الموضوع: المعلامة
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-20-2010, 11:12 PM   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 

المعلامة

الجزء الخامس :


تصاعد عدد تلاميذ المدرسة مع تفاوت كبير بينهم في الأعمار والأجسام وقد يحدث أحياناً خلاف بين طالب وآخر ثم يتطور الخلاف إلى مشاكسات وتحديات بين طلاب قرية وقرية أخرى، فيصل الأمر إلى خصام.. ومضاربة وتشابك بالأيدي والحجارة بعد الانصراف من المدرسة، فلا يفك الاشتباك إلا رجال ونساء القرية التي بها المدرسة، وإذا لزم الأمر فإنهم (يعصبون) مع أبنائهم إن كانوا طرفاً في (الهوشة)..
في أحد الأيام فوجئنا برجل يقتحم المدرسة شاهراً سلاحه ( الجنبيّة ) وهو يقول:
( أين هو.. أرونيه.. والله لأفعل به كذا وكذا...)..
رأينا الأستاذ ( مشرف ) وقد عُيّن في المدرسة منذ أيام قليلة _ رأيناه يتصدى لهذا الرجل الذي كان يبحث عن تلميذ تعرّض لابنه في طريق عودتهما من المدرسة، وقام بضربه حسب قوله...
حاول المعلمون صدّه وإقناعه وإيقافه عن ذلك الهجوم الذي شنّه على الطالب والمدرسة ومن فيها. لم يستمع لأحد، وأصرّ على الإمساك بذلك الطالب لينتصر لابنه، فما كان من (مشرف) رحمه الله إلا أن هجم عليه، فأمسك يد الرجل التي يقبض بها على (سلة الجنبية) وطبق بيده الأخرى على حلقه فكاد أن يسقط الرجل أو سقط، وانتزعت الجنبية من يده ورأيناه أخيراً يخرج من المدرسة بصمت، وليست معه تلك الجنبية التي دخل بها ..!!
لمْ ندرِ في حينه _ نحن الطلاب _ عمّا انتهى إليه الأمر حول هذا التّصرف من الرجل، ومن خلال أحاديث الكبار علمنا أن (سلة الجنبية) حُجِزت، وحُكم على الرجل (حقوق قبلية) إدانة له.
كان كل من الأستاذين: (عبدا لرحمن بن رمزي) و(مقبول العرابي) يحذران الطلبة وعلى الأخص كبار السن من المضاربات والاعتداء على بعضهم بعضاً، أو التعرض للطلبة الصغار، ومن اعتدي عليه فليأت إلى المدير ومعاونه، ومع ذلك يندر أن يشتكي أحد من أحد خوفاً من العقاب الذي لن يسلم منه حتى الشاكي المتظلم لئلا يقوم المتظلم بالانتصار لنفسه بيده أو يستنصر بأبناء قريته.
كان الأستاذ (عبدا لرحمن بن رمزي) يولي الخطابة والإلقاء اهتماماً كبيراً فلكل طالب _ في الغالب _ خطبة تخصه، يختارها له.. وحسب السن والمستوى الدراسي.. خطبة طويلة أو محاورة بين طالبن، أحدهما يمثل (العلم) والآخر يمثل الجهل، بين العلم والجهل، فيختار الطالب المجتهد ليمثل العلم، والطالب المهمل ليمثل الجهل، ومحاورات مختلفة بين (الليل والنهار) فيختار لمن يمثل الليل أن يكون (أسوَداً) ومحاورة بين (السيف والقلم) وكانت هذه المحاورات امتداداً إلى ما كان يهتم به أحد معلمي المعلامة/الكتّاب (جمعان بن خميس) رحمه الله_ أما الطلبة الصغار فكان الأستاذ عبدا لرحمن يلقنهم حِكماً صغيرة أو بيتاً من الشعر.. أو عبارة طريفة، وفي الغالب تنطبق على شخصية صاحبها مثل:
(تضرب في حديد بارد)، (أكلتم تمري وعصيتم أمري)، (يوم لك ويوم عليك.. ويوم كفاك الله شر بلاه ..).
وطريقة الأداء أن يتقدم الطالب الصغير أمام المعلمين والطلاب والآباء.. فيقول بجرأة:
( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... يوم لك ويوم عليك.. ويوم كفاك الله شر بلاه.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..)..
وهذه كانت خطبتي ، وبعد ذلك _ حين كبرت _ أُعطيت خطبة من قصيدة لعنترة بن شداد ومطلعها:


إذا كشفَ الزمانُ لك القناعا ** ومدّ إليك صرفُ الدهرِ باعا
فلا تخشَ المنيـّةَ والتقيـها ** ودافعْ ما استطعتَ لها دِفاعا
ولا تخترْ فِراشاً مـن حريرٍ ** ولا تبـكِ المنـازلَ والبِقاعا

ويجب على الطالب حين يؤدي الخطبة أن يرفع صوته جداً، ويؤشر بيده ويهزها هزاً.. ثم يتقدم من بعده حين يناديه المعلم.
وفي يوم الأحد من كل أسبوع، وهو اليوم الذي فيه السوق (سوق رغدان) تكون الدراسة فيه خفيفة ومشتتة لانشغال الأساتذة بارتياد السوق.. وغياب عدد من التلاميذ لمساعدة آبائهم، وفي ذلك اليوم يطلب منا بين حين وآخر الخروج إلى السوق من المدرسة بطريقة منتظمة.. في طابور يتقدمنا الطلاب الكبار، وقد اختار الأستاذ بعضاً منهم لتقديم الأناشيد والخطب أمام أهل السوق جميعاً، فيصعد أولئك (المحظوظون) على حائط، أو سطح مرتفع (على الدكاكين الحجرية المسقوفة بالأخشاب) فيقوم كل طالب بأداء ما عنده، فيتوقف الناس ويتركون السوق للاستماع باهتمام.. فيظلون مشدوهين بإعجاب ومدح يتناقله الرجال والنساء.. وكان يُطلق على هذا النشاط: (بدوة) قياساً على التسمية التي كانت تطلق على رجال كانوا يقومون بالوعظ في الأسواق، ويحذرون الناس من المنكر ويأمرونهم بالمعروف، وأذكر مما كانوا ينهون عنه ويحذرون منه: (الرادي) في بداية ظهوره، وأضراره.. وأنه لا يجوز اقتناؤه، فقد تأثر بذلك أحد من يمتلك (الرادي) فقدم به بعد فترة إلى السوق، وأخذ يعلن على الناس بأنه سيتخلص من صندوق الراديو.. فأعلن التوبة منه، وقام بتكسيره وتحطيمه في السوق أمام الناس..!!


* * * * *

يوم الخميس دراسة، وزمن الدراسة فيه أقل من الأيام الأخرى،ومتعة الإجازة الأسبوعية مساء يوم الخميس، ويوم الجمعة نذهب للسباحة في الآبار.. ونقوم بآداء ما علينا من واجبات المدرسة،ويتسع الوقت في هذا اليوم لإنهاء كثير من المشاغل، وتبادل الزيارات داخل القرية وخارجها، ولقد علمنا ونحن في السنة الثالثة أن المدرسة سوف تقفل من أجل (العطلة)،سيكون عندنا إجازة طويلة بعد إنهاء العام الدراسي، فقد تحددت مسميات الفصول الدراسية إلى الصف الخامس، وبمناسبة هذا الحدث السعيد فقد طلب الأستاد (عبدا لرحمن) من جميع التلاميذ أن يقفوا صفاً دائرياً داخل المدرسة، قدم عدد من الطلاب الكبار الأناشيد والخطب، ثم النشيد الجماعي ومنه:
] أهلاً وسهلاً مرحباً..
آنستمونا يا كرام..
( شرّفتمو) هذا المقام..
( وعليكمو) منا السلام [.
وقبل الانصراف طلب من الجميع الاهتمام بما أعطينا من واجبات دراسية، ولأن الإجازة طويلة فقد طلب منا جميعاً أن نأتي إلى المدرسة كل يوم أحد من كل أسبوع لتسليم وتقديم الواجبات بعد أدائها وأخذ واجبات جديدة، ومن تلك الواجبات حفظ جدول الضرب وكتابته عشر مرات.. أو كتابة الأعداد من واحد إلى (ألفين).. ثم من ألفين إلى ثلاثة آلاف، وتكليف مجموعة أخرى بكتابة موضوع في القراءة (عشرين مرة) أو أكثر، وآخرون يُطلب منهم حفظ عدد من سور القرآن الكريم... وتظل المدرسة مفتوحة يوم الأحد، وكان سبب اختيار هذا اليوم، لأنه يوم السوق الأسبوعي في القرية، يأتيه الناس من كل مكان، وهو اليوم المناسب لمعلمنا ليرتاد فيه السوق.. وللطلبة من القرى المجاورة ليحضروا مع آبائهم، وهكذا حتى تنتهي هذه (الإجازة)!!!
وفي أول يوم نعود فيه إلى المدرسة بعد انتهاء (العطلة) وقبل أن نبدأ الدرس الأول نقف صفوفاً للسلام على الأستاد، فيتهيأ بالجلوس على كرسيه ثم يمدّ يده اليمنى على طرف مكتبه الخشبي، ويتقدم التلاميذ لتقبيل كفّه.. ونتزاحم على كفه ونتناطح بالرؤوس.. وتصطدم الأجساد، وبعض التلاميذ وبالأخص الصغار منهم يكررون التقبيل أكثر من مرّة، فإذا ما تم لهم التقبيل في المرة الأولى فإنهم يذهبون من خلف المعلم، ثم يعودون أمامه لتقبيل كفه ونيل هذا الشرف أكثر من مرّة، فلا تنتهي تلك المراسيم إلا حين يسحب المعلم يده التي طُليت بطبقة غروية من الرساب (اللعاب) وما يسيل من أنوف التلاميذ الصغار....
المعلم نراه مثالياً في كل شيء.. نطيعه ونأخذ بقوله وأوامره أكثر من الوالدين، وإذا خالف الابن أمر أبيه أو أمّه وأصرّ على ما يريد.. ثمّ هدداه بإبلاغ المعلم فإنه سرعان ما يستسلم ويتوسل بألا يخبرانه..
فذا كنّا نمشى أو نلعب في الطريق ورأينا معلمينا أو أحدهم من بعيد فإننا نهرب بعيداً من طريقه، ونتمنى ألا يكون قد شاهدنا نلعب فيحاسبنا على هذا اللهو، ويزيد في معاقبة المقصر في دروسه أو لم يحضر ما طلب منه من واجبات في اليوم التالي لانشغاله باللعب... وليس من حق الطالب أن يسترسل في التعبير عمّا يريد، أو يدافع عن نفسه حول موقف من المواقف، وليس من حقه أن يعترض على العقاب أو يبلغ والده لأنه سيزيده عقاباً وتوبيخاً، فقد كانت المفاهيم في ذلك الوقت متشبعة بأن العقاب (بالضرب) أمرٌ أساسيّ ولابد منه للنجاح والتعلم والتربية.
حتى أن المقعد الخشبي المخصص لجلوس المعلم له مكانة اكتسبها من شخصيته، فلايجروء التلميذ أن يجلس على هذا (الكرسي)، سوى عدد قليل من الطلاب الكبار اللذين ختموا دراسة القرآن الكريم وأوكل إليهم الإشراف على التلاميذ الصغار.. فنراهم يسترقون الجلوس على هذا المقعد فنغبطهم بصمت، ونتمنى مثل تلك المزايا الراقية،فلم نصدق _ أوّل الأمر _ أنه سيصل (كراسي) للطلاب!!
وبعد أسابيع شاهدنا هذه المقاعد الخشبية التي يتصل فيها الكرسي بالمقعد، وكل مقعد لطالبين، فجعل كل مقعد لأربعة طلاب، وبها أدراج.. اقتنينا لها الأقفال والمفاتيح فيما بعد، فكنا سعداء بهذا الحدث العجيب، وصُرف للمعلمين كراسِ معدنية من الصاج وأخرى من الخيزران..




يتبع .........

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس