكبر أدوِية المحسُود؛ فإنها تتضمَّنُ التوكُّلَ على الله، والالتِجاءَ إليه، والاستِعاذَةَ بوليِّ النعم ومُولِيها من شرِّ حاسِدِ النعمة، ومُولِي النعم - سبحانه - هو حسبُ من توكَّل عليه، وكافِي من لجأَ إليه.
أيها المسلمون:
وفي المُعوِّذة الثانية أمرَ الله الناس أن يستعيذُوا بربِّهم الذي يصُونُهم، وبملِكِهم الذي أمرَهم ونهاهم، وبإلههم الذي يعبُدونَه، من شرِّ الشياطين التي تحُولُ بينهم وبين عبادتِه؛ فإن الشيطانَ هو أصلُ الشرِّ الذي يصدُرُ منهم والذي يرِدُ عليهم.
وإنما قال: مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ[الناس: 2، 3]؛ لأن في الناسِ مُلوكًا فذكرَ أنه ملِكُهم، وفي الناسِ من يعبُدُ غيرَه فذكرَ أنه إلهُهم ومعبودُهم، وأنه هو الذي يجبُ أن يُستعاذَ به ويُلجَأَ إليه دون المُلوكِ والعُظماء، فهو - سبحانه - ربُّهم الحقُّ، والملكُ الحقُّ، والإلهُ الواحدُ المُستحقُّ للعبادة وحدَه، وما دونَه فهو مربوبٌ لا يلمِكُ لنفسِه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا.
والاستِعاذةُ من شرِّ الوسواس الخنَّاس - وهو الشيطان - تعمُّ كلَّ شرِّه، لكنَّه وُصِفَ بأخطَر صِفاتِه، وأشدِّها شرًّا، وأقواها تأثيرًا، وأعمِّها فسادًا، وهي: الوسوسةُ التي هي بدايةُ الإرادة؛ فإن القلبَ يكون فارِغًا من الشرِّ والمعصِية، فيُوسوِسُ إليه ويُحسِّنُ له الشرُّ، ويُرِيه إيَّاه في صورةٍ حسنةٍ، ويُنشِّطُ إرادتَه لفعلِه، ويُقبِّحُ له الخيرَ ويُثبِّطُه عنه.
وهو دائمًا بهذه الحال يُوسوِسُ ويخنَسُ، ويجرِي من ابن آدم مجرَى الدم، كما ثبتَ في "الصحيحين".
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "الشيطانُ جاثِمٌ على قلبِ ابنِ آدم؛ فإذا سهَا وغفلَ وسوسَ، وإذا ذكرَ اللهَ خنَس"؛ أي: هربَ وتراجَع.
والوسواسُ كما يكونُ من الجنِّ، يكونُ من الإنس، ولهذا قال تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، وفيه تذكيرٌ بخُطورة شياطين الإنس، وقلَّ من يتنبَّهُ لخُطورتهم، مع أن الله تعالى أمرَ نبيَّه في هذه السورةِ بالاستِعاذة من شرِّ نوعَي الشياطين: شياطين الإنس والجنِّ.
عباد الله:
قراءةُ المُعوِّذتين تُشرعُ في كل وقتٍ، وتتأكَّدُ قراءتُهما في المواطن التي وردَت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها: ما رواه عقبةُ بن عامر - رضي الله عنه - قال: "أمرني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأَ بالمُعوِّذات دُبُر كلِّ صلاة"؛ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي، وصحَّحه الحاكم وغيرُه.
ومنها: ما روَته عائشةُ - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا أوَى إلى فِراشِه كلَّ ليلةٍ جمعَ كفَّيه، ثم نفثَ فيهما فقرأَ فيهما: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص: 1]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ[الفلق: 1]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ[الناس: 1]، ثم يمسحُ بهما ما استطاعَ من جسَده، يبدأُ بهما على رأسِه ووجهِه وما أقبلَ من جسَده، يفعلُ ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ"؛ أخرجه البخاري.
كما تُسنُّ قراءةُ المُعوِّذتين ثلاثًا في أذكار الصباح والمساء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن خُبيبٍ - رضي الله عنه -: «قل». قلتُ: ما أقول؟ قال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، والمُعوِّذتين حين تُمسِي وتُصبِحُ ثلاث مرَّات، تكفيكَ من كل شيءٍ»؛ أخرجه الإمامُ أحمد وأبو داود والترمذي - واللفظُ له -، وقال: "حسنٌ صحيحٌ"، وصحَّحه النووي وغيرُه.
عباد الله:
والمُعوِّذتان رُقيةٌ يرقِي بها المُسلمُ نفسَه، ويرقِي بها غيرَه؛ عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا اشتكَى يقرأُ على نفسِه بالمُعوِّذات وينفُث. قالت: فلما اشتدَّ وجعُه كنتُ أقرأُ عليه وأمسَحُ بيدِه رجاءَ بركتِها"؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ لمسلمٍ: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرِضَ أحدٌ من أهلِه نفَثَ عليه بالمُعوِّذات".
بل إن المُعوِّذتين تُقرأُ لتحصينِ النفسِ قبل نُزول البلاء؛ عن أبي سعيد - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوَّذُ من أعيُن الجانِّ وعين الإنسان، فلما نزلَت المُعوِّذتان أخذَ بهما وتركَ ما سِواهُما" رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
وجُملةُ ذلك: أن قراءةَ المُعوِّذتين تتأكَّدُ بعد الصلوات الخمسِ، وقبل النوم، وفي الصباح والمساء، وللرُّقية وللتَّحصين.
نسأل الله تعالى أن يُعيذَنا جميعًا من الشُّرور والآثام، وأن يُعيذَنا من الفتن والأسقام.
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بهدي سيِّد المُرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.


الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا فيه، يُجيبُ من ناداه، ويُجيرُ المُستجيرَ بحِماه، ويُعيذُ العائِذَ بكنَفه ويحمِيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
وبعد، أيها المسلمون:
من اللطائِف في سُورة الفلق: أن الاستِعاذةَ في مُستهلِّها كانت بربِّ الفلق، والفلق هو الصُّبحُ؛ بل هو كل ما ينفلِقُ بالخير والبُشرى، وفي تخصيصِ الفلق بالذِّكر إيماءٌ بأن القادرَ على فلقِ الصُّبحِ وإزالَة ظلُمات الليل عن العالَم قادرٌ على أن يُزيلَ كلَّ ظلامٍ، وأن يرفعَ الظُّلمَ عن كل مظلومٍ. فلا يأسَ ولا قُنوطَ مع القويِّ القادِرِ، إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى[الأنعام: 95].
والصُّبحُ يرمُزُ للأمل الذي يُولَدُ من رحِمِ المأساة، ويأتي الإصباحُ والإشراقُ بعد شدَّة الظلام، كما يأتي الفرَجُ إذا ضاقَت الأمورُ وبلغَت غايتَها، فهو هُتافٌ لليُسر والفرَج.
وهذا هو الذي نُؤمِّلُه ونرجُوه هذه الأيام، ومهما ضاقَت الحالُ على أهلِ سُوريا بُطغيان عدوِّهم، وتكالُب إخوانِه من أهلِ ملَّتِه في الخارِج، إلا أن صبرَ المُؤمنين وتعليقَ أملِهم بالله وحدَه بعد ما خذَلَتهم القُوَى التي تزعُمُ نُصرةَ الضعيف، وهي لا تنتصِرُ إلا لمصالِحِها.
ذلك مُؤذِنٌ بفرَجٍ - إن شاء الله - قريبٌ؛ فإن الفرَجَ مع الكرْبِ، وإن النصرَ مع الصبرِ، وإن مع العُسر يُسرًا.
والمطلوبُ هو صدقُ اللَّجأِ إلى الله، والإكثارُ من الاستِغفار الذي هو من أهمِّ مفاتيح الفرَج، وتوحيدُ الكلمة، ونبذُ الخلاف. وإنما الشجاعةُ صبرُ ساعة.
وعلى المُسلمين القادِرين نصرُ إخوانهم - سيَّما الحُكَّام - فإن الناسَ لهم تبَعٌ، وفي الأمة خيرٌ كثيرٌ. فلا تألُوا جُهدًا في كفِّ العُدوان، وإيقافِ الفساد؛ فإن إسلامَ الأخِ أخاه في ساعة الشدَّة مُؤذِنٌ بعقوبةٍ عاجلةٍ ومُماثِلة، والدفعُ عن إخواننا في سُوريا دفعٌ للبلاء عنَّا في العاجِلة والآجِلة.
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: محمدِ بن عبد الله.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين، اللهم انصُر دينكَ وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم أصلِح أحوالَ إخواننا في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم أصلِح أحوالَهم في مصر وفي كل مكان، واجمَعهم على الهدى، واكفِهم شِرارَهم، وأصلِح أحوالَهم.
اللهم كُن لإخواننا في سُوريا، اللهم اجمَعهم على الحق والهُدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم أتِمَّ عليه عافِيَتك، وألبِسه لباسَ الصحةِ، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سنة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين. اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المُسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 147].
اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم إنا نسألُك رِضاك والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطِك والنار.
نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ ونتوبُ إليه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطِين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا غدَقًا طبَقًا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والبَادِ. اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ. ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 04-03-2013 07:56 AM

كثرة أبواب الخير
نبذة مختصرة عن الخطبة:
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة 10 جمادى الاول 1434هـ بعنوان: "كثرة أبواب الخير"، والتي تحدَّث فيها عن الطاعات وما شرعَه الله لعباده من تنويعها ترغيبًا لهم في الإقبال والمُسارعة والتنافُس عليها، وحذَّر من الابتِداع، وبيَّن عِظَم قدر النصيحة وفضلِها.

الخطبة الأولى
الحمد لله الغني عن العالمين، لا تنفعُه طاعةُ الطائعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصِين، من عمِل الطاعات فهو الفائزُ بثوابِ المُحسِنين، ومن عمِل المعاصِي فهو مع الخاسِرين، ولن يضُرَّ اللهَ شيئًا وسيجزِي الله الشاكرين، أحمد ربي وأشكره على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الخلق أجمعين، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه بعثَه الله بالهُدى ودين الحقِّ فجعلَه رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك وخليلِك محمدٍ، وعلى آله وصحبه المتقين.
أما بعد:
فاتقوا الله - أيها المسلمون - بفعلِ ما يُرضِيه من الطاعات، وتركِ ما يُغضِبُه من المُحرَّمات.
واعلموا - عباد الله - أن عزَّ العبد في عبوديَّته لربِّه - عز وجل -، وقوَّة المُسلم في توكُّله على مولاه، وغِناه في مُداوَمة الدعاء برفع حاجاته كلِّها إلى الله تعالى، وفلاحَه في إحسانِه لصلاته، وحُسن عاقبته في تقواه لربِّ العالمين، وانشراحَ صدره وسُرورَه في برِّ الوالدَين، وصِلة الأرحام، والإحسان إلى الخلق، وطُمأنينة قلبِه في الإكثار من ذكرِ المُنعِم - جل وعلا -، وانتظامَ أمور الإنسان واستقامة أحوالِه بالأخذ بالأسباب المشروعة، وترك الأسباب المُحرَّمة، مع تفويضِ الأمور كلِّها للخالقِ المُدبِّر - سبحانه وتعالى -، وإنجاز الأعمال في أوقاتها بلا تأخُّرٍ ولا كسَلٍ.
وخُسرانُ العبد وخذلانُه في الرُّكون إلى الدنيا، والرِّضا بها، ونسيان الآخرة، والإعراض عن عبوديَّة الربِّ - جل وعلا -، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7، 8]، وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة: 22].
وقد جعلَ الله لكم عِبرًا في الأُمم الماضِية والقرون الخالِية؛ فقد أعطاهم الله تعالى طولَ الأعمار، وجرَت من تحتهم الأنهار، وشيَّدوا القُصور، وبنَوا الأمصار، ومُتِّعوا بقوة الأبدان والأسماع والأبصار، ومكَّن الله لهم في الأرض، وسخَّر لهم الأسباب، فما أغنى عنهم ما كانوا فيه من القُوى والنعيم؟! ولا دفعَت عنهم الأموالُ والأولادُ.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأحقاف: 26].
والسعيدُ من اتَّعَظ بغيره، والشقيُّ من وُعِظَ به غيرُه، فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33]، واستعِدُّوا للقاءِ الله بما تقدِرون عليه من الأعمال الصالحات، ولا تغُرنَّ أحدًا الدنيا وطولُ الأمل، قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99، 100].
واعلَموا أن اجتماع الخير كلِّه في عبادة الله وحدَه لا شريكَ له على ما وافقَ سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع الإخلاص ومحبَّة الله تعالى، ومحبَّة رسول الله - عليه الصلاة والسلام -.
ولن ينالَ أحدٌ رِضوانَ الله - عز وجل - ولن يدخُل جنَّتَه ولن يسعَد في حياته وبعد مماته إلا بعبادة الله - تبارك وتعالى -.
وللعبادة خُلِق المُكلَّفون، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
ولرِضا الربِّ - عز وجل - بالعبادة وفرَحه بها وكثرة منافعِها للمُكلَّفين، وعُموم بركاتها، وسُبوغ خيراتها في الدارَين؛ أمرَ الله بها في الليل والنهار وجوبًا أو استِحبابًا، مُقيَّدةً أو مُطلقةً، ليستكثِر منها السابِقون، وليلحَقَ بركبِ العُبَّاد المُقصِّرون.
وكمالُ العبادة هو كمالُ محبَّة ربِّ العالمين، وكمالُ الذلِّ والخُضوع للمعبود - سبحانه -، مع مُوافقَة هديِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن رحمة الله - عز وجل - ولُطفِه بعباده، وسعَة جُودِه وكرَمه أن شرعَ العبادات للمُكلَّفين كلِّهم، يتقرَّبون بها إلى الله - سبحانه - ليُثِيبَهم، وبيَّن لهم الأوقات الفاضِلة التي يتضاعَفُ فيها ثوابُ العبادات ليستكثِروا من الخيرات، ولو لم يُبيِّن لهم الزمانَ الفاضِلَ لم يعرِفوه، قال الله تعالى: وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 151]، وقال تعالى: فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 239].
وإذا شرعَ الله عبادةً دعا المُكلَّفين إلى القِيام بها، والتقرُّبِ إلى الله بها، فإذا لم يتمكَّن بعضُ المُكلَّفين من فعلِها فتحَ الله للمُكلَّفين أبوابًا من الطاعات، وشرعَ لهم من الطاعات من جنسِ ما فاتَهم من العبادات؛ ليَنالَ العبادُ عزَّ الطاعةِ، وثوابَ القُرُبات.
فمن لم يُدرِك والدَيْه فقد شُرِع له الدعاءُ لهما، والصدقةُ عنهما، والحجُّ عنهما، وصِلةُ رحِمهما، وإكرامُ صديقِهما، ومن أدركَهما ثم ماتا فكذلك يستمرُّ على برِّهما.
عن أبي أُسيدٍ الساعديِّ أن رجلاً قال: يا رسول الله! هل بقِيَ من برِّ أبوَيَّ شيءٌ أبرُّهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم؛ الصلاةُ عليهما - أي: الدعاءُ لهم لهما -، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصِلةُ الرَّحِم التي لا تُوصَلُ إلا بهما، وإكرامُ صديقِهما»؛ رواه أبو داود.
والخالةُ بمنزلة الأم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رجلٌ: يا رسول الله! إني أصبتُ ذنبًا عظيمًا؛ فهل لي من توبةٍ؟ قال: «هل من أمٍّ لك؟». قال: لا، قال: «فهل لك من خالةٍ؟». قال: نعم، قال: «فبِرَّها»؛ رواه الترمذي.
ومن لم يجِد مالاً يتصدَّقُ منه فليعمل بيدِه وينفعُ نفسَه ويتصدَّق، عن سعيد بن أبي بُردة، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على كل مُسلمٍ صدقةٌ». قيل: أرأيتَ إن لم يجِد؟ قال: «يعتمِلُ بيدَيه، فينفعُ نفسَه، ويتصدَّق». قيل: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجة الملهُوف». قيل له: أرأيتَ إن لم يفعل؟ قال: «يُمسِك عن الشرِّ؛ فإنها صدقةٌ»؛ رواه مُسلمٌ.
وفي الحديث: «من صلَّى الفجرَ في جماعةٍ ثم جلسَ في مُصلاَّه يذكُر الله حتى تطلُع الشمسُ، فصلَّى ركعتَين؛ كان كأجرِ حجَّةٍ وعُمرةٍ تامَّةٍ، تامَّةٍ، تامَّةٍ».
ألا ما أعظمَ نعمَ ربِّ العالمين على العباد، وما أكثرَ أبواب الخيرات، وما أجلَّ أبواب الحسنات!
فاعمَل - أيها المُسلم - بإخلاصٍ واتِّباعٍ للهديِ النبويِّ، ولا تزهدنَّ في أي عملٍ صالحٍ ولو كان قليلاً، ولا تحقِرنَّ السيئةَ ولو كانت صغيرةً؛ فإن لها طالِبًا وحسابًا.



أيها المُسلم:
احذَر على حسناتِك واحفَظها من البِدع؛ فإنها تهدِمُ دينَك، وتُبطِلُ حسناتِك، أو تُنقِصُ ثوابَ الأعمال الصالحات، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد: 33].
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لمن ابتدعَ في الدين ولمن تطرُدهم الملائكةُ عن حوضِه الشريف الذي من شرِبَ منه شربةً لم يظمَأ بعدها أبدًا، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن ابتدعَ في الدين وغيَّر: «سُحقًا سُحقًا لمن غيَّر بعدي»؛ رواه البخاري.
كما عليك - أيها المسلم - أن تحذرَ من المُحرَّمات والمعاصِي، وأن تبتعِدَ عنها وتُبغِضَها؛ فإنها تُقسِّي القلبَ وتُقوِّي النفاقَ وتُغذِّيه، وهي من أسبابِ سُوء الخاتِمة، وهي التي تُمرِضُ النفسَ، والتي تجعلُها قسيَّة، وتجعلُها مُتمرِّدةً مُتجرِّئةً على معاصِي الله، حتى إن العبدَ إذا أصرَّ على معاصِي الله فإنه لا يقدِرُ - غالبًا - في نفسِه؛ بل تقودُه إلى كلِّ شرٍّ - والعياذُ بالله -.
قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم: 59، 60].
ومعنى: يَلْقَوْنَ غَيًّا قال المُفسِّرون: "وادٍ في جهنم، خبيثٌ شديدُ الحرِّ".
واحرِص - أيها المُسلمُ - على المُسابَقة إلى الخيرات، لتكون من الموعودين بالدرجات العُلَى، وإياك والتأخُّرَ عن الأعمال الصالحات، والتكاسُلَ عن فعلِ الخير، فتُعاقَب بالتأخُّر عن رُتبَة الفائزين، وقد تُعاقَب بدخول النار مع الداخِلين.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزالُ قومٌ يتأخَّرون حتى يُؤخِّرَهم الله». وفي روايةٍ: «لا يزالُ قومٌ يتأخَّرون حتى يُؤخِّرَهم الله في النار».
قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة: 10- 12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيِّد المُرسَلين وقولِه القَويم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيمَ لي ولكم والمسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله عظيم السُّلطان، قويِّ البُرهان، ما شاء الله كان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيمُ الرحمن، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُؤيَّد بمُعجزة القُرآن، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أولِي الإيمانِ والإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى بمحبَّته وطاعته، ولا تتعرَّضُوا لغضبِه بمعصيتِه.
عباد الله:
كونوا على الحق أعوانًا، وبأخُوَّة الإسلام إخوانًا، وتمسَّك - أيها المسلم - بالنصيحة، وهي: محبَّةُ كل خيرٍ ونُصرةٍ وعزٍّ وتأييدٍ للمنصوحِ له، والنصيحةُ شأنُها عظيمٌ.
عن أبي تميمٍ الداريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدينُ النصيحةُ، الدينُ النصيحةُ، الدينُ النصيحةُ». قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المُسلمين وعامَّتهم»؛ رواه مسلم.
ومن حُقوق المُسلمين على المُسلم: الاهتمامُ بأمورِهم، والقيامُ بحقوقهم، وإحاطَتُهم بالدعاءِ والحِرصِ على ما ينفعُهم، وكفُّ الأذى والضررُ عنهم.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من لم يُوقِّر الكبيرَ، ويرحمِ الصغيرَ، ويأمر بالمعروف، وينهَى عن المُنكَر».
وفي الحديث: «المُؤمنُ للمُؤمن كالبُنيان، يشدُّ بعضُه بعضًا»، وفي الحديث أيضًا: «مثَلُ المُؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمثَل الجسد الواحِد، إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحُمَّى».
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلُّوا وسلِّموا على سيدِ الأولين والآخرين وإمام المُرسلين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ.


اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا ونبيِّنا محمدٍ وعلى أزواجِه وذريَّته وأهل بيته، اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافرين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركِين يا رب العالمين، اللهم دمِّر أعداءَك أعداءَ الدين.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك يا رب العالمين، إنك أنت القوي المتين.
اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزُقنا اتِّباعَه، وأرِنا الباطلَ وارزُقنا اجتِنابَه، ولا تجعله مُلتبِسًا علينا فنضِلّ، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفِر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلمُ به منَّا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت.
اللهم أعِذنا من شرور أنفسِنا، ومن سيئات أعمالنا، اللهم أعِذنا من شرِّ كل ذي شرٍّ يا رب العالمين.
اللهم أعِذنا وذريَّاتنا من إبليس وذريَّته وجنوده يا رب العالمين، اللهم أعِذ المُسلمين من إبليس وذريَّته، إنك على كل شيء قدير.
اللهم اغفِر لموتانا وموتَى المُسلمين، اللهم اغفِر لموتانا وموتَى المُسلمين يا رب العالمين، اللهم اغفِر لهم وارحَمهم، وعافِهم واعفُ عنهم، اللهم اغفِر للمُسلمين والمُسلِمات، والمُؤمنين والمُؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم اهدِ شبابَنا وشبابَ المُسلمين يا رب العالمين، اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ المُسلمين صغيرَهم وكبيرَهم، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم ألهِمنا رُشدَنا، وأعِذنا من شُرور أنفُسنا يا رب العالمين.
اللهم أغِثنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أغِثنا غيثَ رحمة لا عذاب، إنك على كل شيء قدير.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاةَ أمورنا.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك يا رب العالمين، اللهم وألبِسه ثوبَ الصحة، إنك على كل شيءٍ قدير، وفِّقه يا رب العالمين لما فيه الخيرُ لبلاده وللمُسلمين إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألُك يا ذا الجلال والإكرام أن تُحسِن عاقِبَتنا في الأمور كلِّها، وأن تُجيرَنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 90، 91].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 04-03-2013 08:01 AM

الصلاة .. الركن العظيم
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة 17 جمادى الاول 1434هـ بعنوان: "الصلاة .. الركن العظيم"، والتي تحدَّث فيها عن الصلاة وأهميتها في الإسلام، وأنها شريعةُ الأمم قبلنا، إلا أن لهذه الأمة خصائص فيها، وبيَّن فضائلَ وأدلَّة وجوبِها من كتاب الله وسنة رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وحذَّر من تركِها أو التهاوُن بها.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثَه الله بالهُدى ودين الحقِّ ليُظهِرَه على الدين كلِّه ولو كرِه المُشرِكون، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى؛ ففي تقوى الله صلاحُ الأمور، وعزُّ الدهور، وأحسنُ العاقبة يوم النُّشور، قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5].
عباد الله:
هل لكم في رُكنٍ عظيمٍ، وعملٍ كريمٍ، وخيرٍ مُستديم، يُصلِح الله به جميعَ أعمالكم، ويُزكِّي به قلوبَكم، ويُقوِّمُ به أخلاقَكم، ويُدِرُّ به أرزاقَكم، ويعمُرُ به دُنياكم، ويرفعُ به في الجنات درجاتِكم، وتُدرِكون به من سبَقَكم، وتنالُون به فوقَ أمانيّكم؟ هل لكم في ذلك كلِّه؟
فما هو هذا الرُّكنُ العظيم الذي تنالُون به كلَّ خير، ويدفعُ الله به كلَّ شرٍّ؟
ألا إنه: إقامةُ الصلاة بشُروطها وأركانها وواجباتها وسُننها؛ فالصلاةُ هي الركنُ الأعظم بعد الشهادتين، فرَضَها الله تعالى في كل دينٍ شرعَه، ولا يقبلُ الله من أحدٍ من الأولين والآخرين دينًا بغير الصلاة، قال الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج: 34، 35].
ولكن الله بمنِّه ورحمتِه خصَّ هذه الأمة من الفضائل بما لم يخُصَّ به أمةً قبلها؛ لفضلِ كتابها، وكرامة رسولها - صلى الله عليه وسلم - على ربِّه.
فمما خصَّها الله تعالى به وفضَّلها: أن فرضَ الله - عز وجل - على هذه الأمة الصلوات الخمس في السماء ليلة المِعراج، فأوحَى الله إلى عبدِه ورسولِه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وكلَّمه بكلامٍ سمِعه من ربِّ العزة - تبارك وتعالى -، وفرضَ عليه الصلوات الخمس بلا واسطة ملَكٍ؛ حيث عُرِج بسيد البشر من السماوات العُلى إلى سِدرة المُنتهَى، ثم رفعَه الله إلى مُستوى لم يبلغه أحد، ثم أمرَ الله - سبحانه - جبريلَ - صلى الله عليه وسلم - أن يؤُمَّ نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في أول وقت كل صلاةٍ وآخره، فقال له: "يا محمد! هذا وقتُ الأنبياء من قبلك، والوقتُ ما بين هذين الوقتَين"؛ رواه أبو داود وغيره من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
ففرَضَها الله بلا واسطة، وفرضَها بإمامة جبريل - عليه الصلاة والسلام -، وبواسطته زيادةً في تأكيد فرضِها، وبيان منزلتِها، وبيَّن الله تعالى في كتابه أفعالَها وأقوالَها، وشرعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أركانَها وواجباتها ومُستحبَّاتها، وعلَّم أصحابَه كلَّ قولٍ وفعلٍ يُقيمُها، وصلَّى بهم إمامًا مُدَّة حياته في جميع أحواله.
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «صلُّوا كما رأيتُموني أُصلِّي»؛ رواه البخاري ومسلم.
ونقلَ كلُّ جيلٍ عمن قبلَه الصلوات، لم يُهمِلوا منها قلاً ولا فعلاً. فلله الحمدُ أن جعلَنا مُسلمين، وحفِظَ لنا الدين.
الله أكبر! ما أعظم رحمة الله، وما أجلَّ نعمَه على الناس.
وفرضُ الصلوات من ربِّ العالمين على الأمةِ لنبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بلا واسِطة ملَكٍ من أعظم الأدلَّة على منزلةِ الصلواتِ عند الله تعالى، ومكانتها من الدين، وأنها جِماعُ الخير كلِّه، يبقَى الدينُ في الأرض ما بقِيَت الصلاة، وينقُصُ الدينُ إذا نقَصَت، وينتهِي الدينُ في الأرض إذا انتهَت، وتصلحُ الأرض بكثرة المُقيمين للصلاة، وتخربُ الأرض بقلَّة المُقيمين للصلاة.
ولو أن كلَّ مُسلمٍ ومُسلمةٍ أقامَ الصلاةَ كما أقامَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه لكانَت الأمةُ في عافيةٍ من الفتن والشُّرور والمُخالَفات، ولأمِنَت من العُقوبات، ولكفَاها الله شرَّ أعدائِها، ولصلُحَت حالُ كل مُسلمٍ ومُسلمة، وانتظَمت أحوالُه، وحسُنَت عواقِبُه.
وبصلاحِ الأفراد يكثُر الخيرُ في المُجتمع، ويقِلُّ الشرَّ، ويحبُّ الناسُ المعروفَ، ويُبغِضون المُنكَر، ولكن إذا تهاوَن الناسُ بالصلاةِ فضيَّعها بعضُهم، أو دخلَ النقصُ على أركانها وواجباتها عند بعضِهم، أو زهِدَ بعضُهم في أدائِها مع جماعة المُسلمين في المساجِد، أو أخَّرها عن مواقيتِها؛ انعكسَ التقصيرُ في الصلاة على أمور الناس، فانفرطَ على كل مُضيِّعٍ بصلاتِه أمرَه، وتغيَّرَت عليه حالُه، وتشتَّتَ شملُه.
قال الله تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]. ومن كان في قلبِه حياةٌ أحسَّ بالعُقوبة، وما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلامُ.
قالت أمُّ سلَمة - رضي الله عنها -: "كان الناسُ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضَعون أبصارَهم في موضعِ سُجودِهم، وكانوا في عهد أبي بكرٍ يضَعون أبصارَهم قريبًا من موضعِ سُجودِهم، وكانوا في عهد عُمر يطمَحُ بعضُهم بأبصارِهم إلى جِهة القبلة، وفي عهد عُثمان تلفَّتُوا يمينًا وشمالاً، فوقَعت الفتنةُ".
فانظُر إلى فقهِ أم سلَمة - رضي الله عنها -، وكيف علِمَت انعِكاسَ الصلاة على أحوال الناس صلاحًا أو فسادًا.
ودخلَ بعضُ أصحاب أنس بن مالك - رضي الله عنه - فوجدَه يبكِي، فقال: ما يُبكِيك يا أبا حمزة؟ فقال: أبكِي لما أحدثَ الناسُ، حتى هذه الصلاة أخَّرُوها عن وقتِها.
الصلاةُ هي الدين، وجامعةُ أمور الإسلام، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رأسُ الأمر الإسلام، وعمُودُه الصلاة»؛ رواه الترمذي من حديث مُعاذٍ - رضي الله عنه -.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلواتُ الخمس، والجُمعة إلى الجُمعة كفَّارةٌ لما بينهنَّ ما لم تُغشَ الكبائر»؛ رواه مسلم.
وعن عُبادة بن الصامِت - رضي الله عنه - قال: سمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ الله على العباد؛ فمن جاءَ بهنَّ ولم يُضيِّع منهنَّ شيئًا استِخفافًا بحقِّهنَّ كان له عند الله عهدٌ أن يُدخِلَه الجنة، ومن لم يأتِ بهنَّ فليس له عند الله عهدٌ .. الحديث»؛ رواه أبو داود والنسائي.
وعن عبد الله بن قُرطٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أولُ ما يُحاسَبُ به العبدُ يوم القيامةِ الصلاةُ؛ فإن صلُحَت صلُح سائرُ عمله، وإن فسَدَت فسَدَ سائرُ عمله»؛ رواه الطبراني.
وروحُ الصلاة هو الخُشوع، مع إصابة السُّنَّة، وأداؤُها مع الجماعة، قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سمِعَ النداءَ فلم يُجِب فلا صلاةَ له إلا من عُذرٍ»؛ رواه الحاكم، وقال: "صحيحٌ على شرطِهما".
وأما المرأةُ فصلاتُها في بيتِها أفضل، عن أم سلَمة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيرُ مساجد النساء قعرُ بيوتهنَّ»؛ رواه أحمد والطبراني.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المرأةُ عورةٌ، فإذا خرجَت استشرَفَها الشيطان»؛ رواه الترمذي.
وفي رواية ابن خُزيمة وابن حبّان عنه - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وأقربُ ما تكونُ من وجهِ ربِّها وهي في قعرِ بيتها».
لأن المرأةَ وهي في قعرِ بيتها مصُونةٌ محفوظةٌ من الفتن، لا تفتنُ أحدًا، ولا يفتِنُها أحد، أما إذا تبرَّجَت بزينةٍ فتَنَت وفُتِنَت، ووقع الشرُّ والهلاك، قال الله تعالى لأمهات المُؤمنين: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 33]، وهنَّ الأُسوة المُثلَى لنساء المُسلمين.
قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيِّد المُرسَلين وقولِه القَويم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وليِّ المتقين، أحمدُ ربي وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القويُّ المتين، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الوعد الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله يُصلِح لكم أعمالَكم، ويغفِر لكم ذنوبَكم.
واعلَموا - عباد الله - أن مما يُزكِّي الصلاة ويجبُرُ ما نقصَ منها: المُحافظة على السُّنن الرواتب قبلها وبعدَها، والمُداوَمة على الوِتر، والازدِياد من نوافِل الصلاة؛ فإنها تُكمِّل الفريضة، وتُكفِّر الذنوب، مع الأذكار المسنونة.
عن أم حبيبة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلَّى قبل الظهر أربعًا وبعدها أربعًا حرَّمَه الله على النار»؛ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «رحِمَ الله امرأً صلَّى قبل العصر أربعًا»؛ رواه أبو داود والترمذي.
وركعتان بعد المغربِ أو ستّ ركعاتٍ، وركعتان قبل العشاء أو أربع، وبعد العشاء يتنفَّلُ بما يُيسِّرُه الله له، ويختِمُ بالوِتر - وآخرُ وقته السَّحَر -، و«ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها»؛ رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
وفي الحديث: «وإنك لن تسجُد لله سجدةً إلا رفعَك الله بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً».
وقال النبي - عليه الصلاة والسلام - قال لبعضِ أصحابِه: «أعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السُّجُود».
وتركُ الصلاة سببٌ لدخول النار، قال الله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 42- 47].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلُّوا وسلِّموا على سيدِ الأولين والآخرين وإمام المُرسلين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ.
اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأزواجِه وذريَّته وأهل بيته صلاةً وسلامًا كثيرًا، اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافرين يا رب العالمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركِين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم هيِّئ للمُسلمين من أمرِهم رشَدًا.
اللهم اغفِر لأمواتنا وأموات المُسلمين يا رب العالمين، نوِّر عليهم قبورَهم، واغفِر ذنوبَهم، وضاعِف حسناتِهم، وتجاوَز عن سيئاتهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزُقنا اتِّباعَه، وأرِنا الباطلَ وارزُقنا اجتِنابَه، ولا تجعله مُلتبِسًا علينا فنضِلّ، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ثبِّت قلوبَنا على طاعتِك يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألُك أن تنصُر دينك، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك يا قوي يا عزيز، اللهم انصُر كتابَك وسُنَّة نبيِّك في كل مكانٍ يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألُك أن تُعيذَنا من شُرور أنفُسنا، اللهم أعِذنا من شرور أنفسِنا، ومن سيئات أعمالنا، وأعِذنا من شرِّ كل ذي شرٍّ برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إن إخواننا المُسلمين ظُلِموا في الشام، اللهم إنهم ظُلِموا، اللهم إنه نزلَ بهم من البلاء والكَرب ونزل بهم من الشدائد ما لا يكشِفُه غيرُك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تُسلِّط عليهم القومَ الظالمين، واجعل الدائرةَ على القوم الظالمين يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، لا تُسلِّط عليهم القومَ الظالمين يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت النصيرُ وأنت على كل شيء قدير، اللهم عجِّل برفع كُرباتهم، اللهم عجِّل برفع الشدائد عنهم يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير؛ فإنك أنت الله لا إله إلا أنت الملجأ وإليك المصير.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاةَ أمورنا.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا رخاءً سخاءً وسائر بلاد المُسلمين عامَّةً يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، وأعِنه يا رب العالمين على أمور الدين وإقامة الدين، وما فيه الخيرُ لشعبِه والمُسلمين يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألُك يا ذا الجلال والإكرام نسألُك اللهم أن تُغيثَنا، اللهم أغِنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تكِلنا إلى أنفُسنا طرفةَ عينٍ ولا أقلَّ من ذلك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 90، 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


الساعة الآن 03:17 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir