عرض مشاركة واحدة
قديم 10-15-2011, 01:04 AM   رقم المشاركة : 47

 

فضائل وأحكام البلد الحرام
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 16/11/1432هـ بعنوان: "فضائل وأحكام البلد الحرام"، والتي تحدَّث فيها عن بعض فضائل وأحكام البلد الحرام وبيت الله الحرام، وما ميَّزه على غيره من الأماكن، وما فضَّله بزمنٍ فاضلٍ وهو الأشهُر الحُرم، وعذكر عِظَم حُرمة الدماء المعصومة، وأشارَ إلى الفتن التي وقعت مُؤخرًا في المملكة، ووجَّه النداءات إلى العُقلاء إلى ضرورة الانتباه على العواقِب الوخيمة لهذه الفتن، ووجوب الضرب على أيدي المُدبِّرين لها والمُنفِّذين.

الخطبة الأولى
الحمد لله جعل بيتَه الحرامَ مثابةً للناس وأمنًا، هدانا لأقوم السُّبُل وشرعَ لنا أفضلَ الشرائِعَ فضلاً منه ومنًّا، أحمده تعالى وأشكرُه، وأُثنِي عليه وأستغفرُه حرَّم الحُرُمات أنفسًا وأشهرًا وبقاعًا، وتابعَ مواسمَ الخيرات علينا تِباعًا، وجعلَ خيرَ الناسِ أخلَصَهم لله وأشدَّهم لنبيِّه تأسيًّا واتباعًا، وجعل أبعدَهم عنه أجفاهم لهديِه وأكثرُهم ابتداعًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمدُ كل الحمدِ ربٌّ علا ذاتًا وقهرًا وقدرًا، وله الشكرُ إعلانًا وإسرارًا وجهرًا، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه علَّم أمَّتَه العبادات وأوضحَ لهم المناسِك، ودلَّهم على طُرق الخير وأبانَ لهم المسالِك، له حُجَّةٌ لا يزيغُ عنها إلا هالِك، بشَّر به الأنبياءُ قبلَه، وهداه ربُّه لخير قِبلة، فقال - سبحانه -: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ تقواه، وسارِعوا إلى مرضاته واستعِدُّوا ليوم لِقاه؛ فإن اليومَ عملٌ ومُهلة، وغدًا حسابٌ وجزاء، وسيلقَى كلُ عاملٍ ما عمِلَ، {يا أيها الناس اتقوا .. ولا يغرنكم بالله الغرور}.
أيها المؤمنون:
تستقبِلُ الأمةُ موسمًا عظيمًا من أيام الله تعالى، وركنًا من أركان الإسلام العِظام، موسمٌ تُغفَرُ فيه الذنوبُ والخطايا، وتُقالُ فيه العثَرات وتُقبَلُ الدعوات، موسمُ الحجِّ إلى بيت الله العتيق، شِعارُ الوحدة والتوحيد، وموسمُ إعلان العهود والمواثيق وحفظِ الحقوق والكرامات، وحقنِ الدماء وعصمةِ النفوسِ والأموال، وما فاضَت به الوصايا في خُطبة الوداع.
وها هي طلائعُ الحُجَّاج تُضيءُ مُحيَّاهم أباريقُ الحرم، وينتظِمُ عِقدُهم في رِحابِه الطاهرة، آمِّين البيتَ الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورِضوانًا، يحطُّون رِحالَهم عند بيت الله العتيق، {إن أول بيت .. آمنا}.
مُلبِّين النداءَ القديمَ المُتجدِّد: {وأذن في .. منافع لهم}، ويُؤدُّون ركنَ الإسلام الخامسَ، {ولله على الناس .. سبيلا}، ويُلبُّون بالتوحيد: لبَّيكَ اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك، لا شريكَ لك، يأمَلون من الله القَبول، ويرجُون رحمتَه ويخافُون عذابَه.
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (العُمرة إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة)؛ متفق عليه.
وفي "الصحيحين" أيضًا يقول الصادقُ المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: (من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق جعَ كيوم ولدَتْ أمُّه) - أي: نقيًّا من الذنوب والخطايا -.
وأخرج ابن حبان في "صحيحه" عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الغازي في سبيل الله، والحاجُّ إلى بيت الله، والمُعتمِر وفدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم).
وفي رحلة الإيمان الخالدة مُضاعفةُ الصلوات، وتكثير الحسنات، وإجابةُ الدعوات، ومواقفُ الرحامات في مِنَى ومُزدلِفة وعرفات.
وإذا ذكرتَ تلك الصعُودات فاذكُر حين يُباهِي اللهُ بحُجَاج بيته ملائكةَ السماوات، ويقول - سبحانه -: (هؤلاء عبادي جاءوني شُعثًا غُبرا، أُشهِدكم أني قد غفرتُ لهم) فيُعتِقُهم من النار، ويكتبُ لهم السعادةَ الأبديَّة.
أيها المسلمون:
الحديثُ عن الحجِّ وفضله يحدُو الأرواحَ، ويبعثُ الأشواقَ لإجابة نداء الرحمن لحجِّ بيت الله الحرام، فيا خسارةَ من قعدَت به همَّتُه واستولَى عليه كسلُه، فلم يلحَق بركبِ الإيمان، قال - عليه الصلاة والسلام -: (تعجَّلوا إلى الحجِّ؛ فإن أحدَكم لا يدري ما يعرِضُ له)؛ أخرجه الإمام أحمد.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "لقد هممتُ أن أبعثَ إلى الأنصار فينظرُوا من كانت له جِدَةٌ فلم يحُجَّ فليضرِبوا عليهم الجِزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين"؛ قال المُنذري: إسناده حسن.
فبادِروا بالحجِّ - أيها المسلمون -، واغتنِموا أعمارَكم قبل أن يُحالَ بينكم وبين ما تشتَهون فتعجَزون أو تموتون.
عباد الله:
وفي الحجِّ شرفُ الزمان والمكان؛ فالمكان: بلدُ الله الحرام، والزمان: عشرٌ مُعظَّمةٌ في أشهرٍ مُحرَّمة: {الحج أشهر .. الحج}، وهذه البُقعة عظَّم الله حُمرتها غايةَ التعظيم، وجعل إجلالَها من التقوى وسببًا للتقوى: {ذلك ومن يعظم .. القلوب}، وحرَّم تنفيرَ صيدِها وعضدَ شوكِها فضلاً عن قطع شجرها وقتل صيدِها؛ فكيف بحُمرة المُسلم فيها؟
حتى إن مجر رادة الشر في الحرَم مُوجِبٌ للعذاب؛ قال الله - عز وجل -: {ومن يرد .. أليم}.
وفي وصف أشهُركم هذه يقول الله - عز وجل -: {إن عدة الشهور .. أنفسكم}.
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "كان الرجلُ يلقَى قاتلَ أبيه في الأشهُر الحرم فلا يمُدُّ إليه يدَه". وقال أيضًا: "إن الظلمَ في الأشهُر الحُرم أعظمُ خطيئةً ووِزرًا من الظلم فيما سواها".
إذا كان الأمرُ كذلك؛ فإنه لا ذنبَ بعد الشرك أعظمُ من قتل النفس المؤمنة، وسفك الدم الحرام في الشهر الحرام ظلمًا وعُدوانًا.
لقد سبقَ الإسلامُ كل المُحاولات البشرة لإيجاد منطقةٍ آمنةٍ وزمنٍ آمِن، وإن شئتَ فقل: زمانًا ومكانًا مُحرَّمًا منزوعَ السلاح يأمَنُ الناسُ فيه وينعَمون بالسلام، وهذا من أعظم مقاصِد الإسلام الذي قصدَ إلى إشاعة الأمن والسلام، فالواجبُ على المسلمين أن يستشعِروا هذه الحُرمة، ويُعظِّموا الأشهُر الحُرم، خصوصًا بعد عامٍ عصَفَت فيه الفتنُ واضطرَبَت الأحوالُ، وأُزهِقَت أنفسٌ واختلطَت أمور.
ومن الناس من تشابَهت عليهم الأزمِنة، واختلفَت في أفهامهم الأمكِنة؛ فكأنما الأشهُر الحُرُم حِلٌّ لأشدِّ المُحرَّمات - وهي الدماء -، وكأنما البلادُ في بعث الفتنةِ بها سواء، وكأننا نعيشُ زمنَ الخبر النبوي المُتحقِّق في آخر الزمان -: (يكثُر الهَرج - وهو القتل -، ولا يدري القاتلُ فيمَ قتَل، ولا المقتولُ فيمَ قُتِل، وهي فتنٌ الراقِدُ فيها خيرٌ من القاعِد، والقاعِدُ خيرٌ من الماشي).
وغفلَ المخذولُ عن قول الله - عز وجل -: {ومن يقتل مؤمنًا .. عظيما}.

أيها الناس:
لقد حانَ الوقتُ لإلقاء السلاح، وحقنِ الدماء، والاستجابةِ لأصول الحقوق التي وصَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في حجَّة الوداع، وأرسَى قواعدَها بقوله: (إن دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهرِكم هذا).
آنَ الأوان لأَن يُراجِعَ المعنيُّون واقِعَهم، وأن يحترِموا الأشهُر الحُرم، وأن تتغلَّب المصالحُ على المفاسِد، ومكاسِبُ الأمة على مصالح الأفراد؛ صيانةً للنفوس والحقوق، وحال العباد والبلاد، والله لا يحبُّ الفساد.
الواجبُ على القادة والعلماء القيامُ بما يستطيعون لوقفِ النزيفِ الهادِر من دماء المسلمين وأرواحهم؛ فهي من أولَى مُقتَضَيات الأُخوَّة والمُوالاة، والتناصُر واجبٌ بين المسلمين: {وإن استنصروكم .. النصر}.
وفي الحديث المتفق عليه: (انصر أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا). فقال رجلٌ: أنصرُه مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف أنصرُه؟ قال: (تحجُزُه أو تمنعُه عن الظلم؛ فإن ذلك نصره).
إن النزاعات قطَعَت أوصالَ المسلمين، وجعلَت الأمةَ الواحدَة أممًا مُتناكِرة، ولن نستعيدَ مكانتنا ونصونَ رسالتَنا إلا إذا صحَّحنا انتماءَنا، وأصغَينا إلى قول الله تعالى: {إن هذه .. فاعبدون}.
واليوم نرى في أنحاء بلادنا الإسلامية لعبة العدو القديمة المُتجدِّدة: فرِّق تسُد، وأشغِلهم بأنفسهم كي لا يشغَلوك، وليس هناك وتَرٌ أكثر حساسيةً لبدءِ العزفِ عليه من وتَرِ الطائفية؛ كوتَر الطائفية والمذهبيَّة والحِزبيَّة، وما أكثر المُتسارِعين فيها، والمُتساقطين.
ولو سألتَ أشدَّ الخائضين فيها: كيف بدأَت تلك الفتنة؟ ولمصلحة من؟ لم تجِد جوابًا، وقديمًا قيل: إن أنجحَ المؤامرات هي التي لا يعلمُ الساعُونَ فيها أنها مُؤامرَة.
لقد تعايَشَت الطوائِفُ قرونًا في ظلِّ الإسلام، يُولَد أحدُهم في بلاد المسلمين على ملَّته ويموتُ عليها، لم يُجبِره أحدٌ أن يُغيِّر دينَه ومُعتقَدَه؛ فلماذا ثارَت هذه النَّعَراتُ في هذا التوقيت بالذات؟ ولماذا يخدِمُ دهماءُ الناس وبُسطاؤُهم تجَّار الفتنِ من حيث لا يشعُرون؟
اللهم جنِّبنا والمسلمين شرَّ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن.
اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفَعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.



 

 

   

رد مع اقتباس