عرض مشاركة واحدة
قديم 11-21-2011, 03:00 PM   رقم المشاركة : 59

 

ثبات الإسلام واستقراره
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 22/12/1432هـ بعنوان: "ثبات الإسلام واستقراره"، والتي تحدَّث فيها عن دين الإسلام ومدى ثبات مبادئه ورُسوخ معالمه، مُقارنةً بواقع من لم يتمسَّك به ولم ينتهِج مناهجه، وذكَّر في ثنايا خطبته بما أفسدَ دين الإسلام؛ من السحر والكهانة، والغلو والتطرُّف، وغير ذلك.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي أتمَّ على عباده حجَّ بيته الحرام، ويسَّر لهم السعيَ في ربوعٍ درَجَ فيها الأنبياءُ - عليهم السلام -، فتلك عرفاتُ ومِنَى وهذا زمزمُ وذاك المقام، معالمُ للإسلام، ورُسومٌ لأنبياءٍ وأديان غبَرَت بها السنُونُ والأيام، وبقِيَت معالمُ تُذكِّرُ اللاحِقَ بالسابقِ من الأنام، استحضارٌ للأزمِنة، واستِنطاقٌ للأمكِنة بما مرَّ على ثَرَاها من أنبياء، وبما أُنزِلَت على جبالها من سُوَر، وأُرسِيَت عقائد، وشُرِع على سُفُوحها من شرائع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله ختمَ الله به النبوَّات فنِعمَ الخِتام، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أما بعد، أيها المسلمون:
حجَّاج بيت الله الحرام! في هذه الحياة نُظُمٌ ومناهجُ وأفكار، وبناياتٌ سامِقةٌ تراها كأعالي الأشجار، وحين تهبُّ الرياحُ العواصِف وتثورُ الزلازلُ القواصِف تنهارُ الصورُ الزائفة، وتسقُطُ البناياتُ المُشيَّدة وينكشِفُ عيبُها وخلَلُها.
والمُتأمِّلُ اليوم يرى تسارُعًا في انهياراتٍ مُتعدِّدة؛ في المال والاقتصاد، والحكم والسياسة، والأفكار والمناهج، ويرى حيرةً كُبرى لأرباب المال، ودهاقِنة السياسات، ثم يلتفِت فيرى بناءَ الإسلام ثابتًا مُستقرًّا، أصلُه ثابتٌ وفرعُه في السماء.
حين تتأمَّل مبادئ الإسلام في كل الجوانب ترى قِيَمًا راسِخَة البُنيان، عصيَّةً على الذوَبان؛ في العقيدة والفِكر، والعبادة والتشريع، والأخلاقِ والسلوك، صالحةً لكل زمانٍ ومكان، وهو تأمُّلٌ يجبُ على المسلم أن يتذكَّر فيه فضلَ الله عليه، ويستشعِرَ قيمةَ دينه وإنعامَ الله به عليه.
أيها المسلم:
لم يُنعِم اللهُ عليه نعمةً هي أوفَى ولا أمنَّ ولا أسبغَ من كونك مُسلمًا لله مع المسلمين، لا تسجُد لشجرٍ أو حجر، ولا تذِلُّ لحيوانٍ أو جمادٍ أو بشر، ولا تعبدُ غيرَ الله، فاهنأ بإسلامك، وانعَم بإيمانك؛ فقد هداك الله يوم ضلَّ غيرُك، وأرشدَك حين تاهَ سِواك، وأعِد التأمُّل والمراجَعة مُستمسِكًا بأساس دينك وقاعدة إيمانك، عارِفًا فضلَ إسلامك وعاقبةَ توحيدك، مُستبشِرًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمُعاذٍ - رضي الله عنه -: «ما من أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صِدقًا من قلبه إلا حرَّمَه الله على النار»؛ رواه البخاري.
وعنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخل الجنة»؛ رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون:
ولهذا التوحيد معالمُ رسمَها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوضحَ أعلامَها، ولهذه البُشرى شواهِدُ بيَّنها وأرسَى أركانَها، حريٌّ بالمُسلم أن يستمسِكَ بغَرزِها، وأن يحذَرَ التفريق حتى لا يحبَطَ عملُه، أو يضِلَّ سعيُه؛ فكم من تائهٍ وهو لا يدري، وكم من ضالٍّ يظنُّ أنه مُهتدِي؟!
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن معاذًا - رضي الله عنه - قال: بعَثَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أن الله افترضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أن اللهَ افترضَ عليهم صدقةً تُؤخَذُ من أغنيائهم فتُردُّ في فُقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياكَ وكرائم أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حِجابٌ»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
لقد جعلَ أصولَ الإيمان: التوحيدَ، ثم الصلاةَ، ثم الزكاةَ، ثم حِفظَ الحقوق ومبدأ العدل المُطلق.
أيها المسلمون:
لقد كرَّم الله الإنسان، وشرعَ له ما يربَأُ به عن الخُرافات أو التعلُّق بالأوهام، وجعله حُرًّا لا يتعلَّقُ إلا بالله خالِقِه، وجعل التعلُّق بغير الله يُنافِي التوحيدَ اعتقادًا وعملاً؛ فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لعنَ الله من ذبحَ لغير الله، ولعنَ الله من آوَى مُحدِثًا، ولعنَ الله من لعنَ والديْه، ولعنَ الله من غيَّر منارَ الأرض»؛ رواه مسلم.
كما حذَّرَ من النذر لغير الله، وجعله من عمل المُشرِكين؛ قال الله تعالى في كتابه المُبين: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ[الأنعام: 136].
ومن معالم هذا التوحيد: الاستعاذةُ والاستجارةُ بالله وحده دون سِواه؛ قال - سبحانه -: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا[الجن: 6].
ومن محاسن الدين القَويم: أن المسلمَ لا يدعو ولا يرجُو إلا الله، فليس بين المسلم وبين ربِّه وسائط؛ قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً[الأعراف: 55]، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[غافر: 60].
فسمَّى الدعاءَ عبادة، وأمرَ رسولَه بإخلاصه له، فقال: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي[الزمر: 14]، وقال: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[يونس: 106، 107]، وقال - سبحانه - لمن دعا غيرَه: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[العنكبوت: 17]، وقال - سبحانه -: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ[الأحقاف: 5].
بل سمَّى اللهُ دعاءَ غيره شِركًا؛ قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر: 13، 14].
عباد الله:
إن مما أفسدَ الدين وحرفَ التديُّن: الغلوُّ والتنطُّع، والمُبالغةُ بغير علم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنما أهلكَ من كان قبلَكم الغلوُّ في الدين»؛ أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة بإسنادٍ صحيحٍ. ولمُسلمٍ: «هلكَ المُتنطِّعون». قالها ثلاثًا.
والله تعالى يقول: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ[النساء: 171].
ومن الغلوِّ: الغلوُّ في تعظيم الأولياء والصالحين أو تعظيم آثارهم، وقد حذَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، فقال: «لا تُطرُوني كما أطرَت النصارَى ابنَ مريم؛ فإنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ الله ورسولُه»؛ رواه البخاري.
وعن شقيقٍ عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن من شِرارِ الناسِ: من تُدرِكُه الساعةُ وهم أحياء، ومن يتَّخِذُ القبورَ مساجد»؛ رواه الإمامُ أحمد.
عباد الله:
دينُ الإسلام كلُّه حسنٌ، وما نهى اللهُ عن شيءٍ إلا لضرره على الأفراد والمُجتمعات مما يُبطِلُ الإيمانَ ويُوبِقُ الإنسان؛ كالسحر وإتيان الكُهَّان؛ قال الله تعالى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[طه: 69]، وقال: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ[البقرة: 102]، وقال - سبحانه -: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ[البقرة: 102].
وكم تعلَّق بهذه الأوهام أُناسٌ أضاعوا دينَهم ودُنياهم، وانحدَرَت عقولُهم إلى درَكٍ من الخُرافات جعلوها دينًا ومنهجًا. فالحمدُ لله الذي كرَّمَنا بالإسلام.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنِبوا السبعَ المُوبِقات». قالوا: يا رسولَ الله! وما هنَّ؟ قال: «الشركُ بالله، والسحرُ، وقتلُ النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكلُ الربا، وأكلُ مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذفُ المُحصنات الغافلات»؛ رواه البخاري ومسلم.
وعند مسلمٍ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى عرَّافًا فسألَه عن شيءٍ لم تُقبَل له صلاةٌ أربعين ليلة». وعند أبي داود: «من أتى كاهِنًا فصدَّقَه بما يقول فقد برِئَ مما أُنزِل على محمد».
أيها المسلمون:
ومن معالم الدين الحِسان: الارتقاءُ بالمحبة والعواطِف والولاء والتناصُر في وقتٍ سفُلَت بأهل الدنيا مبادئهُم، فأصبحَت المحبَّةُ والمُوالاةُ لأجل الدنيا ومصالحها؛ عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سِواهُما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكرَه أن يعودَ في الكفر كما يكرَهُ أن يُقذَفَ في النار»؛ رواه البخاري ومسلم.

أيها المسلمون:
الدينُ دينُ الله والشرعُ شرعُه، والواجبُ على من بلغَه كلامُ الله وسنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتبَعَ الحقَّ ويطرَحَ ما سِواه، ولا يتركَ القرآنَ والسنةَ لقول أحدٍ مهما كان، واللهُ تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور: 63].
وقد ذمَّ الله الذين أطاعوا أشياخَهم في مُخالفة أمر الله ورسوله، فقال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ[التوبة: 31].
قال عديُّ بن حاتم - رضي الله عنه -: لما سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية، قلتُ: يا رسولَ الله! إنا لسنا نعبُدهم. قال: «أليس يُحرِّمون ما أحلَّ الله فتُحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرَّم الله فتُحِلُّونه؟». فقلتُ: بلى. قال: «فتلك عبادتُهم»؛ أخرجه الإمام أحمد، والترمذي.
اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

 

 

   

رد مع اقتباس