كذبة أبريل
ماتت أم عامر وهو ما يزال طفلا في التاسعة من عمره ، سرعان ما تزوج أبوه ، وحسب أن عامر لن يشقى بعد ذلك اليوم لأن أما أخرى حلت محل أمه ، ولم يعلم بأن ( الرياح تجري بما لا تشتهي السفن ) ، بعد سنة أنجبت زوجته ولدا ، فرح أيضا بالوافد الجديد ظنا منه أن عامر رزق بأنيس وسيملآن البيت حبورا .
باكرت النعمة الوليد فنشأ نشأة مرفهة يزيد وزنه بين الليل والنهار
أنشغلت الزوجة بابنها بل بدأت تؤثره على أخيه في كل شيء ، كان عامر يحس بهذا ، لاحظ والده ذلك ، وأوحى إليها بألا تفضل أحدهما على الآخر ، دبت كراهية عامر إليها وهي تحدث نفسها بأنه سيكون سببا في تعاسة بيتها وابنها ، وكثيرا ما تردد : ( ليت الله خذ عمرك مع أمك ) فشل والده في استلال سخيمة قلبها .
بدأ عامر يفتقد الأمان العاطفي ، هجر البيت ثم المدرسة ، أصبح ينام في الخرائب أو في السفل إذا أحس بالبرد ، تأتي خالته تبحث عنه تجده نائما على العلف ( التبن ) تأخذ بيده قائلة : ( ما للقريب الا قريبه أما باع والا شرى ) قم يا حبيبي عليَ عنك ، الله يعينك على عمتك ، ( عمتك حيَّة من تحت تبن يا عامر ) وأخذت تردد :
إن قلت يا عمه فقالت لي عمى
يا صاقعة جت مسَّما
وان قلت يا يمَّه فقالت لي فديت
فيين يا مالي غديت
أسقط في يد والده ، ثم لاحت فكرة في رأسه ، أن يرسله إلى عمه الذي يعمل ( طارفة ) نائبا لأمارة المندق ، لعل في هذا البعد ما يكون سببا في إعادة شيئ من الاطمئنان إلى هذا الطفل ‘ ولكن هيهات هيهات ، يقول نزار قباني :
كل المنافي لا تبدد وحشتي **** ما دام منفاي الكبير بداخلي
( من تلَّه أبوه تلَّه عمه ) ، شعر عامر بالغربة أكثر وأكثر ، أصبح في بيت عمه مثل الشاة الغريبة عن الغنم كل شاة تنطحها ، أصيب بالاكتئاب رغم محاولة عمه انتشاله من وحدته بأن يجد له وظيفة ( كاتب ) في مكتبه ووعده بأن يزوجه بنته الوحيدة وكما هو معروف ( بنت العم لابن العم )
بدأ أبناء عمه يغارون منه ويشُون به عند أبيهم ويسِمُونه بالغباء وهو ليس بالغبي لكنه يتغابى ، ذات صباح جمعة دُعي من قبل المتعاقدين بالمدرسة إلى طعام الغداء وذهب مع مدرسي المدرسة من الوطنيين ، وعندما دلفوا إلى البيت وجدوا المضيفين نائمين يعني ( ضوَهم طافي )عرف المدعوون أن هذه خدعة أو مقلب وكان عليهم قبوله ، انسلوا راجعين ما عدى عامر فقد مكث بالبيت على أمل أن يستيقظوا ويطبخوا الغداء ( حيث لا يوجد مطاعم كما هو اليوم )
أذن العصر ولا حس ولا حسيس ، تقدم إلى سرير أحدهم وطبطب على ظهره برفق وقال أين الغداء ؟ أجابه : ما فيه غداء ، وشلون تدعونا ولا تسوون غداء ؟، قال هذه ( كذبة أبريل ) قام أحدهم وزيادة في النكاية به حمَّم يده في قعر القدر وجاء من خلفه ووضع يده الملطَخة بالحمم على وجهه وهو لا يعلم بهذه المكيدة وظنه مزاحا .
رجع إلى مجلس الأمارة وأثناء دخوله انفرط عقد الضحك عاليا من المتواجدين في المجلس من الأخوياء وأكَّالة الرز وصبابة القهوة والمؤلفة قلوبهم .............إلى آخره ، سأله عمه من فعل هذا بك يا الخبل ؟ قال وشفيه ؟ قال : رح غسل وجهك وتعلْ ، عندما نظر إلى المرآة أدرك بعد فوات الأوان هذه المكيدة ، سأله عمه : تغديت ؟ أجابه بالنفي يقولون ( تسذبة برميل ) ، عاد الضحك عاليا من جديد مرددين : سذبة برميل – خبل - سذبة برميل – أهبل ، قال لا والله الا خبل والا ما كان المقاولين يضحكون عليك .
نقل ابن عمه إلى أخته الخبر وقالت له وكانت فيه من الزاهدين : قل لأبي لايربطني بهذا الخبل والله لو ما يبقى في الدنيا غيره ما تزوجته ، نقل إليه الخبر ، نزل الخبر على مسمعه نزول الصاعقة ، علت وجهه سحابة من الحزن ، سمع أغنية وحوَّرها بما يناسب حالته البئيسة ورفع عقيرته بها :
ونتي ونتي ونة يتيم فارق امه
وتخلى والده طوعا وأسلمه لعمه
ضاعت احلامه وهذي بنت عمه أصبحت ما هي بيمَّه
ما لقي له من يمسِّح دمعته ما غير كُمَّه
حزَّت في نفسي هذه الإرهاصات التي حدثت لعامر المسكين لأني كنت وقتها بمدرسة النصباء والعنايا بمدرسة المندق أي أن كلينا عاصر وقائعها وبقيت عالقة بالذاكرة فأحببت أن أدونها في زاوية ذكريات مع شيء من التصرف ولكم تحياتي .
محبكم : عبد الرزاق بن صالح الفقيه