الموضوع: المعلامة
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-22-2010, 10:41 PM   رقم المشاركة : 12

 

المعلامة

الجزء السادس :


أخذ يتزايد عدد المدارس ليكون في كل قرية مدرسة، تكون في الغالب في منزل شيخ القبيلة أو عريفة القرية، فظهرت الحاجة إلى أعداد كبيرة من المعلمين،والبحث عمّن لديه مبادئ ولو بسيطة في القراءة والكتابة مع قراءة القرآن الكريم..
وحين سمع بعض هؤلاء بحضور رجل إلى المنطقة يقوم بتوظيف من يقرأ ويكتب لمهنة التدريس لتأمين احتياج المدارس، ويقوم هذا (المفتش) المعتمد باختبار من يتقدم بعدد من الأسئلة، التي يرون فيها صعوبة وتعجيزاً، فأخذوا يحاولون تحقيق رغبتهم بشتى الوسائل، وبوسطاء آخرين.
قال أحد هؤلاء عن اختباره للتدريس: ]... لم أتوقع أنني سأصبح في يوم من الأيام معلماً ثم مديراً للمدرسة، حتى كان ذلك اليوم _ يوم خميس _ يوم السوق في قرية الباحة.. والناس (هابطون) إلى السوق، كنت أعمل في سقي زرع لنا بواسطة الثيران من البئر، فمرّني (عبدالغني) فقال:
( لماذا لا تذهب إلى هذا الرجل الذي يوظف (أستادين) فأنت تقرأ وتكتب ) فقال له:
(وماذا عندي من القراية والكتابة). قال: (رُح له) مثلك مثل غيرك، اسمع كلامي، وبعد أن واصل سيره، أخذت أفكر وأتردد،ثم قررت أن أذهب، وفي الحال استدعيت إحدى زوجاتي لتكمل العمل، وانطلقت إلى قرية الباحة، أو قال (الظفير)، وكنت أشد الجنبية على وسطي، وحافي القدمين، وحين اقتربت من المكان الذي هو فيه، بدأت أشعر في نفسي بشيء من الرهبة، فلم أكن أهاب أحداً من قبل، قابلت رجلاً نصحني بأن ( أحط ) الجنبية قبل أن أدخل إليه، كدت أرفض أن أفكها من وسطي تحرجاً وأنفة.. جلست أمام الرجل فطلب مني أن أتلو آيات من القرآن الكريم، لم يتركني أواصل حينما اطمأن إلى قراءتي، طلب أن أكتب بعض الكلمات والجمل.. سألني عن اللام القمرية والشمسية، فلم أستطع الإجابة... فسألني عن إشارات الجمع والطرح والضرب، لم أكن أعرفها أو أفرق بينها، كتب لي أعداداً لأجمعها، وأطرحها، وأضربها... أجبت على الجمع ثم الطرح، فسجلت النتيجة، أما الضرب فقد أطلت في حساب نتيجته... كانت مسألة الضرب شبيهة بضرب: (230 * 12) وأخيراً وبعد طول حساب كتبت الجواب (2760)، سألني: كيف حليتها؟ قلت باعتزاز وفخر: حليتها بعقلي، قال لي: كيف.. كيف توصلت إلى النتيجة؟! فقلت: (ضربت مئتين وثلاثين في عشرة، ثم ضربتها في اثنين، ليكون الناتج (ألفان وسبعمائة وستون). قال: (الجواب صح، والطريقة غلط.... راجعنا فيما بعد..)، بعد ذلك جاءتني البشرى من رجل أوصيته بأمري، لأكون معلماً في المدرسة ومديراً لها بعد انتقال المدير الأول..)
فكان يدعو لوالدي حين كان سبباً في ذهابه....
شخص آخر (توظف) بنفس الطريقة، قال: (لقد سألني هذا الرجل في الكتابة والقراءة ثم الحساب وكنت أعتبر نفسي من أجود المتقدمين، ومشهود لي بأن عندي (قلم) وهذا كناية عن حسن الخط والمعرفة، وبعد أن أبدى إعجابه بالخط والإملاء، سألني: (ما هي الأسماء الخمسة)؟ صمت مفكراً، ثم قلت: (الأسماء كثيرة) قال: ماهي؟ قلت: (السماء.. الأرض.. الليل.. محمد.. صالح.... إنها كثيرة..) قال: (ألم تسمع بشيء يسمى الأسماء الخمسة؟) قلت: (لم أسمع بها... لم تمر عليّ...). وخرجت كئيباً، بسبب هذا السؤال، (ماهي الأسماء الخمسة؟؟!!).
أخذت أسأل عن الجواب كل من يقرأ ويكتب، ولا جواب سوى احتمالات وتخمينات بعيدة وطريفة.... وبعد أيام جاءني خبر تعييني معلماً، وأن عليّ أن أباشر العمل فوراً، وكلمة (فورا) هذه أحدثت سوء فهم عند أحدهم في خطاب وُجّه إليه، هل (فوراً) تعني أن الوظيفة اسمها (فوراً) أنها اسم مكان العمل؟، فلم تهدأ نفسه إلا حين فُسّرت له من أحد (العارفين).. وكنا على المدى الطويل نداعب ذلك الرجل ونتعمد أن نذكر هذه الكلمة في أحاديثنا لنذكِّره بها...
وفي ذلك الحين انضم إلى التدريس عدد من أبناء المنطقة والمناطق الأخرى، لم يكن لديهم _أول الأمر_ سوى مبادئ بسيطة من التعليم لا تتعدى المستوى الدراسي للصف الثالث الابتدائي أو الرابع، وكان يغبطهم الآخرون ويشار إليهم بإعجاب.
ومع ذلك قاموا بما أوكل إليهم بجد وحماس مع مواصلة التعليم الذاتي والتثقيف المعرفي لسد حاجة المدارس مع الذين قدموا إلى المملكة من المعلمين الوافدبن من البلاد العربية..


* * * * *
مع بدايات عام 1376هجرية أخذنا نشهد مفاجآت جديدة في دراستنا... استلمنا كتباً دراسية للقراءة.. والتاريخ.. وتقويم البلدان، وحين لا تفي بالعدد يشترك طالبان أو ثلاثة في كتاب واحد.
استخدمت الصفارة للدخول والخروج.. وبدء الحصص الدراسية.. صار عدد المعلمين في المدرسة (سبعة) ثلاثة منهم من المنطقة.. والآخرون من خارج المملكة من (مصر والأردن وفلسطين..) لقد كان لكل معلم طريقته في التدريس، وأسلوب التعامل مع التلاميذ يختلف بين معلم وآخر، أحدهم يعاقب بالضرب في القدمين،وآخر يكتفي باليدين... وآخر يتميز بطريقته المحببة في التعليم ولا يعاقب إلا نادراً فنمدحه قائلين: (الأستاد فلان ضعيّف) بتشديد الياء.. فيتبوأ مكانة كبيرة في نفوسنا، ومع ذلك فكثيراً ما نهتم أولاً بواجبات معلمينا الذين نخاف منهم ونخشى عقابهم، وبصفة عامة فإن معلمينا المتعاقدين أقل قسوة من الوطنيين.
ويمكنني تسجيل ما تحتفظ به الذاكرة من أساليب بعض معلمينا في ذلك العهد من (الوطنيين) أو (المتعاقدين) ولا يعني هذا التشهير أو إنكار فضلهم في ذلك الوقت وحتى اليوم فجزاهم الله خير الجزاء... ومع الأخذ في الاعتبار طبيعة الحياة واختلاف المفاهيم التربوية بين زمن وآخر... فما كان مألوفاً في ذلك الزمن، كثيراً ما يكون مستنكراً في زمن آخر، والعكس:
· أحد معلمينا الذي عيّن في المدرسة لأول مرة، كان يصفع الوجه لأي سبب مهما كان بسيطاً، فقد كان يطلب من جميع الطلاب عند تلاوة القرآن الكريم أن يمسك الطالب مصحفه بيده اليسرى، ويتتبع الآيات (يقصّ) بسبابة يده اليمنى،والويل لمن يخالف هذا، وقد كنت أعسر (أشول) استخدم يدي اليسرى أكثر من اليمنى، فأعكس المطلوب مني ويصر عليّ أن أمسك المصحف بيدي اليسرى وأتابع بيدي اليمنى (فأتلخبط) وأرتبك وترتجف يدي، فأصبحت أهتم بالوضع المطلوب وطريقة الإمساك بالقرآن الكريم، فأقع في خطأ التلاوة باستمرار... فلا أسلم من صفعة على الوجه.. أو الرأس، أو ضربة شديدة على كفّي فأزداد ارتباكاً، وتتزايد أخطائي فيحكم علي _بكل قناعة_ بأنني غير (حافظ/مطيّس).
· أكثر المعلمين من الوطنيين كانوا في البدايات يطلبون منّا حفظ الدرس غيباً مهما كانت المادة الدراسية، فكنا نحفظ موضوعات القراءة (من سلم القراءة العربية) فنحفظ التاريخ حفظاً.. ولم يستمر ذلك طويلاً، فاقتصر الحفظ على سور الحفظ من القرآن الكريم.. والتوحيد والفقه والحديث...
· من وسائل العقاب التي أخذ بها فيما بعد أحد المعلمين، هي (الشتم) و (التفل) في الوجه/(البصق) أو الوعيد بتحويل الطالب المقصر إلى صف دراسي أدنى، وتسميته بلقب يعيّره به، وسرعان ما يلتصق به هذا الاسم الجديد.. ويظل التلاميذ ينادونه به، فيستسل لذلك اللقب مرغماً... وقد سبق الإشارة إلى أساليب مختلفة من طرق العقاب في المدارس بصفة عامة وفي بداية عهدها، والمثل الشائع حينذاك: (ما يقرأ إلا راغب وإلا راهب).. والشيء العجيب أن من تخرّج في هذه المدارس، وعلى يد أولئك المعلمين، ومرت عليه أساليب العقاب المختلفة، أو شاهدها أخذ يمارسها أو بعضاً منها مع تلاميذه حين أصبح معلماً.. !!
· أحد معلمينا (المتعاقدين) إذا قرر عقاب طالب، فإنه يدعو أحد الطلاب الأشداء ليمسك به من الأمام فيقول: (اعبطه) فيشده، ويقوم هو بضربه في ظهره بسرعة فيبادر العم (قرطان) برمي (الجبّة) بينه وبين العصا، يحتميه بها، ولئلا يصاب بشيء من تلك الضربات..

..يعتمد التعليم والتدريس في الماضي عامة على التلقين والحفظ، لا أقول هذا من باب التنظير _الآن_ أو التعليل والتحليل، ويندر جداً أن يهتم بمعنى موضوع أي درس، ومغزاه، أو الهدف منه، وعلى الأخص في المرحلة الابتدائية، فما على الطالب إلا أن يردد ويحفظ ويكرر، ومع أن ما اختير من موضوعات القراءة والأناشيد لها أهداف توجيهية، إلا أننا نقرأ بدون فهم، ونحن في وادٍ والمعنى في وادٍ آخر، والمطلوب منا سلامة القراءة واستظهار ما طُلِب منا حفظه، وأقرب الأمثلة البسيطة الساذجة، أننا درسنا موضوعاً بعنوان: (صاحب الحمار.. والولد الشقي)، وخلاصته:
أن رجلاً مرّ في طريقه على عدد من الأولاد ومعه حمار يحمل عليه علفاً ليبيعه، فقال له ولد من هؤلاء الأولاد: (السلام عليكم يا أبا الحمار) فرد عليه الرجل قائلاً: (وعليك السلام يا بني العزيز ..)، فضحك عليه رفاقه.. فخجل الولد[..
فلم نفهم هذه الحكاية ، فماذا يعني بقوله: (أبا الحمار) ورده عليه بقوله: (يا بني العزيز) ولماذا ضحك الأولاد.. ولماذا خجل!!
ومقطوعات قصيرة تجلي الهم وأناشيد عن الأب.. والأم، وعن الكرة (كرة القدم... كل يعدو.. وله ندّ، ذا يقذفها.. ذا يلقفها.. وأخو الشرف رامي الهدف..). ونحن أصلاً لا نعرف معنى الكرة إلا بمسمى (الكبابة)

لم نكن ندرك أو نفهم معاني المفردات لهذه الأناشيد ولا المعنى العام إلا في وقت لاحق.. وكذلك الحال بالنسبة لأساسيات فهم مواد الفقه والتوحيد والحساب.



يتبع .........

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس