ساحات وادي العلي

ساحات وادي العلي (http://www.sahat-wadialali.com/vb/index.php)
-   الساحة الإسلامية (http://www.sahat-wadialali.com/vb/forumdisplay.php?f=91)
-   -   خطب الجمعة من المسجد الحرام (http://www.sahat-wadialali.com/vb/showthread.php?t=14234)

ابوحاتم 05-10-2011 10:31 PM

خطب الجمعة من المسجد الحرام
 
اخواني خطرت لي فكرة وضع نسخة من خطبة الجمعة من السجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة للإستفادة من مايرد بها من نصائح وعبر وساحاول بمشيئة الله الحرص على وضعها اسبوعيا على الساحات متمنيا للجميع التوفيق والله من ورا اء القصد .
خطبة الجمعة من المسجد الحرام الجمعة 3/6/1432
لفضيلة الشيخ / سعود الشريم


الخطبة الأولى
أمّا بعدُ: فيا أيُّها الناسُ، مِن رَحمةِ الله جَلّ وعلا عَلَى عِبادِه أَن بَعثَ رسولَ الهدَى شاهِدًا ومُبشِّرًا ونَذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بِإذنِه وسراجًا مُنيرًا، ولقَد لَقِيَ صَلواتُ الله وسلامُه عليه خالقَه ومولاه وهو لم يدَع خَيرًا إلا دلَّ الأمةَ عليه، ولا شرًّا إلا حَذَّر الأمَّةَ منه.
وإنَّ مما حذَّر منه أمتَه الفتنَ التي تكون آخرَ الزمن وتكاثُرها وترادُفَ حلقاتها، والغواسِق التي تُحيطُ بالناس والمُجتمعات من كل جانبٍ، فتمُوجُ بهم كمَوجِ البحر، وتقعُ القَوارِعُ في دارِهم أو قريبًا مِن دارِهم على حِين غِرَّةٍ لم تخطُر على بالِ آمِنٍ لاهٍ، ولم تلُحْ له في أُفُق؛ فتحِلُّ الفجأة، وتعظُم الدهشةُ والذهول؛ لهولِ الأحداث والمُستجدَّات وسرعتها، حتى يتلقَّاها السامعُ والمُشاهِد ولا يكادُ يُسيغُها إلا بشَرَق الرَّوْع؛ لأنها لم تدُر بخلَده أو تقع في ظنِّه أنَّ غِيَرًا وأحداثًا كونيةً واجتماعيةً وسياسيةً وفكريةً ستحلُّ فجأةً على وجهِ التسارُع والتدافُع.
وهذا ما يُذكِّرنا بما أخبرنا به المصطَفَى http://www.alminbar.net/images/salla-icon.gif عن أشراطِ السَّاعةِ وقيامِها في سرعةٍ لم تخطُر على بالِ الأحياء إبَّانَها، كما جاء في "الصحيحين" أنَّ النبيَّ http://www.alminbar.net/images/salla-icon.gif قال: ((لتقُومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايَعانه ولا يطوِيانه، ولتقُومنَّ السّاعةُ وقد انصرفَ الرجلُ بلَبنِ لِقحَته فلا يطعمُه، ولتقُومنَّ الساعَة وهو يُليطُ حَوضَه فلا يسقِي منه، ولتقُومنَّ السّاعة وقد رفَع أكلَته إلى فِيه فلا يطعَمها)).
كلُّ ذلك -عباد الله- دليلٌ على سرعة وقوعِ الحدث وما يحمِلُه من مفاجآت، وأنَّ نفسًا لا تَدري ماذا تكسِب غدًا ولا بأيِّ أرضٍ تموت.
ألا وإنَّ تعاقُبَ الأحداث وترادُفها وطلبَ بعضها بعضًا طلبًا حثيثًا لهو من سِمات هذه البُرهة من الزمن الحاضِر الذي بلَغَت فيه الحضارةُ المادّية أوْجَها، والغليَانُ المعرفيّ والتِّقَنيُّ قمَّته، ويخلقُ الله ما لا تعلمون.
ولقد صار مِن سرعة الأحداثِ والمُدلهِمَّاتِ أن رياحَها لا تُتيحُ لأيِّ رمادٍ أن يجثِمَ مكانَه، ولا لأيِّ جمرةٍ أن ينطفِئَ وميضُها، فتتراكمُ التداعيات بعضُها على بَعضٍ ليخِرَّ سَقفُ الهدوء، وتُقبِلَ فُلولُ الطوارِق والمُفاجآت في عسعسةِ الليل أو تنفُّس الصبح.

ابوحاتم 05-10-2011 10:33 PM

غيرَ أنَّ هذا كلَّه لم يأتِ طَفرةً دونَ مُقدِّماتٍ أو مُسبِّبات، مع اتِّفاقنا جميعًا بأنَّ ساعةَ الحدوثِ تُعدُّ مفاجِئةً بسبَب شَرَر وَميض جمرٍ خِلَل الرَّماد، اشتدَّت به الريحُ في يومٍ عاصفٍ، فتطايَرَ شَرَره إلى قشٍّ يَباسٍ، فما هو إلا الضِّرام ما منه بُدٌّ، مع أن أصواتًا صادقةً وصَيحاتٍ ناصحةً قد سُمِعت، فلَم تلقَ رجعَ الصّدَى، ولم يستبِن السامعون ذلكم النُّصح إلا ضُحى الغد، ولاتَ حين مناص.
عبادَ الله، إنّنا في الوقتِ الذي يحمَدُ اللهَ فيه كلُّ مسلِم أو مجتمعٍ لم تنَلْه تلكمُ الأحداث والمُستجدَّات، ولم تحُلَّ بدارهم؛ يجبُ أن لا يبخَلوا على أنفسهم مِن سؤال اللهِ العافيةَ والسلامة، وأن لا تمُرَّ عليهم تلكم الخطوب دون أخذ الدروس والعِظَة والعِبرة؛ فالنبيُّ http://www.alminbar.net/images/salla-icon.gif يقول: ((السَّعيدُ من وُعِظَ بِغيره، والشَّقيُّ من شقِيَ في بطن أمِّه)) رواه مسلم.
وإنَّ أحسنَ أحوالِ العِبرةِ والعِظة -عباد الله- ما كان مُتزامنًا مع سبَبها، لكونِ الاستعدادِ النفسيِّ أبلغَ في مُقابل قوة الحدث، وإلا وقع السهو والنسيان، وإذا لم يُغبِّر حائطٌ في وقوعه فليس له بعدَ الوقوعِ غُبار، وحينئذٍ فإنَّ أيَّ قُربانٍ سيجيءُ مُتأخِّرًا فستأكله نيران الأحداث بِتغيُّظٍ وزفير.
كلُّ ذلك -عباد الله- لتكون العِبرة والعِظة داعيةً إلى الاستباق الآمِن من الوقوع في مثلها، أو بعبارة العصريّين: الوقاية خيرٌ من العلاج، أو ما يُسمَّى بـ"الأمن الوقائيّ"، أو بالعبارة الشرعيّة الأصيلة: "الدفع أولى من الرّفع"، فإنَّ مما يتفق عليه العُقلاء جميعًا أنَّ منعَ وقوع الشيءِ المكروهِ خيرٌ وأولى من رَفعِه بعد وقوعِه، وشريعتُنا الغرَّاء جاءت حاضَّةً على المُبادرةِ والمُسارعة بالأمورِ الدافعة للمكاره قبل أن تحلَّ بالمرء والمجتمع.
فمن ذلك قولُه تعالى: http://www.alminbar.net/images/start-icon.gifوَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَhttp://www.alminbar.net/images/end-icon.gif [الزمر: 54]، ومنه قولُه سبحانَه: http://www.alminbar.net/images/start-icon.gifوَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَhttp://www.alminbar.net/images/end-icon.gif [الأنعام: 151]؛ فنهَى عن القُربِ منها؛ لأنَّ القُربَ سَببٌ في الوقوع، وهذا دليلٌ على وجوبِ الوقاية.
وقد جاء في السنة المطهَّرة ما يُؤكِّد هذا المعنى صراحةً؛ حيث قال النبيُّ http://www.alminbar.net/images/salla-icon.gif: ((بادِروا بالأعمالِ فِتنًا كقِطع الليل المُظلِم، يُصبِحُ فيه الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمِنًا ويُصبِح كافرًا؛ يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدنيا)) رواه مسلم، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((اغتنِم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هرَمِك، وصحَّتك قبل سقَمِك، وغِناءَك قبلَ فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك)) رواه الحاكم وغيره.

ابوحاتم 05-10-2011 10:35 PM

ومما يدلُّ أيضًا على رعايةِ الشريعة وحَضِّها للوقايةِ والمُبادرة والحَذر ما جاء من قول النبيِّ http://www.alminbar.net/images/salla-icon.gif: ((لا يُورِد مُمرِضٌ على مُصِحّ)) رواه الشيخان، وعند مسلم في "صحيحه" أنّه كان في وفدِ ثقيف رجلٌ مجذوم، فأرسلَ إليه: ((أنِ ارجع؛ فقد بايعناك)). وفي ذلك دليلٌ -عباد الله- على الوقاية من جُذامه بالاكتفاء بالمُبايعة عن بُعدٍ دفعًا للعدوى.
إذا عُرِف ذلكم -عبادَ الله- فإن مبدأ "الوقاية خيرٌ من العلاج" مبدأٌ شاملٌ لكلّ شؤون الحياة، وإنّ من الخطأ الصريح قصرَه على المجال الصحيّ فحَسب؛ بل إنه يمتدّ إلى المجالِ الغذائيِ والعلميِ والفكريِ والإعلاميِ والاقتصاديِ والسياسيِ على حدٍّ سواء، وإنَّ الجهدَ الذي يُبذَل في الوقاية في ذلكم كلِّه ينبغي أن يكون أسبق، وأن ينالَ اهتمام جميع الفئات في المجتمع بِصورةٍ أكبَرَ ممّا يُبذَل في العلاجِ، وهنا مَكمنُ شعور كلّ فردٍ مسلم وإدراكه للعواقب والتوجُّس من المُدلهِمَّات.
وإذا كانت الشَّريعةُ الغرَّاءُ قد حضَّت على المُبادرة بالأعمال فإنَّ هذا التحضيض لم يكن قاصرًا على جهةٍ دون أخرى؛ بل إنه يشمل الفردَ والأسرة، والعامِّيَ والعالِم، والسياسيَّ والمُفكِّر، وأمثالهم ممّن هم صورةُ المجتمع وتكوينه؛ إذ منَ الخطأ قصرُه على جِهةٍ دون أخرى؛ كأن يُقصَر على القيادةِ فقط، أو العلماءِ فحسب؛ كلا، فلُحمة المجتمع والشّعور بالواجب تجاهَه مهمَّةُ الجميعِ، والحرصُ على حمايتِه من أيِّ داخلةٍ فيه انتماءٌ إيجابيّ يدلُّ على الأمانةِ الحقَّةِ في سبيلِ الاجتماع على الحقِّ والخير، والتعاوُنِ على البرِّ والتقوى، لا علَى الإثمِ والعدوان؛ ليتمَّ السيرُ بسفينةِ المجتمَع الماخِرةِ إلى برِّ الأمان بعد الخروجِ بها من ظُلماتِ البحرِ اللُّجِّي الذي يغشَاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحابٌ.
وبعد: يا رعاكم الله، فإنَّ ذهولَ الكثيرين منا تجاهَ ما يقَع في هذه الآونةِ من مُستجدَّاتٍ وغِيَرٍ لم يكن عائِدًا إلى تدنٍّ في مستوى ذكاءِ عموم المجتمعات، أو لِضعفٍ في آلياتِ الإنذار المُبكِّر بقدرِ ما كان سببَ إهمال مبدأ الوقاية وتوفير أسبابها واستِحضار حُكمها؛ لأنَّ الإفراطَ في الأمنِ منَ المُتغيِّرات هو مَكمنُ الخوفِ والخطَر، كما أنَّ الحذر المُفرِط أيضًا مَكمنٌ للجُمود والبَلادة وتأخُّر المسير. وخيرُ الأمورِ في ذلكم الوسَط، وقد قيل:
إن التوسُّط في الأمور سلامـــةٌ كي لا ضِرارَ ينالُ منك ولا ضَرَر
قد يُهلِكُ الإنسانَ أمنٌ مُفرِطٌ أو يعتَريــــه الســــوءُ من فرطِ الحذر
إنَّ عدمَ الوعيِ التامّ بقيمةِ الوقايةِ من قِبَل العمومِ ومدَى تقديرِهم لحجمِ وطبيعة مُتطلَّبات الوقاية لهُوَ سببُ تحمُّل وقوع الشيء، ومن ثَمَّ علاجُه، وكِلا الأمرين بُعدٌ عن الواقِع وبرودٌ في التّعامل مع المُتغيِّرات بما من شأنهِ دفعُ عجلة المُدلهِمَّات عن الوقوع، أو على أقلِّ تقديرٍ الإبطاءُ بها إلى حينِ وضعِ السياج الآمِن الذي يحمِي من خطر وقوعها إن هي وقعَت؛ فضلاً عن أنَّ الشعورَ بوجودِ عصًا سحريّة لديها الاستعداد على دفعِ كلِّ شيء إنما هو شعورٌ مُتولِّدٌ من لا شُعور؛ لأنَّ الفائدةَ من الوقاية هي التطلُّع إلى وضعٍ أفضَل، أو التخلُّص من وَضعٍ أسوأ؛ لأن أيَّ أحدٍ منَّا لن يَستطيع إصلاحِ عجلة الطائرة بعد إقلاعها، http://www.alminbar.net/images/start-icon.gifذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌhttp://www.alminbar.net/images/end-icon.gif [الأنفال: 53].
وبما أنَّ الشيءَ بالشيءِ يُذكَر فإنَّ هذه البلاد -حرسها الله- قد ضربَت مثلاً في الصلة والتلاحُم بين قيادتها وعلمائِها وأفرادِها، ووقفَت في خِضَمِّ الأحداثِ موقف المسؤوليّة والشعورِ بالخطر، فيما لو أهمَل كلّ واحدٍ منا مسؤوليته، فكان ذلك البيانُ الشافي من هيئة كبارِ العلماء في هذه البلادِ حرسها الله، وكانت تلكم القراراتُ المشهودة الصادرةُ عن وليِّ أمرنا حفظه الله، والتي أكَّد من خلالها أنَّ الشريعةَ الإسلامية هي قدَرُ هذه البلاد، وأكَّد من خلالها أيضًا مكانةَ العلماءِ وأثرَهم في المجتمَع بقيادتهم العلميّة الداعِمَة للقيادة السياسيّة، كما لامَسَت تلك القراراتُ احتياجات المجتمعِ والمواطنَ التي تفتقِرُ إلى إصلاحٍ وتجدُّد.
جعَل الله ذلك في ميزانِ الحسنات، ووفَّق هذه البلادَ قيادةً وعلماءَ وشَعبًا إلى البرِّ والتقوى، ووقاهم كلَّ سوءٍ وفتنة، ووقى جميعَ بلاد المسلمين شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطن.
http://www.alminbar.net/images/start-icon.gifوَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِhttp://www.alminbar.net/images/end-icon.gif [البقرة: 197].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن كان صوابًا فمِن الله، وإن كان خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفر الله إنَّه كان غفَّارًا.

ابوحاتم 05-10-2011 10:37 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، وعلى آلهِ وأصحابِه ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ: فاعلموا -عبادَ الله- أنّنا إذا اتفقنا على ضرورةِ الأخذ بمبدأ الوقايةِ والإقرارِ به فإنَّ المشكلة حينئذٍ لن تكونَ في: كيف نقِي أنفسنا؟ وإنما هي في: متى نقِي أنفسنا ومجتمعنا؟ لأنه متى دبَّ في النفوسِ داءُ التسويف والتأجيلِ فإنَّ القابليَّة للمفاجآت والطوارقِ أشدُّ تواجُدًا، وإذا كانت المقولة المشهورة تقول: "لا تُؤجِّل عملَ اليوم إلى الغدِ"، فإنَّ لسانَ حال كثيرٍ من الناس يقول: "لا تُؤجِّل إلى الغد ما تستطيع أن تفعله بعد غدٍ"، وكأنَّ الدنيا -عباد الله- بلا صُروفٍ ولا غِيَر ولا قوارع، ولقد أحسن من قال:
مــا عند يومي ثقةٌ لي بغدِ لا بُدَّ من دار خلودِ الأبدِ
فحذارِ -عباد الله- أن يتسلَّلَ بعضُنا لِواذًا بداءِ التسويف في زمنٍ يتَحتَّمُ فيه العزمُ والعملُ على التهذيب والتربية على مبدأ الوقاية الذي ينقِل من السوء إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن.
وإذا كانت الغايةُ نبيلةً فإنَّ مبدأ الوقاية سيكون محورُه العدلَ في جميع السُّبُل، فلا يمكن أن يتجاوزَ جمهورُ الناس في عمَلهم ما يُسمُّون به حقًّا للغير، وسيكون المصبُّ الأخير في القيمة المُطلقة التي تُؤلِّف بين أفرادِ المجتمع الواحدِ في منظومةٍ واحدةٍ يعمُّها مِعيارٌ واحد؛ ليُؤدِّيَ كلٌّ منهم عملَه لبقاءِ البِنْية الجامعة للمجتمع الواعي بلا فُتوق؛ كلٌّ في مجالِ عملِه وتخصُّصه وما انتهى إليه علمُه. فلا ينبغي أن يُطلَبَ من العين أن تبطِش وهي للإبصَار، ولا مِن الأذن أن تمشِي وهي للسَّمع، وإلا لأصبَحنا كمن يأكل المِلح ليدفَع به العطَش، أو يشرب الماء ليدفع به الجوعَ، أو يستنشق الغاز ليتنفَّس.
ألا وإنَّ لكل سفينةٍ ملاَّحًا، وإذا غَابَ ملاَّحُ السّفينة وارتمَت بها الريحُ يومًا دبَّرَتها الضّفادِع، وإنَّ أيَّ أمةٍ يكون الواقي والدافعُ فيها إنما هم بنوها من أفرادها إلى قادتها، ويكون كلُّ واحدٍ منهم آخِذًا بحقِّ الكلّ، لا يقصد مقصدًا بعكس مقصدِ السوادِ الأعظم، ولا غايةً تميلُ به عن غايَتهم، فهي الأمّة التي علا فيها التكامُل وحُسن الانتماءِ وتحقيقُ المصلحة المُشتركة التي يسعَى بذِمَّتهم فيها أدناهم، http://www.alminbar.net/images/start-icon.gifوَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌhttp://www.alminbar.net/images/end-icon.gif [التوبة: 115].
هذا، وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية...

ابوحاتم 05-16-2011 02:57 PM

خطبة الجمعة 10/6/1432 من المسجد الحرام بمكة المكرمة
لفضيلة الشيخ / اسامة خياط

الخطبة الأولى
الحمد لله فالق الحبِّ والنوى، أحمده - سبحانه -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالقُ الأرض والسماوات العُلى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله النبيُّ المُجتبى والرسولُ المُرتضى والحبيبُ المُفتدَى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أئمة الهُدى ونجوم الدُّجَى.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
أيها المسلمون:
عندما تُحدِقُ الأخطار وتعظُم الخُطوب وتُطِلُّ الفتنُ برؤوسها ينظرُ أولو الألباب إلى الشباب نظرَ أصحاب الثروات إلى ثرواتهم، فيرون لزامًا عليهم المُسارعة إلى سلوك كل سبيلٍ يبلُغُون به ما يريدون من الحِفاظ عليهم والذبِّ عنهم بما يحفظُ الحَوزَة، ويردُّ الغائلة، ويدفعُ الصَّولة، ويدرأُ العُدوان؛ ذلك أن للحفاظ على شباب الأمة أعظمَ الآثار في صيانة كِيانها وإعلاء صُروح نهضتها لتأخذ مكانها اللائقَ بها بين الأمم، ولتكون كما أراد الله: [آخَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ل عمران: 110].
وإنما يكون ذلك بكمال العناية بهم، وجمال الرعاية لهم؛ لأنها من أقوى البواعِث على امتلاك القلوب، والأخذ بمجامع النفوس.
وكما تكون هذه العناية والرعاية غرسًا لصحيح العقيدة، وحراسةً لشرائع الدين بالعلم والعمل، وبذرًا لمحاسن الأخلاق، وتعويدًا على صالح العادات والمُفرَط من المثالب والمعايب وكل ما يُعتَذر منه؛ تكون أيضًا بحُسن تعهُّدهم في باب المُصاحبة والمُجالسة والمُعاشَرة؛ لأنها من أعظم الأسباب فيما يكون من تقدُّم أو تأخُّر، ونجاحٍ أو إخفاقٍ، وقلقٍ أو اطمئنان.
ولما كان للصاحب أو الجليس أثرُه العميق في نفس صاحبه وجليسه فإن من الحكمة البالغة: الاحتياط في أمره، والتريُّث في وصل حبل وُدِّه حتى تُبلَى أخبارُه، ويتميَّز معدِنُه، ويُوثَق بدينه وخُلُقه.
وقد عبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا أبلغَ تعبيرٍ؛ فقال في مقام التبصير والتحذير: «المرءُ على دين خليلِه؛ فلينظُر أحدُكم من يُخالِل»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والترمذي واللفظُ له، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسنادٍ حسنٍ.
لأن الطبع يسرقُ من الطبع، وسُرعان ما يمضِي المرءُ في الطريق الذي يُؤثِره ويختارُه جليسُه، ولذا صوَّر نبيُّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى في مثلٍ نبويٍّ بليغٍ؛ فقال: «مثلُ الجليس الصالح والجليس السوء كحالِ المِسكِ ونافخِ الكِير؛ فحامِلُ المِسك إما أن يُحذِيَك، وإما أن تبتاعَ منه، وإما أن تجِدَ منه ريحًا طيبة، ونافخُ الكِير إما أن يُحرِقَ ثيابَك، وإما أن تجِدَ ريحًا خبيثة»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.
فأما إن كان الجليسُ ممن يسُدُّ الخَلَّة، ويغفرُ الزَّلَّة، ويُقيلُ العَثْرة، ويستُر العَورة، ويقودُ جليسَه إلى الخير ويُراقِبُه فيه، ويُعينُه عليه، ويُزيِّنُ له الطاعة، ويُقبِّح له المعصية، ويحُولُ بينه وبينها بتذكيره بما تعودُ عليه من ذلٍّ وخِزيٍ وعقابٍ في الدنيا والآخرة؛ فذلك هو الجليسُ الصالحُ الذي يسعَدُ به جليسُه، وتحسُنُ بمجالسته عاقبتُه.
وأما إن كان الجليسُ ممن يُزيِّنُ القبيحَ، ويُحسِّن السوءَ من الأقوال والأفعال والعقائد الفاسدة، والنِّحَل الضالة، ويحُثُّ على الانضواء تحت لوائها، والتردِّي في وَهدتها؛ فذلك هو الجليسُ السوء الذي يشقَى به جليسُه؛ لأنه كان وبالاً عليه؛ إذ أطاعه وأسلمَ إليه قِيادَه، فانتهى به إلى البوار وعذاب النار، فقرَعَ سِنَّ الندم حين لا ينفعُ ندم، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا [الفرقان: 27 - 29].

ابوحاتم 05-16-2011 03:05 PM

فلا عجَبَ أن تنقلِبَ خُلَّة هذا الفريق إلى عداوة، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67].
وهذا كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "شأنُ كل مشتركين في غرضٍ يتوادُّون ما داموا مُتساعدين على حصوله، فإذا انقطعَ ذلك الغرض أعقبَ ندامةً وحُزنًا وألمًا، وانقلَبَت تلك المودةُ بُغضًا ولعنًا وذمًّا من بعضهم لبعض لما انقلب ذلك الغرضُ حُزنًا وعذابًا، كما يُشاهَد في هذه الدار من المُشتركين في خِزية، إذا أُخِذوا وعُوقِبوا فكلُّ مُتساعِدَيْن على باطلٍ مُتوادَّيْن عليه لا بدَّ أن تنقلِبَ مودتُهما بُغضًا وعداوة". انتهى.
ولا عجَبَ أن يضِنَّ اللبيبُ بصُحبته ومُجالسته؛ فلا يجعلها إلا لأهل الإيمان، ولا يبذُلُها إلا لأصحاب التُّقى؛ عملاً بتوجيه خير الورى - صلوات الله وسلامه عليه - في قوله: «لا تُصاحِب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامَك إلا تقيٌّ»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"، والترمذي في "جامعه" بإسنادٍ حسنٍ.
إن المُصاحبَة - أيها الإخوة - يجب أن تكون خالصةً لوجه الله، نقيةً من الأغراض، بعيدةً عن الأهواء؛ بأن تنشأ وتنمو في رِحاب الإيمان، محكومةً بسلطان العقيدة ونِظام الشريعة، بما فيه من أوامر ونواهٍ يستوحيها المؤمنُ في كل اتجاهات قلبه وحركات وسكَنَات جوارِحه، هنالك يرتقِي بحبِّه أهل الخير والصلاح فوق منزلته في الدار الآخرة درجات، فيلتحقُ بمن أحبَّ وإن لم يعمل مثل عمله.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجلٍ أحبَّ قومًا ولمَّا يلحَق بهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المرءُ مع من أحبَّ».
هذا؛ وقد كان لتطوُّر وسائل العصر - لا سيما في مجال الإعلام الحديث بشبكات معلوماته، وقنواته، وما اشتملت عليه من مواقع تواصلٍ وغرفِ مُحادثةٍ وغيرها - كان لهذا التطوُّر أثرُه في الانتقال بمعنى المُجالسة والمُصاحبة إلى معانٍ جديدة لم تكن معروفةً من قبل، وأضحَى لهذه المُجالسة التي تكون عبر هذه المواقع من قوة التأثير ما يربُو على غيرها؛ لاتساع دائرة استخدامها، وتنوُّع وتعدُّد ثقافات ومشارِب وبُلدان مُستخدميها.
وهذا يفرِضُ علينا عِبئًا ثقيلاً، ومسؤوليةً مُضاعفة على عاتق الآباء والأمهات، والعلماء والدُعاة، والمُربِّين والمُربِّيات، وغيرهم من ذوي الشأن في سبيل الحِفاظ على شباب الأمة وتحصينهم.
وإن في جهود المُخلِصين وفيما أُوتوا من حِنكةٍ وحكمةٍ ودرايةٍ، ونيةٍ صادقةٍ، ورغبةٍ في بذلِ النُّصح، و حرصٍ على الخير ما يُسدِّد الله به الخُطَى، ويُبارِك السعيَ، ويُبلِّغُ الآمال.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن أظهر صفات الجليس الصالح وأجلَّها وأقواها أثرًا في قلب وعقل جليسه: أنه ذو قلبٍ سليم، والقلبُ السليمُ الذي ينتفعُ به صاحبُه في دُنياه وحين يأتي ربَّه يوم القيامة قد اختلفت عباراتُ الناس في معناه، لكن الجامع لذلك كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أنه الذي سلِمَ من كل شهوةٍ تُخالِف أمرَ الله ونهيَه، ومن كل شُبهةٍ تُعارِضُ خبرَه، فسلِمَ من عبودية ما سواه، وسلِمَ من تحكيم غير رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فسلِمَ في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكُّل عليه والإنابة إليه والذلِّ له وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعُد من سخَطه بكل طريقٍ، وهذه حقيقةُ العبودية التي لا تصلحُ إلا لله وحده، فالقلبُ السليم: هو الذي سلِمَ من أن يكون لغير الله فيه شركٌ بوجهٍ ما؛ بل قد خلُصَت عبوديتُه لله تعالى إرادةً ومحبةً وتوكُّلاً وإنابةً وإخباتًا وخشيةً ورجاءً، وخلُصَ عملُه لله؛ فإن أحبَّ أحبَّ في الله، وإن أبغضَ أبغضَ في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منعَ منعَ لله".
فاتقوا الله - عباد الله -، واتخذوا من جُلساء الخير أفضل ما تعتدُّون به لبُلوغ رضوان الله، وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله: محمد بن عبد الله؛ فقد أُمِرتم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطغاة والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم التناد.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين أجمعين، وارزقهم العملَ الصالحَ والفقهَ الدين، وقِهِم شر الفتن ما ظهر منها وما بطَن، اللهم آمِنهم في أوطانهم، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعَ سخطك.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا.
اللهم احفظ المسلمين في كل بلادهم، اللهم احفظهم وأيِّدهم وانصرهم على عدوك وعدوِّهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

مشرف الإسلامية 05-19-2011 01:16 PM


عبدالرحيم بن قسقس 05-19-2011 05:59 PM

.

*****

أبا حاتم

http://sahat-wadialali.com/vb/upload...1288281235.gif

كتب الله لك الأجر والثواب وجعل ما تقدمه في ميزان حسناتك

لا شك أننا نستفيد من مثل هذه المواضيع فلك الشكر والتقدير

*****

ابوحاتم 05-21-2011 11:23 PM

خطبة المسجد الحرام - 17 جمادى الثانية 1432 - السعادة في الإعتصام بالكتاب والسنة - عبد الرحمن السديس



الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدك ربي ونستعينُك ونستغفرُك ونُثنِي عليك الخير كلَّه، سبحانك ربنا وبحمدك، توالَت مِنَنُك علينا وُحدانًا ووفدًا، الحمد لله حمدًا دائمًا وكفى، شكرًا على سيبِ جدواه الذي وكَفَا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستلهِمُ به التوفيقَ والرُّشدَا، وأشهد أن نبينا وسيدنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله أزكى البريَّة سيدًا وعبدًا، صلَّى الله عليه وعلى آله الأطهار محتِدًا لم يزَل يندَى، وذريَّتِه المُبارَكين ثناءً ومجدًا، وصحابته الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ممن هامَ بهم اقتداءً ووجدًا، سلِّم إله العرش تسليمًا عديدًا مديدًا هم به أحرى وأجْدا. أما بعد،
فيا عباد الله:
اتقوا الله تعالى حقًّا حقًّا؛ فتقواه تعالى هي الحُلَّة الأنقى والعصمةُ الأبقى، تصلح أحوالُكم وترقَى، وتبلُغوا من الأمجاد شأوًا مجيدًا وسَبقًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
فمن تدرَّع بالتقوى استنارَ بها وباتَ في بهجةِ الأعمال جذلانًا
فسِرْ أمامك دربُ الخير مُزدهِرٌ شُجونُه امتلأت روحًا وريحانًا


أيها المسلمون:
حينما تكثُر الفتنُ في الأمة والمُتغيِّرات، وتدلهِمُّ الخُطوبُ والمحنُ في المجتمعات، ويُخيِّمُ على سمائها الصافية سُحُبُ المخالفات، فيلتبِسُ الحق بالباطل، ويختلطُ الهدى بالضلال؛ فإن الأمة لن تجِدَ إلا في التمسُّك بالكتاب والسنة المُستعصَم؛ لأن في الكتاب والسنة الفوزَ والنجاةَ من المحَن، والمخرجَ من الورَطات والفتن.
وإنه في هذا العصر وبعد أن تسرَّبَت إلى صفوف الأمة ألوانٌ من المسالك المُنحرفة، وتسلَّلت صنوفٌ من الطرق الفاسدة، واختلطَ الحابلُ بالنابل، وتشعَّبت المناهجُ والغايات، وعمَّت الفتن والابتلاءات، وتفرَّقت الأمةُ شيَعًا وأحزابًا، وتاهَت في أيام الزمان أعوامًا وأحقابًا، وثارَت عليها عواصفُ التغيير والمُستجِدَّات، وهبَّت عليها أعاصير التموُّجات والتحوُّلات، وتداعَت عليها الأمم؛ فإنه لا منجَ لهذه الأمة إلا بالتمسُّك بكتاب ربها وسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم -.
يقول - سبحانه -: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123]، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: «تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تضِلُّوا بعدي أبدًا: كتابَ الله وسنتي»؛ خرَّجه مالك في "الموطأ".
معاشر المسلمين:
وإن الوهَن الذي أصابَ الأمة، والضعفَ الذي حلَّ عليها كالغُمَّة، حتى انقلَبَت الموازين واختلفَت المقاييس، وانتكَسَت الرايات، واحلولَكَت الظلمات، وعلَت الفتنُ كأمواج البحار الهادِرة، وصار أفرادُ الأمة كضرائر الحسناء، وفشَت فيهم مُعضِلات الأدواء، فعَلا صوتُ الغوغاء فوق الحُكماء.
فالوحيُ كافٍ للذي يُعنَى به شافٍ لداء جهالةِ الإنسان
واللهِ ما قال امرؤٌ مُتحذلِقٌ بسواهما إلا من الهَذَيَان
إخوة الإسلام:
وإن امتطاءَ صهوة الأهواء، والافتتان بالآراء، والبُعد عن كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - لهُوَ الضلال والخُسران والخِزيُ والحِرمان؛ حيث الفتنةُ المُشتدَّة، والمحنُ المُتلاحقةُ المُمتدة، وقد قال ربُّنا - سبحانه - وهو أصدق القائلين -: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران: 101].
قال الإمام الطبري - رحمه الله -: "ومن يتعلَّق بأسباب الله، ويتمسَّك بدينه وطاعته فقد وُفِّق لطريقٍ واضح، ومحجَّةٍ مُستقيمةٍ غير مُعوجَّة".
وفي الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن السعيدَ لمن جُنِّبَ الفتن، إن السعيدَ لمن جُنِّبَ الفتن، ولمن ابتُلِي فصبَر فواها»؛ خرَّجه مسلم في "صحيحه".
وأحييتَ في الإسلام علمًا وسنةً ولم تبتدع حكمًا من الحكم أزحمَا
ففي كل يومٍ كنتَ تهدِمُ بدعةً وتبنِي لنا من سنةٍ ما تهدَّمَا
يقول الإمام مالك - رحمه الله -: "لا يصلُح آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح بها أولُها"، فإذا كان أولها صلَح بالكتاب والسنة فلن يصلُح آخرُها إلا بالكتاب والسنة.
أمة الإسلام:
لقد أمرنا الله تعالى بالرجوع إليه وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عند التنازُع والاختلاف، يقول - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59].
قال مجاهد - رحمه الله - في قوله تعالى: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ : "أي: فرُدُّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -".
وأخرج أهلُ السنن من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «.. فإنه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديين من بعيد، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدَثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة».
ولذلك فإن الواجبَ على الأمة الرجوع في المُشكِلات - لا سيما عند الأزمات - إلى الراسخين في العلم الصادقين في الدين؛ فهم أكثرُ الناس فقهًا وعلمًا، وأعلم الناس بالحلال والحرام ومقاصد الأحكام، الذين يعرفون المُحكَم من المُتشابِه، كما جاء عنهم في قوله - سبحانه -: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7].
فالرجوع للعلماء الراسخين في العلم - لا سيما في زمن الفتن والنوازل - ليس اختيارًا؛ بل هو فرضٌ شرعي، وأمرٌ إلهي.
يقول تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83].
ومن منارات ودلائل الاهتداء في الفتن: البُعد عن كل ما يُفضِي إلى الفُرقة والاختلاف؛ ومن ذلك: ما يحصُل من بعض المُجادَلات العقيمة التي تُثير الشحناء والبغضاء، فقد كرِه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المُجادَلة ما يُفضِي إلى الاختلاف والتفرُّق؛ فقد روى الترمذي في "سننه" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على قومٍ من أصحابه وهم يتجادَلون في القدَر، فكأنما فُقِئَ في وجهه حبُّ الرمان، وقال: «أبِهذا أُمِرتم؟ أم إلى هذا دُعيتُم؟ أن تضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض، إنما هلكَ من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض».
أمة الإسلام:
وإنه إزاء ما تعيشُه بعضُ بلاد المسلمين من فتنٍ وأحداث فإن كل غيورٍ مهتمٌّ بشأن أمته يُلاحِظُ أنه حدَثَت فتنٌ في تضاعيف هذه الأحداث تُشعِلُ فتيلَها والأُوَار، وتسكُبُ الزيتَ على النار، وتعمل على إذكاء النَّعَرات والعصبيات التي تُفاقِمُ الأوضاع سوءًا، وتُمكِّن لأعداء الأمة استغلالَها لأغراضٍ خطيرة، مما يتطلَّبُ الوعيَ والإدراكَ لما يُحاكُ للأمة الإسلامية من مُؤامرات ترمي إلى الإضرار بوحدتها والعبَث بأمنها واستقرارها، وتشحنُ النفوس نحو الفتنة والفُرقة بدعواتٍ مُضلِّلة، وشائعاتٍ مُغرِضة تنالُ من الثوابت والمُسلَّمات، وتطالُ الإساءة للرموز والمُحكَمات، أو المُزايَدة على الشريعة والتهجُّم على دُور العبادة ليتحقَّق للأعداء ما يُريدون من إهدارٍ للطاقات، وتدميرٍ للمُقدَّرات، بما أفضى إلى إشغال أمتنا عن كُبرى قضاياها ونكئِ مآسيها في ذكرى نكبتِها.
ولعل الغُيُر يتفاءَلون بأَخَرة بالمُصالحة والاتفاق بعد التجافي والافتراق.


أمة التوحيد والوحدة:
وإن من الفتن التي ضاعَفت المِحنُ علَّتها، ودأَبَت على تأجيج جذوَتها: فتنةَ إذكاء النَّعَرات الطائفية المَقيتة المُحتدَّة، والعصبية الشتيتة المُمتدَّة التي انحرَفَت عن الولاء الصحيح، وفرَّقَت صفَّ الأمة الصريح.
إن ركوبَ موجة النَّعَرات الطائفية الجانحة المُتدرِّعة بحُجَجٍ واهية - وفي هذه الآونة تحديدًا - لم يكن من دَيدَنه إلا تصديرُ الفتن والقلاقِل والبغضاء، وصناعةُ الزوابِع والشحناء، وإفسادُ العلاقات البريئة بين أفراد المجتمع الواحد، وبين أفراد الأمة جمعاء؛ تشتيتًا للوحدة الإسلامية، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]، دون عقلٍ رادِع، ولا ضميرٍ وازِع.
وإن من المُقلِق للغَيُورين: أن تلكم النَّعرات الرَّعناء قد أمِرَ أمرُها وازداد، وتوسَّع مدُّها وارتاد، ولكن دون إنصافٍ أو سداد؛ حيث تتناولُ الحقائقُ المُدلَّلة الراسخة بالمُغالطات الماسِخة، وتتصدَّر الحقَّ الصُّراح، بالتمويه والجُناح، وأسانيد مبتورة الجَناح.
ولعَمرُ الله؛ إنه لا فوز للأمة وسعادة للخلق إلا بالدين الحق على هدي الوحيَيْن الشريفين.
وإن كتابَ الله أعدلُ حاكمٍ فيه الشِّفا وهدايةُ الحيرانِ
والحاكمُ الثاني كلامُ رسوله ما ثمَّ غيرُهما لذي إيمانِ
وصدق الله العظيم حيث يقول في كتابه الكريم - وهو أصدق القائلين -: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
بارَك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيم.

ابوحاتم 05-21-2011 11:24 PM

فالرجوع للعلماء الراسخين في العلم - لا سيما في زمن الفتن والنوازل - ليس اختيارًا؛ بل هو فرضٌ شرعي، وأمرٌ إلهي.
يقول تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83].
ومن منارات ودلائل الاهتداء في الفتن: البُعد عن كل ما يُفضِي إلى الفُرقة والاختلاف؛ ومن ذلك: ما يحصُل من بعض المُجادَلات العقيمة التي تُثير الشحناء والبغضاء، فقد كرِه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المُجادَلة ما يُفضِي إلى الاختلاف والتفرُّق؛ فقد روى الترمذي في "سننه" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على قومٍ من أصحابه وهم يتجادَلون في القدَر، فكأنما فُقِئَ في وجهه حبُّ الرمان، وقال: «أبِهذا أُمِرتم؟ أم إلى هذا دُعيتُم؟ أن تضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض، إنما هلكَ من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض».
أمة الإسلام:
وإنه إزاء ما تعيشُه بعضُ بلاد المسلمين من فتنٍ وأحداث فإن كل غيورٍ مهتمٌّ بشأن أمته يُلاحِظُ أنه حدَثَت فتنٌ في تضاعيف هذه الأحداث تُشعِلُ فتيلَها والأُوَار، وتسكُبُ الزيتَ على النار، وتعمل على إذكاء النَّعَرات والعصبيات التي تُفاقِمُ الأوضاع سوءًا، وتُمكِّن لأعداء الأمة استغلالَها لأغراضٍ خطيرة، مما يتطلَّبُ الوعيَ والإدراكَ لما يُحاكُ للأمة الإسلامية من مُؤامرات ترمي إلى الإضرار بوحدتها والعبَث بأمنها واستقرارها، وتشحنُ النفوس نحو الفتنة والفُرقة بدعواتٍ مُضلِّلة، وشائعاتٍ مُغرِضة تنالُ من الثوابت والمُسلَّمات، وتطالُ الإساءة للرموز والمُحكَمات، أو المُزايَدة على الشريعة والتهجُّم على دُور العبادة ليتحقَّق للأعداء ما يُريدون من إهدارٍ للطاقات، وتدميرٍ للمُقدَّرات، بما أفضى إلى إشغال أمتنا عن كُبرى قضاياها ونكئِ مآسيها في ذكرى نكبتِها.
ولعل الغُيُر يتفاءَلون بأَخَرة بالمُصالحة والاتفاق بعد التجافي والافتراق.

أمة التوحيد والوحدة:
وإن من الفتن التي ضاعَفت المِحنُ علَّتها، ودأَبَت على تأجيج جذوَتها: فتنةَ إذكاء النَّعَرات الطائفية المَقيتة المُحتدَّة، والعصبية الشتيتة المُمتدَّة التي انحرَفَت عن الولاء الصحيح، وفرَّقَت صفَّ الأمة الصريح.
إن ركوبَ موجة النَّعَرات الطائفية الجانحة المُتدرِّعة بحُجَجٍ واهية - وفي هذه الآونة تحديدًا - لم يكن من دَيدَنه إلا تصديرُ الفتن والقلاقِل والبغضاء، وصناعةُ الزوابِع والشحناء، وإفسادُ العلاقات البريئة بين أفراد المجتمع الواحد، وبين أفراد الأمة جمعاء؛ تشتيتًا للوحدة الإسلامية، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]، دون عقلٍ رادِع، ولا ضميرٍ وازِع.
وإن من المُقلِق للغَيُورين: أن تلكم النَّعرات الرَّعناء قد أمِرَ أمرُها وازداد، وتوسَّع مدُّها وارتاد، ولكن دون إنصافٍ أو سداد؛ حيث تتناولُ الحقائقُ المُدلَّلة الراسخة بالمُغالطات الماسِخة، وتتصدَّر الحقَّ الصُّراح، بالتمويه والجُناح، وأسانيد مبتورة الجَناح.
ولعَمرُ الله؛ إنه لا فوز للأمة وسعادة للخلق إلا بالدين الحق على هدي الوحيَيْن الشريفين.
وإن كتابَ الله أعدلُ حاكمٍ فيه الشِّفا وهدايةُ الحيرانِ
والحاكمُ الثاني كلامُ رسوله ما ثمَّ غيرُهما لذي إيمانِ
وصدق الله العظيم حيث يقول في كتابه الكريم - وهو أصدق القائلين -: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
بارَك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيم.

ابوحاتم 05-21-2011 11:32 PM


تابع خطبة المسجد الحرام - 17 جمادى الثانية 1432 - السعادة في الإعتصام بالكتاب والسنة - عبد الرحمن السديس

الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمٍ أثنَت بها الجوارِحُ والسرائر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً لهَجَت بها الألسُن والضمائرُ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أزكى الأوائل والأواخر، من اقتفى هديَه حازَ المآثِر والمفاخِر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وذريَّته النجومِ الزواهِر، وصحابته البالغين أسمى البشائر، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، والزَموا دينَ الحق وما له من زكِيِّ الشعائر تفوزوا بخير الجزاء وعظيم الذخائر، وتُهدَوا إلى أسنَى الدلائل والبصائر.
معاشر المسلمين:
وفي خِضَمِّ هاتيك الأمواج وزخارِها الثَّجَّاج، واستشرافًا لآفاق مُستقبلٍ أزهرٍ أغرّ؛ لزِمَ المجتمعات والأمم أن يُعيدَا صياغةَ أذهان الجيل من الشباب والفَتَيات، وتنمية الوعي الإسلامي الصحيح لديهم، في تواكُبٍ لأحداث العصر ومُتطلَّباته، وتطوُّراته وتحدياته، واستنهاضِهم للاعتزاز بالهديَيْن الشريفين: كتابِ الله وسنةِ نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ تحقيقًا لوحدة الأمة، وترسيخًا لأُخُوَّة الإسلام.
كُن في أمورك كلِّها مُتمسِّكًا بالوحي لا بزخارِفِ الهَذَيَانِ
واتبَعْ كتابَ الله والسننَ التي جاءت عن المبعوثِ بالفُرقانِ
أيها الإخوة الأحبة في الله:
وإن من منارات الاهتداء عند الفتن: تعظيم النصوص الشرعية، ولزوم الثوابت المرعيَّة، والاعتصام بالجماعة، والحذر من كل من يُريد إذكاء الفتن، وتفاقُم الأوضاع، وتأجيج الفُرقة والنزاع والشِّقاق والصِّراع، والتجاوُز على مُكتسَبات الأوطان، ومُقدَّرات الشعوب والبُلدان، والسعي في الأرض بالفساد، وعدم الانسياق المحموم والإغراق والسَّعار المذموم إزاء ما تبُثُّه القنواتُ الفضائية والشبكات المعلوماتية مما يبعثُ على التهييج والإثارة، في غيابٍ لصوت العقل والحكمة والنظر للمصالح العُليا، واعتبار المآلات، وألا تُنزَّل النصوص الشرعية في الفتن والملاحِم وأشراط الساعة على الوقائع والنوازِل المُعاصِرة بعينها.
كما ينبغي الإقبال على العبادة، والتزامُ الطاعة؛ فقد ورد عند مسلم وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «العبادةُ في الهَرْج كهجرةٍ إليَّ».
والإكثارُ من التوبة والاستغفار والإنابة والدعاء والضراعة، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42، 43].
تمسَّك بحبل الله واتبعِ الهُدى ولا تكُ بدعيًّا لعلك تُفلِحُ
ودِن بكتابِ الله والسننِ التي أتت عن رسول الله تنجُو وتربحُ
حفظَ الله أمتنا الإسلامية من شُرور الفتن كلِّها ما ظهر منها وما بطَن، وأدام علينا نعمةَ الأمن والإيمان والاستقرار والرخاء، إنه وليُّ التوفيق والسداد والرجاء.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خير الورَى، كما أمركم بذلك - جل وعلا -، فقال - عزَّ من قائلٍ كريمًا -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
وقد قال - عليه الصلاة والسلام - فيما أخرجه مسلمٌ في "صحيحه": «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلواتُ الله مع تسليمه ما جرى له في البحر فُلكٌ سَبْحُ
أبدًا تُهدَى إلى الخير الورَى من له في كُتْب الرحمن مَدحُ
أحمدُ والآلُ والصحبُ ومَنْ لهم يقفُو على الإثر وينحُو

ابوحاتم 05-21-2011 11:34 PM

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مستقرًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأدِم الأمن والاستقرار في بلادنا، وأصلِح ووفِّق أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق إمامنا بتوفيقك، وأيِّده بتأييدك، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عمله في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحة، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق جميع ولاة المسلمين لتحيكم شرعك واتباع سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين.
اللهم أعِذنا والمسلمين من مُضِلاَّت الفتن، اللهم أعِذنا والمسلمين من مُضِلاَّت الفتن ما ظهر منها وما بطَن، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المَدينين، واشفِ برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم احقِن دماء المسلمين، اللهم احقِن دماء المسلمين، اللهم احقِن دماء المسلمين، اللهم احفظ دينهم وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ المسجد الأقصى، اللهم احفظ المسجد الأقصى، اللهم احفظ المسجد الأقصى، اللهم طهِّره من رِجس الصهاينة المُعتدين المُحتلِّين يا قوي يا عزيز، يا أكرم الأكرمين يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبُّ وترضى يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].
ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 05-28-2011 04:53 PM



خطبة المسجد الحرام - 24 جمادى الثانية 1432 - شرف الانتساب للسلف الصالح - صالح آل طالب

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزَّ عن الشبيه وعن النِّدِّ وعن المَثيل وعن النَّظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدي هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
ألا وإن خير الوصايا بعد المحامِد والتحايا: الوصيةُ بتقوى الله العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
من اتقى اللهَ كان معه، وأحبَّه وتولاَّه، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 4]
فإذا حظِيَ العبدُ بمعيَّة الله هانَت عليه المشاقُّ، وانقلَبَت المخاوفُ في حقه أمنًا، فبالله يهُون كل صعبٍ، ويسهُلُ كل عسيرٍ، ويقرُب كل بعيد، وبالله تزول الهموم والغموم، وتنزاحُ الأكدار والأحزان؛ فلا همَّ مع الله، ولا غمَّ ولا حزن.
وإذا كان الله معك فمن تخاف؟! وإذا كان عليك؛ فمن ترجو؟!
أيها المسلمون:
الحضارةُ الإنسانية بمُكتشفاتها ومُخترعاتها غالبًا ما يكون آخرُها خيرًا من أولها بخلاف أديان الناس ومُعتقداتهم؛ فإن مُتديِّني كل دينٍ صحيحٍ يكون أولهم خيرًا من آخرهم، وسلَفُهم أهدى من آخرهم، ذلك أن الحضارة بدأت تحبو، في حين أن الأديان وُلِدت واقفة، والحضارةُ تراكمٌ معرفي، أما الدين فهو وحيٌ مُنزَّل وهديٌ مُحكَم.
والفرقُ بين الأتباع الأوائل لكل دينٍ صحيح وبين مُتأخِّريهم كمثل الفرق بين الماء عند منبعه والماء عند مصبِّه بعدما جرى وخالطَ ما خالطَ من الشوائب.
لذا فإن خير يهود: أنبياؤهم وأحبارُهم الأولون، وخيرَ النصارى: عيسى ابن مريم وحواريُّوه، وخيرَ المسلمين: محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابتُه المرضيُّون ثم الذين يلُونهم ثم الذين يلُونَهم.
وكلما غبَرت أمةٌ أو قرنٌ من الناس طُوِي معهم علمٌ ورُفِع معهم فضل، مِصداقُ ذلك ما ورد في وصية الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه قبل الرحيل: «إنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة».
وإذا شئتَ أن تعرف قُربَ أهل دينٍ من دينهم فانظر إلى قُربهم من سلَفهم، فكلما اقتربوا اهتدَوا، وكلما جفَوا ضلُّوا، أما إن لعنَ خلفُ أمةٍ سلَفَهم فإنه لا خير فيهم؛ فهم دسيسةُ عدوٍّ، وصنيعةُ كائد.
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "إذا رأيتَ الرجلَ يذكر أحدًا من الصحابة بسوءٍ فاتَّهمه على الإسلام".
ولأجل هذا زخرَت مُصنَّفاتُ الأئمة بالحثِّ على التمسُّك بحُجَجِ السلف عند الاتباع وفهمِ نصوص الوحيَيْن؛ فهو أمَنةٌ من الانحراف، وضمانةٌ من الضلال.
أيها المسلمون:
يتأكدُ الحديثُ عن المنهج الحق في وقتٍ تعدَّدت فيه المرجعيَّات، وتبايَن الاستمداد، وقلَّ العلماء، وندَر الناصحون، حين تكثُر الشُّبَه، ويُلبَّسُ الحق على أهله، ويحُولُ بينهم وبينه دعاةُ الضلالة وعِداةُ الهداية وأدعياءُ العلم، وهم أقربُ إلى الضلال وإن تباكَوا على الإسلام ورسوله والآل.
وحين أدرك العدوُّ هذه الحقيقة سعى لفصل خلف هذه الأمة عن سلفها، وإيغار قلوب مُتأخِّريها على مُتقدِّميها، وتشويه سِيَرهم وتواريخهم.

ابوحاتم 05-28-2011 05:03 PM

عباد الله:
ولأن الأمم تُؤتَى - في الغالب - من جهل أبنائها؛ فقد أكمل بعضُ من نُحسِنُ بهم الظنَّ من جهلة الأمة مشروعَ عدوهم، فانتسَبوا للسلف وتسمَّوا باسمهم، وأنشأوا جماعاتٍ ومُنظَّماتٍ اختطفَت ذلك الاسم الشريف واستأثرَت به، ثم ارتكَبَت باسمه انحرافات، وافتعَلَت خُصومات.
ولم يُفوِّت عدوُّهم تلك الفرصة فدفع بعملائه ليركَبوا معهم المَوجة، ويُوسِّعوا الهُوَّة بالانتساب للسلف الصالحين، ونصَّبوا أنفسَهم مُمثِّلين للسلفية، فحُمِل خطؤهم على صوابها، وغُلُوُّهم على وسطيَّتها واعتدالها، حتى صار الإسلام يُعادَى باسم مُحاربة السلفية، وصار الإعلامُ يصِف المُتطرِّفين والإرهابيين بأنهم سلفيُّون، ووُصِفت عودةُ الأمة لدينها الصحيح بالسلفية المُتطرِّفة تنفيرًا وتشويهًا للتديُّن، وأصبحت السلفيَّةُ سُبَّةً وجريمةً يُلاحَقُ أربابُها، ويَتبرَّأ منها أصحابُها الذين هم أصحابُها، وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الفتح: 26].
يا أيها المسلمون:
سلفُكم هو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وصحابتُه والقرون المُفضَّلة؛ فبأيِّ كتابٍ وجدتموهم يقتلون المسلمين، أو يخونون المُستأمَنين، أو يدعون من دون الله الأئمةَ والصالحين، أو يتبرَّكون بالأضرحة وقبور السالفين، أو يُثيرون الفتن بين المسلمين؟!
سلفُكم - يا أيها المسلمون - حريصون على جمع الكلمة، ووحدة الصفِّ، وتنقية الدين من تحريف الغالين، وانتحال المُبطِلين، وتأويل الجاهلين، سلفُكم كانوا أهدى طريقًا، وأقوم مسلكًا، وأتبعَ للكتاب والسنة، وأعلمَ بالوحي؛ فكانوا حقًّا مسلمين.
الانتسابُ للسلف ليس دعوى يدَّعيها شخصٌ أو جماعة، أو يتبنَّاها حزبٌ أو مُنظَّمة؛ بل هي طاعةٌ واتباع، ووحدةٌ واجتماع، ونبذٌ للفُرقة والاجتماع.
منهج السلف الصالح هو الإسلام الأول الذي عرفه أبو بكرٍ وعمر وعثمانُ وعلي، هو النَّهجُ الذي قاتلَ لأجله خالدٌ وسعد، واستُشهِد في سبيله حمزة ومُصعب، هو الجادَّة الذي سلَكها ابنُ مسعودٍ وابنُ عباس، وهو السبيلُ الذي ترسَّمه الحسنُ البصري والنَّخعيُّ والشعبيُّ، وهو الفِجاجُ التي طرَقَها أبو حنيفة ومالك والشافعيُّ وأحمد، هو الطريق الذي خطا فيه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، وأولئك كل أولئك وكثيرٌ غيرهم على منهجهم، سِيَرهم محفوظة، وآثارُهم معلومة، وكتبُهم مُسطَّرةٌ ومخطوطة.
فالسعيدُ من تمسَّك بما كان عليه السلف، واجتنبَ ما أحدثَه الخلف، وما أسهل الاتباع وأيسر الاهتداء إن عافَى الله من دعاة الضلالة.
وقد شهِد الله تعالى بقوله: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].
عن عمران بن حُصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلُونهم، ثم الذين يلُونَهم ..» الحديث؛ أخرجه البخاري ومسلم.

ابوحاتم 05-28-2011 05:12 PM

أيها المسلمون:
إن منهج السلف الصالح هو المنهجُ الذي يُمثِّل هذا الدين العظيم في شُموله وصفائه كما يُمثِّل المسلمين في اجتماعهم وائتلافهم، إنه اسمٌ ينتظِمُ الإسلامَ كلَّه كما ينتظِمُ جميعَ المسلمين الثابتين على الإسلام الذي كان عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، فهو شريعةُ الله في صفائها، وهو عقيدةُ الحق في نقائها، لا يحقُّ لجماعةٍ أو فردٍ أن تحتقِرَه.
فالذي يرسمُ حدودَ هذا المنهج هو القرآنُ الكريم، والذي يُحدِّدُ معالمَه سنةُ النبي الخاتم، وهو الأمَنةُ من كل خلافٍ واختلاف، بذلك المنهج تُعرفُ الحادثات من الدين فتُتَّقى، ويُعرفُ الأدعياء في علم الشريعة فيُحذَرون، ويُعرف الشاقُّون لصف الأمة ووحدتها فيُجتنَبون، ويُعرف المُخلِصون المُهتَدون فيُتَّبعون.
تكمُن أهميةُ نهج السلف الصالح في كونه التطبيقَ العمليَّ الأول للإسلام، تحت سمع وبصر رسول السلام - عليه الصلاة والسلام -، وتمثَّله التابعون بعد ذلك تحت سمع وبصر الصحابة المشهود لهم بالخيريَّة والاصطفاء، وكذلك تابِعوهم؛ فمن الذين يُزايِدُ على ذلك النهج، ومن يجرؤُ أن يدَّعيَ أن الحق خلافَه؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، خلقَ خلقَه واصطفَى منهم من اصطفَى، وجعل خيرتَهم أنبياءهم ومن ترسَّم سبيلَهم واقتفَى، وتبارك الله مُثيب الطائعين لأمره، ومن خالفَ منهم إن شاء عذَّب أو عفا، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مَثيل ولا شبيه ولا كِفَا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن لمنهجهم اقتفَى.
أيها المسلمون:
منهجُ السلف منهجٌ شاملٌ في النظر والاستدلال، في التلقِّي والاستمداد، والارتباط بالنصِّ الشرعي، وفي نبذ المُحدثات في السلوك والتعبُّد، ولا يكادُ يخلو أحدٌ من المُنتسبين إليه في كل مكانٍ من خللٍ في الفهم أو في التطبيق، إلا أن الخلاف في امتثال هذا المنهج في بعض الفروع وجُزئيات لا يجوز أن يكون داعيًا إلى تصنيف المُخالِف، أو نبذه باسمٍ يقطعُ نسبتَه إلى السلف؛ فإن الأصل في كل مسلمٍ لم يتلبَّس بشيءٍ من الأصول البدعية المُحدثة أنه على نهج السلف وإن وقع في معصيةٍ أو خالفَ في مسألةٍ اجتهادية، ومن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة، وشِعارُ المُخالف: مُفارقة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
أيها المسلمون:
لقد تسرَّب الوهنُ للأمة بقدر ما تسرَّب إليها من البدع والمُحدثات، والانحراف عن الطريق الحق، وضعف الاستمداد من الوحييْن، وإذا كان المسلمون يلتمِسون اليومَ طريقًا للنهوض فليس لهم من سبيلٍ إلا وحدة جماعتهم، ولا سبيل إلى وحدة الجماعة إلا على الإسلام الصحيح، والإسلامُ الصحيح مصدرُه القرآن والسنة، وهذه خُلاصة الاتجاه السلفي.
عودةٌ بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا تلتبِس عليكم السُّبُل، ولا تُضلَّنكم الأهواء، ولا يصُدَّنكم كثرةُ الأعداء أو سَطوة الأدعياء.

اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعَه، وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابَه.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا ودينَنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، وأتِمَّ عليه الصحة والعافية والشفاء، وأسبِغ عليه لباس العافية.
اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواء الدين، اللهم وفِّق وليَّ عهده والنائبَ الثاني لما فيه الخير للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد، وكن لهم جميعًا مُوفِّقًا مُسدِّدًا لكل خير وصلاح.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، واحفظ ديارهم.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 06-04-2011 05:55 PM

خطبة المسجد الحرام - 1 رجب 1432 - الإعتصام بالكتاب والسنة سبيل النجاة - الشيخ أسامة خياط


الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحكمُ الحاكمين وأسرعُ الحاسبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله خاتمُ النبيين وإمام المرسلين وقائد الغُرِّ المُحجَّلين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -؛ فإن المرء لا يزالُ بخيرٍ ما اتقى الله وخالفَ نفسَه وهواه، ولم تُشغِله دنياه عن أُخراه.
أيها المسلمون:
حياةُ القلب وطُمأنينة النفس وسُمُوُّ الروح مطمحُ كل عاقلٍ، ومقصدُ كل لبيبٍ، ومُبتغَى كل أوَّاب، ومُنتهى أمل كل راغبٍ في حيازةِ الخير لنفسه، ساعٍ إلى خلاصها من أغلال الشقاء، واستنقاذها من ظلمات الحَيرة ومسالك الخيبة وأسباب الهلاك.
وإذا كان لكل امرئٍ في بلوغ ذلك وجهةٌ هو مُولِّيها وجادَّةٌ يسلُكها؛ فإن المُوفَّقين من أُولي الألباب الذين يسيرون في حياتهم على هُدًى من ربهم، واقتفاءٍ لأثر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لا يملِكون إلا أن يذكروا - وهم يلعقون الجراح، ويتجرَّعون مرارة الفُرقة، وغُصَص التباغُض والتقاتُل - لا يملِكون إلا أن يذكروا آياتِ الكتاب الحكيم وهي تدلُّهم على الطريق، وتقودُهم إلى النجاة.
حين تُذكِّرُهم بتاريخ هذه الأمة المُشرقِ الوضِيء، وتُبيِّنُ لهم كيف سمَت وعلَت وتألَّق نجمُها وأضاء منارُها، وكيف كان الرَّعيلُ الأول منها مُستضعفًا مهيبَ الجناح، تعصِفُ به أعاصيرُ الباطل، وترميه الناسُ عن قوسٍ واحدة، فآواه الله ونصرَه نصرًا عزيزًا مُؤزَّرًا، وأسبغَ عليه نعَمَه، وأفاضَ عليه البركات، ورزقَه من الطيبات، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26].
إنه إيواءٌ إلهي، وتأييدٌ ربَّاني من الله القوي القادر القاهر الغالب على أمره، تأييدٌ مُحقِّقٌ وعده الذي لا يتخلَّفُ لهذه الأمة بالاستخلاف في الأرض، والتمكين تبديل خوفها أمنًا إن هي آمنت بالله، وعمِلت الصالحات، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55].
ولا غَروَ أن يبلغ ذلك الرعيلُ الأول من التقدُّم والرُّقِيّ مبلغًا لم يسبِقه إليه ولم يلحق به أحدٌ عاش على هذه الأرض؛ لأن الإيمان دليلُه، ولأن الإسلام قائدُه، ولأن الشريعة المُباركة منهجه ونظامُ حياته، فاستحقَّ الخيرية التي كتبَها الله لمن آمنَ به واتبع هُداه، وتبوَّأ مقام الشهادة على الناس يوم القيامة، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143].
وإن آيات الكتاب الحكيم لتُذكِّرهم أيضًا أن الاستقامة على منهج الله واتباعَ رضوانه وتحكيم شرعه لا يكون أثرُه مُقتصرًا على الحَظوة بالسعادة في الآخرة ونزول جنات النعيم فيها فحسب؛ بل يضمنُ كذلك التمتُّع بالحياة الطيبة في الدنيا، وتلك سنةٌ من سُنن الله في عباده لا تتخلَّفُ ولا تتبدَّل، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]، وقال - سبحانه -: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 1- 3].
فحين تكون حَيدةُ الخلق عن دين الله، والجَفوة بينهم وبين ربِّهم بالإعراض عن منهجه؛ هنالك يقع الخلل، ويثور الاضطرابُ المُفضِي إلى فسادٍ وشرٍّ عظيم عانَت من ويلاته الأمم من قبلنا، فحلَّ الخِصامُ بينهم، واضطرَمت نارُ العداوة والبغضاء بعدما كانت المحبةُ والأُلفةُ تُظلُّهم بظِلالها، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14].
وهو خللٌ يتجاوز فسادُه وتتسعُ دائرتُه فتشمل الأرضَ والبيئةَ كلها، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
ذلك أن الصلة وثيقةٌ بين الكون وبين ما نأتي وما نذَر من أعمال، فإن مشَت على سَنَنٍ قويم وطريقٍ مستقيم بإدراك الغاية من خلق الإنسان، وتحقيق العبودية لله رب العالمين، والمُسارعة إلى مرضاته، والاستقامة على منهجه؛ فإن الله يُفيضُ عليهم من خزائن رحمته، ويُنزِّلُ عليهم بركاتٍ من السماء، ويُفيئُ عليهم خيرات الأرض، كما عبَّر عن ذلك نوحٌ - عليه السلام - في دعوته لقومه وحثِّه لهم على الإيمان بربهم والاستغفار لذنوبهم: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10- 12].
وقال - عزَّ اسمُه - في شأن المُعذَّبين من أهل القرى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
وتلك مساكنُ وآثار الذين ظلموا أنفسَهم بنبذ كتاب الله وراءهم ظِهريًّا، واتخاذهم أهواءهم آلهةً من دون الله، واتباعهم ما أسخط اللهَ، وكراهتهم رضوانه؛ فكانت تلك الديار مشاهِد عِظةٍ وذكرى لأولي الألباب، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45].
ولذا فإن أُولي النُّهى لا يملكون - وهم يسمعون نداء الله يُتلى عليهم في كتابه - إلا أن يُصيخوا ويستجيبوا لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ هي دعوةٌ تحيا بالاستجابة لها القلوب، القلوب التي لا حياة لها إلا بالإقبال على الله تعالى وتحقيق العبودية له، ومحبته وطاعته، والحذر من أسباب غضبه، وبمحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته، والاهتداء بهديه، وتحكيم شرعه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24].
فإنه - سبحانه - يحُول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الإيمان - كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - أي: فلا يستطيع أن يُؤمن ولا يكفر إلا بإذنه - عز وجل -.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده"، والنسائي وابن ماجه في "سننهما" بإسناد صحيح عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من قلبٍ إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإذا شاء أن يُزيغَه أزاغَه»، وكان يقول: «يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك»، قال: «والميزانُ بيد الرحمن يخفِضه ويرفعه».
فاتقوا الله - عباد الله -، واستجيبوا لله وللرسول، واذكروا أن ربكم قد ضمِن لمن اتبع هُداه وسار على منهجه أن يُؤتِيَه المجدَ ويُبلِّغه الرِّفعةَ التي تصبُو إليها نفسُه، فقال - عزَّ اسمُه -: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44]، وقال - سبحانه -: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10]؛ أي: شرفكم، ومجدكم، ومكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم، وفوزكم في الدنيا والآخرة.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن المؤمن حين يقفُ على مُفترق طرقٍ، وحين تُعرضُ عليه شتَّى المناهج؛ لا تعتريه حيرةٌ، ولا يُخالِجه شكٌّ في أن منهج ربِّه الأعلى وطريقه هو سبيل النجاة وطريق السعادة في حياته الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين.
وفي آيات الكتاب الحكيم مما قصَّ الله علينا نبأه في شأن أبينا آدم - عليه السلام - حين أُهبِط من الجنة بتأثير إغواء الشيطان وتزيين المعصية له أوضح الأدلة على ذلك، فأما المُتِّبعُ هُدى ربِّه فهو السعيدُ حقًّا، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123]، وأما المُعرِض عن ذكر ربه بمخالفة أمره وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبالأخذ من غيره فعاقبةُ أمره خُسره، ومعيشة ضنكًا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه: 124- 126].
إنها معيشةٌ يُصوِّر واقعَها الإمام الحافظُ ابن كثيرٍ - رحمه الله - بقوله: "أي: ضنكًا في الدنيا؛ فلا طمأنينة له، ولا انشراحَ لصدره؛ بل صدرُه ضيِّقٌ حرِجٌ لضلاله وإن تنعَّم ظاهرُه، ولبِسَ ما شاء، وأكل ما شاء، وسكنَ حيث شاء؛ فإن قلبه ما لم يخلُص إلى اليقين والهُدى فهو في قلقٍ وحيرةٍ وشكٍّ، فلا يزالُ في ريبه يتردَّد، فهذا من ضنك المعيشة". اهـ.
أعاذنا الله منها، ومن العمى بعد الهدى، وجعلنا ممن أنابَ إلى ربه وتابَ إليه فهدى.
فاتقوا الله - عباد الله -، واتخذوا مما جاءكم من ربكم من البينات والهُدى خيرَ عُدَّةٍ تبلغُون بها سعادةَ الآخرة والأولى.
وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى؛ فقد أمركم بذلك الربُّ - جل وعلا -؛ فقال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطغاة والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم التناد.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غير مفتونين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعَ سخطك.
اللهم احفظ المسلمين في جميع ديارهم، اللهم احفظهم في سوريا وفي ليبيا وفي اليمن، وفي جميع ديارهم وأمصارهم يا رب العالمين، وقِهم شر الفتن، اللهم قِهم شر الفتن، اللهم قِهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطَن، واحقن دماءهم، وألِّف بين قلوبهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 06-19-2011 12:45 AM

خطبة المسجد الحرام - 15 رجب 1432 - الشيخ صالح بن حميد
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله من لجأ إليه بلَّغه فوق مأموله، ومن سأله أعطاه أكثر من سُوله، أحمده - سبحانه - منَّ على من تاب إليه وأنابَ بعفوه وغُفرانه وقَبوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مؤمنٍ بالله ورسوله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله بيَّن سبل الهدى وبلَّغ الدينَ كلَّه بفروعه وأصوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أقاموا شرع ربهم بكماله وشموله، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها المسلمون - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله - فلقد نطقَت الغِيَر بالعِبَر، فانظروا لخلاصكم قبل انقضاء أعماركم، واعتبِروا بمن مضى من القرون والأقران، وسلُوا القبورَ عن ساكنِيها، فالعاقلُ من راقبَ العواقبَ، ومن أخطأَته سهامُ المنيَّة قيَّده عِقالُ الهَرَم، ألا يكفي زاجرًا للمُقيمين مَن رحَل؟!
فإذا عزمتَ - يا عبد الله - على الخير فبادِر، فالموت يفصِمُ العُرى، وليس في الآخرة من عِوَض، وسكرانُ الهوى بعيدُ الإفاقة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 9- 11].
أيها المسلمون:
داءٌ وَبيل وشرٌّ خطير يُولِّد أعظمَ الشرور، ويُنتِج أشد المفاسد، كم أُدمِيَت به من أفئدة، وقَرَحت من أكباد، وقُطِّعت من أرحام، وقُتِّل من أبرياء، وعُذِّب مظلومون، وطُلِّقَت نساء، وقُذِفَت مُحصَنات، وانتُهِكت أعراض، وتفكَّكَت أُسَر، وهُدِّمت بيوت؛ بل كم قد أُوقِدت به من فتن، وأُثِيرت نعَرات على مستوى الأفراد والأُسَر والبلدان والأقاليم، ففسَدت العلاقات، وساءت الظنون، ولم يدَع مُقترِفُها هذا الداء للصلح موضعًا، ولا للوُدِّ مكانًا.
مرضٌ خطيرٌ من أمراض القلوب وآفات اللسان وأدواء المجتمعات، وعصرُنا في إعلامه واتصالاته ومواصلاته ساعَدَ على انتشاره وزاد في آثاره، هل عرفتم هذا الداء - عباد الله -؟!
إنه: مرض الوِشاية والسعاية وبلاءُ النميمة وقَالة السوء؛ نقلُ الكلام بين الناس على جهة الإفساد، وزرع الأحقاد، وبثِّ الضغائن، النميمةُ رأس الغدر، وأساسُ الشر، وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 10- 13].
صفاتٌ مُتواليات، ونُعوتٌ مُتتابعات، كل خصلةٍ أشد من الأخرى، حلاَّفٌ كثيرُ الحلِف؛ لأنه يعلم من نفسه عدم صدقه وشك الناس فيه وانتزاع الثقة منه، مَهينٌ حقير ولو بدا نظيرَ الهيئة بهيَّ الطلعة؛ لأنه لم يُكرِم نفسَه في داخله، ولم يقدُر الناسَ، والمهانة صفةٌ نفسية تلصقُ بالمرء ولو كان ذا جاهٍ أو مالٍ أو جمال.
همَّازٌ غمَّاز باللَّحَظ واللفظ والإشارة والحضور والغَيبة.
منَّاعٌ للغير عن نفسه وعن غيره، مُعتدٍ مُتجاوزٌ للحق والعدل والإنصاف، فضلاً عن أن يكون من أهل الإحسان ونشر الخير والمحبة.
أثيمٌ واقعٌ في المحرمات، والغٌ في المعاصي، عُتُلٌّ فظٌّ قاسٍ مكروهٌ ولو بدا فيه لُطفٌ مُتصنَّع ورقَّةٌ مُتكلَّفة، زنيمٌ شرير يحبُّ الإيذاء ويستمتعُ ببذل الشر وزرع الأحقاد.
النمَّام - معاشر الأحبة - ذو الوجهين يُقابِل هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، مُتلوِّن حسب المواقف والمصالح، ما دفعَه إلا عداوةٌ وبغضاء، أو مُشاركة أصحاب السوء ورفاق الرذيلة، أو حب التحدُّث أو التزيُّن في المجالس بأعراض الناس، أو إرادة السوء بمن حكَى عنهم ووقع فيهم.
الواشي ينسى نفسَه ويشتغل بعيوب غيره، إن علِم خيرًا أخفاه، وإن درَى بشرٍّ أفشاه، وإن لم يعلَم هذا ولا ذاك امتطَى مطيَّة الكذب، وبئس مطيَّة الكذب: زعَموا.
الواشُون والنمَّامون باعوا دينَهم بدنيا غيرهم، ورضا الناس بسخَط الله، تملَّكوا الناس ولم يخافوا الله، لا يألون الأمةَ خسفًا، والأمانةَ تضييعًا، والأعراض انتهاكًا وتقطيعًا.
النمَّام لسانُه حلو وقلبه يلتهِب، يُفسِد في ساعة ما لا يُفسِده الساحر في سنة، لا يعرف للشهامة سبيلاً ولا للمروءة طريقًا، كم حمل هذا النمَّام من الأوزار والآثام والخطايا، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «لا يدخل الجنةَ نمَّام»؛ متفق عليه من حديث حذيفة - رضي الله عنه -.
وقد مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال: «إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير؛ بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتِرُ من البول»؛ متفق عليه.
وفي الحديث عند مسلم: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنبِّئكم والعَضْه؟ هي النميمة القالَة بين الناس».
وفي الحديث الآخر: «تجدُ من شر الناس عند الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ».
ويقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: "النمَّامُ شر خلق الله".
وقد أجمعت الأمة على تحريم النميمة؛ فهي من أعظم الذنوب والكبائر، وفي الحديث: «شرُّ عباد الله المشَّاؤون بالنميمة، المُفرِّقون بين الأحبة، الباغون للبُرآء العَنَت»؛ أخرجه أحمد.
معاشر الإخوة:
النميمة مبنيةٌ على الكذب والحسد والنفاق، وهذه أثافِيُّ الذل، وكفى بذلك قُبحًا وذمًّا وسوءًا.
النميمة من شر ما مُنِيت به الفضائل ورُزِئَت به العلاقات، والنميمة - وقاكم الله - تكون بالقول وبالكتابة وبالرمز وبالإشارة وبالإيماء.
معاشر الإخوة:
والنميمة تقعُ بين الأُسَر والأزواج، تُضرِمُ النار في البيوت العامرة، وتنشر الفُرقة في الأُسَر الكريمة، تُوغِر الصدور، وتُقطِّع الأرحام، وتقعُ في الموظَّفين والمسؤولين وأصحاب الأعمال بقصد إلحاق الضرر والحرمان من المُستحقَّات المالية والوظيفية.
وليَحذر الكبراء والوُجهاء والعلماء من بعض الجُلساء ممن قلَّت ديانتُه، وضعُفَت أمانتُه، الذين يُرضون الناسَ بسخط الله، فعلى هؤلاء الفُضلاء الكُرماء التثبُّت فيما يُنقَل، والتمحيصُ فيما يُقال، حتى لا تُبسَط أيدي، وتقوى أطماع، ومن ثمَّ تحُلُّ العقوبة بالأبرياء، وتُؤكَل أموال الضعفاء.
ومن أهم ما يجب التنبُّه إليه، والتحذير منه، والتمعُّن فيه: ما تتناقَله وسائل الإعلام، وما يكتُبه بعضُ الكاتبين من: قالَ فلان، وأخبر فلان، ورأى فلان.
ومن ذلك: ما تُمارِسُه بعض وسائل الإعلام وشبكات المعلومات والاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي فيما يُعرف بالتعليقات والتحريرات والأخبار والمتابعات والأحداث، فهي لا تخلو من وِشاية وسِعاية وتحريفٍ على جهة الغمز واللمز والطعن المُباشر وغير المباشر مما يُثير الفتن، ويُثير النعَرات الإقليمية والمذهبية والسياسية في أكاذيب وأراجيف وظنونٍ لا تقِف عند حد.
وفي أيام الحروب والفتن واضطراب الأحوال وظروف الشائعات يعظُم الأمر ويشتد الخَطب، مما يدعو إلى مزيدٍ من الحيطة والحذر والتحرِّي، ناهيكم بما تبلُغه هذه الكلمات والتعليقات المُبطَّنة بالوشاية والنمنمات تبلغه في أصقاع الدنيا وآفاقها وقد ركِبت القاعدة الظالمة:الغاية تُبرِّر الوسيلة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
معاشر المسلمين:
ومن حُمِلت إليه النميمة، أو بلَغته الوِشاية، أو حضر مجلس نمَّام، أو سمِعه فينبغي ألا يُصدِّقه، فإنما هو فاسق، وقد قال - عز شأنه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6]، كما يجبُ بُغض هذا المسلك والنفرة منه، فهو معصيةٌ من أكبر المعاصي، وكبيرةٌ من كبائر الذنوب.
والأجمل بالمسلم والأجدر ألا يُسيءَ الظنَّ بأخيه الذي نُقِل عنه الكلام، ثم إذا سمِع كلامًا أو بلغه حديث فلا يتجسَّس ولا يتتبَّع، وليحذَر أن يكون نمَّامًا ليحكي ما بلَغه وينقُل ما سمِعه.
ومن قبل ذلك وبعده فليتق الله ولينصَح وليُنكِر بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فالخطر عظيم، والأثر جسيم، نصحًا لإخوانه، وحبًّا لهم، وشفقةً عليهم، فيسعى في كل ما يُؤلِّف القلوب، ويجمع الكلمة، ويحفظ المودة، وينبذ الفُرقة، ويُجنِّب البغضاء.
فاحذروا - رحمكم الله وعافاكم -، ومحِّصوا وتحقَّقوا، ولا تتعجَّلوا، واعفوا واصفَحوا واغفروا واسمعوا وأطيعوا.
سعى رجلٌ إلى عليِّ - رضي الله عنه - برجلٍ، فقال عليٌّ - رضي الله عنه -: "يا هذا! إن كنتَ صادقًا فقد مقتناك، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن شئتَ الإقالَة أقلناك"، فقال: أقِلني يا أمير المؤمنين.
وسعى رجلٌ بالليث بن سعد إلى والي مصر، فبعث الوالي إلى الليث، فلما دخل عليه قال الوالي: يا أبا الحارث! إن هذا أبلغني عنك كذا وكذا، فقال الليث: "سَلْه - أصلح الله الأمير - عما أبلَغَك: أهو شيءٌ ائتمنَّاه عليه فخاننا فيه فما ينبغي أن تقبَل من خائن، أو شيءٌ كذبَ علينا فيه فما ينبغي أن تقبَل من كاذب"، فقال الوالي: صدقتَ يا أبا الحارث.
وجاء رجلٌ إلى وهبِ بن مُنبِّه فقال: إن فلانًا يقول فيك كذا وكذا، فقال: "أما وجدَ الشيطانُ بريدًا غيرَك؟!".
وبعد، عباد الله:
فكم جرَّت هذه الصفةُ الذميمة على كثيرٍ من الأبرياء والغافلين طاهري القلوب سليمي الصدور، كم جرَّت من مآسٍ، وكم قضَت على أنفُس، وسلَبَت من أموال، وشتَّتت من أُسَر، وأوقعَت من علماء، وأخرجَت من ديار، وجلَبَت من مِحَن، واغبرَّت بصالحين مُطمئنين، وحرَمت أطفالاً وأمهاتٍ من أُسرهم وأهليهم، قطَّعت أرزاق ومنَعت نفقات بدون جنايةٍ اقترفوها؛ بل بوشايةٍ كانوا ضحيَّتها.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، فكم هي نعمةُ الله على عبده ألا يكون ممن يحسُدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فيعصِمه الله من النميمة، ويحفظه من الوشاية، ويحميه من قالَة السوء، ومن أراد السلامة فليجتنِب كثرة الكلام، وإفشاء الأسرار، وقبول مقالات الأقوام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة: 1- 9].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وهو بالحمد جدير، أحمده - سبحانه - وأشكره على فضله العميم وخيره الوفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشير النذير والسراجُ المُنير، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله ذوي القدر العليِّ وأصحابه أولي الشرف الكبير، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن على طريق الحق يسير، وسلَّم التسليم الكثير.
أما بعد:
فإخوانك - أيها المسلم - من إذا فارقتَهم حفِظوك، وإذا غِبتَ عنهم لم يَعيبوك، ومُبلِّغك الشر كباغيه لك، ومن أطاع الواشي أضاع الصديق، ومن نمَّ لك نمَّ عليك، ومن بلَّغك السبَّ فقد سبَّك، وشرٌّ من الساعي من أنصتَ إليه، ولو صحَّ ما نقلَه النمَّامُ إليك لكان هو المُجترئَ بالشتم عليك.
أما من نُقِل عنه الكلام فهو أَولَى بحلمِك وصفحِك؛ لأنه لم يُقابِلك بالسوء والشتم، ويكفيكم في ذلك: قول نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُبلِغنَّ أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإني أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سليمُ الصدر»؛ أخرجه أحمد.
فالعاقلُ يُغضِي عما ينقلُه الوُشاة، ويتحاشَى عما لا يليقُ بأهل العقل والحكمة؛ إذ عند التأمُّل والنظر ترى أن قصد النمَّام إلى المُخبِر أكثرُ من قصده إلى المُخبَر به، فاللومُ على من أعلَمك لا من كلَّمك.
قيل لأم الدرداء - رضي الله عنه -: إن رجلاً نالَ منكِ عند عبد الملك بن مروان، فقالت: "إن اتُّهِمنا بما ليس فينا فطالما زُكِّينا بما ليس فينا".
على أنه من نُقِل إليه من أخيه نميمة فلا مانع أن يُعاتِبه على الهَفوة، ويقبَل عُذرَه إذا اعتذَر من غير تعنيفٍ في العِتاب، ومن ثمَّ توطين النفس على الإكثار من الشكر عند الحِفاظ والصبر عند الضياع، والرفقُ بالجاني عِتاب، والصفحُ من شِيَم الأحرار.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وحافِظوا على أُخوَّة الإسلام ورابطة الإيمان، فمن أراد أن يسلم من الإثم ويبقى له وُدُّ الإخوان فلا يقبَل قولَ أحدٍ في أحد، فقد أحبَّ قومٌ بقول قوم وأبغضوهم بقول آخرين فأصبَحوا على ما سمعوا نادمين.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - عزَّ شأنُه، وهو الصادق في قيله - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الأئمة الحُنفاء المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانهم وأعوانهم لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رشدٍ يُعَزُّ فيه أهل الطاعة، ويُهدَى فيه أهل المعصية، ويُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم وابسُط عليهم أمنَهم، واجمع كلمتَهم، واكشف كربَهم، وأزِل غمَّهم، وطيِّب معاشَهم، وأرخِص أسعارهم، واحفظهم بحفظك، واكلأهم بعنايتك يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين، فإنهم لا يُعجزونك، اللهم أنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.

ابوحاتم 07-01-2011 06:24 PM

خطبة الجمعة 22/7/1432 من المسجد الحرام


الغيرة على الأعراض

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الغيرة على الأعراض"، والتي تحدَّث فيها عن الأعراض وكيف حافَظت عليه الشريعةُ المُطهَّرة، والسبل التي اتخذَتها وقايةً من انتهاكها، وحذَّر من فتنة النساء وانتشارها، ونبَّه إلى عدم الاستماع لأقوال المُحرِّرين للمرأة من دينها وعفافها، مُشيرًا إلى المخاطر التي يتسبَّب فيها الاختلاط بين الرجال والنساء.


الخطبة الأولى

الحمد لله أسبغ علينا نعمًا لم تزَل تترى فِياضًا، أحمده - سبحانه - وعدَ عبادَه المُتطهِّرين جناتٍ ألفافًا عِراضًا، فطُوبى ثم طُوبى لمن صانَ لمحارمِه أعراضًا، وأعرض عن الدنايا إعراضًا، الحمد لله حمدًا زاكِيَ الأثر، مُردَّد الذكر بالآصال والبُكَر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نسمو بها مقاصد وأغراضًا، وثباتًا على التُّقى وحِفاظًا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله بعثَ اللهُ به العفافَ والطُّهرَ بعد أن غاضَا، صلَّى عليه الباري وعلى آله الطاهرين الطيبين الداعين إلى المكارم فِعالاً وألفاظًا، وصحبه الأُلَى نشروا الفضائل في العالمين وألظُّوا بذلك إلظاظًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ يرجو من المنَّان شرابًا طهورًا وحِياضًا، وسلَّم تسليمًا مباركًا إلى يوم الدين ما تعاقبَ الملَوانَ وآضَا.
أما بعد، فيا عباد الله:
أنفسُ ما يُنحَلُ من الوصايا المُنجِحات والعِظات المُبهِجات: تقوى الله - عز وجل - ربِّ البريَّات، فالتقوى - رحمكم الله - لصيانة المحارم أوثقُ العُرى، وأغنى غناء لمن رامَ من المكارم الذُّرَى، وأعظمُ الزاد للشرف سَيرًا وسُرًى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة: 197].

بُشرى لمن زُوِّد التقوى لمُنقلبٍ حيَّاه مُدَّخرٌ فيه ومُطَّلَعُ

أيها المسلمون:
قصدَت شريعتُنا الغرَّاء تحقيق أعظم المصالح وأسنى المقاصد، وتزكية النفوس دون البوائِق والمفاسد، فصاغَت مجتمعًا شريفًا أَنوفًا للآفات والمُحرَّمات عَيُوفًا، وعن مساقط الأدران عَزوفًا، وبذلك قادَت أمتُنا المباركةُ حفظَ الأعراض بزمام، وبلغت من الذَّود عن المحارم الذِّروة والسَّنام، ومن ثَمَّ أذهَلت العالمين سلسال العفاف بعد الأُوام، يقول الملك العلاَّم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ[آل عمران: 110].
ومن تلك الخيرية الزكيَّة: أن جعل الديَّانُ انتهاكَ الأعراض قرينَ الشرك وقتل النفس المعصومة، يقول - جلَّ اسمه -: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا[الفرقان: 68]، فالمؤمنُ الغَيور يُؤثِر الموتَ على أن يرِد من الخَنا أكدار، والفوتَ اختناقًا على أن يتنسَّم أقذَار؛ بل إن خُدِشَ عِرضُه أبرقَ حميَّةً وثار، وأرعدَ واستثار، وكان كالقسورة إن دِيسَ عَرينُه أو وُسِم عِرنينُه، إنها الغيرةُ الإسلامية، والنخوة الإيمانية التي ملأت عليه وجدانَه ونفسَه، وفِكرَه وحِسَّه.
في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ يَغار، والله أشد غيرة»، وفي رواية: «وغيرةُ الله أن يأتي المؤمنُ ما حرَّم الله عليه»؛ رواه البخاري ومسلم.
إخوة الإيمان:
وفي هذا العصر الطافح - مع شديد الأسى اللافِح - عمَّ التفريطُ في أرسان العِفَّة والحياء والتصوُّن والإباء، ونهَضَ أقوامٌ خلف سراب التحرُّر - بلْهَ ضِرام الإغراء -، وأرخى كثيرٌ من الآباء والأزواج لمحارمهم الزِّمام، فلاطَفَت المرأةُ الرجلَ ومازَحَت، وتساهَلت في صيانتها وتسامَحت؛ بل في كثيرٍ من المجتمعات هتَكَت الحياء، فكشَفَت عن مواطن الفتنة والإغراء دون حرجٍ أو إغضاء، وما درَت أنها تُحاربُ المجتمع بسلاح الإثارة، وتُزنِقُ النفوسَ في أودية الغواية وحمأة الخطيئة.
وفي مُوازي ذلك تمُدُّ أوابدُ من البشر المُفترسة، وسباعٌ من الإنس الضارية حبائلَ التحرُّش وخُدع الإغواء لإيقاع الأنفس الطاهرة في الغيِّ الدنيء، والمُستنقَع الآسِن الوبِيء، وإرغام شُمِّ المعاطِس بتدنيس شرفهم النقي وعِرضهم السنِيّ.
إنها النَّزوات الطائشات والخيانات الهاصِرات التي قوَّضت حصنَ الأعراض، وكانت عن الغيرة في جفاءٍ وإعراض، خصوصًا في الإجازات عند المُنتجعات والسياحات، هنالك وهناك.
أصونُ عِرضي بمالي لا أُدنِّسُه لا بارَكَ الله بعد العِرضِ بالمال

لأن اكتساب المال لصيانة الأعراض لا لابتذالها، ولعِزِّ النفوس لا لإذلالها.
ربَّاه ربَّاه! أين فوارس الحياء والحِشمة، أين لُيوث الشَّرف والعصمة؟! وا حرَّ قلباه إن تبلَّد الإحساس وهانت المحارم لدى الناس.
أيها المسلمون، أيها الشُّرفاء الغُير:
هنا تُزمجِرُ الحروف، وتصطرخُ الكلمات، وتتفجَّرُ العبارات، وتتفجَّر شآبيبُ العَبَرات حيالَ اغتصاب العِرض والشرف، وما جرَّ من كمدٍ وأسف؛ فكم من فتاةٍ فرَّطت في خَفرها فانطفأ سَناؤها؟ وكم من مُراهِقةٍ أغراها أغلفُ القلب صفيقُ الشعور فتحطَّم إباؤها؟ وكم من نفسٍ وادِعة اجتُثَّ صفاؤها؟ وكم من أُسرٍ هانئة مُزِّق هناؤها؟
فكانت الحسرات والجراحات، والحروقات والنشَّجات، إن غَيمةً واحدة قد تحجُب شمسَ السعادة أبدًا؛ فكيف بهاتيك الصواعق والرُّهوب.
يا هاتكًا حُرُم الرجال وسِتـرَهم قد عِشتَ غير مُكرَّمِ
عِفُّوا تعِفُّ نساؤكم في المَحرَمِ وتجنَّبوا ما لا يليقُ بمسلمِ


ويا سبحان الله! عباد الله:
أغاضَت ينابيعُ الغيرة في القلوب، وغدَت جذوةُ النَّخوة في هُفولٍ ولُغوب؟! وبأخرةٍ تتكسَّر النِّصالُ على النِّصال، في افتراسِ القاصِرات، تلكم الزَّهرات الزاهِرات، العَبَقات الناصِعات.
ووايْمُ الله! لئن كان سارق المال مجرمًا؛ فإن سارق الأعراض رأسُ الجُناة وأكبرُ المجرمين، وما شرع الله الزواجِر والحدود إلا لتطهير المجتمعات من كل غويٍّ لَدود، ولانزجار النفوس عن شُؤم تلك الجريمة الباتِكة الأليمة كانت العقوبة على سمع المؤمنين وبصرهم، يقول الحق - تبارك وتعالى -: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[النور: 2].
معاشر المسلمين:
وصَوبَ هذه القضية التي انداحَ ضررُها واستحَرَّ خطرُها لزِمَ كشفُ الشُّبهة والمِرية، ودحضُ المُغالَطة والفِرية، وذلكم - يا رعاكم الله - أن فِئامًا عدُّوا حفظَ المكارم وصَون المحارم من لدن الأُباة تنكُّرًا لطبيعة الرُّقِيِّ في الحياة، ووأدًا للطموحات وتقدُّم المجتمعات، واتهامًا للنوايا البريئات؛ بل هو ببُهتهم شِنشِنةُ مادَت وبادَت.
والتأكيدُ على حجابِ المرأة وسِترها رأوه هضمًا لحقِّها، وحكمًا برِقِّها، يا لله والله أكبر؛ آلدعوة إلى حماية الشرف على هدي خير السلف معرَّةٌ تُدفَع ومسبَّةٌ تُرفع؟! يُهاجمُها المأفونون دون بأسٍ وخجَل، أو استفظاعٍ ووجَل، يُعزّزُ أهواءَهم أقلامٌ مسمومة تُروِّجُ لإبراز الوضيعات ووصف الوَضاعات، وتأجيجِ الشهوات والنزوات التي تدُكُّ معاقلَ النخوة والرجولة، وتبُكُّ الحفيظةَ والبطولة، وما ذلك إلا سقوطٌ بالفطرة العفيفة، وارتكاسٌ بالأخلاق الشريفة، وتمرُّدٌ على أحكام الديَّان وشِرعة الرحمن.
ألا ليتَ شِعري يا أمة النخوة والإباء؛ لئن أُصيبت الغيرةُ على الأعراض بخدشٍ أو مِقراض ونحن عُصبةٌ أيقاظ إنا إذًا لخاسرون، إنا إذًا لخاسرون، وغدًا لنادمون!!
وفي ديوان الحِكَم المأثورة: "الذبُّ عن الشرفِ والعِرض أربَى من الذِّيَاد عن الحِمَى والأرض، ومن أحبَّ المكارم غارَ على المحارم".
إذا المرءُ لم يَدنَس من اللُّؤمِ عِرضُه فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ
وإن هو لم يحمِلْ على النفس ضَيمَها فليس إلى حُسن الثناء سبيلُ

أيتها الأخوات الشريفات، والحرائرُ المَصونات العفيفات:
يا من أعزَّكنَّ الله بالحجاب، وشرَّفكنَّ بالسِّتر والجلباب! تمسَّكن بحجابكنَّ، اللهَ اللهَ في حيائكنَّ وعفافكنَّ، اعلَمن - يا رعاكنَّ الله - أن صحوةَ المرأة الحَصان الرَّزان المُنبثِقَة عن مشكاةِ الشرع الحنيفِ ومقاصِده الكلية وقواعد المرعيَّة العليَّة هي التي تقود من مسيرة الفضيلة والذكاء مراكبها، وتتصدَّرُ من الدعوة للطُّهر والنقاء مواكِبها، يقول - عز وجل -: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى[الأحزاب: 33].
إنه لعَمرُ الحق الخُلُق الحيِيُّ الرفيعُ الخفِرُ البديع لما يجبُ أن يكون عليه الأوانِسُ الطاهرات، والنساءُ الفُضليَّات، حفظًا لفطرتهنَّ النفسية، ولطائفهنَّ الوجدانية، وتحقيقًا للفوز والحياة، والعصمة والنجاة.
وبعدُ، أمة الإسلام:
ألا فلنحذَر على عِفَّتنا وعِزَّتنا وغيرتنا وكرامتنا من أحلاسِ الغريزة الخَسيسة، والنَّزوات الخبيثة التعيسة، التي تفتِكُ بالأمن والاطمئنان، وتُثيرُ الأضغانَ في المجتمع والعُدوان، لذلك يقول المُجتبى - عليه الصلاة والسلام -: «فإن الله قد حرَّم عليكم دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم»؛ خرَّجه الإمام أحمد في "مسنده".
فجمع في التحريم بين الدم والعِرض لِما فيه من إيغار الصدور وإثارة الأعداء للشرور، هذا وإن أهل الحِفاظ على الأعراض لا يرُومون لأمتهم إلا الحياةَ الفاضلةَ النظيفة والعِيشَة الرضيَّة الشريفة، فضلاً من الله ومنّة، لا باكتسابٍ منَّا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[الأحزاب: 59].
بارك الله في الجهود، وحقَّق أجلَّ المُنَى وأسنى القُصود، إنه غفورٌ ودود، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا.


الخطبة الثانية

الحمد لله على ما أسدَى من النِّعم، أحمده - سبحانه - حثَّ على حفظ الأعراض من بوائِق الغَشَم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أجزلَ لأهل العفافِ المثوبَة والكرَم، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله البالغُ من الطُّهر شُمَّ القِمَم، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه الأندَى من زَهر الأكَم، ذوي المناقِب السنيَّة والشِّيَم، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وصُونوا الأعراض عن الرِّيَب والتُّهم، تبلُغوا من الشرف المَروم أسنى القِسَم، ومن تولَّى بعدُ فقد زاغَ وظلَم.
أيها المسلمون:
ومن الرِّماح الهاتِكة لحِمَى العفاف والاحتشام: الدعوةُ إلى الاختلاط المحرَّم بين الإناث والذكور الباعِث على الشرور والثُّبور دون إنكارٍ أو اعتراض، أو توجيه من الآباء أو امتعاض، وكون ذلك - بزعمهم - من الثقة المحمودة الآثار، ولكن هيهات هيهات! لا يصحُّ ذلك إلا لدى الأغمار، فخضراءُ الدِّمَن شرَكُ الفتن ومهوَى الحسرة والنَّدَم، يقول - عليه الصلاة والسلام -: «ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرَّ على الرجال من النساء»؛ متفق عليه.
وبحسب غيرةِ الأبَوين يكون الأبناءُ شجًى في الحلق أو قُرَّةً للعين، أما منبتُ الدنايا ومسرحُ الرذائلِ والدنايا التي ترشُقُ الشرفَ والحشمةَ بمُدمِّر الشظايا: فوسائلُ الاتصالات، وأجهزةُ التِّقانات، وأعمدةُ المقالات والكتابات، وقنواتُ الفضائيات وشبكاتُ المعلومات التي أجَّجَت الغرائز وألهَبَت الشهوات، وا لهفَتاه كم استطالَت وعتَت وأتَت من عقرِ الأعراض ما أتَت، حتى رمَت عفافَ الأمة عن قوسٍ واحدة، على حدِّ قوله - سبحانه -: أَتَوَاصَوْا بِهِ[الذاريات: 53].
فيا هؤلاء وأولئك من الوالِغين في أعراض المسلمين: كُفُّوا عن أعراض الأمة جُشاءَكم، ويا ليتَ هذا السباقَ المحموم، والتكالُب المذموم، والتباكِيَ المزعوم على قضايا المرأة سُخِّر في نُصرة قضاياها الكُبرى، والمُطالبة بحقوقها العُظمى، والانتصار لها، ورفع الظلمِ الواقعِ عليها في شتى المجالات.
فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإلى الله المُشتكى، وهو حسبُنا في شرف المسلمين وأعراضهم وكفَى.
وأخيرًا: إخوة الإيمان:
فإنه للقضاء على داء انتهاك الأعراض، أو التحرُّش بالشريفات العفيفات لزِمَ الحثُّ على الزواج والتيسير في المهور؛ لأن الإحصانَ هو الحل الإسلامي الرشيد والمنهجُ الشرعي السديد لقضية الغرائزِ والطِّباع التي تُبرَمُ في اندفاع، مع امتثال أمر الحق في رعاية الشباب والفتيات، وصونهنَّ عما يوردهنَّ المهالك والفوادِح الحوالِك، فإنهنَّ ربَّات الخُدور، وباعِثاتُ الشرفِ والفخرِ والسرور، ومحاضنهنَّ الأسريَّةُ البَرَّة مِهادُ الرضا والخيرُ الموفور، فاعتبِروا يا أولِي الأبصار، فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[الحج: 46].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على النبي الكريم، ذي المحتدِ الكريم والأصل الفخِيم، كما أمركم المولى العظيم في الذكر الحكيم، فقال - جلَّ في عُلاه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
عليه صلاةُ ربِّ العرش تندَى كما تندَى الرياضُ بكل فجرِ
يُواصِلُ عَرفُها آلاً وصحبًا كأنَّ ثناءَهم نفحَاتُ زهرِ

اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المُهداة، والنعمةِ المُسداة: نبيِّنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأدِم الأمن والاستقرار في ديارنا، وأصلِح ووفِّق أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمَين الشريفين، اللهم وفِّقه للبِطانة الصالحة التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم اجمع به كلمةَ المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد.
اللهم وفِّق جميع ولاة المسلمين، اللهم اجعلهم لشرعك مُحكِّمين، ولأوليائك ناصِرين يا رب العالمين.
يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال، برحمتك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأننا كلَّه.
اللهم أحسِن عاقِبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اكشِف الغُمَّة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم أصلِح أحوال الأمة في كل مكان، اللهم احفظ دينَهم وأنفسهم، واحقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أموالَهم وأعراضَهم يا حي يا قيوم.
اللهم من أرادنا وأراد ديننا وأمنَنا وأعراضَنا بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه تدميرَه يا سميع الدعاء.
اللهم انصر إخواننا المُضطهدين في سبيلك، المُضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المُستضعفين والمُضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم عجِّل بفَرَجهم يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10].
سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 07-02-2011 03:24 PM

خطبة الجمعة 29/7/1432 من المسجد الحرام بمكة المكرمة


تأملات في معنى التشهد

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "تأملات في معنى التشهد"، والتي تحدَّث فيها عن شرح وتفسير معاني التشهد في الصلاة، وبيان السنن الواردة والأدعية المأثورة في آخر الصلاة قبل السلام.


الخطبة الأولى

إن الحمد لله وله بعد الحمد التحايا الزاكيات، وهو المستعان فمن غيرُه يُرتَجى عند الكروب ودَهم المُلِمَّات، وعليه التُّكلان فحسبُنا الله وهو حسبُ الكائنات، وأشهد أن لا إله إلا الله وله تُزجَى كل تحية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المجبولُ على أكرم سجيَّة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وذريته أكرم ذرية، وعلى صحابته ذوي النفوس الرضيَّة، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجليَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
من اتقى الله وقاه، وكفاه وأسعدَه وآواه، وتقوى الله خيرُ الزاد ذُخرًا، وعند الله لأتقى مزيد.
أيها المسلمون:
مُذ كان الأدبُ في الناس والناسُ يكسُون به فِعالَهم وكلامَهم عند مخاطبة العظماء ومُلاقاتهم، وخيرُ الناس خُلُقًا أحسنُهم أدبًا، ودينُ الإسلام يُعلِّمنا في الصلاة التي هي عمود الدين وشرفُ العبادات لله رب العالمين أن نتوسَّل إلى الله بأجمل التحايا، وأن تلهَجَ ألسنتُنا بأطيب العبارات وأزكى الكلمات، ومن أعظمُ من الله، ومن أكرمُ منه - جلَّ في عُلاه -؟!
وتأمَّل كيف تتحرك جميعُ أعضاء المُصلِّي وجوارحُه في الصلاة عبوديةً لله خشوعًا وخضوعًا، فإذا أكملَ المُصلِّي هذه العبادة وقبل أن يُسلِّم انتهت حركاتُه، وختمَها بالجلوس بين يدي الرب تعالى جلوسَ تذلُّل وانكسار وخضوعٍ لعظمته - عز وجل - كما يجلسُ العبدُ الذليلُ بين يدي سيده.
وجلوس الصلاة أخشع ما يكون من الجلوس وأعظمُه خضوعًا وتذلُّلاً، فأُذِن للعبد في هذه الحال بالثناء على الله - تبارك وتعالى - بأبلغ أنواع الثناء، وهو: التحيات لله والصلوات والطيبات.
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا إذا جلسنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قُلنا: السلامُ على الله من عباده، السلامُ على فلان وفلان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا: السلامُ على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلامُ عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتُم أصابَ كلَّ عبدٍ صالحٍ في السماء أو بين السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخيَّرُ من الدعاء أعجبَه إليه فيدعو به»؛ رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون:
من عادة الناس إذا دخلوا على ملوكهم أن يُحيُّوهم بما يليقُ بهم تعظيمًا لهم وثناءً عليهم، واللهُ أحقُّ بالتعظيم والثناء من كل أحدٍ من خلقه، وفي التشهُّد يجمعُ العبدُ أنواعَ الثناء على الله - عز وجل - وأجمل عبارات الأدب والتحية، والتحيات جمع تحية، والتحية هي التعظيم، فكل نوعٍ من أنواع التحيات الطيبة فهو لله، والتحياتُ على سبيل العموم والكمال والإطلاق لا تكون إلا لله - عز وجل -، وهو - سبحانه - أهلٌ للتعظيم المُطلق، فالعظمة والملكُ والبقاءُ لله.
والصلواتُ؛ أي: والصلوات لله، وهو شاملٌ لكل ما يُطلَق عليه صلاةٌ لغةً أو شرعًا من الدعاء والتضرُّع والرحمة، فالصلواتُ كلها لله، لا أحد يستحقُّها سواه، والدعاءُ أيضًا حقٌّ لله - عز وجل -، كما قال - سبحانه -:وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[غافر: 60].
فكل الصلوات فرضُها ونفلُها لله، وكل الأدعية لله.
والطيبات: هي الأعمال الزكية، ما يتعلَّقُ بالله وما يتعلَّقُ بأفعال العباد؛ فما يتعلَّق بالله فإن له من الأوصاف أطيبَها، ومن الأفعال أطيبَها، ومن الأقوال أطيبَها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا»؛ أخرجه مسلم.
فهو - سبحانه - طيبٌ في كل شيء، في ذاته وصفاته وأفعاله.
وله أيضًا من أعمال العباد القولية والفعلية الطيب؛ فإن الطيب لا يليقُ به إلا الطيب، ولا يُقدَّمُ له إلا الطيب، وقد قال - عزَّ اسمُه -: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[النور: 26]، فهذه سنةُ الله - عز وجل -، لا يليقُ به إلا الطيبُ من الأقوال والأفعال من الخلق،إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[فاطر: 10].
فكانت الطيبات كلها له ومنه وإليه، له مُلكًا ووصفًا، ومنه مجيئُها وابتداؤها، وإليه مصعَدها ومُنتهاها.
ولما أتى بهذا الثناء على الله تعالى التفَت إلى شأن الرسول الذي حصل هذا الخيرُ على يديه فسلَّم عليه أتمَّ سلامٍ مقرونًا بالرحمة والبركة، فيقول المُتشهِّد: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»، والسلامُ اسم الله - عز وجل -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله هو السلام»؛ رواه البخاري. وقال - عز وجل -:هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ[الحشر: 23].
فيكون المعنى: أن الله تعالى يتولَّى رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بالحفظِ والكلاءة والعناية.
والسلام أيضًا بمعنى: التسليم، كما قال - عز وجل -:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56] فهو دعاءٌ وتحية.
ثم يُسلِّمُ المُتشهِّد على نفسه وعلى من معه من المُصلِّين والملائكةِ الحاضرين، وقيل: بل جميعُ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بقوله: «السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وعبادُ الله الصالحون: هم كل عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض من الآدميين والملائكة والجن من الأحياء والأموات، وعبادُ الله: هم الذين تعبَّدوا الله؛ أي: تذلَّلوا له بالطاعة امتثالاً لأمره واجتنابًا لنهيه، وأشرفُ وصفٍ للإنسان أن يكون عبدًا للإنسان لا عبدًا لهواه، فإذا سمِع أمر ربه قال: سمِعنا وأطعنا.
وعبادُ الله الصالحون هم الذين صلُحت سرائرُهم وظواهِرهم بإخلاص العبادة لله ومُتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم ختمَ هذا المقام بعقد الإسلام، وهو: التشهُّد بشهادة الحق والتوحيد: «أشهد أن لا إله إلا الله»، ولا إله إلا الله كلمةُ التوحيد التي بعثَ الله بها جميعَ الرسل، كما قال تعالى:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 25].
ومعناها: لا معبود حقٌّ إلا الله.
ثم يقول المُتشهِّد: «وأشهد أن حمدًا عبده ورسوله»، فرسولُ الله الخاتَم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، بعثَه الله - عز وجل - بمكة أم القرى وأحب البلاد إلى الله، وهاجر إلى المدينة، وتُوفِّي فيها - صلى الله عليه وسلم -.
فهو عبدٌ لله، ليس له في العبادة شرك، وقد أمره الله تعالى أن يقول:لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ[الأنعام: 50]، وقال له في آية أخرى:قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّاوَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ[الجن: 21- 23]،فهو عبدٌ من العباد، لكنه أفضلُهم، ورسولٌ من الرسل، لكنه أشرفُهم.
وهو - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس خشيةً لله وأقومهم تعبُّدًا لله، حتى إنهم كان يقوم مُصلِّيًا حتى تتورَّم قدماه، فيُقال له: لقد غفر الله من ذنبك ما تقدَّم وما تأخَّر، فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»؛ رواه مسلم.
ومعنى: ورسوله؛ أي: مُرسَله، أرسله الله - عز وجل - وجعله واسطةً بينه وبين الخلق في تبليغ شرعه؛ إذ لولا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عرَفنا كيف نعبد الله - عز وجل -، فكان - عليه الصلاة والسلام - رسولاً من الله إلى الخلق، ونِعم الرسول، ونِعم المُرسِل، ونِعم المُرسَل به، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو رسولٌ مُرسلٌ من الله، وهو أفضل الرسل خاتمُهم وإمامُهم، لما جُمِعوا له ليلة المِعراج تقدَّمهم إمامًا مع أنه آخرُهم مبعثًا - عليه الصلاة والسلام -، كما روى ذلك الإمام أحمد.
أيها المسلمون:
هذا ما يقوله المُصلِّي حين يجلسُ في التشهُّد في الركعة الثانية من صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأما الجلوس للتشهُّد الأخير قبل السلام فيأتي بهذا التشهُّد أيضًا، ويزيدُ عليه الصلاةَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول بعد الشهادتين: «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمد وعلى آل محمد، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد».
وفي "الصحيحين" عن كعب بن عُذرة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقُلنا: قد عرفنا كيف نُسلِّم عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم إنك حميدٌ مجيد».
وفي "الصحيحين" أيضًا عن أبي حميدٍ الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله! كيف نُصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته، كما صلَّيتَ على إبراهيم، وبارِك على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته، كما بارَكتَ على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد». وفي رواية عند مسلم: «كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد، والسلام كما قد علِمتم، أو كما قد عُلِّمتم».
ومعنى: صلِّ على محمد؛ قيل: إن الصلاة من الله: الرحمة، وقيل: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما أخرجه البخاري مُعلَّقًا بصيغة الجزم، ولفظُه: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة.
وآل محمد: هم قرابتُه المؤمنون من بني هاشم ومن تفرَّع منهم، وقيل: المقصود: أتباعُه على دينه.
كما صلَّيتَ على آل إبراهيم؛ أي: كما أنك - سبحانك - سبقَ الفضلُ منك على آل إبراهيم فألحِق الفضلَ منك على محمدٍ وآله.
وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمد؛ أي: أنزِل عليه البركة، وهي: كثرةُ الخيرات ودوامُها واستمرارُها، ويشملُ البركةَ في العمل والبركةَ في الأثر.
إنك حميدٌ مجيد: حميدٌ؛ أي: حامدٌ لعباده وأوليائه الذين قاموا بأمره، ومحمودٌ يُحمَد - عز وجل - على ما له من صفاتِ الكمال وجزيلِ الإنعام.

ابوحاتم 07-02-2011 03:31 PM

وأما المجيد: فهو ذو المجد، والمجدُ هو العظمةُ وكمال السلطان، فتأمَّل جمالَ هذه التحيات وكمالها وحُسنَها وجمالَها، وتدبَّر معانيها حين تزدلِفُ بها إلى ربك في جلوس التشهُّد وأنت خاشعٌ مُتأدِّب.
فالحمدُ لله الذي هدانا إليها، وأنعمَ بها علينا.
اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادق الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون:
وقد جاءت السنةُ بالترغيب في الدعاء بعد التشهُّد وقبل السلام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود بعد ما علَّمه التشهُّد: «ثم يتخيَّر من الدعاء ما شاء». وفي "الصحيحين": «ثم يتخيَّر من الدعاء أعجبه فيدعو به».
والأفضلُ أن تأتي أولاً بالدعاء الوارد في السنة ثم تدعو بعد ذلك بما تحبُّ من خيرَي الدنيا والآخرة، وقد جاءت السنةُ بأدعيةٍ تُقال في هذا الموضع؛ منها:
ما جاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فرغَ أحدُكم من التشهُّد فليتعوَّذ بالله من أربع: من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنةِ المسيح الدجَّال».
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمُ أصحابَه هذا الدعاء كما يُعلِّمُهم السورةَ من القرآن، ولذلك فإن هذا الدعاء في هذا الموضع مُستحبٌّ استحبابًا شديدًا؛ بل إن من العلماء من قال بوجوبه.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجَّال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من الأمثم والمغرَم». فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذُ من المغرَم؟! فقال: «إن الرجل إذا غرِم حدَّث فكذَب، ووعدَ فأخلَف»؛ متفق عليه.
والمراد بفتنة المحيا: جميعُ الفتن الواقعة في الحياة مما فيها اختبارٌ للمرء في دينه؛ كفتنة المال، وفتنة النساء، وفتنة الأولاد والجاه، وجميع فتن الشُّبُهات والشهوات.
وأما فتنة الممات: فهي سؤال الملَكَين للميت في قبره عن ربه ودينه ونبيِّه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه أُوحِيَ إليَّ أنكم تُفتَنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجَّال»؛ رواه البخاري.
ومن فتنة الممات: ما يحدثُ عند الاحتضار من سوء الخاتمة وإغواء الشيطان للإنسان، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدَكم ليعمَلُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبقُ عليه الكتاب فيعملُ بعمل أهل النار».
وأشد ما يكون الشيطان حِرصًا على إغواء بني آدم في تلك اللحظات، والمعصوم من عصمَه الله.
والمرادُ بفتنة المسيح الدجَّال: ما يحصُل به من الإضلال والإغواء بما معه من الشبهات، وخصَّه بالذكر مع أنه من فتنة المحيا؛ لعِظم فتنته.
والمأثمُ: هو كل قولٍ أو فعلٍ أو نيةٍ يأثَمُ بها الإنسان.
والمغرَم: هو كل ما يغرَمه الإنسان بسبب دَينٍ أو جنايةٍ أو مُعاملةٍ، ونحو ذلك.
ومما ورد من الدعاء أيضًا: «اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرت، وما أسرَرتُ وما أعلَنتُ، وما أسرفتُ، وما أنت أعلمُ به منِّي، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت»؛ أخرجه مسلم.
ومما ورد أيضًا: «اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرِك وحُسن عبادتك». أوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُعاذًا أن يقولَه في دُبر كل صلاة.
ومما ورد من الدعاء: «اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا غفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». أوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا بكرٍ أن يقولَه في الصلاة، كما في "صحيح البخاري".
والأولَى أن يُقال في أحد موضِعَيْ إجابة ادعاء في الصلاة، وهما: السجود، أو بعد التشهُّد وقبل السلام.
وبعد ذلك يدعو المسلم بما شاء من خيرَي الدنيا والآخرة.
اللهم فقِّهنا في الدين، واجعلنا من أتباع سيد المرسلين.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة.
اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواء الدين، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه الخير للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد، وكن لهم جميعًا مُوفِّقًا مُسدِّدًا لكل خير وصلاح.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، واحفظ ديارهم، وأرغِد عيشَهم، واجعل كل قضاءٍ قضيتَه لهم خيرًا.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 07-09-2011 12:04 AM

خطبة الجمعة من المسجد الحرام 7/8 /1432هـ
تزكية النفوس وإصلاح القلوب
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "تزكية النفوس وإصلاح القلوب"، والتي تحدَّث فيها عن تزكية النفوس وإصلاح القلوب، والطرق التي ينبغي على كل مسلمٍ سلوكها لتحصيل ذلك، مُستشهِدًا في ذلك بالآيات والأحاديث والأقوال والآثار عن السلف والعلماء.

الخطبة الأولى
الحمد لله العلي الأعلى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوَّى وقدَّر فهدى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله نبي الرحمة والهُدى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار النُّجَباء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والنشور والجزا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -؛ واذكروا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس: 34- 37].
عباد الله:
تزكيةُ النفوس وتقويمُها، وإصلاحُ القلوب وتطهيرُها أملٌ سعى إليه العُقلاء في كل الثقافات وفي كل الحضارات منذ أقدم العصور، فسلكوا إلى بلوغه مسالك شتَّى، وشرعوا لأنفسهم مناهجَ وطرائقَ قِددًا، وحسِبوا أن في أخذهم أنفسهم بها إدراكَ المُنى، وبلوغَ الآمال في الحَظوة بالحياة الطيبة والعيش الهانئ السعيد.
فمن تعذيبٍ للجسد بأمورٍ وأعمالٍ مُضنِية أسمَوها: رياضات ومُجاهدات، إلى إغراقٍ في الشهوات وانهماكٍ في طلب اللذَّات بإسرافٍ على النفس لا حدَّ يحُدُّه، إلى عُكوفٍ على مناهجَ فلسفية وتأملاتٍ قائمةٍ على شطَحاتٍ وخيالات لا سند لها من واقعٍ، ولا ظهيرَ لها من عقلٍ، إلى غير ذلك من نزَعاتٍ وطرائقَ لا يجدُ فيها اللبيبُ ضالَّتَه، ولا يبلغُ منها بُغيتَه.
غير أن كل من أُوتِي حظًّا من الإنصاف، ونصيبًا من حُسن النظر والبصر بالأمور لا يجدُ حرجًا في الإقرار بأن السعادة الحقَّة التي تطيبُ بها الدنيا، وتطمئنُّ بها القلوب وتزكُو النفوس هي تلك التي يُبيِّنُها ويكشِفُ عن حقيقتها الكتابُ الحكيم والسنةُ الشريفة بأوضح عبارةٍ وأدقِّها وأجمعها في الدلالة على المقصود.
عباد الله:
لقد أرسل الله رسلَه وأنزل كتبَه ليُرشِد الناس إلى سُبُل تزكية أنفسهم وإصلاح قلوبهم، وليُبيِّن لهم أن ذلك الأمر لن يتحقَّق إلا حين يُؤدُّون حقَّ الله عليهم في إخلاص العبودية له؛ إذ هي الغايةُ من خلقه - سبحانه - لهم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات: 56- 58].
وقد جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيانُ الطريق إلى هذه التزكية التي جعل الله فلاحَ المرء مرهونًا بها، وجعل الخيبةَ والخُسران مرهونًا بضدِّها، وهو: التدسِية؛ أي: تخبيثُ وتلويثُ النفس وإفسادُها بالخطايا، فقال - سبحانه -: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[الشمس: 7- 10]، وقال - عزَّ اسمه -: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[الأعلى: 14، 15]، وقال - سبحانه - في خطاب نبيِّه موسى - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - حين أرسله إلى فرعون: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى[النازعات: 17- 19].
وإن هذا الكتاب المبارَك الذي جعله الله روحًا تحيا به القلوب، ونورًا تنجابُ به الظلمات: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الشورى: 52]، إن هذا الكتاب ليُصرِّحُ أن أساس التزكيةِ في الإسلام وروحها وعمادَها ومحورَها توحيدُ الله تعالى.
وحقيقتُه - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أن يشهدَ العبدُ انفرادَ الربِّ - تبارك وتعالى - بالخلق والحكم، وأنه ما شاء كان وما لم يشَأ لم يكن، وأنه لا تتحرَّك ذرَّةٌ إلا بإذنه، وأن الخلقَ مقهورون تحت قبضَته، وأنه ما من قلبٍ إلا وهو بين إصبعين من أصابعه إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاء أن يُزيغَه أزاغَه، فالقلوب بيده وهو مُقلِّبها ومُصرِّفها كيف شاء وكيف أراد، وأنه هو الذي آتَى نفوس المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكَّاها، وألهمَ نفوسَ الفُجَّار فجورَها وأشقاها، من يهدِ الله فهو المُهتَد، ومن يُضلِل فلا هادي له، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويُضِلُّ من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضُه وعطاؤه وما فضلُ الكريم بممنون، وهذا عدلُه وقضاؤه لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء: 23] ...
وفي هذا المشهد يتحقَّقُ للعبد مقامُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة: 5] علمًا وحالاً؛ فيثبُت قدمُ العبد في توحيد الربوبية، ثم يرقى منه صاعدًا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقَّن أن الضرَّ والنفع والعطاءَ والمنعَ والهُدى والضلال والسعادةَ والشقاء؛ كل ذلك بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يُقلِّبُ القلوب ويُصرِّفها كيف يشاء، وأنه لا مُوفَّق إلا من وفَّقه وأعانَه، ولا مخذولَ إلا من خذَلَه وأهانَه وتخلَّى عنه، وأن أصحَّ القلوب وأسلمَها وأقومَها وأرقَّها وأصفاها وأشدَّها وأليَنها: من اتخذَه وحده إلهًا ومعبودًا، فكان أحبَّ إليه من كل ما سواه، وأخوفَ عنده من كل ما سواه، وأرجَى له من كل ما سواه؛ فتتقدَّمُ محبتُه في قلبه جميعَ المحابِّ، فتنساقُ المحابُّ تبعًا لها كما ينساقُ الجيشُ تبعًا للسلطان، ويتقدَّمُ خوفًه في قلبه جميعَ المخوفات فتنساقُ المخاوفُ كلها تبعًا لخوفه، ويتقدَّمُ رجاؤه في قلبه جميعَ الرجاء، فينساقُ كل رجاءٍ تبعًا لرجائه.
فهذا علامةُ توحيد الألوهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه هو: توحيد الربوبية ...
والمقصود: أن العبد يحصلُ له في هذا المشهد من مُطالعَة الجنايات والذنوب وجريانِها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم وأنه لا عاصمَ من غضبه وأسباب سخَطه إلا هُو، ولا سبيلَ إلى طاعته إلا بمعُونته، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقِه؛ فمواردُ الأمور كلها منه، ومصادرُها إليه، وأزِمَّةُ التوفيقِ جميعُها بيديه، فلا مُستعانَ للعباد إلا به، ولا مُتَّكَل إلا عليه، كما قال شعيب خطيب الأنبياء: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[هود: 88]". اهـ.
وإن أثر التوحيد في التزكية - بل في حياة المسلم - ليَبدو جليًّا في توحيد الهدف والغاية واتفاق العلم والعمل؛ حتى يكون فهمُ المسلم وعقيدتُه وعلمُه وعملُه وقصدُه واتجاهاتُ قلبه ونشاطُه منتظمًا في سلكٍ واحد، مُتوافقٍ مُؤتلِف، لا تعارُض فيه ولا تضارُب، ويرتفعُ عن كاهل الإنسان ذلك الضيقُ المُمِضُّ الذي يستشعِرُه حين تتعارضُ في نفسه الأهداف، وتتناقضُ الأعمال.
ومما يُزكِّي النفوس أيضًا: تجديدُ الإيمان فيها على الدوام؛ إذ الإيمانُ يخلَقُ كما تخلَقُ الثياب، ولذا كان صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذُ أحدُهم بيد الآخر فيقول: "تعالَ نُؤمن ساعة"، فيجلِسان فيذكُران الله تعالى.
وفي ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وطاعته والازدلاف إليه أعظمُ ما يُجدِّدُ الإيمانَ في نفس المؤمن الذي يعلَمُ أن الإيمان يزيدُ بالطاعة وينقُص بالمعصية، فيعمل على زيادة إيمانه بصدق الالتجاء إلى الله تعالى الذي تكون أظهرُ ثِماره المُباركة تزكيةُ النفوس كما جاء في الدعاء النبوي الكريم: «اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها».
ومما يُزكِّي النفسَ ويُصلِحُ القلب: دوامُ تذكُّر نعم الله التي أنعمَ بها على عباده؛ فإن إحصاءها خارجٌ عن مقدور البشر، كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[النحل: 18]، فإن هذا التذكُّر لهذه النعم يُورِثُ الذاكِر لها كمالَ تعلُّقٍ، وتمامَ توجُّهٍ إليه، وخضوعًا وتذلُّلاً له - سبحانه -؛ فإن كل ما وهبَه من حياةٍ وصحةٍ ومالٍ وولدٍ وجاهٍ وغيرها إنما هو منَّةٌ منه، وفضلٌ وإنعامٌ أنعمَ به كيف ومتى شاء، ولو شاء لسلَبَ ذلك منه متى شاء؛ فإنه مالكُ الملك كله، بيده الخيرُ يُؤتيه من يشاء ويصرِفُه عمن يشاء.
ومعرفةُ ذلك ودوامُ تذكُّره باعثٌ على معرفة العبد بعجزه وضعفه وافتقاره إلى ربه في كل شؤونه، غير أن تذكُّر النعم لا بد من اقترانه بالعمل الذي يرضاه الله ويُحبُّه ويُثيبُ عليه يوم القيامة، وحقيقتُه: فعلُ الخيرات، وتركُ المنكرات على هُدًى من الله، ومتابعةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع العنايةِ الخاصةِ بالفرائضِ التي افترضَها الله على عباده؛ إذ هي أحبُّ ما يتقرَّبُ به العبدُ إلى ربه، كما جاء في الحديث: «إن الله تعالى قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذنَّه»؛ أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ومما يُزكِّي النفسَ أيضًا: أعمالُ القلوب؛ فإن القلبَ ملكُ الجوارح، تصلُح بصلاحه وتفسُد بفساده، كما جاء في الحديث: «ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلَحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسَدت فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -.
ومن أهمها وأعظمها: نيةُ المرء ومقصودُه من كل عملٍ يعمله؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى؛ فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه لدُنيا يُصيبُها، أو امرأةٍ ينكِحُها فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
فاتقوا الله - عباد الله -، واتخذوا من كتاب ربكم وسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - خيرَ منهجٍ لتزكية النفوس وإصلاح القلوب، ابتغاءَ رضوان الله، واقتفاءً لأثر الصفوة من عباد الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ[الزمر: 18].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

ابوحاتم 07-09-2011 12:07 AM

الخطبة الثانية
الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعَّالِ لما يُريد، أحمده - سبحانه - يخلقُ ما يشاء ويفعلُ ما يُريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صاحب الخُلق الراشد والنهجِ السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن النقص والتقصير والخطأ لا ينفكُّ عنه إنسان، ولا يسلمُ منه إلا من عصمَه الله، ولذا جاء الأمرُ بالتوبة للناس جميعًا بقوله - سبحانه -: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31].
والتوبة - يا عباد الله - من أعظم أسباب التزكية للنفس والإصلاح للقلب؛ فإن عبودية التوبة - كما قال ابن القيم - رحمه الله - من أحبِّ العبوديات إلى الله وأكرمها عليه، فإنه - سبحانه - يحبُّ التوابين، ولو لم تكن التوبةُ أحبَّ الأشياء إليه لما ابتَلَى بالذنبِ أكرمَ الخلق عليه، فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يُوجِبُ وقوعَ محبوبه من التوبة، وزيادة محبته لعبده.
فإن للتوبة عنده - سبحانه - منزلةً ليست لغيرها من الطاعات، ولهذا يفرحُ - سبحانه - بتوبة عبده حين يتوبُ إليه أعظمَ فرحٍ يُقدَّر، كما مثَّله النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرَح الواجِد لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرض الدويَّة المُهلِكة، بعدما فقدَها وأيِسَ من أسباب الحياة، ولم يجِئ هذا الفرح في شيءٍ من الطاعات سوى التوبة.
ومعلومٌ أن لهذا الفرح تأثيرًا عظيمًا في حال التائب وقلبه، ومزيدُه لا يُعبَّر عنه، وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد؛ فإن العبد ينالُ بالتوبة درجةَ المحبوبية، فيصيرَ حبيبًا لله، فإن الله يحبُّ التوابين، ويحبُّ العبدَ المُفتَّن التواب، ويُوضِّحُه: أن عبودية التوبة فيها من الذل والانكسار والخضوع والتملُّق لله والتذلُّل لله ما هو أحبُّ إليه من كثيرٍ من الأعمال الظاهرة وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة؛ فإن الذل والانكسار روح العبودية ومخُّها ولبُّها، يُوضِّحه: أن حصول مراتب الذل والانكسار للتائب أكملُ منها لغيره، فإنه قد شاركَ من لم يُذنِب في ذل الفقر والعبودية والمحبة، وامتاز عنه بانكسار قلبه.
ولأجل هذا فإن أقربَ ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجد؛ لأنه مقامُ ذلٍّ وانكسار بين يدي ربه، ويُوضِّحُه: أن الذنبَ قد يكون أنفعَ للعبد إذا اقترنَت به التوبة من كثيرٍ من الطاعات، وهذا معنى قول بعض السلف: "قد يعملُ العبدُ الذنبَ فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعةَ فيدخل بها النار". قالوا: وكيف ذلك؟ قال: "يعمل الذنبَ فلا يزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعدَ وإن مشى ذكر ذنبَه، فيُحدِثُ له انكسارًا وتوبةً واستغفارًا وندمًا، فيكون ذلك سببَ نجاته، ويعمل الحسنة فلا تزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعدَ وإن مشى، كلما ذكرَها أورثَته عُجبًا وكِبرًا ومنَّةً، فتكون سببَ هلاكه.
فيكون الذنبُ مُوجِبًا لترتُّب طاعاتٍ وحسناتٍ ومعاملاتٍ قلبية؛ من خوف الله، والحياء منه، والإطراقِ بين يديه، مُنكِّسًا رأسه خجِلاً باكيًا نادمًا مُستقيلاً ربَّه، وكل واحدٍ من هذه الآثار أنفعُ للعبد من طاعةٍ تُوجِبُ له صولةً وكبرًا وازدراءً بالناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.
ولا ريبَ أن هذا المُذنِبَ خيرٌ عند الله وأقربُ إلى النجاة والفوز من هذا المُعجَبِ بطاعته، الصائلِ بها، المانِّ بها وبحاله على الله - عز وجل - وعباده، وإن قال بلسانه خلافَ ذلك فالله شهيدٌ على ما في قلبه، ويكادُ يُعادِي الخلقَ إذا لم يُعظِّموه ويرفعوه ويخضَعوا له، ويجدُ في قلبه بُغضةً لمن لم يفعل به ذلك، ولو فتَّش نفسَه حقَّ التفتيش لرأى فيها ذلك كامنًا". اهـ.
هذا؛ ويجبُ التنبُّه - يا عباد الله - إلى ما في تفسير كثيرٍ من الناس للتوبة من قصورٍ ونقصٍ عن فهم المعنى المُراد؛ فإن كثيرًا من الناس - كما قال ابن القيم - رحمه الله -: "إنما يُفسِّر التوبةَ بالعزم على ألا يُعاوِدَ الذنبَ، وبالإقلاع عنه في الحال، وبالندم عليه في الماضي، وإن كان في حقِّ آدمي فلا بد من أمرٍ رابعٍ هو التحلُّل منه، وهذا الذي ذكروه بعشُ مُسمَّى التوبة؛ بل شطرُها، وإلا فالتوبةُ في كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما تتضمَّن ذلك تتضمَّن أيضًا: العزمَ على فعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبًا حتى يُوجَد منه العزمُ الجازمُ على فعل المأمور والإتيان به.
فإن حقيقة التوبة: الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يُحبُّ وترك ما يكره، فهي رجوعٌ من مكروهٍ إلى محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزءُ مُسمَّاها، والرجوعُ عن المكروه هو الجزءُ الآخر، ولهذا علَّق - سبحانه - الفلاحَ المُطلقَ على فعل المأمور وترك المحظور بها فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31]؛ فكل تائبٍ مُفلِح، ولا يكون مُفلحًا إلا من فعل ما أُمِر به، وترك ما نُهِي عنه، وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[الحجرات: 11]، وتاركُ المأمور ظالم، كما أن فاعلَ المحظور ظالم، وزوالُ اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة من الأمرين معًا؛ أي: من ترك المأمور ومن فعل المحظور".
فاتقوا الله - عباد الله -، وتوبوا إلى الله ابتغاءَ رضوان الله، وتأسِّيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل: «يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوبُ في اليوم إليه مائةَ مرة»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه".
وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله: محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه؛ حيث قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطغاة والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم التناد.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعَ سخطك.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 07-17-2011 12:23 AM

خطبة الجمعة 14/8/1432هـ من المسجدالحرام بمكة المكرمة
معالم الهدى في أجواء الفتن

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "معالم الهدى في أجواء الفتن"، والتي تحدَّث فيها عن بعض المعالم والإضاءات التي ينبغي على كل مسلمٍ أن يسير مُهتدِيًا بها، مُلتزِمًا بما جاء فيها من الأخبار الشرعية الحاثَّة على ذلك، وقد أعطى في آخرها بعضَ الوصايا المهمة لاجتناب طرق الفتن والضلالة.

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله المُتفرِّد بكمال القدرة، لا إله إلا هو الواحد القهَّار لا يقدُر أحدٌ قدرَه، أستغفره وأستهديه كم صفَحَ وكم غفَر وكم أقالَ من عثْرَة، وأُثني عليه بما هو أهلُه وأشكرُه على سوابغِ نعمٍ لا تُحصَى عددًا وآلاءٍ لا يُحاطُ بها كثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة أرجو بها النجاةَ بدُ الله ورسوله عبدٌ لا يُعبَد ورسولٌ لا يُكذَّب بل يُطاع ويُتَّبَع ويُسمَع له في العُسر واليُسر والمنشَط والمَكرَه، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى أصحابه الكرام وآله السادة العِترة، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ممن اجتنَبَ نهيَه واتبعَ أمره وسلَّم تسليمًا دائمًا عشيَّةً وبكرة.
أما بعد:
فأُوصيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فأكرم الناس عند الله أتقاهم، وأكرم الخلق على الله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الله ومُصطفاه وخليلُه ومُجتباه، وقد أمره بقوله - عز شأنه -: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ[الأحزاب: 1].
فاتقوا الله - رحمكم الله -، واسمعوا وأطيعوا؛ فطُوبى لمن سمِع فوعَى، ثم طُوبَى لمن تذكَّر لحدَه يوم يُوضَع فيه وحده، يوم يُنفَخ في الصور، ووُضِع الكتاب، وتقطَّعَت الأسباب، فشخَصَت الأبصار؛ فإما إلى جنةٍ وإما إلى النار، وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[الجاثية: 28، 29].
أيها المسلمون:
إن من منَّة الله على أهل الإسلام: أن وحَّد لهم مصدرَ التلقِّي، فلا تذبذُب ولا اضطراب في تلقِّي حقائق العقائد والأحكام وسُبل الهدى، المصدر: هو الوحي المعصوم الثابت من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، وما صحَّ من سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، يُؤمنُ أهل الإسلام بكل ما ثبتَ به اللفظ وصحَّ به الخبر فيما هو شاهد وفيما هو غائب، ما عقَلناه وما جهِلناه، ما أحطنا بحقائقه وما لم نُحِط، ومن طلبَ الحق في أمور الدين من الأحكام والعقائد والهُدى من غير هذا المصدر فقد ضلَّ سواء السبيل.
ومن ظنَّ أنه يعتمِد على فهمه في هذه النصوص والأخبار دون النظر في فهمِ السلف الصالحين وأهل العلم الأثبات الراسخين، وأن فهمَه مُقدَّمٌ على فهومهم فقد سلكَ المسالكَ المُعوَجَّة.
يُقال ذلك - أيها المسلمون - ويُقرَّر حين يكون الحديثُ عن الفتن وتبيُّنها وأخبار الملاحِم وأنباء الحوادث الكُبرى، أخبارٌ وأنباءٌ تتعلَّق النفوس بها وتبحث عن تأويلها وأوقات حُدوثها ومواعيد وقوعها، ومما يستدعِي الإيضاحَ والبيان: أن من قواعد البشر التعلُّق بالغيبيات والتشوُّف لاستشراف المستقبل والتتبُّع لمعرفة أنباء مخبوء الغيب؛ من تأويل النوازل، وتفسير الأحداث، وأعمار الدول، وفناء الأمم؛ بل تراهم يتعلَّقون بالرُّؤى والمنامات وأنباء الغيب، حتى إنهم ليلجئون إلى الكهَّان والمُنجِّمين والمُشعوِذين والمُعبِّرين وأضرابِهم بُغيةَ استكشاف ما وراء الحُجُب؛ ذلك أن العلة بما سيكون والتطلُّع لحوادث المستقبل أمرٌ تنجذِب إليه النفوس؛ فهو حلوُ المذاق، عذبُ الطعم، وفي مقدمة ذلك: أحاديث الفتن والملاحِم وأخبار آخر الزمان، تتشوّق لها نفوسهم، وتتشوَّف لها رغباتُهم، وتمتدُّ إلى سماع أخبارها أعناقُهم.
غير أن الله - سبحانه - طوَى عن الخلق حقائق الغيب، وضربَ دونه الأسداد، وحجَبَه عن أكثر العباد، وفتحَ لهم بابًا يكون لهم فيه نفعُهم في أمور دينهم ودنياهم، لا يدخل عليهم ضرر، ولا يشغلهم عن مهماتهم ووظائفهم.
أيها المسلمون:
وهذا بيانٌ لمعالم هُدى يتبيَّنها المسلم وهو ينظر في أحاديث الفتن ويستمِعُ إليها ويقرأُ عنها؛ فمن معالم الهُدى: أن نبينا محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - يُخبِرنا عن حلول الفتن واضطراب الأحوال وأنباء الهَرْج والمَرج وحوادث آخر الزمان وأشراط الساعة، فليس من أل التخويف والإنذار وحده، ولا لمجرد الإخبار باقتراب الزمان وتغيُّر الناس وحُلول الهَرْج والمَرْج؛ بل لأجل الاشتغال بالعمل وبذل مزيدٍ من الصالحات.
ألم تروا إلى نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - حين سُئِل عن الساعة، فقال للسائل: «ماذا أعددتَ لها؟»، وفي لفظٍ: «ويلكَ؛ ما أعددتَ لها؟».
فتأمَّلوا هذا التوجيهَ النبوي من المعلِّم الهادي - صلى الله عليه وسلم -، فقد صرفَ السائلَ إلى ما يعنيه ويُفيده.
يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "والحكمةُ من هذه الأحاديث والأنباء إيقاظُ الغافلين، والحثُّ على التوبة، والاستعداد؛ فهذه الأخبار مواعظُ تزجُر القلوب لتُقبِل على علاَّم الغيوب - جل وعلا -".
فالعبدُ الحازمُ المؤمنُ من إذا سمِع ما صحَّ من هذه الأخبار قادَه ذلك إلى العمل والحَزم والاستعداد، والخُسران والدَّمار لمن أعرضَ واشتغل بالتأويلات والتخييلات الصارفة، فهي أخبارٌ وأنباءٌ لزيادة الإيمان وإقامة الحُجَّة ومزيد العمل والعبادة.
وتأمَّلوا هذا التوجيهَ النبوي في قوله - عليه الصلاة والسلام - وهو يذكُر الفتن: «فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبرُ فيهن مثلُ قبضٍ على الجمر، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم». قالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: «أجر خمسين منكم»؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" من حديث أبي ثعلبَة الخُشنيِّ - رضي الله عنه -.
وفي حديث معقِل بن يسار - رضي الله عنه - في "صحيح مسلم" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «العبادة في الهَرْج كهجرةٍ إليَّ».
قال أهل العلم: "أي: العبادة في وقت اختلاف الناس واشتغالهم"، قالوا: "وعظُم الفضل لأن الناس يغفلونَ عنها ويشتغِلون بها، ولا يتفرَّغ إلا من رحِم الله وعصَم".
وتأمَّل ما تفعلهُ وسائلُ الإعلام في صرفِ الناس وانشغالهم بمُتابعتها ليلاً ونهارًا، يشغلُ بها المُبتَلى نفسَه وفِكرَه وأصحابه في تحليلات وتعليلات وتخييلات وهو ليس فيها من قبيلٍ ولا دبيرٍ؛ هل هذا خير أم انصراف المرء إلى الإحسان في عمله ومسؤولياته المُؤتَمن عليها والمسؤولٍ عنها والمُحاسَب عليها.
شغلَ نفسَه بقراءة الصحف وسماع المِذياع ومُشاهَدة القنوات ومُتابعة المواقع، ومن انشغلَ بما لا يعنيه انصرف عما يعنيه.
ولعلَّ المُتأمِّل يُدركُ لماذا شبَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العبادَة بالهجرة؟
قال أهل العلم: "لأن الهجرة فرارٌ بالدين من المكان المَخوف المُضطرب إلى المكان الآمِن الذي يُقيم فيه المسلمُ دينَه".
والعبادةُ في أزمان الفتن فرارٌ من هذه الموجات، فرارٌ إيجابي وليس انهزامًا وسلبية؛ بل هو البناءُ والعمل، اشتغالٌ بالعمل الصالح والعبادة والإصلاح ونُصرة الدين وجمع الكلمة والتحذير من الفُرقة، في أبوابٍ من عمل الخير وأنواعٍ من العبادات الواسعة مفتوحة؛ من صلواتٍ، وصدقاتٍ، وصيامٍ، وحجٍّ، وعمرةٍ، وزيارةٍ، وإحسانٍ في المعاملات، وصدقٍ في العلاقات، وصفاءٍ في القلوب، وحبٍّ في الخير، والنُّصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من كل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، من أعمالٍ مالية وبدنية وقولية وقلبية، وما فتحَ الله من أنواع الأعمال والطاعات، ولكل عملٍ بابٌ من أبواب الجنة.
فشمَّر الصالحون المُوفَّقون عن ساعد الجدِّ، وتلمَّسوا أبوابَ الخير والنجاة والثبات، واتقَوا الفتن، واجتنَبوا أبوابَ الشر، «وإذا قامَت القيامة وفي يد أحدكم فَسيلة فليغرِسها».
أيها المسلمون:
ومن معالم الهُدى في أوقات الفتن وسماع أخبار الملاحِم: التأنِّي في الفهم والتأويل، والتأنِّي في تنزيل الأخبار على الوقائع والأحداث، يقول عبد الله: "إنها ستكون هنَّاتٌ وأمورٌ مُشتبِهات؛ فعليك بالتُّؤدة، فلأَن تكون تابعًا في الخير خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر".
فالعاقل الزاكي من يُدرِك الأمور بعقله وبصيرته، والجاهلُ يندفِعُ بعاطفته وغفلته، العاقل المُتثبِّت يلزمُ الهدوء والسكينة والاعتدال، ويجتنبُ العجلَة والخفَّة، لا يقنَط عند المُصيبة، ولا يضطرِبُ عند النازِلة، ولا يتعدَّ حدود الشر ولا سيما ذوو الرأي والريادة ومن هم في مقام الرئاسات والتوجيه وذوي الشأن.
ولقد قال الحبيبُ المُصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - لأصحابه - وقد سمِعوا اضطرابًا في المدينة -: «لن تُراعوا».
وتأمَّلوا ثبات أبي بكر - رضي الله عنه - عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهل هناك مُصابٌ جلَلٌ أعظمُ منه؟! لقد جمع الله لأبي بكر - رضي الله عنه - الصبرَ والثباتَ واليقينَ، يقول أنس - رضي الله عنه -: "خطَبَنا رسول الله أبو بكر - رضي الله عنه - وكنا كالثعالب، فما زال يُشجِّعُنا حتى صِرنا كالأسود"، ثم كان من أبي بكر ما كان؛ من بعثِ جيش أسامة، وحروب الرِّدَّة ومانِعي الزكاة، فثبَّتَ الله به الدين والأصحابَ، وقوَّى العزائم، وحفِظَ الإسلام.
ومن التثبُّت: التروِّي وعدم التعجُّل في إعطاء الرأي أو إبداء الحكم أو التفسير؛ بل قد لا يلزمُ إبداء الرأي ولا التكلُّم في كل نازلة، فما كل رأيٍ يُجهَر به، ولا كل ما يُعلَم يُقال، ولا كل ما يصلُح للقول يُقال عند كل أحد.
وقد قال بعض الحكماء: "إن لابتداء الكلام فتنةً تروق، وجِدَّةً تُعجِب، ومن سكت لا يكاد يندَم، ومن تكلَّم لا يكاد يسلَم، والعجِل يقول قبل أن يعلَم، ويُجيبُ قبل أن يفهَم، ويعزِم قبل أن يُفكِّر، ويمضِي قبل أن يعزِم، وخَميرُ الرأي خيرٌ من فَطيره، والخطأُ زادُ العَجول، ورُبَّ رجلٍ واسعِ العلمِ بحرٍ لا يُزاحَم، لكنه قصير النظر، يُؤتَى من جُرأته وتسرُّعه وقلَّة أناتِه وتدبُّره".
ومن معالم الهدى - يا عبد الله -: إن كنتَ ممن لم يتبيَّن له موقفٌ واضحٌ من تلقاء نفسه، أو من توجيه علماء خُبراء ثقات؛ فلتعتزِل الخوضَ في ذلك والاشتغال به، ولتلتفِت إلى خاصَّة نفسك، وفي مثل ذلك جاء الحديث الصحيح في "سنن أبي داود" عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بين أيديكم فتنًا كقطع الليل المُظلِم، يُصبِح الرجلُ فيها مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِح كافرًا، القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي». قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «كونوا أحلاسَ بيوتكم».
وفي خبرٍ آخر في "سنن الترمذي": «أمسِك عليك لسانَك، وليسَعْك بيتُك، وابكِ على خطيئتك».
وعند أبي داود أيضًا: «إن السعيدَ لمن جُنِّب الفتن، إن السعيدَ لمن جُنِّب الفتن، إن السعيدَ لمن جُنِّب الفتن، ولمن ابتُلِي فصبَر».
ومن أظهر مظاهر الاعتزال: كفُّ اللسان؛ فقد أخرج ابن ماجه في "سننه" عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تكون فتنة تستنظِفُ العرب - أي: تقتلهم -، قتلاها في النار، اللسانُ فيها أشدُّ من وَقع السيف».
وكم للإعلام في ذلك بوسائله من ضحايا وهَلْكى وقتلَى؟!
وفي هذه الأجواء والظروف جاء توجيه الشرع الحكيم بأن يأخذ الإنسان ما يعرف ويترك ما يُنكِر؛ ففي "صحيح البخاري" - رحمه الله - عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: شبَّك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابعَه وقال: «يا عبد الله بن عمرو! كيف بك إذا بقيتَ في حُثالةَ الناس؟!». قلتُ: يا رسول الله! كيف ذلك؟ قال: «إذا مرَجَت عهودهم وأماناتُهم، وكانوا هكذا» - وشبَّك يونس أصابعَه -. قلتُ: ما أصنع عند ذلك يا رسول الله؟ قال: «اتق الله - عز وجل -، وخذ ما تعرف ودع ما تُنكِر، وعليك بخاصَّتك، وإياك وعوامَّهم».
معاشر المسلمين:
ومن معالم الهُدى: ألا تُربَط كل حادثةٍ كبرى أو نازلةٍ عامة أو واقعةٍ غريبة بنصٍّ شرعي أو خبرٍ سمعيٍّ، فقد تحصُل الواقعة وتنزلُ النازلة ولا يُقابلُها نص، وقد يرِد النصُّ ولم يقع تأويله بعدُ، وقد حدثَت في تاريخ الأمة الطويل أحداثٌ جِسام وواقِعاتٌ عِظام لم يتكلَّف السلف مُقابلَتها بالنصوص؛ فقد ضربَ الحَجَّاجُ الكعبةَ بالمنجنيق، وأخذ القرامِطةُ الحجرَ الأسود، وجرَت حروبُ التتار، والحروب الصليبية، واحترقَ المسجدُ الأقصى، فلا ينبغي تكلُّف البحث والتعسُّف في التأويل والانشغال بالتفسير، وإنما المطلوب العمل، والأخذ بالأسباب، ومُدافعةُ الأقدار بالأقدار، وحفظُ الدين وحمايةُ أهل الإسلام، وأخذُ الحيطَة والحَذَر، وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ[النساء: 104].
ومن معالم الهُدى - يا عباد الله -: الثقةُ بأهل العلم وتقديرُهم، والعلمُ بأن براءة الذمَّة وسلامة الدين تحصُل بالرجوع إليهم وسؤالهم؛ فيجبُ توقيرُهم وحفظُ حقوقهم وتجنُّب الانتقاص من أقدارهم، أو الحطّ من منازلهم ومقاماتهم وإن كانوا غيرَ معصومين.
وحينما حذَّر معاذٌ - رضي الله عنه - من زيغَة الحكيم قال: "ولا يَثنِينَّك ذلك عنه؛ فلعله أن يرجع، وتلقَّ الحقَّ إذا سمعتَه؛ فإن على الحق نورًا".
ومما يحفظُ حقَّهم: البُعد عن مجالس الجِدال ومجالس الوقيعة - وبخاصةٍ - في أوقات الفتن التي يكثُر فيها القيلُ والقال.
وأيُّ فتنةٍ أشد حين ينتقصُ الناسُ من علمائهم والراسخين منهم والربانيين ليُعجَب كل ذي رأيٍ برأيه، فيُشمِّر عن ساعده، ويحسُر عن ساقه ليقول: ها أنذا، لا يلتفتُ بعضُهم إلى بعض، ولا يرى بعضُهم لبعضٍ حقًّا ولا منزلةً ولا علمًا ولا رأيًا، يتقدَّمُ الأصاغرُ على الأكابر، كلهم يزعُم أنه المُتكلِّم في مصالح الأمة، وأنه الذي يفهمُ واقعَها، وكلهم يرى أنه الأحقَّ ليقود السفينة.
ناهيكُم بالمُتعجِّلين المُتكلِّفين ممن لا يُراعِي ما يرعاه القوم من الأصول وضبط القواعد وشدِّ المعاقِد؛ فهذا الغافلُ في شأن وأهل العلم الأثبات في شأنٍ، وقد جعل الله لكل قومٍ قدرًا، فالحَذَر الحَذَر من مُناكفَة أهل العلم والحِكمة، فأيُّ خُذلانٍ ألا يعرفَ المرءُ مقدارَ أهل العلم وعُمق علومهم وقلةَ تكلُّفهم ونورَ بصائرهم، وكل ذلك يحتاجُ إلى مُراوضةٍ وإلى تمسُّكٍ بأدب الإنصاف؛ لتكون الرحمةُ والإصلاح وحُسن التقويم وتزكيةُ النفوس واحترامُ العقول.
وبعدُ - حفظكم الله ورحمكم -:
فإن حقيقة الفتنة: كل ما يكشِفُه الابتلاء والامتحان، ويتبيَّن به حالُ المسلم؛ من خيرٍ أو شرٍّ أو خوفٍ أو أمنٍ أو ثباتٍ أو اضطراب، وهذه الفتنُ تنشأُ من فهمٍ فاسدٍ أو نقلٍ كاذبٍ أو غرضٍ مُنحرف أو هوًى مُتَّبع، والفتنُ يقعُ فيها ضعيفُ البصيرة قليل العلم، لا سيما إذا اقترنَ بذلك سوءُ القصد وغلبةُ الهوى، فهنا الفتنةُ العظمى والمُصيبةُ الكبرى، والأمةُ تخرج - بإذن الله - بعد الإيمان به والاعتصام بحبله، تخرج بالتفكير المُستنير، والنظر الثاقب، وفقهِ الأسباب والمُسبَّبات، والعواقِب والمُقدِّمات، وإتيان البيوت من أبوابها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِأَوِ الْخَوْفِأَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا[النساء: 83].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

ابوحاتم 07-17-2011 12:27 AM

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله جعل الدنيا دار ممرٍّ واعتبار، والآخرةَ دار جزاءٍ وقرار، أحمده - سبحانه - وأشكره على ثواب نعمِه وفضله المِدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفَّار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُصطفى المُختار، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البرَرة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وعلى طريق الحق والهُدى سار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن من معالم الهُدى في أجواء الفتن: السمعَ والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، ولزومَ جماعة المسلمين، والاجتماع على الدين، والحذرَ من الفُرقة وشقِّ صفِّ الأمة المُجتمِع؛ فالجماعةُ رحمة والفُرقة عذاب، وأكثرُ ما تتجلَّى عواملُ الفُرقة في أجواء الفتن والاضطراب في مسلكَيْن: البغي وسوء التأويل.
أما البغي: فبمُجاوزة الشرع، وأما التأويل: فبتفسيرٍ من غير مُستنَد شرعيٍّ صحيح.


أيها المسلمون:
هذه معالمُ هُدى يدخلُ بعضُها في بعض، ويدلُّ بعضُها على بعض، ويُفسِّرُ بعضُها بعضًا، ويُنبِّهُ ما ذُكِر منها على ما لم يُذكَر، مع ما يجمعُ هذه المعالم مما يجبُ من محبة المسلمين والشفقة عليهم والنُصرة لهم؛ ففي الحديث عند مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمتَه على خير ما يعلمُه لهم، ويُنذِرهم شرَّ ما يعلمُه لهم، وإن أمتُكم هذه جُعِل عافيتُها في أولها، وسيُصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمور، وتجيءُ فتنةٌ فيُرقِّقُ بعضُها بعضًا، وتجيءُ الفتنة فيقول المؤمنُ: هذه هذه، فمن أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويدخل الجنة فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأتِ الناسَ الذي يحبُّ أن يُؤتَى له».
والوصيةَ الوصيةَ - عباد الله -، الوصيةَ الوصيةَ في الإخلاص، والإحسان، والنُّصح، والصدق، وترك ما يَريب، والتثبُّت فيما يُسمع ويُنقَل، وعدم الاغترار بالكثرة في الموافقة والمخالفة، والحذَرَ الحَذَر من الاندفاع والحماس غير المُنضبِط، مع لزوم الرفق والأناة والصبر وحفظ اللسان وصدق اللجوء إلى الله، والتوبة، والإنابة، والدعاء، والاستغفار، وحُسن التوكُّل، والاعتصام بالكتاب والسنة.
وليُعلَم أن الصبر في الأزمات، والحلمَ في النكبَات، والتثبُّت إذا ترادَفَت الضوائق، والأناة إذا تكاثَرت العوائق، كل أولئك فرسانٌ - بإذن الله - لا تكبو، وصوارم لا تنبُو، وجنودٌ لا تُهزَم، وحصونٌ لا تُهدَم، واستجماعُ ذلك كله - بعون الله - لا تزيغُ معه الأبصار، ولا تطيشُ به الأحلام، ولا تضِلُّ فيه الأفهام؛ بل تتبيَّن الأمور بحقائقها، والأحداثُ بدوافعها.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فمن علِمَ الله من قلبه الصدقَ والنصحَ والإخلاصَ وإرادة الصلاح والإصلاح وفَّقه وسدَّده وثبَّته وأنارَ بصيرتَه، إِنَّهُمَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ[يوسف: 90].
ألا صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادق في قيله - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانهم وأعوانهم لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رشدٍ يُعَزُّ فيه أهل الطاعة، ويُهدَى فيه أهل المعصية، ويُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءهم، واجمع على الحق والهدى والصلاح كلمَتهم، وولِّ عليهم خيارَهم واكفِهم شِرارهم، وابسُط الأمنَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بَطَن، وأعِذهم من المُضِلاَّت.
اللهم وارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين فإنهم لا يُعجزونك، اللهم أنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 07-22-2011 11:41 PM

القمر أحكام وآداب

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "القمر أحكام وآداب"، والتي تحدَّث فيها عن مخلوقٍ من مخلوقات الله وآيةٍ من أعظم آيات الله، وهو القمر، وذكر بعضَ ما ورد فيه من آياتٍ وأحاديث تُبيِّن الأحكام والآداب التي ينبغي على المسلم التزامها، ونبَّه إلى الاعتقادات الباطلة عند الناس وأهل الفلك والتنجيم، وأشاد بضرورة عدم الاختلاف والفُرقة بين المسلمين في مسألة اختلاف المطالع، وأن الأمر فيه سعةٌ وهو من قبيل الاجتهاد.


الخطبة الأولى

الحمد لله فَالِقُالْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَسَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًاذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[الأنعام: 96]، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى[لقمان: 29]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وخِيرتُه من خلقه، دعا إلى سبيل ربه بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة وجادلَ بالتي هي أحسن، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي - بلزوم تقوى الله حقَّ التقوى، والاستمساك من الإسلام بالعُروة الوُثقى، أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[يونس: 62، 63].

عباد الله:
مخلوقٌ عظيمٌ من مخلوقاتِ الله، له وقعٌ في نفوس العباد، وفيه إطلالةٌ ونورٌ يُشعِلان الحياةَ في وجودنا، كما أنه آيةٌ من آيات الله الظاهرة، ذكره الله في كتابه سبعًا وعشرين مرةً، وأقسم به في ثلاثة مواضع من كتابه الكريم، وسُمِّيت سورةٌ كاملةٌ باسمه، هو مضرِبُ الأمثال في تحريك مشاعر الحزن والبهاء والوصف والجمال، للشعراء معه غدوةٌ ورَوحة، فيه من صفات الإنسان مرحلةُ تكوينه؛ حيث يبدو وليدًا، فلا يزالُ ينمو إلى أن يتمَّ ويكتمل ليتلقَّى سنةَ الله في النقصان بعد الكمال والأُفول بعد الظهور والبُروز.
وللهِ ما أشدَّ فقدَه في الليلة الظلماء؛ إذ في الليلة الظلماء يُفتقَد البدر، إنه القمر - عباد الله -، القمر الفاضلُ على سائر الكواكب، والذي يُشيرُ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من موضع من سنته حالةَ التفضيل بين الأشياء، وذلك بقوله: «كفضل القمر على سائر الكواكب».
نعم؛ إنه القمر الذي يُذكِّرنا بالوجوه الناضرة التي هي إلى ربها ناظرة وذلك يوم القيامة؛ حيث يقول جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوسًا، فنظر إلى القمر ليلةَ البدر - ليلةَ أربع عشرة -، فقال: «إنكم سترون ربَّكم كما ترون هذا لا تُضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»، ثم قرأ هذه الآية: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا[طه: 130]؛ رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون:
قلوب العباد مُشرئبَّة، وعيونهم مُحدِقةٌ بلَهَف المُشتاق ولوعَة الفاقد، مُشرئبَّةٌ لانبثاق هلال رمضان الوليد الذي سيُطِلُّ عليهم بعد أيامٍ معدودة، يترقَّبون ذلك الوليد ليُؤذَنوا بشهرٍ له في مجتمعهم تأثير، وفي نفوسهم تأديب، وفي مشاعرهم إيقاظ.
يترقَّبون ذلك الوليد بعد أن ظلُّوا أحدَ عشر شهرًا وهم سائرون في مسالك الحياة ودروبها، ينالون منها وتنالُ منهم.
فيا لله العجب؛ كيف أودع الله في هذا المخلوق من العِبر والحِكم ما لو استشعرَ العبدُ أثرَه وقيمتَه وتتبَّع أسراره لوجدَ ما يهديه إلى زيادة المعرفة بربه وقدره حقَّ قدره، وكيف أن الله أقسم به فقال: كَلَّا وَالْقَمَرِ[المدثر: 32]، وقال: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا[الشمس: 2]، وقال: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ[الانشقاق: 18].
إن الله لا يُقسِم إلا بشيءٍ عظيم، وله - سبحانه - أن يُقسِم بما شاء من مخلوقاته وليس للبشر ذلك، فليس لهم الحلِفُ إلا بالله، ولا القسَم إلا بالله، وأن من حلَفَ بغير الله فقد كفرَ أو أشركَ، كما صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق - صلوات الله وسلامه عليه -.
لقد كتب الله على القمر إهلالاً ثم إبدارًا ثم أُفولاً، وهذه سنة الله في الأشياء: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ[يس: 39]؛ لأن لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانًا ونهاية، وهذه حالُ الناس؛ فدوامُ الحال من المُحال، وكل اجتماع فإلى افتراق، والدهرُ ذو فتحٍ وذو إغلاق، فقد جاء في "الصحيح" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن حقًّا على الله ألا يرفعَ شيئًا من الدنيا إلا وضعَه».
فعلامَ إذًا ينتشِي المرءُ ويُصيبُه الزُهُوُّ والغرور والإعجابُ بالنفس وهو إلى الزوال صائر، وإلى الأُفول سائر، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ[الرحمن: 26، 27]، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ[الفرقان: 58].
اُرقُب زوالاً إن تكن حُزتَ العُلا
فالشيءُ يهوِي بعد أن كان ارتفع
ما طارَ طيرٌ مرةً نحو السما
مُستمتِعًا إلا كما طار وقع

إن مما ألجَمَ به الخليلُ - عليه السلام - أفواهَ قومه في عبادةِ غير الله أو الإشراك به أن جعل القمر علامةً على وحدانيته - سبحانه -، وأنه مُستحقٌّ للعبادة وحده دون سواه، وذلك حين قال عنه: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ[الأنعام: 77]، ومَن مَصيرهُ الأُفول فهو ليس مُستحقًّا للعبادة، فـ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ[البقرة: 255].
أيها المسلمون:
أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث أنس - رضي الله عنه - أن أهلَ مكة سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُريَهم آيةً، فأراهم القمرَ شِقَّين، حتى رأوا حِراء بينهما، وقد قال الله - جل وعلا -: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ[القمر: 1]، فكان حادثُ الانشقاق من مُعجِزاته - صلى الله عليه وسلم - ودلائل نبوَّته وهو الصادق المصدوق.
عباد الله:
إن الله - جل وعلا - جعل للعبادات أوقاتًا زمانيةً وأوقاتًا مكانية، وقد احتلَّ القمرُ جزءًا كبيرًا من الأوقات الزمانية؛ كالحج في قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ[البقرة: 197]، وكالصوم في قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرة: 185]، وغير ذلكم من المواقيت الزمانية المرهونةِ بالأهِلَّة ومنازلِ القمر؛ كالعِدَد، وأيام البِيض، وغيرها.
والتوقيتُ القمريُّ هو مما امتنَّ الله به على أمة الإسلام وجعله من خصائصها؛ حيث كانت الأمم السابقة تعتبِر ميقاتها وأعوامَها بالسنة الشمسية وهي تزيدُ على القمرية بأحد عشر يومًا، ومنه قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا[الكهف: 25]، فثلاثمائة بتقدير الشمس، وثلاثمائة وتسع بتقدير القمر، وكان ميقاتَ العرب قبل الإسلام هو القمر خلافًا لمن سواهم، فوافقَ الإسلامُ هذا التوقيتَ ووجَّهَه.
وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنا أمةٌ أمِّية لا نكتُب ولا نحسِب، الشهرُ هكذا وهكذا» - يعني: مرةً تسعةً وعشرين، ومرةً ثلاثين -؛ رواه البخاري ومسلم.
وبعدُ، أيها الناس:
فإن القمر آيةٌ من آيات الله يُخوِّفُ الله به عبادَه بخُسوفه في الدنيا وخُسوفه في الآخرة، كما قال تعالى: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ[القيامة: 7- 12].
هذا هو القمر - عباد الله -، وتلكم بعض المُلَح والطرائف والحِكَم التي أودعها الله هذا المخلوق العظيم، والله - جل وعلا - يقول: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ[لقمان: 11]، ولذا فإن من العيب كل العيب الاستهانةَ به، ومن الانحرافَ المشين التوقيتَ والتأريخ بغيره، كما أن من الخطأ تنشِئَة الصغار على التعلُّق بالرسوم، سواء كانت ثابتةً أو متحركةً والتي يُبرِزون من خلالها القمرَ وله عينان وأنف ونحو ذلك، أو أن له فمًا أو أنه يضحك ويبكي، فهو آيةٌ من آيات الله لا يجوز امتهانُها والاستخفافُ بها، إنما هي للاعتبار واستشعار عظمة الله وقدرِ الخالق حق قدره، فالله - جل وعلا - يقول: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ[الرعد: 2]، وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ[فصلت: 37].
وقد وقع في قديم الزمان وحديثه لدى بعض الأمم والشعوب اعتقاداتٌ خاطئةٌ في القمر خرجوا بها عما خلقه الله من أجله؛ فمنهم من ظنَّ أن يخسِف لموت أحدٍ أو حياته، وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في قصة الكسوف حين ظنَّ بعضهم أن الشمسَ كسَفَت لموت ابنه إبراهيم.
وقد كان المُنجِّمون والسحَرة والمُشعوِذون قديمًا وحديثًا يُقحِمون القمر في أمور الناس؛ فقد ذكر شيخ الإسلام وغيره أن عليًّا - رضي الله عنه - عندما أراد المسيرَ لقتال الخوارج عرضَ له مُنجِّم، فقال: يا أمير المؤمنين! لا تُسافر والقمر في العقرب، فإنك إن سافرتَ والقمر في العقرب هُزِم أصحابُك، فقال: "بل نُسافر ثقةً بالله، وتوكُّلاً على الله، وتكذيبًا لك"، فسافر فبُورِك له في ذلك، حتى عامةَ الخوارج.
وقد يعجبُ بعضُنا حينما يعلم أن دراساتٍ نفسية مُعاصرة لدى غير المسلمين كوَّنوا منها اعتقادًا باطلاً، وهو أن للقمر تأثيرًا على مِزاج الإنسان، وأن الجرائم تزداد عندما يكون بدرًا، ويُعلِّلون لذلك - تعسُّفًا منهم -: أن القمر له علاقةٌ بمدِّ البحار وجزرها، فكذلك الإنسان؛ لأن الماء يُمثِّل ثمانين بالمائة من وزنه.
ويزداد العجبُ - عباد الله - حينما يغترُّ بعضُ المسلمين بذلكم، ويُطوِّع النصوصَ الشرعية لتُوافقُ اعتقادًا خرافيًّا أبطلَه عُقلاءُ أولئك القوم، فكان من تطويع بعض المُغترِّين من المسلمين لهذه النصوص أن ربطَ بين الحكمةِ من صيام أيام البِيض وتأثير القمر على الإنسان حالَ الإبدار؛ وذلك للإقلال من الجرائم.
معاذ الله! مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ[ص: 7]، وما القمرُ إلا خلقٌ من خلق الله يسجدُ له كما يسجدُ بنو آدم: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ[الحج: 18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

ابوحاتم 07-22-2011 11:44 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فقد ذكر جمعٌ كثيرٌ من أهل التفسير: أن بعض الصحابة سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: ما بالُ الهلال يبدو دقيقًا، ثم يزيد حتى يستويَ ويستدير، ثم ينتقِص حتى يعود كما كان؟ فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ[البقرة: 189].
ولنا وقفةٌ مع هذه القصة؛ لأن فِئامًا من الناس ممن لم يبلُغ نورُ الوحي مبلغَ اليقين في نفوسهم، فادَّعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حادَ عن الجواب في ذكر تفاصيل الهلال وولادته وتكوينه، وأن سبب ذلك كونه أُمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتُب، فلم يذكر من الجواب إلا أنها مواقيتٌ فحسب.
والأدهى من ذلكم - عباد الله - أن هناك من الْتاثَ بدخَنٍ من هذه اللَّوثَة فرأوا أن الرؤيةَ الشرعيةَ لا تتفق مع الحساب، وأنها ظنٌّ ونقصٌ أمام الوسائل العصرية، في حين إن الحساب يقينٌ في الدقة والصحَّة!
والجواب: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عاجزًا عن التفاصيل وإن كان أُمِّيًّا، فهو يُوحَى إليه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يُخبِر بما هو أعظم من ذلكم، فقد وصف السماوات السبع ومن فيها من الأنبياء في قصة الإسراء، ونعتَ المسجدَ الأقصى كما هو.


وإنما كان جوابُه - صلى الله عليه وسلم - مُختصرًا؛ لكون رسالة أمته وحاجتها للعبادة والطاعة، وللأثر الفعلي للأهِلَّة لا النظري كانت الإجابة أنها مواقيت للناس والحج، فهذا هو ما ينفعهم فيها.
ومن ادَّعى أن في جوابه مخالفةً لما في علوم الفلك فقد أعظمَ على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الفِرية، فكتابُ الله - جل وعلا - أكبرُ من أن يكون كتابًا فلكيًّا أو كيميائيًّا أو فيزيائيًّا، كما يُحاول بعضُ المُتحمِّسين أن يقصُروا همَّتهم في الخوض فيها بعيدًا عن كونه هدايةً ونورًا ونجاحًا، ولربما وقعوا بسبب ذلكم في محاذير ثلاثة:
أولها: التراجُع النفسي الذي يُخيِّل إليهم أن العلم هو المُهيمِن على القرآن، وأن القرآن تابعٌ له، فيُحاولون تثبيتَ القرآن بالعلم وإن كان القرآن خلافه، وهذه طامَّةٌ كبرى.
وثانيها: سوء الفهم لحقيقة القرآن ورسالته، وأن حقيقته نهائيةٌ لا تقبل التغيير والفحصَ؛ لأن قائلها هو الذي لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.
وثالثها: الوقوع في التأويل المُتعسِّف، والتكلُّف في توجيه نصوص القرآن بمعلوماتٍ ونظرياتٍ مُستجِدَّة قد تنسخُها أخرى لاحِقة، وهذا لا يعني بداهةً عدم الانتفاع بالمُستجدَّات العلمية في توسيع مدلول الآيات وإظهار إعجازها؛ لتكون هي تابعةً للقرآن لا العكس.
كما أنه ينبغي لنا بهذه المُناسبة أن نُؤكِّد على سعة الصدر فيما يتعلَّق بالحديث عن الأهِلَّة، وألا يكون اختلافُ المطالع سببًا للتنازُع والتدابُر، وأن يُؤخَذ الأمر على العفوية والاجتهاد المُوصِل إلى الهدف المنشود، وأن نتَّقِيَ الجدالَ العقيمَ دون لغطٍ أو تناوُشٍ مذموم؛ فالرؤيةُ أصلُها شرعي، وينبغي ألا يكون هذا الأصل مانعًا من أي استفادةٍ من المُستجدَّات التي لا تنقُض ذلك الأصل ولا تُعارِضُه؛ كالمُكبِّرات البصرية، والحساب المُعين على تحقيق الرؤية، وبذلكم تتفق وجهاتُ النظر، ويقلُّ الخلاف، وتقصُر المسافة.


وقد روى مسلم في "صحيحه" عن كُريبٍ، وفيه: أنه رأى الهلالَ بالشام ليلةَ الجمعة، ثم لما قدِم المدينة في آخر الشهر سأله عبدُ الله بن عباس - رضي الله عنهما - عن الهلال فأجابَه بما رأى، ثم قال ابن عباس: "لكنا رأيناه ليلةَ السبت، فلا نزالُ نصوم حتى نُكمِل ثلاثين أو نراه"، ثم قال: "هكذا أمرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
فللهِ ما أحكمَ أولئك، وما ألطفَهم مع بعضهم البعض؛ فقد اختلفَت الرؤيةُ لديهم فلم تختلف قلوبهم، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ[الأنعام: 90].
هذا؛ وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم بلِّغنا شهر رمضان، اللهم بلِّغنا شهر رمضان، اللهم ارزُقنا صيامَه وقيامَه وتلاوةَ كتابك آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة : 201].
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 07-30-2011 02:06 AM

خطبة الجمعة 28/8/1432هـ
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "رمضان موسم الخيرات والبركات"، والتي تحدَّث فيها عن مواسم الخيرات التي خصَّنا الله بها، وأعظمُها: شهر رمضان، وقد عدَّد شيئًا مما ثبتَ عن المصطفى - عليه الصلاة والسلام - في فضله، ووجَّه الدعوة لوسائل الإعلام بتقوى الله وعدم إفساد الصيام على أنفسهم والصائمين.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده - سبحانه - ونستعينه ونستغفره، هو وليُّ التوفيق والهُدى، خصَّنا بموسمٍ للطاعات ما أهناه مورِدًا، من استبَقَه بلغَ من مراضي الديَّان فرقدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتبوَّأ بها من الجِنان مقعَدً، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمدًا عبد الله ورسوله خيرُ من صامَ وقامَ فكان في الفضلِ أوحدًا، اللهم ربنا فصلِّ عليه محمدًا وأحمدًا، وعلى آله الأُلَى بلغوا من شهر التُّقَى مجدًا وسُؤددًا، وصحبِه الكرام الذين أمضَوا رمضانَ رُكَّعًا وسُجَّدًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو المآلَ الأسعدا، وسلِّم تسليمًا كثيرًا لا يزالُ عذْبًا مُردَّدًا، ما راحَ في الإحسانِ رائحٌ أو غدا.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن رُمتُم عزًّا سرمدًا فاتقوا الله العظيمَ الأمجدا، واغتبِطوا بشهر الصيام تُفلِحوا اليوم وغدًا؛ فالسعيدُ من اتقى ربَّه واهتدَى، ولم يُضيِّع شريفَ الأوقاتِ بددًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].
عليك بتقوى الله سرًّا وجهرةً
ففيها جميعُ الخير حقًّا تأكَّدا
لتُجزَى من الله الكريم بفضلِه
مُبوَّأ صدقٍ في الجِنانِ مُخلَّدًا
أيها المسلمون:
في مُضِيِّ المسلم لربِّه بالآصال والبُكور، وفي سيره لمولاه في جميع الأمور، مع ما يكتنِفُ ذلك من الماديات، وما يُصاحِبُه من مُتغيِّرات، وما يعيشُه كثيرون من فراغٍ وإجازاتٍ وأسفارٍ وسياحةٍ وتنقُّلات، وما تُعانيه الأمةُ من أحداثٍ ومُستجِدَّات، لا غرْوَ أن ينتابَه التواني والفُتور، والنَّمطِيَّةُ عبر الشهور؛ بل لربما التِّرَةُ والقصور في القِيَم والعبادات وشتَّى المجالات.
من أجل ذلك - وما أعظم ما هنالك - خصَّنا المولى - جلَّ اسمه - بأزمنةٍ مباركةٍ ومواسم بالخيرات والمِنَح نواسِم، اكتنَزَت حِكَمًا لاستنهاضِ النفوس مقصودة، وغاياتٍ باهراتٍ للتشويق للطاعات معقودة، فيها ينعطِفُ المسلمُ لشِيَمه التعبُّدية المحمودة، ويُعاوِد انبعاثَته في الخير المعهودة.
ومن تلك الأزمنةِ المَشوقة: شهرٌ عظيمٌ شأنه، شريفٌ زمانه، تبدَّى ببهائه إلينا، وأقبلَ برائع مُحيَّاه علينا، فيه تُدرِكُ النفوسُ ألَقَ الإحسان، ونداوَة اليقين وحلاوةَ الإيمان، إنه شهر رمضان المُبارك الميمون، أقبل ليُجدِّد لنا في كل يومٍ مسرَّةً وبُشرى، وينفَحَنا أريجًا طابَ عرْفًا ونشرًا، ويُزكِّي القلوبَ بالرحمات وقد أصارَها لديه أصرًا، وكم شدَّ بالتراويح والتهجُّد منا أزرًا وأزرًا، وأدلَجَ بنا في أنداء الطُّهر وأسرَى.
إخوة الإيمان:
إنه شهرُ الصيام والقيام، أقبلَ ليُوقِظَ فينا جمالَ الرجاء، ولذَّة الدعاء، وشوقَ التبتُّل الصادق الهتَّان، وتباريحَ التضرُّع الفَيْنان، بين يدي الرحمن، ولننهَل من كوثره الرقراق كؤوس الهُدى الدِّهاق، فيُحيلُ - بإذن الله - أرواحَنا أزهارًا مُمرِعة بسُيُوب الغفران، أسِيَةً بخمائل الرضوان.
فأهلاً بشهر التُّقى والجُود والكرَمِ
شهر الصيامِ رفيعِ القدرِ في الأُممِ
نفوسُ أهل التُّقَى في حبِّكم غرِقَت
وهزَّها الشوقُ شوقُ المُصلِح العلَمِ
معاشر المسلمين:
ضيفُكم الكريم هو الفرصةُ السانِحة، والصفقةُ الربانيةُ الرابحة للتزوُّد للدار الآخرة بالأعمال الصالحة، وليس إلى مرضات الرحمن - بحمد الله - كبيرُ مشقَّةٍ واقتحامِ عناء، إن راقبَ المسلمُ نفسَه وأولاهَا الحزمَ والاعتناء، وبادرَ إلى الطاعة دون تلكُّؤٍ أو وَناء، مُعتبِرًا بمن كانوا بيننا في العام الماضي وقد سرَت بهم المنَايَا القواضِي، فالبِدار البِدار إلى فضل الله الممنوح قبل فواتِ الروح، وأجهِدوا أنفسَكم أن يكون عهدُ التوانِي منسوخًا، وزمنُ التسويفِ مفسوخًا.
وفي مأثور الحِكَم: "من أشدِّ الغُصَص فواتُ الفرص، ومن أخدَ للتواني حصدَ الأوهامَ والأماني".
وخيرُ الدُّرَر ما صحَّ عن سيد البشر - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام -؛ فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهِد في رمضان ما لا يجتهِد في غيره؛ رواه مسلم.
ومن شمَّر عن ساعدِ العبادة والجِدِّ انصرفَ بمديد الفوز والجَدِّ.
يا أمتي! استقبِلوا شهرًا بروحِ تُقًى
وتوبةِ الصدقِ فالتأخيرُ إغواءُ
توبوا إلى ربكم فالذنبُ داهيةٌ
ذلَّت به أممٌ واحتلَّها الداءُ
أيها المؤمنون:
في رمضان يفتحُ الحُبور للصائم بابًا، ويفوزُ يومَ يُؤتَى باليمين كتابَه، وإذا لقِيض ربَّه وفَّاه حسابَه؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للصائم فرحتان يفرحُهما: إذا أفطرَ فرِح، وإذا لقِيَ ربَّه فرِحَ بصومه»؛ خرَّجه الشيخان.
وما دعا ربَّه إلا أجابَه، ولم يُوصِد دونه بابَه؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: «إن للصائم عند فِطره لدعوةً ما تُردُّ»؛ أخرجه ابن ماجه وغيره.
وإذا كانت أول ليلةٍ من رمضان صُفِّدت الشياطينُ ومرَدَةُ الجن، وغُلِّقَت أبوابُ النار فلم يُفتَح منها باب، وفُتِّحت أبوابُ الجنة فلم يُغلَق منها باب، ويُنادِي مُنادٍ: يا باغي الخير أقبِل، ويا باغِي الشرِّ أقصِر، ولله عُتقاءُ من النار، وذلك كل ليلة؛ أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة وصحَّحه.
الله أكبر! ما أكرمه من عطاءٍ، وما أعظمَه من حِباء.
وكم لله من نفحَاتِ خيرٍ
بمقدَمِك السعيدِ أخا السناءِ
فكم خشَعَت قلوبُ ذوي صلاحٍ
وكم دمَعَت عيونُ الأتقياءِ
فحيَّ هلاً بمن اختار الخيرَ بنواحِيه وأطرافه، ولزِمَ المعروفَ من قواصِيه وأكنافِه، وكان دَيدَنُه الذكرَ والترتيلَ والصدقَة، والاستغفارَ والتوبةَ والنفقَة، وأداء الحقوق، والخروج من المظالِم، والرحمةَ والجُود على ذوي المَسغَبَة ممن أعوَزَهم الفقرُ والفاقَة والجفافُ والمجاعة.
أمة القرآن:
وطُوبَى لقومٍ يُلقون قلوبَهم إلى القرآن بالتدبُّر والسمع، فتفيضُ أعينُهم من الوجَل بالدمع، أزلفَهم الله إليه وأراضهم، وأكرمَ قلوبَهم بالقرآن وأحظاهم.
أمة الصيام والقيام:
تلك - وايْمُ الله، ثم وايْمُ الله - حقيقة القلوبِ والأجساد التي ما فُطِرت إلا لعبادة ربِّ العباد، ولتتملَّى مِنَح البرِّ الوَدود في محاريبِ الطاعات والسجود، فأين المُشتاقون لجنات الخلود؟!
ألا فلتجعلوا - معاشر المؤمنين، رحمكم الله - لجوارحِكم زِمامًا من العقل والنُّهَى، ورقيبًا من الورَعِ والتُّقَى؛ حِفظًا للصيامِ عن النقصِ والانفِلام؛ فأيُّ غَناءٍ في أن يدَعَ بعضُ المسلمين طعامَه وشرابَه ثم يركبُ الصعبَ والذَّلول للآثام والمُوبِقات والمعاصي والمنكرات، لا يردُّه من الدين وازِع، ولا ينزِع به من حُرمة الشهر نازِع.
وتحذيرًا للوالغين في هذا المكرَعِ الآسِن وتنبيهًا، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوعُ والعطَش، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السهرُ والتعب»؛ خرَّجه النسائي، وابن ماجه.
وهل مقاصد الصيام العِظام - يا أمة خير الأنام - عليه الصلاة والسلام - إلا تهذيبُ النفوس وترقِيَتُها، وذمُّها عن أدرانِها وتزكيتُها، وتقويمُ جُنوحِها، وسَوسُ شِماسِها وجُموحِها، وذلك هو المُرادُ الأسمَى، والهدفُ الأسنَى من شِرعةِ الصيام في الإسلام؛ ألا هو: تحقيقُ التقوى، يقول - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183].
أي: تحقيقًا للتقوى ورجاءً، وغايةً وابتغاءً؛ فهل يعِي ذلك من غفَلوا عن مقاصد الصيام الحقيقية وكرِعوا في المقاصد الدنيوية الدنيئة من أهل الجشَع والطمَع والهلَع، وزيادةِ الأسعارِ وإغلاءِ السِّلَع، أو من أربابِ الشهواتِ القميئَة ممن يتسمَّرون أمام القنوات والفضائيات، فالله المستعان.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، واستقبِلوا شهركم بالاغتِباط والاستبشار، وكثرةِ التوبة والاستغفار؛ فقد كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يُبشِّر أصحابَه بقدوم شهر رمضان، ويقول: «قد أظلَّكم شهرٌ عظيمُ مُبارَك»؛ خرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما".
وما ذاك إلا تهيِئةً للنفوس، وشحنًا للهِمَم، وتقويةً للعزائم عن الفُتور والنُّكُوص، فهنيئًا لأمتنا الإسلامية بحُلول شهر الصيام، ويا بُشرى لها بموسمِ الرحمةِ والغفرانِ والعتقِ من النيران، وبارَكَ الله لها في أيامِه الغُرِّ ولياليه الزُّهْر، وأصلَحَ فيه أحوالَها، وحقنَ دماءَها، وحقَّق وحدتَها، وجمعَ كلمتَها على الحق والهُدى، إنه جوادٌ كريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[البقرة: 185].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم والسنة الشريفة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات الباهِرات والحِكَم المُنيفة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من جميع الآثام والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله رفعَ لشهر الصيام قدرًا، وحثَّنا على تحقيق مقاصده الكُبرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أجرَى في شهر الصيام من البرَكات ما أجرى، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أكرمُ العبادِ أرُومةً وذُخرًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه البالغين من الخير فضلاً عظيمًا وأجرًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واستلهِموا التوفيقَ لشهر الصيام، واغتنِموا أيامَه وليالِيَه الكِرام؛ تفوزوا بمرضاة الملكِ العلاَّم.
أمةَ الإسلام:
يُهِلُّ علينا شهرُ رمضان المبارك وأمتُنا الإسلامية تلفَحُها المآسِي والفِتَن، ويطؤُها منسِمُ الرزَّايا والمِحَن، قد استحكَمَ في كثيرٍ من أقطارها الافتراق والاضطرابُ والشِّقاق، ولكن ثم لكن يحدُونا التفاؤلُ المُشرِق أن تقتبِسَ أمتُنا من مدرسةِ الصيامِ والقيام الحِكَمَ والعِظات، والعِبَر الهادِيات، وأن تُفِيءَ إلى رحابِ الاتحادِ والاعتصام، والتراحُم والوِئام، بدلَ الفُرقة والانقسام، وتنخلِعَ من ضيقِ المصالحِ الذاتية إلى سَعَة المقاصد الشرعية، ومن سَمِّ التعصُّبِ للآراء والأفكار إلى رَحابَة التشاوُر والحِوار، وتغليبٍ لصوت العقل والحِكمَة وإلقاء السلاح، ووقفِ نزيفِ الدمِ المُهرَاق؛ صيانةً للدماء المعصومة، وبُعدًا عن الفوضَى والاضطراب، والفتنِ والعُنفِ والتدميرِ والاحتِراب، ورعايةً لأمن الأمة واستقرارِها، واطمئنانِ البلاد والعباد.
ولكَم يتحتَّمُ ذلك ويتأكَّد، ويرجُوه الغَيُور من السُّوَيداء ويتوطَّد في شهر الخيرات والبركات، وتنزُّل القرآن العظيم والرَّحمات، يحملُ مِشعَلَ الإصلاحِ والإنقاذِ العلماءُ الربانيُّون الأعلام، وعلى آثارهم الدعاةُ والكُفاة من حمَلة الأقلام ورادَة النُّصْحِ السَّدِيد والرأي الحَصِيفِ الرشيد، حافِزُهم الإيمان الوثيق بالتسديد الحقيق.
والدعوةُ الحرَّاء مُوجَّهةٌ للقائمين على وسائل الإعلام كافةً أن يتقوا اللهَ - سبحانه -، ويُحسِنوا استقبالَ هذا الشهر الكريم، ويُراعُوا مكانتَه وحُرمتَه، ويصوموا عن كلِّ ما يخدِشُ روحانيَّتَه وبهاءَه، ويكُفُّوا عن التسابُق المحموم في بثِّ العفَنِ من القولِ والفعل.
عند ذلك سيبتسِم الأملُ - بإذن الله - في قُطورِ اليأس، ويُومِضُ فجرُ انكِشافِ الغُمَّة في دامِس الظلام، وتُؤوبُ أمتُنا المبارَكة إلى عليَاء الريادة والوَحدة والقوة، ومعاقِد عزَّتِها المتلُوَّة، وما ذلك على الحقِّ - جل جلالُه - بعزيز، ولكي يتحقَّق ذلك فإن الأمةَ مُطالبَةٌ بجدٍّ وإلحَاح - وهي تستقبِلُ الشهرَ الكريمَ - في كل أمورها ومجالات حياتها بالتوبة والإنابة، والأَوبَة والاستجابة، والمُحاسَبة والمُراجَعَة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[الأنفال: 24].
يا مَن عدَى ثم اعتدَى ثم اقترَف
ثم انتهَى ثم ارعَوَى ثم اعترَف
أبشِر بقولِ الله في آياتِه:
إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف
[الأنفال: 38]، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على أسمَى الورَى قدرًا، مَن طلَعَ في الحُلَكِ بَدرًا، كما أمركم المولى الذي أنزل الآياتِ تَتْرَى، فقال تعالى قولاً كريمًا عزيزًا بليغًا وجيزًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
فصلِّ إلهي وسلِّم سلامًا
على سيدِ الخلقِ فخرِ الأُمَم
وآلٍ وصحبٍ وأهلِ صلاحٍ
ومن سارَ في دربِهم وانتظَم
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته، وبارِك على محمد وآله وأزواجه وذريته، كما بارَكتَ على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبِرِّ والتقوى، واجمع به كلمةَ المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، وارزقه البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلاد والعباد.
اللهم وفِّق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وأدِم أمنَهم وأمانَهم.
يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال، برحمتك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأننا كلَّه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام.
اللهم بارِك لنا في جميع الشهور والأعوام، وبلِّغنا بمنِّك وكرمك شهرَ رمضان، اللهم اجعلنا ممن يصومُه ويقومُه إيمانًا واحتِسابًا، اللهم سلِّمه لنا، وسلِّمنا له، وتسلَّمه منَّا مُتقبَّلاً يا حي يا قيوم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عِبرةً للمُعتبِرين يا قوي يا عزيز.
اللهم انصر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من بَراثِن المُعتدين، يا قوي يا عزيز.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 07-30-2011 02:08 AM

خطبة الجمعة 28/8/1432هـ
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "رمضان موسم الخيرات والبركات"، والتي تحدَّث فيها عن مواسم الخيرات التي خصَّنا الله بها، وأعظمُها: شهر رمضان، وقد عدَّد شيئًا مما ثبتَ عن المصطفى - عليه الصلاة والسلام - في فضله، ووجَّه الدعوة لوسائل الإعلام بتقوى الله وعدم إفساد الصيام على أنفسهم والصائمين.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده - سبحانه - ونستعينه ونستغفره، هو وليُّ التوفيق والهُدى، خصَّنا بموسمٍ للطاعات ما أهناه مورِدًا، من استبَقَه بلغَ من مراضي الديَّان فرقدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتبوَّأ بها من الجِنان مقعَدً، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمدًا عبد الله ورسوله خيرُ من صامَ وقامَ فكان في الفضلِ أوحدًا، اللهم ربنا فصلِّ عليه محمدًا وأحمدًا، وعلى آله الأُلَى بلغوا من شهر التُّقَى مجدًا وسُؤددًا، وصحبِه الكرام الذين أمضَوا رمضانَ رُكَّعًا وسُجَّدًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو المآلَ الأسعدا، وسلِّم تسليمًا كثيرًا لا يزالُ عذْبًا مُردَّدًا، ما راحَ في الإحسانِ رائحٌ أو غدا.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن رُمتُم عزًّا سرمدًا فاتقوا الله العظيمَ الأمجدا، واغتبِطوا بشهر الصيام تُفلِحوا اليوم وغدًا؛ فالسعيدُ من اتقى ربَّه واهتدَى، ولم يُضيِّع شريفَ الأوقاتِ بددًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].
عليك بتقوى الله سرًّا وجهرةً
ففيها جميعُ الخير حقًّا تأكَّدا
لتُجزَى من الله الكريم بفضلِه
مُبوَّأ صدقٍ في الجِنانِ مُخلَّدًا
أيها المسلمون:
في مُضِيِّ المسلم لربِّه بالآصال والبُكور، وفي سيره لمولاه في جميع الأمور، مع ما يكتنِفُ ذلك من الماديات، وما يُصاحِبُه من مُتغيِّرات، وما يعيشُه كثيرون من فراغٍ وإجازاتٍ وأسفارٍ وسياحةٍ وتنقُّلات، وما تُعانيه الأمةُ من أحداثٍ ومُستجِدَّات، لا غرْوَ أن ينتابَه التواني والفُتور، والنَّمطِيَّةُ عبر الشهور؛ بل لربما التِّرَةُ والقصور في القِيَم والعبادات وشتَّى المجالات.
من أجل ذلك - وما أعظم ما هنالك - خصَّنا المولى - جلَّ اسمه - بأزمنةٍ مباركةٍ ومواسم بالخيرات والمِنَح نواسِم، اكتنَزَت حِكَمًا لاستنهاضِ النفوس مقصودة، وغاياتٍ باهراتٍ للتشويق للطاعات معقودة، فيها ينعطِفُ المسلمُ لشِيَمه التعبُّدية المحمودة، ويُعاوِد انبعاثَته في الخير المعهودة.
ومن تلك الأزمنةِ المَشوقة: شهرٌ عظيمٌ شأنه، شريفٌ زمانه، تبدَّى ببهائه إلينا، وأقبلَ برائع مُحيَّاه علينا، فيه تُدرِكُ النفوسُ ألَقَ الإحسان، ونداوَة اليقين وحلاوةَ الإيمان، إنه شهر رمضان المُبارك الميمون، أقبل ليُجدِّد لنا في كل يومٍ مسرَّةً وبُشرى، وينفَحَنا أريجًا طابَ عرْفًا ونشرًا، ويُزكِّي القلوبَ بالرحمات وقد أصارَها لديه أصرًا، وكم شدَّ بالتراويح والتهجُّد منا أزرًا وأزرًا، وأدلَجَ بنا في أنداء الطُّهر وأسرَى.
إخوة الإيمان:
إنه شهرُ الصيام والقيام، أقبلَ ليُوقِظَ فينا جمالَ الرجاء، ولذَّة الدعاء، وشوقَ التبتُّل الصادق الهتَّان، وتباريحَ التضرُّع الفَيْنان، بين يدي الرحمن، ولننهَل من كوثره الرقراق كؤوس الهُدى الدِّهاق، فيُحيلُ - بإذن الله - أرواحَنا أزهارًا مُمرِعة بسُيُوب الغفران، أسِيَةً بخمائل الرضوان.
فأهلاً بشهر التُّقى والجُود والكرَمِ
شهر الصيامِ رفيعِ القدرِ في الأُممِ
نفوسُ أهل التُّقَى في حبِّكم غرِقَت
وهزَّها الشوقُ شوقُ المُصلِح العلَمِ
معاشر المسلمين:
ضيفُكم الكريم هو الفرصةُ السانِحة، والصفقةُ الربانيةُ الرابحة للتزوُّد للدار الآخرة بالأعمال الصالحة، وليس إلى مرضات الرحمن - بحمد الله - كبيرُ مشقَّةٍ واقتحامِ عناء، إن راقبَ المسلمُ نفسَه وأولاهَا الحزمَ والاعتناء، وبادرَ إلى الطاعة دون تلكُّؤٍ أو وَناء، مُعتبِرًا بمن كانوا بيننا في العام الماضي وقد سرَت بهم المنَايَا القواضِي، فالبِدار البِدار إلى فضل الله الممنوح قبل فواتِ الروح، وأجهِدوا أنفسَكم أن يكون عهدُ التوانِي منسوخًا، وزمنُ التسويفِ مفسوخًا.
وفي مأثور الحِكَم: "من أشدِّ الغُصَص فواتُ الفرص، ومن أخدَ للتواني حصدَ الأوهامَ والأماني".
وخيرُ الدُّرَر ما صحَّ عن سيد البشر - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام -؛ فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهِد في رمضان ما لا يجتهِد في غيره؛ رواه مسلم.
ومن شمَّر عن ساعدِ العبادة والجِدِّ انصرفَ بمديد الفوز والجَدِّ.
يا أمتي! استقبِلوا شهرًا بروحِ تُقًى
وتوبةِ الصدقِ فالتأخيرُ إغواءُ
توبوا إلى ربكم فالذنبُ داهيةٌ
ذلَّت به أممٌ واحتلَّها الداءُ
أيها المؤمنون:
في رمضان يفتحُ الحُبور للصائم بابًا، ويفوزُ يومَ يُؤتَى باليمين كتابَه، وإذا لقِيض ربَّه وفَّاه حسابَه؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للصائم فرحتان يفرحُهما: إذا أفطرَ فرِح، وإذا لقِيَ ربَّه فرِحَ بصومه»؛ خرَّجه الشيخان.
وما دعا ربَّه إلا أجابَه، ولم يُوصِد دونه بابَه؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: «إن للصائم عند فِطره لدعوةً ما تُردُّ»؛ أخرجه ابن ماجه وغيره.
وإذا كانت أول ليلةٍ من رمضان صُفِّدت الشياطينُ ومرَدَةُ الجن، وغُلِّقَت أبوابُ النار فلم يُفتَح منها باب، وفُتِّحت أبوابُ الجنة فلم يُغلَق منها باب، ويُنادِي مُنادٍ: يا باغي الخير أقبِل، ويا باغِي الشرِّ أقصِر، ولله عُتقاءُ من النار، وذلك كل ليلة؛ أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة وصحَّحه.
الله أكبر! ما أكرمه من عطاءٍ، وما أعظمَه من حِباء.
وكم لله من نفحَاتِ خيرٍ
بمقدَمِك السعيدِ أخا السناءِ
فكم خشَعَت قلوبُ ذوي صلاحٍ
وكم دمَعَت عيونُ الأتقياءِ
فحيَّ هلاً بمن اختار الخيرَ بنواحِيه وأطرافه، ولزِمَ المعروفَ من قواصِيه وأكنافِه، وكان دَيدَنُه الذكرَ والترتيلَ والصدقَة، والاستغفارَ والتوبةَ والنفقَة، وأداء الحقوق، والخروج من المظالِم، والرحمةَ والجُود على ذوي المَسغَبَة ممن أعوَزَهم الفقرُ والفاقَة والجفافُ والمجاعة.
أمة القرآن:
وطُوبَى لقومٍ يُلقون قلوبَهم إلى القرآن بالتدبُّر والسمع، فتفيضُ أعينُهم من الوجَل بالدمع، أزلفَهم الله إليه وأراضهم، وأكرمَ قلوبَهم بالقرآن وأحظاهم.
أمة الصيام والقيام:
تلك - وايْمُ الله، ثم وايْمُ الله - حقيقة القلوبِ والأجساد التي ما فُطِرت إلا لعبادة ربِّ العباد، ولتتملَّى مِنَح البرِّ الوَدود في محاريبِ الطاعات والسجود، فأين المُشتاقون لجنات الخلود؟!
ألا فلتجعلوا - معاشر المؤمنين، رحمكم الله - لجوارحِكم زِمامًا من العقل والنُّهَى، ورقيبًا من الورَعِ والتُّقَى؛ حِفظًا للصيامِ عن النقصِ والانفِلام؛ فأيُّ غَناءٍ في أن يدَعَ بعضُ المسلمين طعامَه وشرابَه ثم يركبُ الصعبَ والذَّلول للآثام والمُوبِقات والمعاصي والمنكرات، لا يردُّه من الدين وازِع، ولا ينزِع به من حُرمة الشهر نازِع.
وتحذيرًا للوالغين في هذا المكرَعِ الآسِن وتنبيهًا، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوعُ والعطَش، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السهرُ والتعب»؛ خرَّجه النسائي، وابن ماجه.
وهل مقاصد الصيام العِظام - يا أمة خير الأنام - عليه الصلاة والسلام - إلا تهذيبُ النفوس وترقِيَتُها، وذمُّها عن أدرانِها وتزكيتُها، وتقويمُ جُنوحِها، وسَوسُ شِماسِها وجُموحِها، وذلك هو المُرادُ الأسمَى، والهدفُ الأسنَى من شِرعةِ الصيام في الإسلام؛ ألا هو: تحقيقُ التقوى، يقول - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183].
أي: تحقيقًا للتقوى ورجاءً، وغايةً وابتغاءً؛ فهل يعِي ذلك من غفَلوا عن مقاصد الصيام الحقيقية وكرِعوا في المقاصد الدنيوية الدنيئة من أهل الجشَع والطمَع والهلَع، وزيادةِ الأسعارِ وإغلاءِ السِّلَع، أو من أربابِ الشهواتِ القميئَة ممن يتسمَّرون أمام القنوات والفضائيات، فالله المستعان.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، واستقبِلوا شهركم بالاغتِباط والاستبشار، وكثرةِ التوبة والاستغفار؛ فقد كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يُبشِّر أصحابَه بقدوم شهر رمضان، ويقول: «قد أظلَّكم شهرٌ عظيمُ مُبارَك»؛ خرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما".
وما ذاك إلا تهيِئةً للنفوس، وشحنًا للهِمَم، وتقويةً للعزائم عن الفُتور والنُّكُوص، فهنيئًا لأمتنا الإسلامية بحُلول شهر الصيام، ويا بُشرى لها بموسمِ الرحمةِ والغفرانِ والعتقِ من النيران، وبارَكَ الله لها في أيامِه الغُرِّ ولياليه الزُّهْر، وأصلَحَ فيه أحوالَها، وحقنَ دماءَها، وحقَّق وحدتَها، وجمعَ كلمتَها على الحق والهُدى، إنه جوادٌ كريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[البقرة: 185].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم والسنة الشريفة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات الباهِرات والحِكَم المُنيفة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من جميع الآثام والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.


ابوحاتم 07-30-2011 02:09 AM

الخطبة الثانية
الحمد لله رفعَ لشهر الصيام قدرًا، وحثَّنا على تحقيق مقاصده الكُبرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أجرَى في شهر الصيام من البرَكات ما أجرى، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أكرمُ العبادِ أرُومةً وذُخرًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه البالغين من الخير فضلاً عظيمًا وأجرًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واستلهِموا التوفيقَ لشهر الصيام، واغتنِموا أيامَه وليالِيَه الكِرام؛ تفوزوا بمرضاة الملكِ العلاَّم.
أمةَ الإسلام:
يُهِلُّ علينا شهرُ رمضان المبارك وأمتُنا الإسلامية تلفَحُها المآسِي والفِتَن، ويطؤُها منسِمُ الرزَّايا والمِحَن، قد استحكَمَ في كثيرٍ من أقطارها الافتراق والاضطرابُ والشِّقاق، ولكن ثم لكن يحدُونا التفاؤلُ المُشرِق أن تقتبِسَ أمتُنا من مدرسةِ الصيامِ والقيام الحِكَمَ والعِظات، والعِبَر الهادِيات، وأن تُفِيءَ إلى رحابِ الاتحادِ والاعتصام، والتراحُم والوِئام، بدلَ الفُرقة والانقسام، وتنخلِعَ من ضيقِ المصالحِ الذاتية إلى سَعَة المقاصد الشرعية، ومن سَمِّ التعصُّبِ للآراء والأفكار إلى رَحابَة التشاوُر والحِوار، وتغليبٍ لصوت العقل والحِكمَة وإلقاء السلاح، ووقفِ نزيفِ الدمِ المُهرَاق؛ صيانةً للدماء المعصومة، وبُعدًا عن الفوضَى والاضطراب، والفتنِ والعُنفِ والتدميرِ والاحتِراب، ورعايةً لأمن الأمة واستقرارِها، واطمئنانِ البلاد والعباد.
ولكَم يتحتَّمُ ذلك ويتأكَّد، ويرجُوه الغَيُور من السُّوَيداء ويتوطَّد في شهر الخيرات والبركات، وتنزُّل القرآن العظيم والرَّحمات، يحملُ مِشعَلَ الإصلاحِ والإنقاذِ العلماءُ الربانيُّون الأعلام، وعلى آثارهم الدعاةُ والكُفاة من حمَلة الأقلام ورادَة النُّصْحِ السَّدِيد والرأي الحَصِيفِ الرشيد، حافِزُهم الإيمان الوثيق بالتسديد الحقيق.
والدعوةُ الحرَّاء مُوجَّهةٌ للقائمين على وسائل الإعلام كافةً أن يتقوا اللهَ - سبحانه -، ويُحسِنوا استقبالَ هذا الشهر الكريم، ويُراعُوا مكانتَه وحُرمتَه، ويصوموا عن كلِّ ما يخدِشُ روحانيَّتَه وبهاءَه، ويكُفُّوا عن التسابُق المحموم في بثِّ العفَنِ من القولِ والفعل.
عند ذلك سيبتسِم الأملُ - بإذن الله - في قُطورِ اليأس، ويُومِضُ فجرُ انكِشافِ الغُمَّة في دامِس الظلام، وتُؤوبُ أمتُنا المبارَكة إلى عليَاء الريادة والوَحدة والقوة، ومعاقِد عزَّتِها المتلُوَّة، وما ذلك على الحقِّ - جل جلالُه - بعزيز، ولكي يتحقَّق ذلك فإن الأمةَ مُطالبَةٌ بجدٍّ وإلحَاح - وهي تستقبِلُ الشهرَ الكريمَ - في كل أمورها ومجالات حياتها بالتوبة والإنابة، والأَوبَة والاستجابة، والمُحاسَبة والمُراجَعَة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[الأنفال: 24].
يا مَن عدَى ثم اعتدَى ثم اقترَف
ثم انتهَى ثم ارعَوَى ثم اعترَف
أبشِر بقولِ الله في آياتِه:
إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف
[الأنفال: 38]، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على أسمَى الورَى قدرًا، مَن طلَعَ في الحُلَكِ بَدرًا، كما أمركم المولى الذي أنزل الآياتِ تَتْرَى، فقال تعالى قولاً كريمًا عزيزًا بليغًا وجيزًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
فصلِّ إلهي وسلِّم سلامًا
على سيدِ الخلقِ فخرِ الأُمَم
وآلٍ وصحبٍ وأهلِ صلاحٍ
ومن سارَ في دربِهم وانتظَم
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته، وبارِك على محمد وآله وأزواجه وذريته، كما بارَكتَ على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبِرِّ والتقوى، واجمع به كلمةَ المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، وارزقه البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلاد والعباد.
اللهم وفِّق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وأدِم أمنَهم وأمانَهم.
يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال، برحمتك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأننا كلَّه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام.
اللهم بارِك لنا في جميع الشهور والأعوام، وبلِّغنا بمنِّك وكرمك شهرَ رمضان، اللهم اجعلنا ممن يصومُه ويقومُه إيمانًا واحتِسابًا، اللهم سلِّمه لنا، وسلِّمنا له، وتسلَّمه منَّا مُتقبَّلاً يا حي يا قيوم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عِبرةً للمُعتبِرين يا قوي يا عزيز.
اللهم انصر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من بَراثِن المُعتدين، يا قوي يا عزيز.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 08-06-2011 11:31 PM


تقوى الله بصيام رمضان

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 5/8/1432هـ بعنوان: " تقوى الله بصيام رمضان"، والتي تحدَّث فيها عن شهر رمضان وما فيه من عِظات وعِبر، وذكر أبرزَ الأعمال التي يملأُ بها المسلمُ فراغَه ووقته في هذا الشهر المبارك، وأشار إلى أهمية الالتفات إلى إخواننا المنكوبين والعطف عليهم.


الخطبة الأولى


الحمد لله، الحمد لله الذي أفاضَ علينا من خيره ولم يزَل يُفيض، يدُه سحَّاء الليل والنهار، لا تُعجِزها نفقةٌ ولا تغيض، له المحامدُ والمكارم فلا يُحيطُ بحمده نثرٌ ولا قَريض، أحمده تعالى أشكره، وأُثني عليه وأستغفره، تفضَّل علينا بسيد الشهور، ويسَّر لنا فيه ما نحوزُ به عظيمَ الأجور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والنشور.
أما بعد:
فالوصيةُ المبذولةُ الكبرى هي الوصيةُ بالتقوى؛ بها تكفيرُ الذنوب، والنجاةُ من الخُطوب، ومعرفةُ الحق حين التباسِ الدُّروب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الأنفال: 29].
ترفَّعوا عن هذه الدنيا كما زهِد فيها الصالحون، وأعِدُّوا الزادَ لنُقلةٍ لا بد لها أن تكون، واعتبِروا بما تدور به الأيامُ والسنون، وتنبَّهوا فالغفلةُ قد تناهَت، والفتنُ عاصفةٌ قد تدانَت، ورحِم الله من تداركَ نفسَه، فشتَّان بين من عصَى اللهَ وخالفَ أمره وبين من قطع عمره في معاملة ربه وذكره، ولزِمَ الوقوف ببابه، ومرَّغ خدَّه على أعتابِه، فيا خجلةَ الخطَّائين، ويا ندامةَ المُفرِّطين.
أيها المسلمون:
شهرُكم المُعظَّم قد حلَّ، وفرصتُكم في التزوُّد حانَت، والعبدُ في هذا الشهر إما مُوفَّقٌ أو مخذول، أما وقد مضى من شهرنا ليالي، فستمرُّ أيامه سِراعًا، وتمضِي تِباعًا، وسيكون من شأن المُوفَّقين تحصيلُ وافِر الأجور، والسعادة في الدنيا وفي يوم النُّشور.
وسيبكي أقوامٌ أسًى وندمًا على ضياعِ الليالي وفواتِ الأوقات، ولاتَ ساعة ندمٍ ولا بكاء، فاستبِقوا الخيرات، وتدارَكوا الأيام بالباقيات الصالحات، وقد صحَّت الأخبارُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان - أن «من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قامَ ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه».
وصحَّ عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رغِم أنفُ امرئٍ أدركه رمضان فلم يُغفَر له».
فكم رغِمت أنوفٌ ألهَتها شهواتُها والأهواء، ويا أيها الراكبون خلف سراب الدنيا قد حبسَت الأشغالُ أنفاسَهم، ويا أيها اللاهِثون وراء متابعة الأخبار، الباحثون عن كل تفاصيل الأنباء وإشاعاتها، وإلى اللاهين بالمسلسلات والقنوات السادرين في غفلة المُوبِقات، قد أعشَت الشاشاتُ أبصارَهم؛ إنها فرصتُكم لتتوقَّفوا قليلاً، وإنه شهرُكم لتهدأ فيه الأنفاس، ويطمئنَّ القلبُ، وتؤوبَ الروحُ إلى باريها، تبحثُ عن السعادة في جنَبات المسجد، ومن خلال آي القرآن، وتأنسُ بالجلوس للأسرة والأولاد.
ليكن شأنُكم التقلُّل من أعراض الدنيا، والإحسانَ إلى الأقربين، وإدامةَ ذكر الله، وتحقيقَ التقوى التي شرعَ الله الصيامَ لأجلها: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183].
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه فليقل: إني امرؤٌ صائم»؛ رواه البخاري ومسلم.
فهذا توجيهٌ لما يجبُ أن يكون عليه الصائم من كمال النفس، وطِيب الروح، وتأثير التقوى؛ لأن رمضان يصِل النفوس بالله فيُشرِقُ عليها من لدُنه النور حتى تذوقَ حلاوةَ الإيمان، ومن ذاقَ حلاوةَ الإيمان لم يعرفِ البغضاء ولا الشر ولا العُدوان.
وإذا تحقَّقت التقوى في القلوب فإنه تمحُو الغشَّ من نفوس أهلها محوًا، ويملؤها خوفُ الله ورجاؤه فتعِفُّ نفوسهم عن الحرام، وتغضُّ أبصارهم عن المحارم، وتقِف ألسنتُهم عن الكذب؛ لأنها جرَت بذكر الله واستغفاره، وهانَت عليهم الدنيا حين أرادوا اللهَ والدار الآخرة، فغدَا الناسُ آمنين أن يغشَّهم تاجر، أو يعتدِي عليهم فاجِر.
أيها المؤمنون:
الصومُ الحقُّ يسوقُ المؤمنَ إلى تقوى الله سوقًا، ويحدُوه إلى العمل الصالح، والسعي والمسارعة إلى الحسنات تدارُكًا للزمن الفاضل، ومُبادرةً قبل الفوات؛ بَيدَ أن المُشاهَد في الحال أن رمضان لا يعدُو عند الكثيرين أن يكون توقُّفًا عن الطعام والشراب فحسب من غير زيادة عمل، ولا مزيد ورع، والله تعالى يقول: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
فإن لم يزدَد إيمانُك، وتكثُر أعمالُك، وينتهي عصيانُك، فراجِع نفسَك لئلا تكون من المُفرِّطين.
وإذا آمنَ الإنسانُ بالله العظيم، وأيقنَ باليوم الآخر والحساب والجزاء دفعَه ذلك إلى استرضاء ربه والاستعداد للقائه والاستقامة على صراطه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183]، بدأ بالإيمان وختمَ بالتقوى.
ومن الضلال أن يهبِط الإنسانُ بحقيقة الدين، فيجعلُ الإسلامَ كلمةً لا تكاليفَ لها، وأمانيَّ لا عمل معها، فلا يقوم إلى واجب، ولا ينتهي عن محرم، فيكون من الذين اتخذوا دينَهم لهوًا ولعبًا وغرَّتهم الحياةُ الدنيا.
وما من آيةٍ في كتاب الله ذكرت الإيمانَ مجردًا؛ بل عطَفَت عليه عملَ الصالحات أو تقوى الله أو الإسلامَ له؛ بحيث أصبحت صلةُ العمل بالإيمان آصرةٌ لا فَكاك عنها، وكثيرًا ما يُشار إلى الإسلام وحقيقته الشاملة بمظاهر عمليةٍ محدودة، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ[البلد: 11- 16].
بل إن العلامة التي ينصِبُها القرآنُ دليلاً على فراغ النفس من العقيدة، وخراب القلب من الإيمان هي في النُّكوص عن القيام ببعض الأعمال الصالحة، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[الماعون: 1- 3].
يتقرَّر هذا - أيها المسلمون - في مشهد الضعف العام والتوانِي عن الأعمال، وهناك أناسٌ مزَّقَت المعاصي صِلَتهم بالله شرَّ مُمزَّق، وظلَّت أهواؤهم تجنحُ بهم بعيدًا عن الله حتى نسوا اللهَ أتمَّ نسيان، ولم يعرِفوا قدرَ رمضان.
وإنكم - أيها المسلمون - تعرفون تاريخَ أممٍ هلَكت بسوء عملها، وتعرفون أن الله نقم على قوم لوط لارتكابهم الفاحشة، وعلى قوم شُعيب لبخسِهم المكيال والميزان، وقد عرفتُم مصائرَ أولئك الفاسقين؛ فهل أمتُنا وحدها هي التي تريد أن ترتكب السيئات دون حذرٍ أو وجَل، إن الإسلام ليس بِدعًا من الشرائع السابقة فيُوجِبُ الإيمان دون العمل؛ بل إن القرآن الكريم ليقُصُّ علينا عِبَر السابقين لنتَّعِظ منها، ثم لنسمَع قولَ الله بعد ذلك: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[يونس: 13، 14]، هكذا نُمتَحن، وتُراقَب تصرُّفاتنا، ويُكلِّفُنا الله بالإيمان والعمل جميعًا، ثم ينظر وفاءَنا بما حُمِّلنا من أعباء.
وقد خاطَبَ الله بني آدم بهذه الحقيقة الجليَّة، وأفهَمهم أن نجاتَهم في الصلاح والتقوى لا في النفاق والدعوى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[الأعراف: 35، 36].
فرمضان شهرٌ يُثمِر التقوى والعملَ الصالح لا مجرَّد الإمساك عن الأكل والشرب، و«من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ أن يدَع طعامَه وشرابَه»، ومن كان صادقًا فليجعل رمضان شهرَ عبادةٍ وخشوعٍ وتوبةٍ وإنابةٍ، يلتزِم فيه الأدب، ويترفَع عن الدنايا والرِّيَب، ويستحضِر العبودية بصيامه، ويعمُر وقتَه بالقُربات، ويستزيدُ من الطاعات، ما بين تلاوةٍ للقرآن، وتدبُّر لآياته، أو صدقةٍ وصلة، وإحسانٍ وبرٍّ، وذكرٍ لله تعالى بأنواع الذكر مع الخشوع والسكينة.
ويمضِي النهارُ كلُّه على ذلك، فإذا كان الأصيلُ ودنا الغروب تجلَّى رمضان على الكون بوجهه، فهشَّت له وجوهُ الناس، وهتفَت باسمه الشِّفاه، وانظر إلى رمضان وقد سكَّن الدنيا ساعة الإفطار، وأراحَ أهلَها من التكالُب على الدنيا والازدحام على الشهوات، وضمَّ الرجلَ إلى أهله، وجمعَ الأسرةَ على أطيب مائدةٍ وأجمل مجلس، وأنفع مدرسة.
ثم يتلو ذلك قيامُ الليل وتلاوة القرآن والدعاء والتضرُّع والإنابة والاستغفار، فيا باغِي الخير أقبِل، ويا باغِي الشر أقصِر.
تقبَّل الله منا ومنكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون[البقرة: 183- 186].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

ابوحاتم 08-06-2011 11:32 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون:
في كل عامٍ نترقَّب هذا الشهر لنستريحَ من وعثاء الدنيا وصخَبها، ولتستروِح قلوبُنا وتبتلَّ نفوسُنا وقد ألحفَها جفافُ السنين، وأرهقَها عصفُ الحياة، يعود شهرُ الخير لتتصافحَ الأيادي المُتباعِدة، وتتصلَ الحِبالُ المقطوعة، وتنتهي حكاياتٌ من الشِّقاق غصَّت بها أروِقةُ المحاكم، وشقِيَت بها دوائرُ الأسر والأحياء والمجتمعات، ويؤذِّن حادي الصفح أن حيَّ على الصفاء، فتأتلِف القلوبُ المُتباينة وتجلو الأُخوَّة الإسلامية بأعظم رابطة، فتبدو الأُخوَّة في أكمل صُورها.
يعد شهرُ رمضان لتعودَ معه الذكريات الجميلات، ويفتحُ أبوابَ الفأل في حياة الأمة وقد غصَّت من الضياع والمُشكلات، وفي القلب غُصَّةٌ من الجراحِ الداميات، والنفوس المُزهقَات، ومن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم.
تتعلَّق فيه القلوبُ بشأن الدعاء، وتُعلِنه في كل ليلةٍ جهارًا شعيرةً من شعائر هذا الشهر العظيم، ويُسِرُّ به عبادُ الله في سجَداتهم وصلواتهم وهم يؤمنون أن الغيبَ بيد الله، وأن الأمر كلَّه بيده، وهو على كل شيءٍ قدير، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ[الأنعام: 18]، ويكون مشهدُ الدعاء من أبلغِ مشاهد هذا الشهر وأكثرها تأثيرًا، وقد قال - تبارك في اسمه - في ثنايا آيات الصيام: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[غافر: 60]، ولا غالبَ في هذه الأزمات إلا الله، فهو المُستعان وإليه المُلتجَأ وبه المُعتصَم، ففرُّوا إلى الله، وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[الحج: 78]، واصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[آل عمران: 200].
أيها المسلمون:
يعودُ شهر الصيام ويذكُر المسلمُ لجُوعه به جوعةَ إخوانه، فيقتطعُ من ماله دراهِم، ومنن طعامه لُقيماتٍ يُشارِك بها الجوعَى والمحرومين، ويُنمِّي بها فضيلةَ الإحسان إلى عبيد الله، ويشكر المُنعِم المُتفضِّل - سبحانه -، وأنت ترى الجوعَ يضربُ بعضَ الناس بقسوة، وما أرضُ الصومال عنا ببعيد.
فاستبِقوا الخيرات - أيها المؤمنون -، وتبوَّؤوا من الجنة الدرجات، فاليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، ومن خافَ يوم الحساب فليُطعِم جوعَة، ويسُدَّ خلَّة، وفي صفات أهل الجنة: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا[الإنسان: 8- 12]، وفي الأمن من يوم الفزع الأكبر يقول الحقُّ - سبحانه -: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[البقرة: 274].
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه الخير للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، واحفظ دينَهم وأعراضَهم وديارهم وأموالهم.
اللهم كن للمظلومين والمُضطهدين والأُسارى والمنكوبين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم انص المُرابِطين في أكناف بيت المقدس، اللهم اجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم إنا نسألك العفوَ والعافيةَ والمُعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم وفِّقنا للصالحات، وكفِّر عنا السيئات، وتقبَّل صلاتَنا وصيامَنا ودعاءنا، وصالحَ أعمالنا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 08-13-2011 03:48 AM

عنوان الخطبة: وجوب تدبر القرآن

ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 12/9/1432هـ بعنوان: "وجوب تدبر القرآن"، والتي تحدَّث فيها عن القرآن ووجوب تدبُّره، وحذَّر من الإكثار من تلاوته دون فهمٍ لمعانيه وتدبُّر لآياته؛ فإن ذلك خلافَ الهدي النبوي، وذكر العديد من الأمثلة على تدبُّر النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن، وكذا الصحابة والسلف الصالح - رضي الله عنهم أجمعين -.


الخطبة الأولى

الحمد لله العلي الأعلى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله إمام المرسلين وخاتم النبيين وخيرُ الوَرى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أئمة الهُدى ونجوم الدُّجَى.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -؛ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[البقرة: 281].
عباد الله:
لقد منَّ الله على هذه الأمة بإنزال كتابه العزيز قيِّمًا مباركًا لم يجعل له عِوجًا، فكان كتابَ هدايةٍ للتي هي أقوم، دلَّ الله به العبادَ إلى كل خيرٍ تطيبُ به حياتُهم، وتسعدُ به نفوسُهم، وتحسُن به عاقبةُ أمرهم، فأحيا به مواتَ القلوب، وأضاء به ظلماتُ الدروب، وكان كما قال الله في وصفه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[ص: 29].
وإن وجوه بركته - يا عباد الله - لا حدَّ لها، لا حدَّ يحُدُّها ولا مُنتهى لها، غير أن سبيلَ ذَيْن هذه البركة، وإن الطريق إلى إدراكها هو طريقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي جعله الله لنا أُسوةً نقتدي به، ونترسَّم خُطاه، ونهتدي بهديه، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[الأحزاب: 21].
وقد أوضح - صلى الله عليه وسلم - لأمته النهجَ الأمثلَ للانتفاع بالقرآن والاهتداء بهديه؛ فبهما تتجلَّى بركتُه، ويستبينُ سبيلُ العمل به، فبيَّن ما للاشتغال بتلاوة هذا الكتاب من بركةٍ تغمُر من يتلوه بالحسنات والأجر الضافِي، وترقَى به إلى المقامات العالية، وتُبلِّغُه المنازلَ الشريفة التي أعدَّها الله لحمَلَته يوم القيامة، وذلك في مثل قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «اقرأوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي أُمامة - رضي الله عنه -.
وفي مثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: «يُؤتَى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدُمه سورةُ البقرة وآل عمران تُحاجَّان عن صاحبهما»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه -.
وفي مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين»؛ أخرجه مسلم في "الصحيح" من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وفي مثل قوله: «الذي يقرأ القرآنَ وهو ماهرٌ به مع السفَرَة الكرام البَرَرة، والذي يقرأ القرآنَ ويتتعتَعُ فيه وهو عليه شاقٌّ له أجران»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
وفي مثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: «يُقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتقِ ورتِّل كما كنتَ تُرتِّل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آيةٍ تقرأ بها»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والترمذي، وأبو داود في "سننهما" من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - بإسنادٍ صحيح.
غير أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقصُر البيانَ على هذا؛ بل بيَّن للأمة أيضًا أن بركة هذا الكتاب وحقيقةَ الانتفاعِ به وسبيلَ الاهتداء بهديه إنما تكون لمن لم يجعل أكبر همِّه ومبلغَ علمه التلاوةَ وحسب؛ بل أخذ بحظِّه من تدبُّره وتفهُّم معانيه؛ إذ هو المقصود من القراءة، والغايةُ من التلاوة.
وصفتُه - كما قال أهل العلم -: أن يشغل قلبَه بالتفكُّر في معنى ما يلفِظُ به، فيعرفَ معنى كل آية، ويتأمَّل ما فيها من الأوامر والنواهي، ويعتقدَ قبولَ ذلك، فإن كان مما قصَّر فيه فيما مضى اعتذَرَ واستغفرَ، وإذا مرَّ بآية رحمةٍ استبشَرَ وسأل، أو عذابٍ أشفقَ وتعوَّذ، أو تنزيهٍ نزَّه وعظَّم، أو دعاءٍ تضرَّع وطلبَ.
وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا النصيبُ الأوفَى والقِدحُ المُعلَّى؛ فقد أخبر حذيفةُ بن اليمان - رضي الله عنه - أنه "صلَّى معه - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتحَ البقرة، قال: فقلتُ: يركعُ عند المائة، ثم مضى، فقلتُ: يُصلِّي بها، فمضى، فقلتُ: يركعُ بها، ثم افتتحَ النساءَ فقرأها، ثم افتتحَ آل عمران فقرأها، يقرأ مُترسِّلاً، إذا مضى بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبَّح، وإذا مضى بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذٍ تعوَّذ"؛ أخرجه مسلم في "صحيحه".
وقد بلغ - عليه الصلاة والسلام - في تدبُّر القرآن، وكمال التفكُّر فيه، واستحضار معانيه في القلب، واستشعار عظمة ربه المُتكلِّم به - سبحانه - بلغ مبلغًا حملَه على أن قام في ليلةٍ بآية واحدةٍ يُكرِّرها، كما جاء في الحديث - الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والنسائي وابن ماجه في "سننهما"، والحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيحٍ - عن أبي ذرٍّ الغفاري - رضي الله عنه - أنه قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآيةٍ حتى أصبح، بها يركع، وبها يسجُد، وهي قوله - سبحانه -: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة: 118].
ولا عجبَ أن يكون لهذا الهدي النبوي أثرُه البالغُ في قلوبِ وعقول سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم -؛ فهذا زيدُ بن ثابتٍ - رضي الله عنه - يسأله رجلٌ فيقول: كيف ترى في قراءة القرآن في سبع؟ قال زيدٌ: ذلك حسن، ولأَن أقرأه في نصف شهرٍ أو عشرين أحبُّ إليَّ، وسلْني: لمَ ذلك؟ قال: إني أسألك. قال زيدٌ: لكي أتدبَّر وأقِف عليه؛ أخرجه الإمام مالك في "الموطأ"، وعبد الرزاق في "مصنفه".
وهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول له نصرُ بن عمران: إني سريعُ القراءة - وفي لفظٍ: إني سريع القرآن -، إني أقرأ القرآن في ثلاث، فيقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "لأَن أقرأ البقرةَ في ليلةٍ أتدبَّرُها وأُرتِّلُها أحبُّ إليَّ أن أقرأ كما تقرأ".
وهذا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول له رجلٌ: إني لأقرأ المُفصَّل في ركعة، فيقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "هَذًّا كهذِّ الشعر؟! إن أقوامًا يقرأون القرآن لا يُجاوِزُ تراقِيَهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخَ فيه نفع".
وقال - رضي الله عنه - أيضًا: "اقرأوا القرآن وحرِّكوا به القلوب، وقِفوا عند عجائبه، ولا يكن همُّ أحدكم آخرَ السورة".
وقد أعرض كثيرٌ من الناس في أعقابِ الزمن عن هذا الهدي النبوي والطريق السلفي؛ فصار شُغل أحدهم الشاغل - لا سيما في شهر رمضان - الإكثارَ من ختم القرآن في عجلةٍ شديدة، وإسراعٍ لا نظيرَ له دون اهتمامٍ بتدبُّره وتفهُّم معانيه، وهو أمرٌ جعله ابن الجوزي - رحمه الله - من تلبيس إبليس عليهم في قراءة القرآن، فقال: "وقد لبَّس - أي: إبليس - على قومٍ بكثرة التلاوة، فم يهُذُّون هذًّا من غير ترتيلٍ ولا تثبُّت، وهذه حالةٌ ليست بمحمودة، وقد رُوِي عن جماعةٍ من السلف أنهم كانوا يقرأون القرآن في كل يومٍ أو في كل ركعة، وهذا يكون نادرًا منهم، ومن داومَ عليه فإنه - وإن كان جائزًا - إلا أن الترتيل والتثبُّت أحبُّ إلى العلماء، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يفقَهُ من قرأه في أقلَّ من ثلاث»"؛ أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه في "سننهم" بإسنادٍ صحيح.
قال: "وقد لبَّس إبليس على قومٍ من القرَّاء فهم يقرأون القرآنَ في منارةِ المسجد بالليل بالأصوات المجتمعة المرتفعة الجزءَ والجزئين، فيجمعون بين أذى الناس في منعهم من النوم، وبين التعرُّض للرياء، ومنهم من يقرأ في مسجده وقت الأذان؛ لأنه حين اجتماع الناس في المسجد.
ومن أعجبِ ما رأيتُ فيهم: أن رجلاً كان يُصلِّي بالناس صلاة الصبح يوم الجمعة، ثم يلتفت فيقرأ المعوذتين ويدعو دعاءَ الختمة، ليُعلِمَ الناس أني قد ختمتُ الختمةَ!
وما هذه طريقة السلف؛ فإن السلفَ كانوا يستُرون عبادتَهم، وكان عملُ الربيع بن خُثَيْم كله سرًّا، فربما دخل عليه الداخلُ وقد نشرَ المصحفَ فيُغطِّيه بثوبه، وكان أحمد بن حنبل يقرأُ القرآنَ كثيرًا، ولا يُدرَى متى يختِم". اهـ كلامه - رحمه الله، وجزاه خيرًا على نُصحه وبيانه وتحذيره وتذكيره -.
فاتقوا الله - عباد الله -، وليكن لكم في أمر الله وفيما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرَ باعثٍ على تدبُّر كتاب الله تعالى؛ فإن التدبُّر الباعثَ على العمل هو المقصود الأعظم الذي حثَّ عليه ربُّنا أبلغَ حثٍّ بقوله: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[النساء: 82].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.




الخطبة الثانية

الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعَّالِ لما يُريد، أحمده - سبحانه -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المُبدِئُ المُعيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صاحب الهديِ الراشد والنهجِ السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن في قول الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد: 24] دلالةً عند بعض العلماء على وجوب تدبُّر القرآن في حقِّ المُكلَّفين جميعًا؛ لأنه - سبحانه - حثَّ على التدبُّر في مقام الذمِّ لمن أعرض عنه - أي: عن التدبُّر - ولم يرفع به رأسًا، فأسقطَه من حسابه؛ فدلَّ على وجوبه على الناس في الجملة - ولا سيما - ما لا يسعُ أحدًا جهلُه، ولا يجوز تركه، ولا تصحُّ عبادةٌ بدونه؛ كتوحيد الله تعالى، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجِّ بيت الله الحرام، أما فروع ذلك وتفصيلُه وتأصيلُه والإفاضةُ فيه وفيما سواه من أبواب العلم فهو شأنُ الراسخين في العلم؛ لامتلاكهم أزِمَّته، وحيازَتهم أدواته.
وما أحسنَ أن تُعقَد لتدبُّر القرآن مجالسُ في المساجد والبيوت ودُور العلم وغيرها ليشيعَ بين الناس هذا اللونُ من ألوان الهداية، ويكثُر به الخيرُ، ويعظُم به الانتفاع، ويُرجَى به نوالُ الموعودِ الواردِ في قوله - عليه الصلاة والسلام -: «ما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلونَ كتابَ الله، ويتدارَسونَه بينهم إلا نزلَت عليهم السَّكِينة، وغشِيَتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكَرهم الله فيمن عنده»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه".
وإن في أيام هذا الشهر المبارَك ولياليه خيرَ مُعينٍ على إدراك هذه الأُمنية، وبلوغ هذا المأمول.
فاتقوا الله - عباد الله -، وليكن لكم من تدبُّر كتاب الله خيرَ عُدَّةٍ تعتدُّونها، وأقوى باعثٍ على العمل بما يُحبُّه ربُّكم ويرضاه.
وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّه ومُجتباه: محمد بن عبد الله؛ فقد أُمِرتم الله بذلك في كتابه؛ حيث قال الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وانصر عبادكَ الموحِّدين، واجعل هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، واجزِه خيرَ الجزاء وأحسنَه وأفضلَه على عنايته بشؤون المسلمين أجمعين، وعلى موقفه الإسلامي الحكيم من إخواننا في سورية وغيرها من بلاد المسلمين، وعلى ما بذَلَ من نُصحٍ وتحذيرٍ وتذكيرٍ وتبصير، نسأل الله أن ينفعَ به، ويحفَظ به الحَوزَة، ويحقِن به الدماء، ويرفع البلاء، إنه سميعٌ مُجيب الدعاء.
اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم التناد.
اللهم اكفِنا أعداءنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءنا بما شئتَ، اللهم إنا نجعلُك في نحور أعدائنا، ونعوذُ بك من شُرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[آل عمران: 8]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 08-22-2011 12:02 PM

التوبة والعشر الأواخر من رمضان
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 19/9/1432هـ بعنوان: "التوبة والعشر الأواخر من رمضان"، والتي تحدَّث فيها عن التوبة وأهميتها وضرورتها لكل مسلم محبٍّ لله تعالى، ومُتَّبعٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيَّن إقبال الأيام الأخيرة من رمضان وهي الأيام التي يُستحبُّ فيها الاجتهاد والإقبال على الله تعالى بصنوف العبادات والطاعات، وذكَّر في الخطبة الثانية بإنجازات الدولة السعودية من لدُن الملك عبد العزيز - رحمه الله - إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - خادم الحرمين الحالي، ومدى حزم وعزم هؤلاء الملوك في القيام بنهضة الدولة السعودية في كل مجالاتها.

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله وهو الكريم أسبغَ علينا نعمَه باطنةً وظاهرةً، والحمد لله وهو الرحيم لم تزَل ألطافُه علينا مُتظاهرة، والحمد لله وهو العزيز ذلَّت لعزَّته رِقابُ الجبابرة، أحمده - سبحانه - وأشكره وهو الشكور دامَت علينا نعمُه مُتكاثرةً مُتوافرةً مُتواترة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُنجِي صاحبها في الدار الآخرة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله المُؤيَّد بالآيات الكُبرى والمُعجِزات الباهرة، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله العِترة الطاهرة، وعلى أصحابه النجوم الزاهِرة، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فكفى بالله مُحبًّا ومحبوبًا، وكفى برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قدوةً ومتبوعًا، وكفى بالقرآن مُؤنِسًا ورفيقًا، وكفى بالموت واعِظًا، وكفى بخشية الله علمًا.
علامة الدين: الإخلاص لله في السر والعلَن، وعلامة الشكر: الرضا بالقضاء والقدر، وعلامة الحب: كثرة ذكر المحبوب؛ فاتبع - يا عبد الله - ولا تبتدع، وتواضَع ولا ترتفع، ومن ورِع لا يتسع، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ[القصص: 60].
أيها المسلمون:
استقامةُ النفوس وإصلاحُها، وتزكيةُ القلوب وتطهيرها مسالكُ تفتحُ أبوابَ الأمل من أجل حياةٍ أفضل ومسيرةٍ أزكى، النفوس لا تُحقِّق عزَّتها، والقلوب لا تُحصِّل سكينتَها إلا إذا تذلَّلَت لربها راضية، وخضعَت لخالقها راغِبة، وأقبلَت على مولاها خائفة، وسارَت إليه مُشفِقةً وجِلة؛ لتنالَ الأمنَ وتذوقَ لذَّة المناجاة، وحينئذٍ تطمئنُّ النفوس، وتنشرِحُ الصدور، وتستنيرُ القلوب، فالله - سبحانه - عند المُنكسِرة قلوبهم، الصادق تذلُّلهم.
أيها المسلمون، أيها الصائمون:
وهذه وقفةٌ مع عبوديةٍ من أحب العبوديات إلى الله وأكرمها عنده، عبوديةٌ تُنتِجُ للعبد آثارًا عجيبة من المقامات والمنازل، تُنتِج المحبة والرِّقة والانكسار والحمدَ والرضا والشكرَ والخضوعَ لله - عز وجل -.
عبوديةٌ قال فيها أهل العلم: "إنها من مهمات الإسلام وقواعده ومقاماته المتأكدة".
منَّةٌ من الله ونعمة لا تدَع ذنبًا إلا تناوَلَته، ولا معصيةً إلا محَتها، ولا تقصيرًا إلا جبَرَته، هذه العبودية وهذه المنَّة الإلهية والمنحةُ الربانية نهرٌ نميرٌ طاهرٌ يتطهَّرُ به العبدُ من أدرانه، إنها التوبة - يا عباد الله -، إنها العودة الغانمة، والتجارة الرابحة، والرياضُ التي لا يذبُلُ زهرُها.
التوبة - تقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم - رجوعٌ إلى الله بالتزام فعل ما يحب باطنًا وظاهرًا، وترك ما يكره باطنًا وظاهرًا، دعاءٌ وتضرُّع وتذلُّل وإقرارٌ بحول الله وقوته، وقدرته ومشيئته، وعدله وحكمته، وفضله ورحمته، واعترافٌ بالضعف البشري والتقصير والحاجة.
التوبة - أيها التائبون -: ترك الذنب علمًا بقُبحه، وندمًا على فعله، وعزمًا على عدم العودة إليه، وتدارُكًا للأعمال الصالحة من غير تردُّدٍ أو انتظارٍ أو يأس، في إخلاصٍ لله وما عنده من عظيم الثواب وخوفٍ من أليم العقاب.
إخوة الإيمان:
وكل عبدٍ مُحتاجٌ إلى التوبة، مُفتقِر إلى الإنابة، فلا يُتصوَّر أن يستغنِي عنها أحد مهما بلغَ مقامُه، ومهما كانت طاعتُه وصلاحُه؛ بل هي خُلُق الأنبياء والمرسلين، فهي تُصاحبُ البشرية منذ أبيهم آدم - عليه السلام -: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[البقرة: 37]، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
ونبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة».
معاشر الصائمين والصائمات:
بالتوبة النَّصُوح ينتقلُ العبدُ من المعصية إلى الطاعة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الهَدم إلى الإصلاح، ومن الظلم إلى العدل والرحمة والإحسان، التوبة سدٌّ عظيمٌ أمام الفساد والمُفسِدين يعرِضها الإسلام على الكفار وعلى المحاربين والمرتدين وعلى كل المُفسِدين في الأرض مهما بلغَ كفرُهم وفسادُهم وطغيانُهم: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ[الأنفال: 38]، وفي المحارِبين والمُفسِدين: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[المائدة: 34].
بالتوبة الصادقة يتطهَّر المجتمع من المآثِم والجرائم ليقلَّ خطرُها ويُحاصَر أثرُها، بالتوبة يتجسَّد للعبد ذلُّ الحاجة، وذلُّ الطاعة والعبودية، وذلُّ المحبة والانقياد، وذلُّ المعصية والخطيئة، ومن اجتمع له ذلك كلُّه فقد خضَع لله تمام الخضوع، وحقَّق العبوديةَ والاستكانة.
وهل يُسكِنُ تأنيبَ الضمير وأوجاعَ النفوس إلا التوبة والذكر والاستغفار: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[الرعد: 28].

ابوحاتم 08-22-2011 12:04 PM

أيها المسلمون:
هلا وقفتُم عند فرح الله بتوبة عبده؟! «للهُ أفرحُ بتوبة عبده من رجلٍ أضلَّ راحِلَته في فلاة وعليه متاعُه وطعامُه وشرابُه، حتى اشتدَّ عليه الحرُّ والعطش، فنام نومةً، ثم رفع رأسَه فإذا راحِلتُه عنده».
ألا يبهَرُ الصالحين هذا الترحابُ الغامِر؟ أتُرى سرورًا يعدِلُ هذه البهجةَ الخالصة؟ توبةٌ وأوبةٌ يفرحُ الله بها، فهي انتصارُ العبد على أسباب الضعف والنفس الأمَّارة بالسوء والشيطان الرجيم، إنه فرحُ الله البرِّ اللطيف المُحسِن الكريم الجواد الرحيم.
الله أكبر - عباد الله -؛ لقد جعل الله التوبةَ وسيلةً لمحبته وسبيلاً لفرحه، ولم يكن هذا الفرحُ من الله في شيءٍ من الطاعات غير التوبة، فرحُ إحسانٍ من العليِّ الأعلى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[البقرة: 222]، ربُّنا - عزَّ شأنه - يحب التوابين؛ لأن التائب المُوفَّق يكون في حالٍ من الوَجَل والإشفاق والانكسار والتذلُّل والتضرُّع والرجاء بأن يقبل الله توبتَه، ويغفِر زلَّته، ويتجاوز عن ذنبه، ويغسِل حوبَته، ويمحو خطيئتَه.
وهذه الأحوال من أفضل أحوال العبد التي يحبُّها الله، فالله يحبُّ من عبده أنه كلما أحدثَ زلَّةً أحدثَ لها توبةً، وهذا هو العبدُ التواب، والله التواب هو الحليم الكريم العفوُّ الغفور الجوادُ الرحيم.
توابون أوابون يشعرون بحب الله ومعيَّته؛ لأنهم لا يشعرون أنهم مُنفرِدون بهمِّهم، ولا وحيدون بمُصابهم؛ بل يأوون إلا ركنٍ شديد، ويلجئون إلى كنَفِ رحيم.
معاشر الصائمين والقائمين:
ووقفةٌ أخرى مع مظاهر هذه المحبة الإلهية والفرح الربَّاني، إنه تبديلُ السيئات حسنات: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[الفرقان: 70]، فأيُّ جودٍ من ربنا أعظمُ من هذا؟ وأيُّ كرمٍ أوسع من هذا؟
نعم - عباد الله -؛ التوبة لا تمحو الذنب فقط؛ بل تُحوِّله حسنات تُضاف إلى رصيد الحسنات، الربُّ يتحبَّبُ إلى عبده وهو الغنيُّ، والعبدُ يُقدِمُ على التقصير وهو الفقير، «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطَعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت».
ومن لُطف الله ورحمته وفرحه بتوبة عبده: أن العبدَ إذا كان له حسنات ثم عمِل سيئاتٍ استغرقَت هذه الحسنات، ثم تابَ بعد ذلك، فإن حسناته الأولى تعود إليه، يقول حكيمٌ بن حزام - رضي الله عنه -: قلتُ: يا رسول الله! أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنَّثُ بها - أي: أتعبَّدُ بها - في الجاهلية؛ من صدقةٍ، وعِتاقٍ، وصلةِ رحِم؛ فهل فيها أجر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ»؛ متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: "لا مانع أن يُضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثوابَ ما كان صدر منه في الكفر تفضُّلاً وإحسانًا".
معاشر الأحبة من أهل الصيام والقيام:
حين يمُنُّ الله على العبد بالتوبة ويُبدِّلُ الله سيئاته حسنات كيف يكون حالُه وحالُ من حوله وحالُ المجتمع؟
تأمَّلوا في حال عاقِّ والدَيْه حين يمُنُّ الله عليه بالتوبة فيصلُح حالُه، ويعزِمُ على التوبة النَّصوح، فيُقيمُ على أنقاض العقوق صروحَ البرِّ والإحسان، فيبَرَّ والدَيْه ويصِلَهما، ويُغدِق عليهما، ويُحسِن حديثَه إليهما، ويخفِضَ الجناحَ لهما، ويدعُو لهما، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا[الإسراء: 25].
وحين يمُنُّ الله على قاطع الرحِم، فتزول عنه الغِشاوة، فيرى تفريطَه في قرابته، وقطيعتَه لأهله فيفِرّ - بعون الله - إلى التوبة، فلا يقف عند الندم والاعترافِ بالخطأ والاستغفار؛ بل يُسارِع إلى وصلِ رحِمِه، ويُؤسِّس لعهدٍ جديدٍ مع الأقربين في الزيارات والاتصالات والمساعدات وقضاء الحوائج قدر المُستطاع.
وما أجمل حُسن المتاب للمُغتاب؛ فبعد أن كان يتتبَّعُ السلبيات وكشفَ العورات وبثَّ الأخبار المُغرِضة، والشائعات الكاذِبة، والازدراء والانتقاص يتوبُ إلى ربه، ويؤوبُ إلى فضل الله ورحمته، فلا يكتفِي بكفِّ لسانه عن الحرام والممنوع؛ بل ينتقل إلى ذكر المحاسن، ونشر الفضائل، والتماسِ الأعذار، وسدِّ النقائص، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[الحجرات: 12].
وما أجمل من ابتُلِي بنشر الرذائل؛ كلمةً، وصوتًا، وصورةً، ذكرًا أو أُنثى، حين يُزيِّنُ الفواحِش، ويُحبُّ أن تشيعَ الفاحِشةُ في الذين آمنوا، في قصصٍ وأفلامٍ ورواياتٍ وتمثيليات وكتاباتٍ ومقالاتٍ ومُنتجات؛ نعم، منَّ الله عليه فتابَ وآمنَ وعملَ عملاً صالحًا، أعمالاً صالحة تدفِنُ الماضي الذين أفنى فيه زهرَة عُمره، فيدعو إلى الخير والفضيلة والالتزام بقِيَم الإسلام؛ في مُؤلَّفاتٍ ومُنتجاتٍ، هذا خيرٌ ممن يقتصر على سلوك مسلك الاعتزال عن ماضيه، وإن كان هذا الاعتزالُ حسنًا وخيرًا ولكن أن يمُنَّ الله عليه فيكتُب ويُؤلِّف ويُبيِّن مواطن الخطأ، ويصدُّ عن مسالك الغواية، ويرسمُ مناهج الحق، فهذا خيرٌ وأولَى وأصلَح.
وما أجمل صاحب المظالم وقد منَّ الله عليه بتوبةٍ نصوحٍ وندمٍ عريض، فيرجعُ إلى ربه، ويردُّ المظالمَ إلى أهلها، ويُعيدُ الحقوقَ إلى أصحابها ماديةً ومعنوية، ماليةً وسياسية وفكريةً وغيرها.
وبعدُ، عباد الله، وبعدُ، معاشر الإخوة:
فهذه هي قوافل التائبين ومراكب الناجين؛ فهل شممتَ ريحًا أطيبَ من أنفاس التوابين؟ وهل رأيتَ أعذبَ من دموع النادمين؟ وهل شاهدتَ أجملَ من لباس المُنكسِرين؟ بل هل سمعتَ نداءً أجمل وألطفَ وأرقَّ من نداء رب العالمين: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[الزمر: 53]، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا[النساء: 110].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



ابوحاتم 08-22-2011 12:05 PM

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله برحمته اهتدى المُهتدون، وبعدله ضلَّ الضالون، لا يُسأل عما يفعلُ وهم يُسألون، أحمده - سبحانه - وأشكره على ترادُف آلائه، وقليلٌ من عباده الشاكرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الصاحبة والولد، وسبحان الله وتعالى عما يصفون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه وخليلُه الأمين المأمون، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن هم بهديه مُستمسِكون، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، معاشر الأحبة:
كلما قوِي سلطان محبة الله في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وبضعف المحبة تقوى جاذبيةُ المعصية، وتظهرُ المحبة حين تقترِنُ بالحياء من الله وإجلاله وحُسن مراقبته، والمسلمون في هذه الأيام المباركة أيام شهر رمضان المبارَك؛ بل هم في إقبال هذه العشر الأخيرة أكثر حياءً وأكثر محبةً وأعظمُ رجاءً، كيف وقد اجتمع لكم - يا أهل الحرمين - مواطنين ومُقيمين وزوَّارًا، اجتمع لكم شرفُ الزمان وشرفُ المكان، تعيشون قُدسية المُقدَّسات، ونفحات البركات، مُقبلين على عباداتكم وصلواتكم وأذكاركم ببُشرٍ وابتهاجٍ وأنتم ترون من المُنشآت وتعيشون من الإنجازات ما يُثيرُ اعتزاز كل مسلم، ويُبهِجُ كل مُتعبِّد، ويُهيِّيءُ أجواءً العبادة لكل مُتنسِّك.


أيها الإخوة الأحبة:
هذه الدولة السعودية المباركة أقامت دولةً موحَّدة مُترامية الأطراف، لمَّت شتاتَ الأمة، وأرسَت قواعدَ الحكم على كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في خِضَمِّ صراعاتٍ حادَّة وتياراتٍ مُتصارعة، هذا المؤسس الملكُ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - بعد ملحمة التوحيد، وبعد أن استقرَّ الحكم واطمأنت البلادُ وأهلُها بدأ التعمير والبناء في الدولة.
ومن أظهر مظاهر التعمير وأول المواقع وأولاها: البِقاع الطاهرة؛ الحرمان الشريفان والمشاعر المُقدَّسة، فكانت محلَّ العناية من الملك المُؤسِّس ثم أبنائه الملوك من بعد: سعودٍ وفيصل وخالدٍ وفهد، وأنتم في هذا العهد الزاهر المُتمِّم لعهود والده وإخوانه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، لم تعتزَّ الدولة السعودية مثل اعتزازها بهذه الخدمات الجليلة، ولم تتردَّد لحظةً واحدة في بذلٍ غير مقطوعٍ ولا ممنوع في كل ما يخدِمُ هذه البقاع الطاهرة.
أما حينما يسَّر الله علينا من فضله وفتح لنا من خزائنه فكان من أظهر مظاهر الشكر والتحدُّث بالنعمة أن تكون الأولوية للبقاع الطاهرة والديار المُقدَّسة، اهتمامٌ وعنايةٌ تُناسِبُ مع مكانة المكان وقُدسية المُقدَّسات وتطلُّعات المسلمين وخدمة المُتعبِّدين.
لقد أراد الله - بمنِّه وفضله وكرمه - أن يحظَى ولاة أمر هذه البلاد بشرف هذه الأعمال العظيمة، والجهود المباركة، والإنجازات الضخمة، إن كل ما يُستطاعُ تقديمُه، وكل ما يُمكنُ بذلُه فلن تتردَّد الدولة في الإقدام عليه والمُبادرة إلى تنفيذه في تخطيطٍ ودراسةٍ ودراية، مهما كلَّف من جهدٍ ومالٍ وتخطيطٍ وتنفيذ، فلله الحمد والشكر والفضل والمنَّة.
ولقد أقرَّ الله عليه المسلمين في كل مكان وتحقَّقت همَمُ الملوك فانتصَبَ الحرمان الشريفان والمشاعرُ المُقدَّسة كأكبر مشروعاتٍ نُفِّذَت في العالم مهما كانت ضخامَتُها، إنها مشاريع هي المعالمُ الأبرز على مستوى العالم الإسلامي كله، مُتميِّزةً بكل المعايير، ومُتقدِّمةً بكل المقاييس، وقد ضمَّت وتضمَّنت من التفاصيل الفنية أوفاها، ومن التقنيات المعاصِرة أرقاها، ومن الخامات أجودَها، في أعلى المعايير المهنية، في مُنشآتٍ حضاريةٍ شامِخة تجمعُ بين الأصالةِ والمعاصرة.
وحين يكتمل المفهوم الحضاري ومن أجل توظيف ما أظهره الله في هذا العصر من تِقنياتٍ وإمكانياتٍ ووسائل ومُعدَّاتٍ وآلات؛ فقد كانت العنايةُ بالمرافق؛ من تكييفٍ وإضاءة وسِقاية وصوتيات وساحات وميادين وشوارع وأنفاق وجُسورٍ وقطارات، وأنظمة تحكُّم، واستعدادٍ لحالات الطوارئ، كل ذلك في أعلى المواصفات وأدق مستويات الأداء؛ في صورةٍ حيَّة لتِقنيَّات المعمار الحديث، تُعبِّر عن الجناب القُدسي، والسموِّ الجمالي.
إننا نحسبُ أنها إنجازاتٌ شاهِدة ماثِلة يعرفُ قيمتَها ويقدُر قدرَها كلُّ من يراها، ويبهَرُ ببهائها كلُّ من يُشاهِدُها، نعم؛ المواطن يشهد، والمُقيم يشهد، والزائر يشهد، والطائف والعاكف والبادِي يشهدون، ومُشاهد التلفاز يشهد، والخبير يشهد؛ بل الإنجاز الشامخ قبلهم وبعدهم هو الشاهد والمشهود في شهاداتِ عدلٍ محليةٍ ودولية على هذه الإنجازات البهية الباهرة.
كل ذلك؛ وإن أفضل الأعمال أبقاها، وأحسنَها أخلدُها، وستبقى هذه الإنجازات السعودية في سجلِّ الخالدين - بإذن الله -.
ومن العجب - أيها المسلمون - أن هذه الدولة - وقد وفَّقها الله إلى هذه العناية والرعاية والخدمات والإنجازات - لم يكن هذا هو تميُّزها الوحيد؛ بل إن من فضل الله عليها أنها لم تكن بعيدةً عن أشقائها في جميع مراحل الأزمات؛ السياسية والاقتصادية والإنسانية، فهي راعيةُ التضامُن الإسلامي، وراعيةُ الحوار، ودولةُ المُبادرات، والمُترفِّعة عن الخلافات.
ويأتي خادمُ الحرمين الشريفين الملكُ عبدُ الله بن عبد العزيز آل سعود ليُعلِن بمُبادراته ووقفاته التاريخية المسؤولة، وبمصداقيته المعهودة، وصفائه الجلِيّ، وأخلاقه العربية والإسلامية ليحمِل همَّ أشقائه حكوماتٍ وشعوبًا.
وحينما دخلت بعضُ البلدان الشقيقة فيما دخلت فيه من اضطراباتٍ ومُشكلاتٍ وأزماتٍ أسهمَ إسهاماته المحسوبة، وخطَى خُطواته المُتأنية في منهجٍ عقلاني، وسياساتٍ حكيمة، ومُبادراتٍ مُتأنية، ونهجٍ مُتوازن، وهو النهجُ الأنجَع في منطقةٍ قلِقة وأجواءٍ مُضطربة.
ملكٌ ينظر بنظرٍ شموليٍّ في قضايا الأمة الكُبرى ويترفَّع عن الصغائر فضلاً عن أن يقف عندها، منهجٌ عقلاني وسياسةٌ حكيمة، تحمي الأبرياء، وتأبَى سفكَ الدماء، بعيدًا عن الشعارات والمُساومات، وليس هو الذي يقِفُ مع الحكومات ضدّ شعوبها، ولا مع الشعوب ضد حكوماتها، ولكنه بصدقِه ونقائه وحبه وإخلاصه وحكمته يقف مع المصلحة والإصلاح في عزمٍ وحزمٍ وغيرةٍ وحميَّة.
ليس مُناهِضًا للعادل من المُطالبات، ولا للنافع من التغييرات، ولكنه مُعارضٌ للقتل والخراب والتدمير، إنها السياسات التي تحسِبُ لعواقِب الأمور حِسابَها، وتنظر في المآلات ونهاياتها، مع الحرص الشديد على تجنُّب المزالِق الضيقة والدهاليز المُلتوية، بعيدًا عن الفتن والضغائن.
نداءاتُ مليكنا ومُبادراته ذاتُ مضامين عملية وأساليب واضحة تحمِلُ مشاعر الصدق والمحبة، ومشاعيل الرجاء والأمل.
إنه قائدُ الأمة الذي يقفُ مُتساميًا فوق كل المواقف يصدَعُ بالحق وينحازُ إليه، القائد الملكُ الصالح الذي لا يُساوَم على دينه وعروبته وغيرته على أمته.
بارك الله في الجهود، وسدَّد الخُطى، وهدى للتي هي أقوم، وأصلح الله شأن الأمة كله، وحفِظ عليها أمنها وإيمانها ووحدة ديارها وجمع كلمتها، إنه سميعٌ مُجيبٌ.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31]، فكل ابن آدم خطَّاء، ولكن عفوَ الله أعظم، والزلَلُ كبير، ورحمةُ الله أوسع، فسارِعوا إلى رحمةٍ من ربكم، واستغِلُّوا شريفَ أيامكم، وتعرَّضوا لنفحات ربكم، وأرُوا اللهَ من أنفسكم خيرًا.
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - عزَّ شأنه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانهم وأعوانهم لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مسَّهم الضرُّ، وحلَّ بهم الكرب، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكت الدماء، وقُتل الأبرياء، ورُمِّلت النساء، ويُتِّم الأطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين ويا مُنجِي المؤمنين اللهم انتصر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشف كربَهم، وارفع ضُرَّهم.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءهم، واجمع على الحق والهدى كلمَتهم، وولِّ عليهم خيارَهم واكفِهم أشرارهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم وارفع عنا وعنهم الغلا والوبا والربا والزنا والجوع والعُرِيّ والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين، اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين فإنهم لا يُعجزونك، اللهم أنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءنا وصيامَنا وقيامَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 09-03-2011 06:16 AM

التفاؤل والتشاؤم بالأحداث الجارية
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة عيد الفطر لعام 1432 بعنوان: "التفاؤل والتشاؤم بالأحداث الجارية"، والتي تحدَّث فيها عن التفاؤل والتشاؤم وبيَّن أهم الفروقات بينهما، وقام بإنزال ذلك وإسقاطه على واقعنا المعاصر، وحثَّ على ضرورة التفاؤل وإن حدث ما حدث في ديار المسلمين من ظلمٍ وقهرٍ واضطهاد.
الخطبة الأولى
الحمد لله وأكبِّره تكبيرًا، والله أكبر وأذكره ذكرًا كثيرًا، والحمد لله رفع أقدار ذوي الأقدار، والله أكبر أنفَذَ تصاريفَ الأقدار، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ[القصص: 68]، والحمد لله عددَ ما ذرَفَت العيون في مواسم الطاعات من عبَرات، والله أكبر ما تقرَّبوا إلى مولاهم بالعبادات؛ صلواتٍ وصيامًا وصدقات، والحمد لله أفاضَ علينا من خزائن جُوده ما لا يُحصَر، والله أكبر شرعَ لنا شرائعَ الأحكام ويسَّر، أحمدُه - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو الكريم الجواد، أحقُّ من عُبِد، وأحقُّ من ذُكِر، وأحقُّ من يُشكَر، ذو الفضل والإحسان والمنَّة يمنحُ الجزاءَ الأوفَى، ويهَبُ الفضلَ الأكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له والعزَّةُ لله ولرسوله وللمؤمنين، والذِّلَّةُ والصّغَار والهوانُ لأهل الكفر والفُجور والمُعاندين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وإمام المرسلين ورحمةُ الله للعالمين، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين أقاموا الدين، وجاهدوا في الله حقَّ جهاده صابرين مُخبتين مُحتسبين، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، اتقوا الله وأطيعوه، وعظِّموا أمره ولا تعصُوه؛ فمن اتقى اللهَ حسُن توكُّله على ربه فيما نابَه، وحسُن رِضاه بما آتاه، وحسُن زهدُه فيما فاتَه.
اتقوا الله حق التقوى، وتقرَّبوا إليه بما يحبُّ ويرضى، تزيَّنوا بلباس التقوى؛ فالفائز من ألبسَه مولاه حُلَل مولاه، وتأهَّبوا للعرض الأكبر يوم يُعرضُ الناسُ حُفاةٌ عُراة، وينظرُ كلُّ امرئٍ ما قدَّمَت يداه، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ[الحاقة: 18].
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
أيها المسلمون:
عيدُكم مُبارك، وتقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم، وصلواتكم وصدقاتكم، وجميعَ طاعاتكم، وكما فرِحتم بصيامكم، فافرحوا بفِطركم، وقد علِمتم أن للصائم فرحتين: فرحةٍ عند فِطره، وفرحةٍ بلقاء ربه، أدَّيتم فرضَكم، وأطعتُم ربَّكم، صُمتم وقرأتُم وتصدَّقتُم، فهنيئًا لكم ما قدَّمتم، وبُشراكم الفوزَ - بإذن الله وفضله -.
افرحوا وابتهِجوا واسعَدوا، وانشروا السعادةَ والبهجةَ فيمن حولكم، إن حقكم أن تفرحوا بعيدكم وتبتهِجوا بهذا اليوم يوم الزينةِ والسرور، ومن حقِّ أهل الإسلام في يوم بهجتهم أن يسمعوا كلامًا جميلاً، وحديثًا مُبهِجًا، وأن يرقُبوا آمالاً عِراضًا ومُستقبلاً زاهرًا لهم ولدينهم ولأمتهم.
قد يقول بعض المتأملين - أحسن الله إليهم -: إن المسلمين اليوم يعيشون مِحَنًا ورزايَا، وفتنًا وبلايا، لهم في كل أرضٍ أرملة وقتيل، وفي كل ركنٍ بكاءٌ وعَويل، وفي كل صِقعٍ مُطارَدٌ وأسير، صورٌ من الذلِّ والهوان والفُرقة والطائفية والإقصاء، دماءٌ وأشلاء، وتسلُّطٌ من الأعداء، وكأن الناظرَ لا يرى دماءً سوى دمائنا، ولا جراحًا سوى جراحاتنا، زاغَت الأبصار، وبلغَت القلوبُ الحناجِر، وظنَّ ظانُّون بالله الظنُونا.
ثم يقول هذا القائل: هل بعد هذه الأحزان من أفراح؟ وهل بعد هذه المضائق من مخارج؟ وهل وراء هذه الآلام من آمال؟ وهل في طيَّات هذه المِحَن من مِنَح؟ ومتى يلُوحُ نورُ الإصلاح؟
يقول المُستبشِر المُحتفِي بعيده حسنُ الظن بربه: نعم، ثم نعم، فاهنأوا بعيدكم، وابتهِجوا بأفراحكم، وهل يكون انتظار الفرج إلا في الأزمات؟ وهل يُطلَبُ حسنُ الظن إلا في المُلِمَّات؟ يقول ربكم في الحديث القدسي - عزَّ شأنه -: «أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظنَّ بي ما شاء».
والمؤمنون قال الله فيهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[الأحزاب: 22]، وقال في آخرين: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا[الفتح: 12]، وقال تعالى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ[فصلت: 23].
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "والذي لا إله غيره؛ ما أُعطِي عبدٌ مؤمنٌ شيئًا خيرًا من حُسن الظنِّ بالله، والذي لا إله غيره؛ لا يُحسِن عبدٌ بالله - عز وجل - الظنَّ إلا أعطاه الله - عز وجل - ظنَّه؛ ذلك بأن الخير بيده".
وفي الحديث: «إذا تمنَّى أحدُكم فليستكثِر؛ فإنما يسأل ربَّه»؛ حديثٌ صحيح على شرط الشيخين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ما تنزَّلت الرحماتُ من الرحيم الرحمن، والله أكبر ما صلَّى المُصلُّون وسلَّموا على المبعوث بالسنة والقرآن، صلَّى الله عليه وسلَّم.
عباد الله:
ما دام أن أمتنا شاهدةٌ على الأمم فهي باقيةٌ ما بقِيت الحاجةُ إلى الشهادة، وما دام أن رسالتنا هي الخاتمة فهي باقيةٌ إلى آخر الدهر، وفي تاريخ الأمة مئاتُ العُظماء بل آلافٌ وآلاف قد وُلِدوا وسوف يُولَد أمثالُهم وأمثالُهم - بإذن الله -، وهذه سنة الله.
بل ها هي أحداث ومُستجِدَّات، ونوازِل ومُتغيِّرات تحدث أمام ناظرَيْكم مما يوَدُّه المُتابِعُ وما لا يوَدُّه، ظنَّ أصحابُها أنهم مانعَتُهم حُصونُهم فأتاهم الأمرُ من حيث لم يحتسِبوا فُدَّت عليهم المخارج وضاقَت عليهم الحِيَل، وها هي أساليب الاتصال ومواقع التواصل وطرق التعبير فتحت من الأبواب، وهيَّات من الأسباب مما يحسُن فهمُه وفقهُه.
معاشر المسلمين:
وأنتم في استقبال عيدكم أحسِنوا الظنَّ بربكم، فكلما ازداد التحدِّي ازداد اليقين، ولا يرى الجمالَ إلا الجميل، ومن كانت نفسُه بغير جمال فلن يرى في الوجود شيئًا جميلاً، والكون ليس محدودًا بما تراه عيناك ولكن ما يراه قلبُك وفكرُك، فجفِّف دمعَك، واجبُر كسرَك، وارفع رأسَك؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العُسر يُسرًا.
مشى المُعافَى بن سليمان مع صاحبٍ له، فالتفتَ إليه صاحبُه عابسًا مُتبرِّمًا وقال: ما أشدَّ برد هذا اليوم! فقال له المُعافَى: وهل استدفأتَ الآن؟ قال: لا. قال: فماذا استفدتَ من الذم؟ لو ذكرتَ اللهَ لكان خيرًا لك.
المهزومُ من هزمَته نفسُك، ومن قال: هلكَ الناس فهو أهلكُهم، ومن أجل هذا أمرَ دينُنا بالتفاؤل، ونهانا عن التشاؤم؛ بل إن نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ التفاؤل ويُعجِبُه الفأل، ويُعجِبُه أن يسمع: يا نجيح، ويا راشد؛ لأن التفاؤل - أسعدكم الله، وزادكم في عيدكم بهجة -: كل ما أدخل على الإنسان سرورًا وبهجةً وانشراحًا مما يدفعُ إلى العمل، ويفتحُ أبوابَ الأمل، وتنطلِقُ معه النفوس.
يقول ابن بطَّال: "جعل الله من فِطَر الناس: محبة الكلمة الطيبة والأُنس بها، كما جعل فيهم الارتياحَ بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربُه".
الإنسان يبتهِجُ بالهيئة الحسنة، والمكان الفسيح، والمنظر البهيج، الفألُ حُسن ظنٍّ بالله وتعلُّقٌ برجائه، التفاؤل استعانةٌ بالموجود لتحصيل المفقود، وهو تقويةٌ للعزم، وباعثٌ على الجِدّ، ومعونةٌ على الظَّفَر.
التفاؤل يقلِبُ العلقمَ زُلالاً، والصحراء جنة، والحنظلَ عسلاً، والدار الضيقةَ قصرًا، والقلةَ غِنًى، وهل يشعُر بسعَة الدنيا من كان حِذاؤه ضيِّقًا؟!
المتفائل يسقط من أجل أن ينهض، ويُهزَم من أجل أن ينتصر، وينام من أجل أن يستيقظ، ومن جدَّ وجَد، ومن زرعَ حصَد.
المتفائل لا تُزعزِعُ يقينَه المصائب، ولا تفُلُّ عزيمتَه الفواجِع، ولا تُضعِفُ إيمانَه الحوادث، وفي الحديث: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للشر، فطُوبَى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه»؛ رواه ابن ماجه.
ولهذا قيل: "قُدراتُك هي السببُ في كل ما يحدث لك، ونفسُ المرء مثل غرفته إن شاء فتح النوافذ فدخل النور والضياء والهواء والعليل، وإن شاء أغلقا فبقِيَ في الظلام".
وقال أهلُ الحكمة: "إن قسَمات وجه المرء انعكاسٌ لأفكاره، ومصائب الحياة تتماشى مع هِمَم الرجال صعودًا وهبوطًا، وتشيبُ الرؤوس ولا تشيبُ الهِمَم".
فاحترِم نفسك - رحمك الله - فهي أجملُ مخلوقٍ على وجه الأرض، والذين لا يُغيِّرون ما بأنفسهم لا يُغيِّرون ما حولَهم، ولهذا ترى الجميعَ يُفكِّر بتغيير العالَم، وقليلٌ منهم من يُفكِّر بتغيير نفسه، وفي التنزيل العزيز: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[الرعد: 11].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ما قصَدوا هذه البِقاع الطاهرة وعمَّتهم نعَمُ مولاهم الباطنة والظاهرة، والله أكبر ما سعَت الأقدام لزيارة مسجد سيد الأنام، وحظِيَت بالسلام على الحبيب المصطفى - عليه الصلاة والسلام -.

معاشر المسلمين المُبتهِجين:
ومن أجل مزيدٍ من الوضوح والإيضاح، ولمزيدٍ من الابتهاج والفرَح وحُسن الظنِّ بالله - عز وجل -، والأمل العريض للأمة تأمَّلوا هذه المقارنات والموازنات:
المتفائل ينظرُ إلى الحل، والمتشائم ينظرُ في المشكلة، المتفائل مُجِدٌّ على الدوام لا يعرفُ الإحباطَ والضررَ، يرى الحياةَ حقًّا له وحقًّا للآخرين، والمتشائم جلاَّد نفسه يرى غيرَه أسعدَ منه، ثم هو يريدُ أن يكون أسعدَ من الآخرين، وهل مثلُ هذا يُحقِّقُ السعادة؟
المتفائل يرى ضوءًا لا يراه الآخرون، والمتشائم يعمَى أن يرى الضوءَ الذي أمام ناظرَيْه، المتفائل مستفيدٌ من ماضيه، مُتحمِّسٌ لحاضره، مُستشرفٌ لمُستقبَلِه، والمتشائم أسيرٌ لماضيه، مُحبَطٌ من حاضره، هليعٌ على مُستقبَلِه.
المتفائل يطلُبُ المعاذير والمخارج لسلامة طوِيَّته وانشراح صدره، والمتشائم يشتغِلُ بالعيوب ويحشُرُ نفسَه في المضائق لظُلمة باطنه.
المتشائم يحسَبُ كل صيحةٍ عليه، يجوعُ وهو شبعان، ويفتقِر وهو غني، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة: 268].
المتشائم يذكُر النعَمَ المفقودة ويعمَى عن النعَم الموجودة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ما تصافحَ المسلمون وتصافَوا في هذا العيد البَهيج، والله أكبر ما استقبَلَت هذه البِقاعَ الطاهرة العُمَّار والزُّوَّارَ والحَجيج.


معاشر المسلمين:
عيدُكم مبارك، وأيامكم بالخير والسعادة محفوظة؛ هل لاحَظتُم أن التفاؤل لا يُحتاجُ إليه في وقت الرخاء والأمن والنعيم؛ إذ في وضَح النهار لا تحتاج إلى الشموع والمصابيح؛ بل إن المصباحَ لا يُضيءُ إلا في الظلام، وشمعةٌ واحدة كافيةٌ لتبديد الظلام، والفرجُ لا يكون إلا بعد الشِّدَّة، والنصرُ لا يكون إلا بعد الهزيمة، والفجرُ لا يكون إلا بعد ليلٍ مُدبِر.
سعادةُ المرء ليست في تمنِّي ما ليس عنده ولكنها بحُسن الاستمتاع فيما عنده، والسعادة ليست محطة وصول ولكنها مسيرةُ الحياة كلها، بالمال تشتري السرير ولكنك لا تشتري النوم، وتشتري الساعة ولكنك لا تشتري الوقت، وتشتري المنزل ولكنك لا تشتري الراحةَ والسعادةَ.
وقتلُ البَعوض لا يُجفِّفُ المُستنقَع، وتجفيفُ المُستنقَع يُنهِي مشكلةَ البعوض، ومن لا يستطيع أن يقِف على قدمَيْه يعسُر إنقاذُه، وأخطرُ الناس من عاش بلا أمل.
كتبَ عمرُ بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما جميعًا -: "أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى وإلا فاصبِر، وبعد، عباد الله: فالتفاؤل لا يُنكِر الواقع، ولا يستهينُ بالمُشكِلات، ولا يُهمِلُ الأسباب، ولا أخذَ الحزم من الأمور والاحتياط في المسالك، ولكن الله - عز وجل - لقِسطه جعل الفرحَ والروحَ والسرورَ وراحةَ النفس وسكينتها وسلامتَها في الرضا واليقين، وجعل الغمَّ والحَزَن في السخَط والشك"؛ رواه البيهقي والطبراني في "الكبير".
فلا تُفسِد - حفِظَك الله - حاضِرك حُزنًا على ماضيك؛ فالتفاؤل في المُستقبل هو الشاهدُ على صحة العقل وصفاء النفس، وقد قالوا: "إن البكاءَ لا يُعيدُ الميتَ إلى الحياة، ولكن يُعيدُه الدعاءُ والثناءُ والذكرُ الحسن والأثرُ الطيبُ".
ورأسُ التفاؤل الاتصالُ بالعليِّ الأعلى، فالصلاة تفاؤل، وذكرُ الله تفاؤل، والدعاءُ تفاؤل، يُحيطُ بذلك: حُسنُ الظن بالله - عز شأنُه -، وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[النساء: 104]، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[آل عمران: 139- 142].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله ما تقرَّب العبادُ إلى ربهم بالفرائض، وتحبَّبوا إليه بالمندوب، والله أكبر يقبَلُ التوبةَ عن عباده ويغفرُ الذنوب، والحمدُ لله ما شمَّر الجادُّون في تحصيل المطلوب، والله أكبر ما سارعوا وتنافَسوا في تحقيق المرغوب، والحمد لله هدانا للإيمان وأكرمَنا بالسُنَّة والقرآن، أحمدُه - سبحانه - وأشكره على كريم الفضل وجزيل الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما خلق وقدَّر، ولا مُنازِعَ له فيما حكَمَ ودبَّر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله المبعوث للأبيض والأسود والأحمر والأصفر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وبشَّر وأنذَر، وعلى آله السادة الغُرَر، وأصحابه ذوي السلوك الأطهر، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ممن صلَّى وصامَ وحجَّ اعتمَر، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد:
فالمؤمنُ ذو اليقين والرضا يعلمُ أن الله قد أحاطَ بكل شيءٍ علمًا، وأحصى كل شيءٍ عددًا، ووسِعَ كل شيءٍ رحمةً وعلمًا، ومن حكمته في هذه الدنيا أن في الناس من ينجحُ بذكائه، وفيهم من ينجَحُ بذكاء الآخرين، وإذا وُجِد من ينجَحُ بعمله فإن هناك من ينجَحُ بكسل الآخرين، ورُبَّ ساعٍ لقاعد؛ فما منعَك ربُّك إلا ليُعطِيَك، ولا ابتلاكَ إلا ليُعافِيَك ويُثيبَك، ولا امتحنَك إلا ليصطفِيَك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "مصيبةٌ تُقبِلُ بها على الله خيرٌ من نعمةٍ تُنسيكَ رضا الله".
واعلم أن المرء ربما يفشَلُ إذا خاطَرَ وأقدم، ولكن من المُؤكَّد أنه سوف يفشَل إذا لم يُقدِم، وأعظمُ الفشل ألا تعمل.
وقال بعض أهل العلم: "المُشكلات والمِحَن لم تأتِ لتُهلِك الناس؛ بل لتمتحِن صبرَهم وإيمانَهم وعملَهم، والأجرُ عند ربك مربوطٌ بالعمل والاجتهاد وليس بالنتائج والثمار، وقاعدةُ التوازن: اعمل لدنياك كأنك تعيشُ أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموتُ غدًا".
وقد قال رجلٌ لأبي بكر - رضي الله عنه -: والله لأسُبَّنَّك سبًّا يدخُل معك في قبرك، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: "بل يدخلُ معك في قبرك أنت".
وإذا ضاقَ صدرُك وجشمَ عليك همُّك فالزَم التسبيح؛ فقد قال الله لنبيه وحبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم -: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 97- 99]، وقال له - عزَّ شأنُه -: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ[التوبة: 129].

وبعد:
فإن التفاؤل الحق هو التصديقُ بوعد الله - عز وجل - في قوله - عزَّ شأنُه -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور: 55]، وقوله - جلَّ في عُلاه -: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[الحج: 40، 41].
الله أكبر، الله أكبر، كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بركةً وأصيلاً، والله أكبر ما انفلقَ صباحُ عيدٍ وأسفَر، والحمدُ لله ما لاحَ برقٌ وأنوَر.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، واهنأوا بعيدكم، وأصلِحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسولَه إن كنتم مؤمنين، فالعيدُ فرحةٌ وبهجة، فمن أحبَّ أن يُسامِحَه الناس فليُسامِحهم، ومن زاد حبُّه لنفسه ازداد كرهُ الناس له، والأُلفة دليل حُسن الخلق، والنُفرة علامةُ سوء الخُلق، التنهئةُ الصادقة والابتهاجُ الحق لمن قبِل الله صيامَه وقيامَه وحسُنت نيَّتُه وصلُح عملُه، تهنئةٌ وبهجةٌ لمن حسُن خُلُقه وطابَت سريرتُه.
هنيئًا لمُوسِرٍ يزرعُ البهجَة على شفَة مُحتاج، ومُحسنٍ يعطِفُ على أرملة ومسكين ويتيم، وصحيحٍ يعودُ مريضًا، وقريبٍ يزورُ قريبًا، العيدُ عيدُ من عفا عمن زلَّ وهفا، وأحسن لمن أساء، العيدُ عيدُ من حفِظَ النفسَ وكفَّ عن نوازِعِ الهوى، يلبسُ الجديد ويشكرُ الحميدَ المجيد من في فرحٍ لا يُنسِي، وبهجةٍ لا تُطغِي.
لا يسعَدُ بالعيد من عقَّ والدَيْه، وحُرِم الرضا في هذا اليوم المبارَك السعيد، ولا يسعدُ بالعيد من يحسُد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وليس العيد لخائنٍ غشَّاش يسعى بالفساد بين الأنام، كيف يفرحُ بالعيد من أضاعَ أموالَه في ملاهٍ مُحرمة، وفسوقٍ وفُجور؟ ليس له من العيد إلا مظاهرُه، وليس له من الحظِّ إلا عواقِرُه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ثم اعلموا - رحمكم الله - أن من أعمال هذا اليوم أن من أعمال هذا اليوم: إخراج زكاة الفطر، فأخرِجوها طيبةً بها نفوسُكم، ومِقدارُها صاعٌ من غالب قُوت البلد؛ كالأرز والبُرِّ والتمر، عن كل مسلم، ووقت إخراجها الفاضل يوم العيد قبل الصلاة.
ومن مظاهر الإحسان بعد رمضان: استدامةُ العبد على نهج الطاعة والاستقامة، وإتباعِ الحسنةِ الحسنة، وقد ندبَكم نبيُّكم محمد - صلى الله عليه وسلم - لأَن تُتبِعوا رمضان بستٍّ من شوال؛ فمن فعل فكأنما صام الدهر كلَّه.
تقبَّل الله منا ومنكم الصيامَ والقيام وسائر الطاعات والأعمال الصالحات.
ثم صلُّوا سلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال - عزَّ قائلاً عليمًا -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأزواجه وذريته، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافَك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أيِّد بالحق والتوفيق وبالتسديد إمامَنا ووليَّ أمرنا، ووفِّقه لما تحب وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، وارزقه البطانةَ الصالحةَ، وأعِزَّ به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى، ووفِّقه ونائبَيْه وإخوانهم وأعوانهم للحق والهدى، وكل ما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم احفظنا من شر الأشرار، وكيد الفُجَّار، وشر طوارق الليل والنهار، اللهم يا ذا الجود والمنِّ؛ احفظ علينا هذا الأمن، وسدِّد قيادته، وقوِّ رجاله، وخُذ بأيديهم، وشُدَّ من أزرهم، وقوِّ عزائمهم، وزِدهم إحسانًا وتوفيقًا، وتأييدًا وتسديدًا، اللهم واشفِ مرضاهم، وارحم شهداءهم، واحفظ أُسَرهم وذرياتهم يا رب العالمين.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مسَّهم الضُّرّ، وحلَّ بهم الكرب، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكَت دماء، وقُتِلَ أبرياء، ورُمِّلت نساء، ويُتِّم أطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين، ويا مُنجِي المؤمنين، انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحق والهُدى كلمتَهم، ولِّ عليهم خِيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم ارفع عنا وعنهم الغلا والوبا، والربا والزنا، والجُوعَ والعُرِيّ، والزلازل والمِحَن، وسوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطَن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، وتقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وصيامَنا، وقيامَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، وارحمنا يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، وأستغفرك وأتوبُ إليك.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

ابوحاتم 09-03-2011 06:18 AM

التفاؤل والتشاؤم بالأحداث الجارية
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة عيد الفطر لعام 1432 بعنوان: "التفاؤل والتشاؤم بالأحداث الجارية"، والتي تحدَّث فيها عن التفاؤل والتشاؤم وبيَّن أهم الفروقات بينهما، وقام بإنزال ذلك وإسقاطه على واقعنا المعاصر، وحثَّ على ضرورة التفاؤل وإن حدث ما حدث في ديار المسلمين من ظلمٍ وقهرٍ واضطهاد.
الخطبة الأولى
الحمد لله وأكبِّره تكبيرًا، والله أكبر وأذكره ذكرًا كثيرًا، والحمد لله رفع أقدار ذوي الأقدار، والله أكبر أنفَذَ تصاريفَ الأقدار، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ[القصص: 68]، والحمد لله عددَ ما ذرَفَت العيون في مواسم الطاعات من عبَرات، والله أكبر ما تقرَّبوا إلى مولاهم بالعبادات؛ صلواتٍ وصيامًا وصدقات، والحمد لله أفاضَ علينا من خزائن جُوده ما لا يُحصَر، والله أكبر شرعَ لنا شرائعَ الأحكام ويسَّر، أحمدُه - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو الكريم الجواد، أحقُّ من عُبِد، وأحقُّ من ذُكِر، وأحقُّ من يُشكَر، ذو الفضل والإحسان والمنَّة يمنحُ الجزاءَ الأوفَى، ويهَبُ الفضلَ الأكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له والعزَّةُ لله ولرسوله وللمؤمنين، والذِّلَّةُ والصّغَار والهوانُ لأهل الكفر والفُجور والمُعاندين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وإمام المرسلين ورحمةُ الله للعالمين، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين أقاموا الدين، وجاهدوا في الله حقَّ جهاده صابرين مُخبتين مُحتسبين، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، اتقوا الله وأطيعوه، وعظِّموا أمره ولا تعصُوه؛ فمن اتقى اللهَ حسُن توكُّله على ربه فيما نابَه، وحسُن رِضاه بما آتاه، وحسُن زهدُه فيما فاتَه.
اتقوا الله حق التقوى، وتقرَّبوا إليه بما يحبُّ ويرضى، تزيَّنوا بلباس التقوى؛ فالفائز من ألبسَه مولاه حُلَل مولاه، وتأهَّبوا للعرض الأكبر يوم يُعرضُ الناسُ حُفاةٌ عُراة، وينظرُ كلُّ امرئٍ ما قدَّمَت يداه، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ[الحاقة: 18].
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
أيها المسلمون:
عيدُكم مُبارك، وتقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم، وصلواتكم وصدقاتكم، وجميعَ طاعاتكم، وكما فرِحتم بصيامكم، فافرحوا بفِطركم، وقد علِمتم أن للصائم فرحتين: فرحةٍ عند فِطره، وفرحةٍ بلقاء ربه، أدَّيتم فرضَكم، وأطعتُم ربَّكم، صُمتم وقرأتُم وتصدَّقتُم، فهنيئًا لكم ما قدَّمتم، وبُشراكم الفوزَ - بإذن الله وفضله -.
افرحوا وابتهِجوا واسعَدوا، وانشروا السعادةَ والبهجةَ فيمن حولكم، إن حقكم أن تفرحوا بعيدكم وتبتهِجوا بهذا اليوم يوم الزينةِ والسرور، ومن حقِّ أهل الإسلام في يوم بهجتهم أن يسمعوا كلامًا جميلاً، وحديثًا مُبهِجًا، وأن يرقُبوا آمالاً عِراضًا ومُستقبلاً زاهرًا لهم ولدينهم ولأمتهم.
قد يقول بعض المتأملين - أحسن الله إليهم -: إن المسلمين اليوم يعيشون مِحَنًا ورزايَا، وفتنًا وبلايا، لهم في كل أرضٍ أرملة وقتيل، وفي كل ركنٍ بكاءٌ وعَويل، وفي كل صِقعٍ مُطارَدٌ وأسير، صورٌ من الذلِّ والهوان والفُرقة والطائفية والإقصاء، دماءٌ وأشلاء، وتسلُّطٌ من الأعداء، وكأن الناظرَ لا يرى دماءً سوى دمائنا، ولا جراحًا سوى جراحاتنا، زاغَت الأبصار، وبلغَت القلوبُ الحناجِر، وظنَّ ظانُّون بالله الظنُونا.
ثم يقول هذا القائل: هل بعد هذه الأحزان من أفراح؟ وهل بعد هذه المضائق من مخارج؟ وهل وراء هذه الآلام من آمال؟ وهل في طيَّات هذه المِحَن من مِنَح؟ ومتى يلُوحُ نورُ الإصلاح؟
يقول المُستبشِر المُحتفِي بعيده حسنُ الظن بربه: نعم، ثم نعم، فاهنأوا بعيدكم، وابتهِجوا بأفراحكم، وهل يكون انتظار الفرج إلا في الأزمات؟ وهل يُطلَبُ حسنُ الظن إلا في المُلِمَّات؟ يقول ربكم في الحديث القدسي - عزَّ شأنه -: «أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظنَّ بي ما شاء».
والمؤمنون قال الله فيهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[الأحزاب: 22]، وقال في آخرين: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا[الفتح: 12]، وقال تعالى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ[فصلت: 23].
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "والذي لا إله غيره؛ ما أُعطِي عبدٌ مؤمنٌ شيئًا خيرًا من حُسن الظنِّ بالله، والذي لا إله غيره؛ لا يُحسِن عبدٌ بالله - عز وجل - الظنَّ إلا أعطاه الله - عز وجل - ظنَّه؛ ذلك بأن الخير بيده".
وفي الحديث: «إذا تمنَّى أحدُكم فليستكثِر؛ فإنما يسأل ربَّه»؛ حديثٌ صحيح على شرط الشيخين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ما تنزَّلت الرحماتُ من الرحيم الرحمن، والله أكبر ما صلَّى المُصلُّون وسلَّموا على المبعوث بالسنة والقرآن، صلَّى الله عليه وسلَّم.
عباد الله:
ما دام أن أمتنا شاهدةٌ على الأمم فهي باقيةٌ ما بقِيت الحاجةُ إلى الشهادة، وما دام أن رسالتنا هي الخاتمة فهي باقيةٌ إلى آخر الدهر، وفي تاريخ الأمة مئاتُ العُظماء بل آلافٌ وآلاف قد وُلِدوا وسوف يُولَد أمثالُهم وأمثالُهم - بإذن الله -، وهذه سنة الله.
بل ها هي أحداث ومُستجِدَّات، ونوازِل ومُتغيِّرات تحدث أمام ناظرَيْكم مما يوَدُّه المُتابِعُ وما لا يوَدُّه، ظنَّ أصحابُها أنهم مانعَتُهم حُصونُهم فأتاهم الأمرُ من حيث لم يحتسِبوا فُدَّت عليهم المخارج وضاقَت عليهم الحِيَل، وها هي أساليب الاتصال ومواقع التواصل وطرق التعبير فتحت من الأبواب، وهيَّات من الأسباب مما يحسُن فهمُه وفقهُه.
معاشر المسلمين:
وأنتم في استقبال عيدكم أحسِنوا الظنَّ بربكم، فكلما ازداد التحدِّي ازداد اليقين، ولا يرى الجمالَ إلا الجميل، ومن كانت نفسُه بغير جمال فلن يرى في الوجود شيئًا جميلاً، والكون ليس محدودًا بما تراه عيناك ولكن ما يراه قلبُك وفكرُك، فجفِّف دمعَك، واجبُر كسرَك، وارفع رأسَك؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العُسر يُسرًا.
مشى المُعافَى بن سليمان مع صاحبٍ له، فالتفتَ إليه صاحبُه عابسًا مُتبرِّمًا وقال: ما أشدَّ برد هذا اليوم! فقال له المُعافَى: وهل استدفأتَ الآن؟ قال: لا. قال: فماذا استفدتَ من الذم؟ لو ذكرتَ اللهَ لكان خيرًا لك.
المهزومُ من هزمَته نفسُك، ومن قال: هلكَ الناس فهو أهلكُهم، ومن أجل هذا أمرَ دينُنا بالتفاؤل، ونهانا عن التشاؤم؛ بل إن نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ التفاؤل ويُعجِبُه الفأل، ويُعجِبُه أن يسمع: يا نجيح، ويا راشد؛ لأن التفاؤل - أسعدكم الله، وزادكم في عيدكم بهجة -: كل ما أدخل على الإنسان سرورًا وبهجةً وانشراحًا مما يدفعُ إلى العمل، ويفتحُ أبوابَ الأمل، وتنطلِقُ معه النفوس.
يقول ابن بطَّال: "جعل الله من فِطَر الناس: محبة الكلمة الطيبة والأُنس بها، كما جعل فيهم الارتياحَ بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربُه".
الإنسان يبتهِجُ بالهيئة الحسنة، والمكان الفسيح، والمنظر البهيج، الفألُ حُسن ظنٍّ بالله وتعلُّقٌ برجائه، التفاؤل استعانةٌ بالموجود لتحصيل المفقود، وهو تقويةٌ للعزم، وباعثٌ على الجِدّ، ومعونةٌ على الظَّفَر.
التفاؤل يقلِبُ العلقمَ زُلالاً، والصحراء جنة، والحنظلَ عسلاً، والدار الضيقةَ قصرًا، والقلةَ غِنًى، وهل يشعُر بسعَة الدنيا من كان حِذاؤه ضيِّقًا؟!
المتفائل يسقط من أجل أن ينهض، ويُهزَم من أجل أن ينتصر، وينام من أجل أن يستيقظ، ومن جدَّ وجَد، ومن زرعَ حصَد.
المتفائل لا تُزعزِعُ يقينَه المصائب، ولا تفُلُّ عزيمتَه الفواجِع، ولا تُضعِفُ إيمانَه الحوادث، وفي الحديث: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للشر، فطُوبَى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه»؛ رواه ابن ماجه.
ولهذا قيل: "قُدراتُك هي السببُ في كل ما يحدث لك، ونفسُ المرء مثل غرفته إن شاء فتح النوافذ فدخل النور والضياء والهواء والعليل، وإن شاء أغلقا فبقِيَ في الظلام".
وقال أهلُ الحكمة: "إن قسَمات وجه المرء انعكاسٌ لأفكاره، ومصائب الحياة تتماشى مع هِمَم الرجال صعودًا وهبوطًا، وتشيبُ الرؤوس ولا تشيبُ الهِمَم".
فاحترِم نفسك - رحمك الله - فهي أجملُ مخلوقٍ على وجه الأرض، والذين لا يُغيِّرون ما بأنفسهم لا يُغيِّرون ما حولَهم، ولهذا ترى الجميعَ يُفكِّر بتغيير العالَم، وقليلٌ منهم من يُفكِّر بتغيير نفسه، وفي التنزيل العزيز: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[الرعد: 11].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ما قصَدوا هذه البِقاع الطاهرة وعمَّتهم نعَمُ مولاهم الباطنة والظاهرة، والله أكبر ما سعَت الأقدام لزيارة مسجد سيد الأنام، وحظِيَت بالسلام على الحبيب المصطفى - عليه الصلاة والسلام -.

معاشر المسلمين المُبتهِجين:
ومن أجل مزيدٍ من الوضوح والإيضاح، ولمزيدٍ من الابتهاج والفرَح وحُسن الظنِّ بالله - عز وجل -، والأمل العريض للأمة تأمَّلوا هذه المقارنات والموازنات:
المتفائل ينظرُ إلى الحل، والمتشائم ينظرُ في المشكلة، المتفائل مُجِدٌّ على الدوام لا يعرفُ الإحباطَ والضررَ، يرى الحياةَ حقًّا له وحقًّا للآخرين، والمتشائم جلاَّد نفسه يرى غيرَه أسعدَ منه، ثم هو يريدُ أن يكون أسعدَ من الآخرين، وهل مثلُ هذا يُحقِّقُ السعادة؟
المتفائل يرى ضوءًا لا يراه الآخرون، والمتشائم يعمَى أن يرى الضوءَ الذي أمام ناظرَيْه، المتفائل مستفيدٌ من ماضيه، مُتحمِّسٌ لحاضره، مُستشرفٌ لمُستقبَلِه، والمتشائم أسيرٌ لماضيه، مُحبَطٌ من حاضره، هليعٌ على مُستقبَلِه.
المتفائل يطلُبُ المعاذير والمخارج لسلامة طوِيَّته وانشراح صدره، والمتشائم يشتغِلُ بالعيوب ويحشُرُ نفسَه في المضائق لظُلمة باطنه.
المتشائم يحسَبُ كل صيحةٍ عليه، يجوعُ وهو شبعان، ويفتقِر وهو غني، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة: 268].
المتشائم يذكُر النعَمَ المفقودة ويعمَى عن النعَم الموجودة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ما تصافحَ المسلمون وتصافَوا في هذا العيد البَهيج، والله أكبر ما استقبَلَت هذه البِقاعَ الطاهرة العُمَّار والزُّوَّارَ والحَجيج.


معاشر المسلمين:
عيدُكم مبارك، وأيامكم بالخير والسعادة محفوظة؛ هل لاحَظتُم أن التفاؤل لا يُحتاجُ إليه في وقت الرخاء والأمن والنعيم؛ إذ في وضَح النهار لا تحتاج إلى الشموع والمصابيح؛ بل إن المصباحَ لا يُضيءُ إلا في الظلام، وشمعةٌ واحدة كافيةٌ لتبديد الظلام، والفرجُ لا يكون إلا بعد الشِّدَّة، والنصرُ لا يكون إلا بعد الهزيمة، والفجرُ لا يكون إلا بعد ليلٍ مُدبِر.
سعادةُ المرء ليست في تمنِّي ما ليس عنده ولكنها بحُسن الاستمتاع فيما عنده، والسعادة ليست محطة وصول ولكنها مسيرةُ الحياة كلها، بالمال تشتري السرير ولكنك لا تشتري النوم، وتشتري الساعة ولكنك لا تشتري الوقت، وتشتري المنزل ولكنك لا تشتري الراحةَ والسعادةَ.
وقتلُ البَعوض لا يُجفِّفُ المُستنقَع، وتجفيفُ المُستنقَع يُنهِي مشكلةَ البعوض، ومن لا يستطيع أن يقِف على قدمَيْه يعسُر إنقاذُه، وأخطرُ الناس من عاش بلا أمل.
كتبَ عمرُ بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما جميعًا -: "أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى وإلا فاصبِر، وبعد، عباد الله: فالتفاؤل لا يُنكِر الواقع، ولا يستهينُ بالمُشكِلات، ولا يُهمِلُ الأسباب، ولا أخذَ الحزم من الأمور والاحتياط في المسالك، ولكن الله - عز وجل - لقِسطه جعل الفرحَ والروحَ والسرورَ وراحةَ النفس وسكينتها وسلامتَها في الرضا واليقين، وجعل الغمَّ والحَزَن في السخَط والشك"؛ رواه البيهقي والطبراني في "الكبير".
فلا تُفسِد - حفِظَك الله - حاضِرك حُزنًا على ماضيك؛ فالتفاؤل في المُستقبل هو الشاهدُ على صحة العقل وصفاء النفس، وقد قالوا: "إن البكاءَ لا يُعيدُ الميتَ إلى الحياة، ولكن يُعيدُه الدعاءُ والثناءُ والذكرُ الحسن والأثرُ الطيبُ".
ورأسُ التفاؤل الاتصالُ بالعليِّ الأعلى، فالصلاة تفاؤل، وذكرُ الله تفاؤل، والدعاءُ تفاؤل، يُحيطُ بذلك: حُسنُ الظن بالله - عز شأنُه -، وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[النساء: 104]، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[آل عمران: 139- 142].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.


ابوحاتم 09-03-2011 06:19 AM

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله ما تقرَّب العبادُ إلى ربهم بالفرائض، وتحبَّبوا إليه بالمندوب، والله أكبر يقبَلُ التوبةَ عن عباده ويغفرُ الذنوب، والحمدُ لله ما شمَّر الجادُّون في تحصيل المطلوب، والله أكبر ما سارعوا وتنافَسوا في تحقيق المرغوب، والحمد لله هدانا للإيمان وأكرمَنا بالسُنَّة والقرآن، أحمدُه - سبحانه - وأشكره على كريم الفضل وجزيل الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما خلق وقدَّر، ولا مُنازِعَ له فيما حكَمَ ودبَّر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله المبعوث للأبيض والأسود والأحمر والأصفر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وبشَّر وأنذَر، وعلى آله السادة الغُرَر، وأصحابه ذوي السلوك الأطهر، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ممن صلَّى وصامَ وحجَّ اعتمَر، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد:
فالمؤمنُ ذو اليقين والرضا يعلمُ أن الله قد أحاطَ بكل شيءٍ علمًا، وأحصى كل شيءٍ عددًا، ووسِعَ كل شيءٍ رحمةً وعلمًا، ومن حكمته في هذه الدنيا أن في الناس من ينجحُ بذكائه، وفيهم من ينجَحُ بذكاء الآخرين، وإذا وُجِد من ينجَحُ بعمله فإن هناك من ينجَحُ بكسل الآخرين، ورُبَّ ساعٍ لقاعد؛ فما منعَك ربُّك إلا ليُعطِيَك، ولا ابتلاكَ إلا ليُعافِيَك ويُثيبَك، ولا امتحنَك إلا ليصطفِيَك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "مصيبةٌ تُقبِلُ بها على الله خيرٌ من نعمةٍ تُنسيكَ رضا الله".
واعلم أن المرء ربما يفشَلُ إذا خاطَرَ وأقدم، ولكن من المُؤكَّد أنه سوف يفشَل إذا لم يُقدِم، وأعظمُ الفشل ألا تعمل.
وقال بعض أهل العلم: "المُشكلات والمِحَن لم تأتِ لتُهلِك الناس؛ بل لتمتحِن صبرَهم وإيمانَهم وعملَهم، والأجرُ عند ربك مربوطٌ بالعمل والاجتهاد وليس بالنتائج والثمار، وقاعدةُ التوازن: اعمل لدنياك كأنك تعيشُ أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموتُ غدًا".
وقد قال رجلٌ لأبي بكر - رضي الله عنه -: والله لأسُبَّنَّك سبًّا يدخُل معك في قبرك، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: "بل يدخلُ معك في قبرك أنت".
وإذا ضاقَ صدرُك وجشمَ عليك همُّك فالزَم التسبيح؛ فقد قال الله لنبيه وحبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم -: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 97- 99]، وقال له - عزَّ شأنُه -: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ[التوبة: 129].

وبعد:
فإن التفاؤل الحق هو التصديقُ بوعد الله - عز وجل - في قوله - عزَّ شأنُه -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور: 55]، وقوله - جلَّ في عُلاه -: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[الحج: 40، 41].
الله أكبر، الله أكبر، كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بركةً وأصيلاً، والله أكبر ما انفلقَ صباحُ عيدٍ وأسفَر، والحمدُ لله ما لاحَ برقٌ وأنوَر.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، واهنأوا بعيدكم، وأصلِحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسولَه إن كنتم مؤمنين، فالعيدُ فرحةٌ وبهجة، فمن أحبَّ أن يُسامِحَه الناس فليُسامِحهم، ومن زاد حبُّه لنفسه ازداد كرهُ الناس له، والأُلفة دليل حُسن الخلق، والنُفرة علامةُ سوء الخُلق، التنهئةُ الصادقة والابتهاجُ الحق لمن قبِل الله صيامَه وقيامَه وحسُنت نيَّتُه وصلُح عملُه، تهنئةٌ وبهجةٌ لمن حسُن خُلُقه وطابَت سريرتُه.
هنيئًا لمُوسِرٍ يزرعُ البهجَة على شفَة مُحتاج، ومُحسنٍ يعطِفُ على أرملة ومسكين ويتيم، وصحيحٍ يعودُ مريضًا، وقريبٍ يزورُ قريبًا، العيدُ عيدُ من عفا عمن زلَّ وهفا، وأحسن لمن أساء، العيدُ عيدُ من حفِظَ النفسَ وكفَّ عن نوازِعِ الهوى، يلبسُ الجديد ويشكرُ الحميدَ المجيد من في فرحٍ لا يُنسِي، وبهجةٍ لا تُطغِي.
لا يسعَدُ بالعيد من عقَّ والدَيْه، وحُرِم الرضا في هذا اليوم المبارَك السعيد، ولا يسعدُ بالعيد من يحسُد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وليس العيد لخائنٍ غشَّاش يسعى بالفساد بين الأنام، كيف يفرحُ بالعيد من أضاعَ أموالَه في ملاهٍ مُحرمة، وفسوقٍ وفُجور؟ ليس له من العيد إلا مظاهرُه، وليس له من الحظِّ إلا عواقِرُه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ثم اعلموا - رحمكم الله - أن من أعمال هذا اليوم أن من أعمال هذا اليوم: إخراج زكاة الفطر، فأخرِجوها طيبةً بها نفوسُكم، ومِقدارُها صاعٌ من غالب قُوت البلد؛ كالأرز والبُرِّ والتمر، عن كل مسلم، ووقت إخراجها الفاضل يوم العيد قبل الصلاة.
ومن مظاهر الإحسان بعد رمضان: استدامةُ العبد على نهج الطاعة والاستقامة، وإتباعِ الحسنةِ الحسنة، وقد ندبَكم نبيُّكم محمد - صلى الله عليه وسلم - لأَن تُتبِعوا رمضان بستٍّ من شوال؛ فمن فعل فكأنما صام الدهر كلَّه.
تقبَّل الله منا ومنكم الصيامَ والقيام وسائر الطاعات والأعمال الصالحات.
ثم صلُّوا سلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال - عزَّ قائلاً عليمًا -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأزواجه وذريته، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافَك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أيِّد بالحق والتوفيق وبالتسديد إمامَنا ووليَّ أمرنا، ووفِّقه لما تحب وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، وارزقه البطانةَ الصالحةَ، وأعِزَّ به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى، ووفِّقه ونائبَيْه وإخوانهم وأعوانهم للحق والهدى، وكل ما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم احفظنا من شر الأشرار، وكيد الفُجَّار، وشر طوارق الليل والنهار، اللهم يا ذا الجود والمنِّ؛ احفظ علينا هذا الأمن، وسدِّد قيادته، وقوِّ رجاله، وخُذ بأيديهم، وشُدَّ من أزرهم، وقوِّ عزائمهم، وزِدهم إحسانًا وتوفيقًا، وتأييدًا وتسديدًا، اللهم واشفِ مرضاهم، وارحم شهداءهم، واحفظ أُسَرهم وذرياتهم يا رب العالمين.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مسَّهم الضُّرّ، وحلَّ بهم الكرب، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكَت دماء، وقُتِلَ أبرياء، ورُمِّلت نساء، ويُتِّم أطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين، ويا مُنجِي المؤمنين، انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحق والهُدى كلمتَهم، ولِّ عليهم خِيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم ارفع عنا وعنهم الغلا والوبا، والربا والزنا، والجُوعَ والعُرِيّ، والزلازل والمِحَن، وسوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطَن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، وتقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وصيامَنا، وقيامَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، وارحمنا يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، وأستغفرك وأتوبُ إليك.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

ابوحاتم 09-06-2011 01:56 AM

الحفاظ على الطاعات بعد رمضان
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 4/10/1432هـ بعنوان: "الحفاظ على الطاعات بعد رمضان"، والتي تحدَّث فيها عن الأمر بالاستقامة على طاعة الله من كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذكَّر بوجوب الحرص على الطاعات وعدم ضياعها بعد رمضان.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه أفضلُ من سارعَ إلى الخيرات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقوى والصالحات.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أُوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -؛ فهي سببُ الفلاح، وهي عاملُ النجاح، وهي وسيلةُ الفوز في الدنيا وفي الآخرة، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: 52].
إخوة الإسلام:
إن أوامر القرآن كثيرةٌ في الدعوة إلى الاستقامة على التقوى، والاستمرار على الهُدى، يقول ربُّنا - جل وعلا -: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا[هود: 112].
وصايا عظيمة ربَّانية تتضمَّن الأمرَ بالإقامة على أمور الإسلام، والتزام منهج الدين، والاستمرار في التقيُّد بقيوده، والوقوف عند حُدوده، والاستجابةُ لأوامره والانتهاءُ عن زواجِره على الوجه الأكمل والطريق الأقوَم.
ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يُوصِي أمَّتَه بوصيةٍ عظيمةٍ ذات عباراتٍ وجيزةٍ جميلة المعنى قليلة المبنى، إنها وصيةٌ تقتضي لزومَ الاعتقاد الصحيح، والتمسُّك بالصبر على الطاعات واجتناب المنهيَّات.
جاء سُفيانُ بن عبد الله الثَّقَفي إليه - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أوصِني وقل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدك، فقال: «قُل: آمنتُ بالله، ثم استقِم»؛ والحديثُ في "صحيح مسلم".
إنها وصايا في القرآن والسنة تكفَلُ العِيشةَ الرضيَّة، وتضمنُ الحياةَ الطيبة والسعادة الأبدية، يقول ربُّنا - جل وعلا -: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الأحقاف: 13، 14].
فيا إخوة الإسلام:
إنه ينبغي على من تفضَّل الله عليه بالمُسارعة إلى الخيرات في رمضان أن يحمَد الله - جل وعلا - وأن يشكُره حقَّ الشكر، ثم عليه أن يسير على الطريق المستقيم، وأن يزداد تقرُّبًا إلى المولى العظيم، وأن يكون حذِرًا أشدَّ الحَذَر من إهداء حسناته لغيره، أو أن يبُوءَ بفعله القبيح أن يبُوءَ بسيئات غيره، وذلك لا تحصُل السلامةُ منه إلا بأن يصُونَ لسانَه عن أعراض المسلمين، وأن يكون حذِرًا أشدَّ الحَذَر من أذِيَّة المؤمنين، وأن يتحلَّل من حقوق ومظالمِ المسلمين.
في "صحيح البخاري" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه من عِرْضٍ أو من شيءٍ فليتحلَّلْهُ منه اليوم قبل أن لا يكون درهمٌ ولا دينار، إن كان له عملٌ صالحٌ أُخِذ منه بقدرِ مظلَمَته، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذ من سيئاتِ صاحبه فحُمِل عليه».
وفي "صحيح مسلم" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن المُفلِسَ من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وضربَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنِيَت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطُرِحَت عليه، ثم طُرِح في النار».
فالسلامةَ السلامةَ، والحَذَرَ الحَذَر - أيها المسلم -، فرسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المسلمُ من سلِمَ المُسلِمون من لسانه ويده».
ولهذا جاء في حديث سفيان - في روايةٍ عند الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ -، أن سفيان حينما طلبَ هذه الوصية من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا رسولَ الله! ما أخفُ ما تخافُ عليَّ؟ فأخذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بلسان نفسه الشريفة، ثم قال: «عليك هذا».
فكُن - يا أيها المسلم - حافظًا لجوارحك، واحفَظ أعمالكَ الصالحة حتى تلقَى الجزاءَ الحسن عند الله - جل وعلا -، وذلك لا يكون إلا بالاستقامة على طاعة الله، ولهذا أمر الله - جل وعلا - نبيَّه بقوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
بارك الله لنا في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما، أقولُ هذا القول، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله أفضلُ الخلق أجمعين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اعمُروا أوقاتَكم بطاعة الله - جل وعلا -، ولا تشغلنَّكم مطالبُ الحياة الفانية عن حقائق الآخرة الباقية؛ فإن الفلاحَ والظَّفَر إنما هو في الاستقامة على طاعة الله - جل وعلا - إلى الممات، كما كان عليه نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ثم إنه قد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صامَ رمضان ثم أتبَعهُ ستًّا من شوَّال فكأنما صامَ الدهر كلَّه».
ولهذا ذهب جمهورُ أهل العلم إلى استحبابِ صيام ستٍّ من شوَّال، سواءٌ كانت مُتفرِّقةً أو مُتتابِعة، إلا أنه من كان عليه صومٌ واجبٌ فإنه لا ينبغي أن يُقدَّم عليه غيرُه من التطوُّعات، لما عليه قاعدةُ الشريعة: أن الواجبَ أَوْلَى وآكَد من غير الواجب.
ثم إن الله - جل وعلا - أمرنا بأمرٍ عظيم، ألا وهو: الصلاة والتسليم على النبي الكريم.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدنا ونبيِّنا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والآلِ أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أصلِح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم احفظنا واحفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماء المسلمين في جميع الأماكن والأزمان.
اللهم تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليمُ، اللهم تُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيمُ.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم نفِّس كرباتِ المسلمين وفرِّج همومَهم، اللهم فرِّج هُمومَهم، اللهم واكفِهم من أمور دنياهم وأُخراهم يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين لما فيه خيرُ رعاياهم، اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم، واكفِهم شِرارَهم يا حيُّ يا قيُّوم.
عباد الله:
اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 09-11-2011 03:12 AM

أسباب الفلاح في الدارين
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة 11/10/1432هـ بعنوان: "أسباب الفلاح في الدارين"، والتي تحدَّث فيها عن أسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، ولا يكون ذلك إلا بالتزام أوامر الله واجتناب نواهيه واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيها المسلمون:
إن عزَّ الإنسان في عبادة الله وحده لا شريك له، وسعادتَه في التذلُّل لربه - عز وجل - بالطاعات مع المحبة الصادقة، فذلك هو الفلاحُ في الدنيا والفوزُ في الآخرة، ومن قرَنَ بين فعلِ أمر الله وترك ما نهى عنه فهو من السابقين الصالحين الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ[الواقعة: 10- 12]، وقال - عز وجل -: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ[فاطر: 32].
والسابقون: هم الذين قاموا بالفرائض والواجبات، وهجَروا المُحرَّمات والمكروهات، واستكثَروا من المُستحبَّات، والمُقتصِدون: هو دون هؤلاء، والظالمُ لنفسه: هو الذي خلطَ عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
والعبادةُ التي يتقرَّبُ بها المسلمُ لربه - تبارك وتعالى -: هي كل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وأعظمُ العبادة بعد تحقيق الشهادتين هذه الصلاة؛ فقد جمعَ الله في هذه الفريضة أعمالَ القلب وأعمالَ الجوارح؛ فمن أقام صلاتَه ووفَّاها حقَّها فقد فازَ في أعلى الدرجات، ونهَتْه عن الفحشاء والمُحرَّمات، قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ[العنكبوت: 45]، وفي الحديث: «أولُ ما يُحاسَبُ عليه العبدُ يوم القيامة الصلاةُ، فإن قُبِلَت قُبِلَت وسائرُ عمله، وإن رُدَّت رُدَّت وسائرُ عمله».
وعن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجَ في الشتاء والورق يتهافَت، فأخذَ بغُصنٍ فجعل الورقُ يتهافَت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا ذر!». قلتُ: لبيكَ يا رسول الله، قال: «إن العبدَ المسلمَ ليُصلِّي الصلاةَ يريدُ بها وجهَ الله فتهافَتُ عنه ذنوبُه كما تهافَتَ هذا الورق من هذه الشجرة»؛ رواه أحمد، قال في "مجمع الزوائد": "ورجاله ثقات".
أيها المسلمون:
ألا تُحبُّون أن تعلَموا ما يرفعُ الدرجات ويُكفِّر السيئات؟ ألا تُحبُّون أن تعرفوا الأعمال التي فاز بها الفائزون، وتقرَّبَ إلى الله بها المُقرَّبون؟
اعلموها من كتاب ربكم وسنةِ نبيِّكم - عليه الصلاة والسلام -، إنها أعمالُ القلوب؛ فأعمال القلوب أفضلُ الأعمال عند الله تعالى، فهي أساسُ أعمال الجوارح، وأعمالُ الجوارح تبَعٌ لها.
وقد تعبَّدنا الله - عزَّ وجل - بأعمال القلوب لتسلمَ قلوبُنا مما يُضادُّ أوامر الله - تبارك وتعالى -، ولتُحفَظَ من دواعي الهوى والوقوع في المُحرَّمات، ولتتطهَّر نفوسُنا ولتتزكَّى أعمالُنا، فتعبَّدنا الله - تبارك وتعالى - بالتوكُّل عليه، والرغبة فيما عنده من الفضل والخير، والرهبة منه والخوف من عقوباته، والرجاء في ثوابه والرجاء في النجاة من عذابه.
كما تعبَّدنا - سبحانه - بالإخلاص في القول والعمل والاستقامة على هدي سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأمرَنا بالصبر والإخبات والتواضع لله تعالى، وسلامة الصدر من المكر والخداع والنفاق والحسد، وتعبَّدنا بحُبِّ الله - عزَّ وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وحبّ ما يُحبُّه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وبُغض ما يُبغِضُه الله ورسوله، وبالتوبة والإنابة والرحمة، والنُّصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، إلى غير ذلك من أعمال القلوب التي يتفاضَلُ الناسُ عند الله بها.
وأفضلُ من قامَ بأعمال القلوب بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وأفضلُ من اتَّصَفَ بحقائقها وطبَّق أركانَها ومعانيها هم الصحابةُ والتابعون - رضي الله عنهم -؛ لأنهم علِموا معانيها مُطابقةً وتضمُّنًا والتزامًا من لغتهم العربية، وما اشتبَه عليهم سألوا عنه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[النحل: 44].
وأنت - أيها المسلم - اسلُك سبيلَهم، فاعمَل بما علِمتَ، واسأل عما تجهلُ من دينك، قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[النحل: 43]، وأهلُ العلم فرضٌ عليهم بلاغ الدين للعالم كله، قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[يوسف: 108]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:«بلِّغوا عنِّي ولو آيةً».
أيها المسلمون:
إنكم عبدتُم ربَّكم في شهر رمضان بأنواع العبادات، وملأتُم صحائفَ الأعمال بالحسنات، وأتيتُم بما يُكفِّر السيئات، فاحفَظوا أعمالكم الصالحات من النقص والمُبطِلات، فكما أن الحسنات يُذهِبن السيئات، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ[هود: 114]، فكذلك السيئاتُ تُنقِصُ ثوابَ الحسنات، أو تُبطِلُها تلك المُوبِقات.
وداوِموا على العبادات، وكُن - أيها المسلم - أشدَّ حرصًا على حفظِ الطاعة من المُبطِلات أكثر من حرصِك على فعل الطاعات، واعبدوا ربَّكم في جميع الشهور والأوقات؛ فحقُّ ربنا علينا عظيمٌ، ولن نقدِر أن نعبُدَه حقَّ عبادته، ولكن سدِّدوا وقارِبوا وأحسِنوا العمل باتباع السنة، وأبشِروا وأمِّلوا.
قيل لبشرٍ الحافي: إن قومًا يعبُدون اللهَ في رمضان فإذا ذهبَ انقطعوا، قال: "بئس القوم؛ لا يعرِفون اللهَ إلا في رمضان".
قال الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99]؛ يعني: اعبُد ربَّك حتى يأتيَك الموتُ، فليس لعبادة الله نهاية إلا أن يموتَ الإنسان.
واستقيموا واثبُتوا على دين الله الذي رضِيَه لنفسه وقبِلَه ممن عبدَ اللهَ به، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الأحقاف: 13، 14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله مُجيب الدعوات، خالقِ الأرضِ والسماوات، أحمدُ ربي وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحدُ الأحدُ الصمد، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله خيرُ من تقرَّبَ إلى الله بالطاعات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله - معشر المسلمين -، واحذروا عصيانَه، واطلبُوا رضوانَه.
عباد الله:
إن الله تعالى منَّ عليكم في رمضان بطاعات الرحمن، فلا تُبدِّل ذلك - أيها المسلم - بطاعة الشيطان، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ[محمد: 33].
واعلموا أن الشياطين كانت في رمضان مُقيَّدةً بالسلاسل، ويريدُ الشيطانُ أن يأخُذَ من المسلمين بثأره، فيأتي المسلمَ من كل طريقٍ، فرُدُّوه خائبًا مدحورًا، لئلا يُفسِدَ الأعمال فيجعلها هباءً منثورًا.
واعملوا أن خيرَ أحوال المسلم أن يُتبِعَ الحسناتِ السيئات، مع هجر المُحرَّمات، ودون ذلك أن يُتبِعَ الحسنةَ السيئة، وأن يكون يقِظًا تائبًا لله في كل أحواله.عن معاذ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسنٍ».
عباد الله:
إن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال - تبارك وتعالى -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحبِ أجمعين.
اللهم إنا نسألك أن تغفرَ لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلمُ به منَّا، أنت المُقدِّمُ وأنت المُؤخِّرُ، لا إله إلا أنت.
اللهم اغفر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمرنا، وثبِّت أقدامَنا، وانصُرنا على القوم الكافرين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، زكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزيِ الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين.
اللهم أرِنا الحقَ حقًّا وارزُقنا اتِّباعَه، وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزُقنا اجتنابَه، ولا تجعله مُلتبِسًا علينا فنضِلّ يا رب العالمين.
اللهم أعِذنا من شرور أنفسنا، وأعِذنا من شرِّ كل ذي شرٍّ يا رب العالمين.
اللهم وفِّقنا لهُداك يا رب العالمين، اللهم وفِّقنا لطاعاتك، وجنِّبنا معاصيك، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم أغنِنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وفضلك عمن سواك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الجنةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عمل، ونعوذُ بك من النار وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عمل.
اللهم أعِذنا من نزَغات الشيطان، اللهم أعِذنا وذرياتنا من إبليس وذريته وجنوده وشياطينه يا رب العالمين، اللهم أعِذ المسلمين يا رب العالمين من إبليس وذريته وشياطينه، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم عليك بالسَّحَرة يا رب العالمين، اللهم دمِّرهم تدميرًا، اللهم دمِّرهم تدميرًا، اللهم شتِّت شملَهم، اللهم تبِّر عملَهم تتبيرًا يا رب العالمين.
اللهم احفظنا وذرياتنا يا رب العالمين من مكرهم وشرِّهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم احفظ المسلمين من شرِّهم ومكرهم، اللهم إنهم طغَوا وبغَوا وأفسَدوا يا رب العالمين، اللهم إنهم أطاعوا الشيطان، اللهم إنهم عصَوك يا رحمن، اللهم إنا نسألكَ أن تُعامِلَهم بما يُسوؤهم ويُغيظهم في كل شيء يا رب العالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام أبطِل مكرَ إبليس، اللهم أبطِل مكرَ أعداء الإسلام، اللهم أبطِل مُخطَّطات أعداء الإسلام التي يكيدون بها الإسلام يا رب العالمين.
اللهم انصُر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك يا قويُّ يا متين.
اللهم أظهِر هديَ نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأظهِر سنَّته في كل زمانٍ ومكان يا رب العالمين، وأظهِر دينَه على الدين كله ولو كرِهَ المشركون، بعزَّتك وجلالك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا إمامَنا لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك يا رب العالمين، اللهم احفَظه وأعِنه على ما فيه الخيرُ والصلاحُ لشعبه وللمسلمين يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، اللهم انصُر به دينَك، وأعلِ به كلمتَك، اللهم وفِّق نائبَه لما تحبُّ وترضى، اللهم واكتُب له الشفاءَ والصحةَ والعافيةَ إنك على كل شيءٍ قدير، اللهم وفِّق نائبَه الثاني لما تحبُّ وترضى، ولما فيه الصلاحُ والفلاحُ للبلاد والعباد، إنك على كل شيء قدير.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم أعِذنا من شماتة العباد يا رب العالمين، اللهم أعِذنا من سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء، ومن درَك الشقاء، ومن جَهد البلاء.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، اللهم اقضِ الدينَ عن المدينين من المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين يا رب العالمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين يا رب العالمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ[النحل: 90، 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


الساعة الآن 01:24 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir