67 .. من ذاكرة طفل ( 1 )
في ذلك الوقت لم يكن عمري بالكاد يتجاوز 7 سنوات. لم اكن ادري لماذا يطلون زجاج النوافذ بالدهان الازرق؟.
وايضا لم اكن ادري لماذا يشيدون اسوار من الطوب تتوسطها طبقة رملية امام مداخل المنازل؟.
لكن الشئ الوحيد الذي كنت اعرفه واسعد به ان ابي قد عاد من الجزائر بعد مهمة عسكرية له فيها غيبته عنا سنتين منذ يوم واحد فقط.
كان ذلك مع نهاية شهر مايو لسنة 1967 لكن فجأة وبدون مقدمات ارتدى ابي حلته العسكرية ذات النجوم الثلاث واغلق باب الشقة خلفه لنسأل امنا لماذا ابينا تركنا وذهب للجيش ولم يجلس معنا اجازته كما اخبرنا امس وكانت اجابة امي : عشان فيه حرب
المره الاولي التي اسمع كلمة حرب وادرك ان للحرب معني داخل قلب الطفل الصغير اقربها غياب الاب وابعدها اننا جمعنا خزين لم نعتاد عليه من الارز والسكر والزيت في المطخ.
وبعد ايام قليلة تنطلق صافرات الانذار في الاجواء ولاننا كنا نقطن في الطابق الرابع كان علي امي ان تحمل اخي الصغير الذي لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات بيد واليد الاخري تقبض علي يدي بقوة مهرولة درجات السلم واختي التي تكبرني تلاحقنا الي اسفل.
كان كل سكان العمارة من الطوابق العليا يجتمعون الي شقة جارة طيبة بالطابق الارضي الوحيدة التي فتحت شقتها لا ستقبال قاطني الادوار العليا من العمارة بدلا من مشقة الذهاب الي الخندق القريب.
كل الحضور كانوا من النساء والاطفال. الكل يفترشون ارض الصالة. الصمت سيد الموقف الا من بكاء بعض الاطفال الصغار والانوار مطفأة والاذان تستشوق سماع صافرة الامان ليعود كل الي شقته.
وتستمر بنا الساعات وتطول بنا الدقائق بين هذا احشد من النساء والاطفال الي ان تنطلق صافرات الامان وكان المحكوم عليه بالاعدام سمع حكم البراءة.
ويستمر صعودنا وهبوطنا في اليوم عدة مرات في الليل والنهار وانا لا ادري شئ سوي ان هناك حربا مع اسرائيل واننا سننتصر عليها وسنرميها في البحر كما اسمع من المذيع في جهاز الراديو (الترانزيستر فيليبس الذي احضره ابي معه في عودته من الجزائر) يردد وعشرات الطائرات الاسرائيلية التي كانت تسقطها قواتنا المسلحة الجاسورة كل ساعة (احمد سعيد في صوت العرب).
كانت تنتابني حالة من النشوة والزهو فيما نسمعه بما يدور علي ارض المعركة مثلي مثل اقراني ومن يكبرنا الي الخامسة عشرة لان من يتعدي ذلك السن من الذكور كان يلتحق قصرا بالقوات الشعبية والبنات كن يتدربن علي التمريض في المستشفيات.
وتأخذنا الحماسة ونحن نلهو في الشارع بما نسمع ونتابع ليهتف طفل يتقدمنا ونحن نردد من خلفه
حانحارب .. حانحارب .. اسرائيل الانارب
والانارب هذه جمع ارنب
ويمر اسبوع لتتوقف صافرات الانذار ويتوقف صعودنا وهبوطنا وتتلون وجوه الناس في الشارع بالقتامة والعبوس وقد توقف سقوط الطائرات الحربية الاسرائيلية في البيانات العسكرية التي كنا ننتظرها علي أحر من الجمر وقد ظننت ان الحرب قد انتهت واننا هزمنا اسرائيل شر هزيمة لذلك فتر حماسنا الطفولي في التظاهر في الشارع والهتاف.
وظننت ان قواتنا المسلحة الشجاعة قد رمت اسرائيل في البحر وان ابي سيعود الينا ليحكي كم من الجنود الاسرائلين قتلهم في ارض المعركة.
وتتأخر عودة ابي ويقتلنا الانتظار لنعيش مع امي حالة شديدة من التوتر والخوف الشديد اوقفت فطرتنا العفوية في اللعب الطفولي.
لم يكن لدينا احد من الاقارب من الدرجة الاولي في القاهرة حيث نقيم. فالأهل جميعا يقيمون بالقرية بوسط الدلتا ونحن الاسرة الوحيدة التي نزحت الي هنا.
كان لدينا اسرة مجاورة في الطابق الاسفل من العمارة مثلنا بالضبط. ابوهم ضابط بالجيش وقد غاب قبل بداية الحرب باسبوع ولم يعد. ذلك ماكان يعطي امي قليل من الصبر والامل.
كنا نجتمع امام التليفزيون الابيض والاسود ننتظرنشرات الاخبار عبر ساعات بثه القليلة نبحث عن اي شئ بعد ان تشاءمنا من سماع البيانات العسكرية في الراديو.
ويخرج الينا عبد الناصر في تلك الليلة المشؤمة ليعلن الهزيمة وتنحيه. ويبكي كل النساء ويبكي معهم كل الاطفال غير ان بكاءنا مع امي كان بكاءا حارا لاننا نبكي ابانا الذي لم يعد بعد ولا نعلم عنه شيئا.
كنت اتسلل الي الشارع العام الذي يبعد عن العمارة التي نقيم بها بامتار قليلة عندما كانت ترسلني امي الي محل البقالة لشراء بعض الاغراض لاري حشود من البشر في مجموعات يحملون يافتات قماشية ويرددون هتافات تنادي بعودة الزعيم الملهم الذي تنحي والذي لن نستطيع الحياة بدونه.
كنت اندس بين المتظاهرين لخطوات قليلة حيث سيواصلون طريقهم الي القصر الجمهوري الذي يبعد عنا لمسافة كيلو واحد لاعود مهرولا الي امي حتي لا تستأخرني.
اشياء كثيرة كانت تحدث وكنت لا افهمها ولا استوعبها لكن الشئ الوحيد الي كنت ادركه تمام الادراك ان ابي غاب عنا وقد لا يعود هكذا استشعرت من دموع امي المتواصلة والتي كانت تحاول ان تخفيها عنا غير ان شجاعتها كانت تخونها مع سؤال اخي الصغير الدائم اليها والمتكرر: امتي بابا بيرجع ياماما.
للذاكرة بقية ان شاء الله