عرض مشاركة واحدة
قديم 12-20-2012, 01:58 AM   رقم المشاركة : 10

 

كنت قد وعدت بقصة من خانة الذكريات الطفولية
وها أناذا أضعها بين ايدكم مع فائق تقديري لتجشمكم عناء قراءتها الطويلة




بيت صوّان


توطئة

على حين هبة حنين تراءى لي بيت صوان على بعد مسافة مابين نافذتي المتسلل منها شعاع شمس يومي
ومابين منضدتي التي تمتص الأشعة ولاتبقي لي منها خيطا أتدفأ به من صلف الذكريات
إنّه بيتنا القديم الذي شهد براءة طفولتي وطفولة أشقائي وشقيقاتي وبنات وابناء الجيران


-----------------------------------------

هناك حيث منحدرات أزقتنا المتعرجة والمعلقة في خاصرة جبل السيدة يربض بيتنا القديم
ذو الطراز المعماري الفريد والذي طارت بي الذاكرة على بساط من الحنين إليه
لأجد آثار اقدامي الصغيرة لاتزال هاربة إلى السطح خوفاً من عصى أمي أو ليّها الأحمر
عندما تبتل ثيابي جراء عبثي بماء الصنبور الذي أرش به السطح كيما يبترد
في عصاري الصيف الحارقة ومعي اخوتي الذين ينالهم نصيباً موفورا من ليّ أمي

آه ياتلك الشرفة الناتئة عن السطح كم كنت أطل منها على سطح جارتنا أم أنس
لأستمتع بشغف طفولي بمشاهدة حمائمها البيضاء تارة والمتعددة الألوان تارات
عندما تغادر أبراجها الخشبية محلقة اسراباً في فضاء الله الفسيح
هديلها التسبيح باسم رب الكون.

بينما أم أنس تشغل يديها بخيوط الحرير وابرة التريكو تصنع مفرشاً أبيضاً تزين به طرابيزات
مجلس الرجال قبل مجيئ العيد الكبير وهي والحالة تلك لاتفتأ تنهر ابناءها ليطووا فراش
نومهم ويرصوه تحت سقيفة خشبية .

تابعت تجوالي فوق سطح بيتنا ثم انثنيت نازلة إلى فنائه الرحب ابحلق في زواياه حيث
وجدت بيض الوزغ لايزال مكنوناً وبشتى الألوان الزّاهية في كل ركن من اسقف غرفه
ودهاليزه وصالونه ودورات مياهه العتيدة.

وأثناء تجوالي فتحت باباً قديما ذو اعمدة كالتاج تزينه من أعلى ، وولجت سرداباً مظلماً
إلا من لمبة سهاري قديمة ضغطت زرها الأسود برفق فكاد
يتفتت تحت اصبعي جراء تآكله ،
فأضاءت السرداب والسلّم الشديد الانحدار ، وعلى يساري تشع بسمة الفتى الابرص نايف
ولد جارتنا الوحيد لأمه وهو يرسم نصف وجهه بالفحم على جدار الخزان
أذكر أن نايفاً كان قد ترك وجهه تذكاراً لنا حين قرر السفر إلى الجنوب
برفقة والديه ليحضر العيد الكبير مع اقربائهم هناك ،
ووجدت أثراً لدموعي ودموع اشقائي ووالدتي في يوم وداع نايف وأمه وقد تحولت إلى حفنة ملح متكلسة براءتها مذ
ذاك ، فقدمت إليه اعتذاري ضمناً لضربي إيّاه بمنفضة الغبار في طفولتنا المشاكسة
عندما رفض اصطحابي معه لدكان العم محمد الحبشي لشراء الخبز قائلاً روحي وحدك.

هششت وجه نايف عني وتابعت نزولي بحذر شديد خوفاً من انزلاقي عبر السلم المنحدر
ولمّا وصلت نهايته بسلام مشيت في دهليز طويل وغير مسقوف وكانت مرجوحتنا
لاتزال معلقة تدولبها الرياح يمنة ويسرة مطوحة بها لتصطك بالجدار ثم تلتف حولها محدثة ضفيرة طويلة تنتهي بمقعدها الخشبي ثم تنفلت في دوران اشبه بالدوامة في يوم عاصف ، جلست عليها ثم نهضت على عجل خوفاً من أن تنقطع بي فجأة فقد أكل الزمن
وشرب عليها لكني ارهفت السمع لها بعض الوقت لتحك لي ماتراكم عليها من أيّام سعيدة
شهدتها معنا حيث سمعت ضحكاتنا ومشاكساتنا فيمن يركب عليها اليوم ومن
منا لم يركب بالأمس والدور عليه ورأيت أصابعنا الصغيرة متشبثة بحبالها البالية
وعلى مقعدها الخشبي بضع قطرات من دم كانت قد سالت من جبين شقيقي
عندما ارتطمت جبهته بالجدار المحاذي للمرجوحة ، فمررت أصابعي على تلكم القطرات المتفحمة
واستدبرتها إلى غرفة فيها رفوف كانت العناكب قد نسجت في اركانها بيوتها
الكثيفة بعناية المالك المستهم ببيته.

وعدت أدراجي صاعدة حيث الدور العلوية وصالة بيتنا الكبيرة ،
وبوّابتها الضخمة الرمادية اللون والمزيّنة بنقوش أرابيسكية جميلة مشرع بابها وأبي واقف على عتبتها حاملاً
بين يديه قراطيس الجبنة والزيتون وحلاوة أبو نار وكعكاً وشريكاً اعتاد جلبه ساخنا كل صبح أومساء بحسب طلبنا ،
فقبلته وتناولت مافي يديه ومضيت إلى المطبخ وتركت مقاضي
والدي على طاولة المطبخ فاسترع انتباهي مواء قطة سوداء كانت قد روعت والدي
عندما هجمت عليه في ليلة انقطع فيها الكهرباء ولمّا هممت بطردها ماءت وبرقت عيناها
الصفراوين واختفت فجأة .

ثم تابعت تجوالي حيث رجعت مرة أخرى إلى السطح لأنهي تطوافي ببيتنا
حيث حبل الغسيل لايزال مشدوداً وعلى كل جزء منه حكاية ملابس متعددة الأشكال
والأحجام والألوان ووجدت بصمة يدي أمي وتعبها يبلل جزئيات ذلكم الحبل المتهتك ذو
اللون الأزرق المترمد فرفعت رأسي للسماء الزرقاء متنهدة ثم ركبت بساط ذاكرتي
عائدة إلى مدائن وعيي الحاضر الذي لم يترك لنا من ماضينا سوى بساط الذاكرة
نمتطيه على حين هبة حنين ونسافر عليه إلى عوالم حياتنا الأولى
حيث مراتع طفولتنا في أزقتنا الجميلة بحلوها ومرها
شاهدة على ماض تولى كان يملأ سمع الزمان أٌنساً
وإنسانية أكثر رحمى