عرض مشاركة واحدة
قديم 11-08-2011, 10:32 PM   رقم المشاركة : 54
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

حُجَّاج بيت الله الحرام:
لقد أصبحتم في هذا اليوم في عيدٍ مبارك؛ عيد الأضحى، يوم القَرابين، يوم الحج الأكبر، يوم قضاء التَّفَث والوفاء بالنُّذور والطواف بالبيت العتيق، إنه يومُ الفرح بالاستجابة لدعوة الخليل - عليه السلام -: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج: 27- 29].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون:
لقد شرعَ الله لنا في هذا اليوم المُبارَك ذبحَ الأضاحِي تقرُّبًا لله؛ إذ من أفضل أعمال ابن آدم يوم النحر إراقة دم الهَدي والأضاحي تقرُّبًا وزُلفَى للخالق - سبحانه -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
إنها سُنَّةُ أبينا إبراهيم المُؤكَّدة، ويُكرَهُ تركُها لمن قدِرَ عليها، كما أن ذبحَها أفضلُ من التصدُّق بثمنها، وتُجزِئُ الشاةُ عن واحدٍ، ولا بأس أن يُشرِكَ معه أهلَ بيته، وتُجزئُ البدَنة والبقرة عن سبعة.
ثم إنه يجبُ على المُضحِّي أن يُراعِي شروطَ الأُضحية الثلاثة:
فأولها: أن تبلغَ الأضحيةُ السنَّ المُعتبَرُ شرعًا، وهو: خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنةٌ كاملةٌ في المعز، وستةُ أشهرٍ في الضأن.
والشرطُ الثاني: أن تكون الأُضحية سالمةً من العيوب التي نهي عنها الشارع، وهي أربعة عيوب: العرجاء التي لا تُعانقُ الصحيحةَ في المشي، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، والعوراءُ البيِّنُ عورُها، والعَجفاءُ وهي الهَزيلةُ التي لا مُخَّ فيها، وكلما كانت الأُضحيةُ أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل.
والشرطُ الثالثُ: أن تقعَ الأُضحية في الوقت المُحدَّد، وهو الفراغُ من صلاة العيد، وينتهي بغروبِ اليوم الثالث بعد العيد، فصارت الأيامُ أربعةً.
ثم ليرفِق الجميعُ بالبَهيمة: «وليُرِح أحدُكم ذبيحَته، وليُحِدَّ شفرَتَه؛ فإن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيءٍ» حتى في ذبح البهيمة، ثم ليُسمِّي أحدُكم عند ذبحها؛ لأن الله يقول: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ[الأنعام: 121].
ويُستحبُّ للمُضحِّي أن يأكل منها، ويُهدِي ويتصدَّق، ولا يُعطِي الجزَّارَ أُجرتَه منها.
فضحُّوا واهدُوا، تقبَّل الله ضحاياكم وهداياكم.

ضحُّوا فإن لحُومَها ودماءَها
سينالُها التقوى بلا نُقصانِ
العيدُ أَضحى فالدماءُ رخيصةٌ
مُهراقةً للواحد الديَّانِ
هي سنةٌ بعد الذبيحِ وإنها
من خير ما يُهدَى من القُربانِ
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.


حُجَّاج بيت الله الحرام:
إن هذا البيت العتيق الذي رفعَ قواعدَه إبراهيمُ وابنُه إسماعيل - عليهما السلام - لم يُبنَ إلا بالتوحيد ولأجل التوحيد ولأهل التوحيد، تتعاقبُ الأجيالُ على حجِّه، ويتنافسُ المسلمون في بُلوغ رِحابِه، وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[الحج: 26].
ولقد بعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سنة تسعٍ من الهجرة مع أبي بكر - رضي الله عنه - من يُنادِي بالناس: ألا يطوفَ بالبيت عُريان، وألا يحُجَّ بعد العام مُشرِكٌ؛ رواه البخاري ومسلم.
فالحجُّ - عباد الله - أمارةٌ تدعو إلى التوحيد؛ فاجتماعُ الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسِهم ليُوحِي إليهم أنه ينبغي للمسلم ألا يعبُدَ إلا الله ولا يلجأ إلا إلى الله في خوفه ورجائه وذبحِه ونذرِه ورغبته ورهبَته، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج: 31، 32].
إن المؤمن المُوحِّد ليشعُر من أعماق قلبه أن ما دون الله هَباء، ويستحيلُ عنده أن يُغلَبَ اللهُ على أمره أو أن يُقطَع شيءٌ دونه؛ إذ التعلُّق بغير الله عجزٌ، والتطلُّع إلى سواه ضلالٌ وحُمقٌ.
وإن مما يُؤسِف أشدَّ الأسف: ما يقع فيه بعضُ أهل الغفلة ممن لم يُلامِس التوحيدُ شِغافَ قلوبهم، فادَّعوا علمَ ما لم يعلَموا، ولجئوا إلى غير الله، وخاضُوا في أمور الغيب، فاستحكمَت لديهم الشعوذةُ والكِهانة وما يُسمَّى: تحضيرَ الأرواح وقراءة الكفِّ والفنجان، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ[الطور: 41]، قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ[النمل: 65].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.


حُجَّاج بيت الله الحرام:
في الحجِّ تتجلَّى صورةٌ عُظمى وسمةٌ جُلَّى هي نبراسٌ للأمة إن أرادت الهداية وصحةَ العمل بعد الإخلاص لله تعالى، ألا وهي: متابعةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلكم من خلال قوله - صلوات الله وسلامه عليه - في حجَّة الوداع: «خُذوا عنِّي مناسِكَكم»، ليُؤكِّد لنا - صلوات الله وسلامه عليه - أن خيرَ الهدي هديُه - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لا هديَ أحسنُ من هديِه، ولا طريقَ أقومُ من طريقه، وهيهات هيهات أن يأتي الخلَفُ في أعقاب الزمن بخيرٍ مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح في عصور النور.
فإن من غُربة الدين: أن تلتصِقَ به المُحدَثات التي هي تشويهٌ لجمال الدين، وطمسٌ لمعالم السُّنَن، ومكانةٌ السنة بين هذه المُحدَثات أنها دعوةُ كمال، فكلما تردَّد الإنسان بين طريقين دعَتْه السنةُ إلى خيرهما، وإن تردَّد العقلُ بين حقٍّ وباطلٍ دعَته السنةُ إلى الحق.
وبهذا يُعلَم أن دعوةَ السنةِ إنما هي لأصعبِ الطريقين وأشقِّ الأمرَين بالنسبة لأهواء البشر، وسببُ ذلك - عباد الله - هو: أن الانحدارَ مع الهوى سهلٌ يسيرٌ، ولكن الصعودَ إلى العلو صعبٌ وشاقٌّ، وإن الماء ليَنزِلُ وحدَه حتى يستقرَّ في قَرَارة الوادي، ولكنه لا يصعَد بالعلو إلا بالجُهد والمضخَّات.
وما فائدةُ العقل بلا سُنَّةٍ ولا هديٍ من الله؟!
فها هو - صلوات الله وسلامه عليه - أكملُ الناس عقلاً بلا نزاع، ومع ذلك قال عنه ربُّه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ[الشورى: 52، 53].
ثم إن المُحدَثات سريعةُ الانتشار، تستلفِتُ أنظارَ الدَّهماء فيعمَدونها الذين لا يُبصِرون، ويصمُّوا عنها الذين هم عن السمعِ معزولون؛ فالمُحدَثات طوفانٌ مُغرِق، والسُّنَّةُ الصحيحةُ سفينةُ نوح؛ من ركِبَها نجا، ومن تركها غرِق ولَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ[هود: 43].
وإننا حينما نتحدَّث عن البِدَع فإننا نعنيها بأوسَع مفاهيمها، وهي: كل ما خالفَ هديَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في العبادات والمعاملات والأخلاق والمسؤوليات والواجبات والحُقوق والثقافة والفِكر، ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - صلوات الله وسلامه عليه -؛ حيث قال: «إنه من يعِش منكم فسيرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذ، وإياكم ومُحدثَات الأُمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة»؛ رواه أبو داود والترمذي.
ألا فليُعلَم أنه لا يمكن أن يأتي مبدأ أو فِكرٌ يُقرِّرُ العدلَ والمُساواة وحفظَ الحقوق والواجبات ورعايةَ الأُمَم أفرادًا وأُسرًا ومُجتمعات بمثل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن ما جاء به إنما هو من عند حكَمٍ عدلٍ برٍّ رحيمٍ يُريدُ بعباده اليُسْرَ ولا يُريدُ بهم العُسرَ، خلقَ الخلقَ وهو أعلمُ بما يصلُحُ لهم في دينهم ومعاشِهم وآخرتهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: 216].
ولهذا كان آخر ما أوصى به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّتَه في حجَّة الوداع أن قال لهم: «وإنِّي قد تركتُ فيكم ما لن تضِلُّوا بعدي إن اعتصمتُم به: كتابَ الله، وأنتم مسؤولون عني؛ فما أنتم قائِلون؟!». قالوا: نشهَد أنك قد بلَّغتَ رسالاتِ ربِّك، وأدَّيت، ونصحتَ لأمَّتك، وقضيتَ الذي عليك. فقال بأُصبعه السبَّابة يرفعها إلى السماء وينكُتُها إلى الناس: «اللهم اشهَد، اللهم اشهَد»؛ رواه البيهقي وابن ماجه.
قال سفيان الثوري - رحمه الله -: "من ابتدعَ في الإسلامِ بدعةً يراها حسنةً فقد زعمَ أن محمدًا خانَ الرسالة؛ لأن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3]".
ولقد اتفق أئمةُ التفسير أن هذه الآية نزلت في حجَّة الوداع، وإنها لآيةٌ عظيمة ومنَّةٌ كريمة أن أتمَّ الله على عباده نعمةَ الدين، ورضِيَ لهم الإسلامَ دينًا، فبذلك فلنفرَح هو خيرٌ مما نجمَع.
وإنه لعيبٌ على كل مسلمٍ أن يُدرِكَ غيرُ المسلمين معنى هذه الآية وأثرَها على النفس أكثر مما يُدرِكُه بعضُ من ينتسِبون إلى الإسلام على حين غفلةٍ من العلم والفقهِ في الدين؛ ففي "الصحيحين" عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آيةٌ في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: "أيّ آية؟". قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3]. قال عمر: "قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائمٌ بعرفة يوم الجُمعة".
أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[يونس: 35].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله الحرام:
الأمةُ المُسلمةُ المُتميِّزةُ هي تلكم الأمة التي تتحقَّقُ لها ضرُورياتُها وحاجاتها وتحسينياتُها تحت ظلٍّ وارِفٍ من الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولاً، وهي بمثل ذلك لا يُقوِّضُ بُنيانَها أزمةٌ، ولا يُعكِّرُ صفوَها ضيقٌ، ولا تُفترسُ يومًا تحت نابِ سبُعٍ عادٍ، أو تُجرَح بمخالبِ باغٍ مُتوحِّش.
كلا لا يمكن أن يكون ذلك لأمةٍ شاعَت بين ذوِيها روحُ الإخاء والعدل والإنصاف والإيثار والشَّفَقة والتواضُع لله ثم لخلقه، وإنما يقعُ في مثل ذلكم أممٌ تدثَّرَت بالصَّلَف والكبرياء والبُعد عن وحيِ الله، تستنشِقُ البغيَ والهوى والظلمَ والأنانية لتمثُلَ أمام حاضرٍ كريهٍ ومُستقبلٍ مُقلِق، فيسبِقُها خصمُها إلى إذلالها وكبتِ حُريَّتها التي اكتسبَتها من قُربها من خالقها ومولاها.
ألا إن من رأى واقع الأمة المسلمة اليوم فإنه سيرى بعين رأسه أن ذوِيها أفخَرُ ملبسًا، وأجسَمُ مطعمًا، وأرفهُ مركبًا عن ذي قبل، ولكن من يرى بعين فِكره ولُبِّه فسيرى كثيرًا منهم أقلَّ في الخصائص الروحانية أو أضعفَ وازعًا وأكثر شهواتٍ وشُبُهات، والذي من أجله كثُرت آلامُها ونُكِئَت جِراحُها، فصارَت تُعالِجُ غليانًا وهيجانًا تلعبُ به الريحُ ذات اليمين وذات الشمال، وهي تتلقَّى اللَّكَمات والوَكَزات في صياصِيها أو قريبًا من دارها، فلا تكادُ تُسيغُ ما يجري، ويأتيها الموتُ من كل مكان وما هي بميتةٌ - بإذن الله -.
والحقيقةُ أن هذا كلَّه لم يكن بِدعًا من الأمر ولا كان طَفرةً دون مُقدِّمات، إنما هو نتيجةُ ثُقوبٍ وشُرُوخٍ في سِياجِ الأمةِ الشَّامِخ تراكَمت على حين غفلةٍ من ترميمه وصيانتِه وتعهُّد احتياجات هذا السِّياجِ المَنيع، فادلهمَّت الخُطوب، وترادَفَت حلقاتُها حتى صارَت كل فتنةٍ تقول للأخرى: أختي أختي.
وقد لا يكون ذلكم مُستغربًا عقلاً وواقعًا؛ لأن النسيمَ لا يهُبُّ عليلاً على الدوام، ولكن المُستغرَب أن تضعَ الأمةُ كل علامات الاستفهام في مسامِعِها حينًا بعد آخر ثم لا تُلامِسُ تلكم الاستفهامات مظانَّ الأدواء، فيقعُ التطبُّبُ المذموم، وتُشحَذُ الهمَّة على إخراج الشوكة في حين إن الروحَ تُغرغِر، أو كمن يستطِبُّ زُكامًا لمن به جُذام، حتى يبيتَ الأمرُ من الخُطورة بمكانٍ بحيث يُوجِبُ البحثَ الحقيقيَّ عن الداء والأسبابِ المُفضِيَةِ إلى تلك التراكُمات والتَّدَاعيات التي تؤُزُّ المُجتمعات أزًّا شاءَت هي أم أبَت؛ لأن من البديهي أنه إذا عُرِف السبب بطل العجَب، وإذا أُحسِن التشخيصُ أُحسِن العلاج، فقد يكون السببُ تربويًّا أو اقتصاديًّا أو ثقافيًّا أو إعلاميًّا أو سياسيًّا، وأيًّا كان من ذلكم فإن لكل داءٍ دواءً، ولكل علَّةٍ شِفاءً.
وعندما يقعُ التقصيرُ في التداوي فإن المرض ما منه بُدٌّ، وما هو إلا كشفُ الإناء لكل لاعبٍ والِغٍ، ثم هي الفوضَى في الوِرْد والصدر، وعندئذٍ لا بُدَّ من تجرُّع النتيجة المُرَّة مأم
على شَرَق.
ومن مثلِ هذا يعرفُ العُقلاءُ قيمةَ التواصِي والاجتماع والوِحدة ونبذ الفُرقة؛ فدينُ الإسلام جامِعُنا، ومن أتانا في اجتماعنا فقد أتانا في ديننا، ومن أتانا في ديننا فقد أتانا في اجتماعنا.
ولقد حثَّنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أن نحذَرَ كلَّ عدوٍّ لنا وأن نتَّقِيَه ما استطعنا؛ كيف لا وقد علَّمنا - صلوات الله وسلامه عليه - أن عدوَّ ديننا عدوٌّ لنا كائنًا ما كان؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «اقتُلوا الوَزَغ؛ فإنه كان ينفُخُ على إبراهيم - عليه السلام - النار»؛ رواه أحمد، وأصلُه في "الصحيحين".
هكذا حذَّرَنا - صلوات الله وسلامه عليه - من أعدائنا حتى ولو كانوا حشراتٍ صغيرةً كالأوزاغ؛ بل إنه لم يُرتِّب أجرًا في قتل حشرةٍ أو دابَّةٍ كما رتَّب ذلك في قتل الوَزَغ، كماء عند مسلمٍ وغيره.
فإذا أردنا التغيُّر للأحسن والأكمل فلنتدبَّر قولَ الله: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ[الرعد: 11].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
إن الأمةَ المسلمةَ إذا أرادت الاستقرار الأمنيَّ والأخلاقيَّ والسياسيَّ والإعلاميَّ فيجبُ عليها أن تكون صريحةً مع نفسها، مُعترِفةً بأخطائها، عازمةً على المُضِيِّ قُدُمًا في كل ما من شأنه سدُّ ثُلمتِها ولمُّ شعَثِها واجتماعُ فُرقتها، ولن يكون ذلكم دون وُضوح، كما أنه لن يتم من خلال مبدأ الانتقائية، أو مبدأ القائل: أصمُّ عن الأمرِ الذي لا أريدُه، وأسمعُ خلقَ الله حين أشاءُ.
لأن مثل هذا المبدأ يُؤخِّر يوم الاستقرار ولا يُقدِّمُه، أو يقودُ إلى الغرق في بحرٍ لُجِّيٍّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ م فوقه سحابٌ من الفتن المُتلاطِمة التي تُعيقُ عجلَةَ التصحيح إن لم تئِدها برُمَّتها.
ألا وإن مصدر محَن أمة الإسلام من داخلها أشدُّ خطرًا من عدوِّها؛ لأن العدوَّ واحدٌ بخلاف الأصدقاء وبني المُجتمع فليسوا في البرِّ سواء، ولا يُدرِك عمقَ هذا إلا من وهبَه الله معرفةَ لحنِ القول الذي ينخُرُ في جسَد الأمة وله وقعٌ في نفسها أشدُّ من وقع سِهام عدوِّها، والنوائبُ والمُدلهِمَّات هي التي تُقرِّرُ العدوَّ من الصديق، لتُدهَشَ الأمةُ حينما تجِدُ اللسانَ لسانَهم، والفُؤادَ تُجاهَ عدوِّهم، الجسدُ مُخالط والقلبُ مُفارِق.
وأمثالُ هؤلاء لا يُكشَفون إلا في الأزمَات، أمثالُهم سببُ الفُرقة حالَ الرغبة في الاجتماع، وهم سببُ الفُتوق حال استِجلابِ الرُّتُوق، ولقد أحسن من قال:
وكان بنو عمِّي يقولون: مرحبًا
فلما رأوني مُعسِرًا ما تمرحَبوا
أمثالُ هؤلاء هم الذين حذَّرَنا منهم من حجَّت هذه الملايين اقتداءً به واتباعًا لسنته - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث جاء عنه عند البخاري ومسلم: قوله عن فتن آخر الزمان، وقد سأله حُذيفة بن اليمان قائلاً: وهل بعد ذلك الخير من شرٍّ؟ قال: «نعم، دُعاةٌ على أبوابِ جهنَّم، من أجابَهم إليها قذفُوه فيها». قال: يا رسول الله! صِفهم لنا. قال: «هم من بني جِلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا ..» الحديث.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.



 

 

   

رد مع اقتباس