عرض مشاركة واحدة
قديم 09-07-2012, 10:01 PM   رقم المشاركة : 78
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 13
غامداوي is on a distinguished road


 

67 .. من ذاكرة طفل ( 4 )


قرابة الشهر كان علي بداية الحرب ونحن في انتظار انتقال أبينا المصاب من السويس إلي القاهرة وقد صارت شقتنا شبه ثكنة عسكرية بتوافد جدتي لأبي واثنان من عماتي بالإضافة لجدي لامي. وقد كان لوجود هذا العدد من النزلاء لدينا عبئا ثقيلا عليّ وقد كانت مهمتي هي شراء كل الحاجيات من محلات البقالة وافران الخبز ويصير هبوط الدرج وصعوده من الطابق الرابع حيث نسكن مهمة شاقه عليّ أن أتحملها في اليوم عدة مرات بالإضافة لمعاناة الوقوف في طوابير للحصول علي الخبز مابين تزاحم وتدافع وفي كثير من الأحوال تلاسن وعراك.

صارت الطوابير ظاهرة علينا أن نتحملها في الحصول علي المواد الغذائية. فطابور الخبز لم يكن هو الطابور الأوحد وقد تحولت المجمعات الاستهلاكية الحكومية لساحات من التزاحم والتدافع للحصول عل كيلو سكر أو لتر من الزيت عندما تأتي إليها شحنة يسيرة من تلك الأصناف التي تتبخر في أقل من ساعة والكثير يعود بخفي حنين وقد فشل في الحصول علي شئ.

والمجمعات الاستهلاكية هذه عبارة عن متاجر حكومية للسلع الغذائية لم نكن من قبل الحرب نقترب إليها لكن بعد الحرب ومع غياب معظم السلع الأساسية من متاجر البقالة صارت هي الملاذ الأوحد للحصول علي هذه السلع الضرورية حتى أن الكثير كان يقضي الساعات في انتظار وصول الشاحنة الصغيرة بأي من تلك الممنوعات الغذائية.

كانت هناك حالة من الضجر والضيق صارت الي هؤلاء الناس الحاشدة وهي تعاني من اجل الحصول علي اليسير والقليل من المواد الغذائية.

صار الناس يتكلمون بما كانوا يخافون منه ويرتعدون من قبل وقد كان يسودهم من قبل الحرب والهزيمة الرعب من آذان الجدران ( الحيطه لها ودان).

وكان آذان الجدران هذه قد صمّت أو أنها صارت تهتم بما هو أهم من ذلك أو الناس أنفسهم سقط عنهم قيود الخوف والرعب.

وجود هذا الحشد من الأهل لدينا اذهب عنّا أحاسيس الوحشة والضعف التي كنا نعاني منها الأيام السابقة لذلك خاصة أيام الحرب الخمس والاسبوع الذي تلاه . ولم يخلو الأمر من مواقف طريفة واحدي عماتي كانت المرة الأولي لها في حياتها تغادر فيها القرية لذلك كان تعاملها مع أدوات الحضارة التي لم تألفها من قبل ( التليفزيون .. الثلاجة .. والمسجل ) أمرا غير عاديا كان يحملنا علي الاسترسال في ضحكات طفولية بريئة غابت عنا مع بداية الإحداث التي سحقتنا غير ان زجر أمي لنا كان يوقفنا عن هذا الاسترسال خشية ان تضيق عمتنا من تلك الضحكات وهي تحاول البحث عن زر اطفاء مصباح الثلاجة قبل اغلاقها او او بتغطية التليفزيون بغطاءه القماشي لاطفاءه.

وبعد قليل من الأيام حمل الينا جدنا الخبر الذي كنا ننتظره منذ اسبوعين. ولان العدد كبير غير مسموح له بالزيارة كان علينا ان نكوّن فريقين وقد كنت انا واختي مع الفريق الذي سيذهب الي المستشفي في اليوم التالي.

كنا ننتظر عودة جدنا وجدتنا وامنا من المستشفي بفارغ الصبر كي يحدثوننا عن آبانا الذي استوحشناه وطال علينا غيابه. ساعات كانت في احاسيسها كالدهر الي ان دق جرس الباب ايذانا بعودة زائري المستشفي.

اسرعنا الي امنا نتلهف منها الاخبار والتي طمأنتنا فيها ان ابينا في خير لكنه ملازم الفراش ولا يستطيع التحرك لان طرفه السفلي مشدود في الجبس علي الفراش لوجود كسور متعددة في الفخذ.

كانت كلمات امي غير منسجمة مع بريق الدموع التي تملأ عيناها وصوتها الحزين لكننا حاولنا أن نقنع انفسنا بذلك .

وكان اليوم الثاني بعد العصر لنذهب مع جدنا وامنا لزيارة ابانا. مزيج من الخوف والرهبة والفرحة تملأ رأسي وانا اسرع بخطواتي خلفهما في طرقات المستشفي والتي لم تخلو من وجود أسرة عليها مرضي منهم من يخفي وجهه بلفافات القطن والشاش ومنهم من يضع يد او كلتا يديه في الجبس ومنهم من يخفي نصفه السفلي داخل قميص جبسي.

كانت حالة من الهرج وشبه الفوضي تسيطر علي المستشفي غير تلك الحالة التي كانت قبل سنة عندما أقمت بها ليلة بسبب كسر في عظام ساعدي.

كان ابي يرقد الي الفراش في نهاية الحجرة وفحذه وساقه اليمني داخل لفافات الجبس المشدودة الي البكرات الحديدية. وكان علينا ان نتقترب منه ونسلم عليه في حذر شديد حتي لا تهنز البكرات المشدود اليها ونزيد عليه الالم بآهات يحاول ان يكتمها عن اسماعنا.

كانت ملامح وجه أبي متغيرة كثيرا ولولا ان أمي وجدي استوقفونا الي فراشه ماكنا تعرفنا اليه فالجلد كاد ان يلتصق بعظام الوجه واللون شاحب مع سمرة شديدة لم نتعودها في وجهه.

لم يكن هناك مجال للحديث اليه وقد كانت حالته في اجهاد شديد ذلك ماجعل الممرضة تطلب الينا ان تنهي زيارتنا في عجالة بعد أقل من ربع ساعة.

ونحن امام بوابة الخروج من المستشفي كانت عربات نقل عديدة تقف متراصة تحمل الي صناديقها حشود هائلة من المصابين المكدسين بها يسرع العساكر في حملهم الي داخل بناء المستشفي.

عدنا الي البيت وصورة أبي علي الفراش تكاد لا تغيب عن مخيلتي وآهاته المكتومة ماثلة في اسماعي وغيره من عشرات المصابين الذين تزدحم بهم غرف المستشفي وطرقاتها والمصابين المكدسين في صناديق عربات النقل كما لو كان فيلما سينمائيا يعاد امامي عشرات المرات.

وتكررت زيارتنا لأبي المصاب مرات ومرات طيلة اقامته في المستشفي التي استمرت الي قرابة الشهر الي ان كان خروجه بجبس لساقه من اعلي الركبة الي منتصف القدم.

كان هناك لدينا احساس شديد ان هذا الرجل الذي عاد الي منزلنا ليس هو أبينا الذي نعرفه وتعودنا عليه. كانت هناك دواعي عديدة تحملنا الي هذا الاحساس.

الصمت الشديد والمتواصل الذي صار اليه حتي اننا كنا نظن في كثير من الأحيان انه فقد القدرة علي الحديث.

استغراقه الدائم في الشرود كما لوانه يغيب عنا بحواسه.

لذلك لم يكن لدينا فرصة لنسأله ويحكينا عما عاش به اثناء الحرب والأيام التي تلتها حتي اننا كلما حاولنا ان نسأله في ذلك كان صمته الشديد وكانت أمنا تزجرنا في ذلك كلما سمعت احدنا يسألنا في ذلك.

وتتوقف ذاكرتي عند ذلك مع صمت أبي قرابة الثلاث سنوات حيث تحسنت حالة أبي النفسية من الاكتئاب الشديد الذي اصابه واستمر العلاج فيه الي قرابة السنتين.

لتكون حكايات ابي عن الحرب في الجزء القادم من الذاكرة ان شاء الله.

 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس