الموضوع: المعلامة
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-26-2010, 11:38 AM   رقم المشاركة : 15

 

المعلامة

الجزء السابع:



أحد معلمينا كان ذا صوت جميل إذا قرأ القرآن الكريم ينصت له جميع من في المدرسة وخارجها إذا شرع يتلو في المصحف، فأعطي تدريس القرآن الكريم في الصف السادس.. يبدأ أولاً بالاستماع إلى تلاوة كل منا للآيات السابقة بحيث يتلو كل واحد ثلاث إلى أربع آيات وأثناء ذلك يشرع في استخراج (علبة السجائر والكبريت) ويشعل عود الكبريت، ويبدأ في إيقاد طرف السيجارة من غير أن يضعها في فمه، ويستمر في هذه العملية بعدد من أعواد الثقاب وببطء وهدوء حتى يشتعل طرفها كلياً، ثم يبدأ في (شفطها) ويواصل التدخين، ويستمع إلى تلاوة كل منا، كنا نتابعه بتعجب.. ليس لأنه يدخن في المدرسة.. أو في الفصل.. أو في مادة القرآن الكريم!! وإنما لطريقته في إشعال السيجارة، كان لطيفاً معنا، مما جعل أحدنا يسأله عن طريقته هذه في (توليع السيجارة ؟!) فأجاب بشرح طويل خلاصته:
(لأن الكبريت به غازات تضر الجسم، فإذا شفطت السيجارة مع الكبريت، فيدخل دخان الكبريت مع دخان السيجارة إلى الجسم فيضرّه....!!)..
لقد أذهل هذا المعلم الجميع بما يظهره من مواهب وقدرات داخل المدرسة وخارجها، فقد أثبت لأهل القرية والقرى المجاورة أنّه يداوي (حكيم) يعالج مختلف الأمراض.. ويصف الدواء.. ويقوم بضرب (الشرنقات)/إعطاء الحقن العلاجية، ومع أنّه لا يوجد حينذاك صيدلية في المنطقة.. فهو يوصي بإحضار الأدوية والوصفات الطبية من مدينة الطائف مع سائق السيارة التي تذهب إلى الطائف مرّة كل أسبوعين، ثم قام الأستاذ (فؤاد) هذا بعمل لوحين عريضين بكل منهما حلقة دائرية، ونصبهما على عمودين طويلين وبينهما مسافة في سوق القرية، وقال هذه لعبة تُسمى (كرة السلة)، وأخذ يعلمنا هذه اللعبة.. ويلعب معنا، ويساعد معلم الرياضة (المادة الجديدة).
كان هذا المعلم يتعلم كل شيء من خلال تعامله مع الآباء، ويتعرف على مختلف العادات والتقاليد، وقصائد العرضة ومعانيها، ثم أحضر أسرته، فكان يدعونا إلى منزله لإعداد وتقديم موضوعات، وصحيفة مدرسية مبسطة، فاكتسب شهرة واسعة عند قطاع كبير من الناس...
لم يكن للرياضة البدنية حصة دراسية في المدرسة حتى عام 1376هجرية تقريباً، فكان الأولاد وحتى الكبار أحياناً يمارسون ألعاباً لها مواسمها ومناسباتها مثل:]القطرة أو المقطار، يالسح وسالي، الذئب سرى بالناقة، لعبة الأمثال، والألعاب الرمضانية، ولعبة (السُّقطة) للبنات والأولاد [ وكل لعبة لها طريقتها وقانونها، إلى جانب ألعاب (العرضة) بأشكالها المختلفة، ولم يكن الآباء في البداية يتصورون أنه سيكون في المدرسة حصة (لعب) بمسمى حصة رياضة، فكان أكثر رجال القرية يعلنون صراحة انتقادهم وتذمرهم لتحول المدرسة إلى لعب وضياع.. فكان أحد الآباء يلوم المدرسة والمعلم، ويصيح بنا قائلاً: (ياسفان الكورة) عندما تسقط الكرة في الركيب (أرض زراعية)، ثم يتوعدنا (بفقعها) لو عادت مرّة أخرى.. لم نعرف من قبل سوى لعبة (الكبابة) قماش أو خروق بالية مدورة الشكل.
أصبحت الكرة (كرة القدم) لعبتنا المفضلة على جميع الألعاب ويندر أن نمارس غيرها في حصة الرياضة أو خارج المدرسة.. في سوق القرية، أو بأحد الأراضي غير المزروعة، وقد اتفق الأستاذ (طلال) أستاذ الرياضة بمدرستنا مع معلم الرياضة في مدرسة قرية الباحة على إقامة مباراة (ودية) بين المدرستين،ذهبنا إليهم.. وبدأت المباراة، فكانوا أكثر استعداداً ومهارة في هذه اللعبة، لم يشركني الأستاذ في الفريق، كم كنت أتمنى أن أشارك.. مع أنني كنت مستعداً بلبس (البدلة) تحت ثوبي.. لأن ارتداء البدلة شرط أساسي بين الفريقين، ولا يشترط لبس الحذاء..
فهُزِمنا في الشوط الأول، وأخذ معلمنا يجري تغييراً لبعض اللاعبين، ويطلب من آخرين النزول إلى الملعب.. ناداني،فانطلقت إليه بسرعة وشوق من أجل المشاركة في اللعب.. وقفت أمامه.. سألني: (عندك شورت) لم أعلم ماذا يعني شورت.. قال بتذمر وسرعة: (بدلة.. سروال) فأجبته بسعادة: نعم.. وكدت أنطلق إلى الملعب، لكنه استوقفني قائلاً: (أعط البدلة زميلك...).. كتمت غيظي.. فهو أكثر مهارة منّي، وعدنا من هذه المباراة الودية مهزومين وغير معترفين بفوزهم علينا لوجود لاعب معهم ليس من مدرستهم، فهو يدرس في إحدى المدن.. أتى لزيارة أهله فاستعانوا به، وحين علم بعض رجال قريتنا بأننا غُلِبنا وهزمت مدرستنا غضبوا منا... وأحسوا بمرارة الهزيمة أكثر منا نحن الطلاب، فكانوا يلوموننا ويعيروننا بهذه الهزيمة في كل مناسبة.




* * * * *

مناسبة كبيرة شملت المنطقة كلها (غامد وزهران) حين سمعنا في المدرسة وفي البيت بأن الملك سعود بن عبدالعزيز سيزور (الحجاز) ويقصد به حينذاك منطقة الجنوب، من الطائف حتى بلجرشي وما بعدها...
كان ذلك في عام 1376هـ فقامت كل قبيلة وكل قرية وبادية بالاستعداد لهذه الزيارة، نصبت الأعلام والأقواس والسرادقات والمخيمات الجماعية الكبيرة والفردية البسيطة على الطريق الترابية الوحيدة، ونصب بعض الأهالي المجاورين لطريق الموكب مثل (آل سابي) حسب علمي خيمة بسيطة لتقديم القهوة والحليب الطازج (حليب الغنم) للملك ومرافقيه حين مروره، فيقف الملك _رحمه الله_ لتناول فنجان القهوة.. ثم يواصل الموكب سيره ومروره على مواقع استقبال أخرى، وقد قام والدي بتصميم وخياطة علم كبير نصبه فوق بيتنا على عمودين من طرفيه احتفاءً بتلك المناسبة، ولقد أسهم أيضاً.. عدد من أبناء المنطقة الذين يقيمون في المدن الرئيسة.. بما لديهم من قدرات وإمكانات وخبرات متمدنة لمثل هذه الزيارة التفقدية الكبيرة، ومن هؤلاء رجال من بلجرشي وبني كبير وبني ضبيان وبني عبدالله وبني خثيم.. وأذكر ممن عرفت في قريتنا (رغدان):
آل حجر، وأحمد عقيل، وعبدالرحمن مجحود وغيرهم، وكذلك الحال بالنسبةللقرى والقبائل الأخرى البعيدة من زهران وغامد.
كنت في تلك الفترة مصاباً ووالدتي بمرض شديد (الحمى) ويسمى (السابع) نحُل لها جسمي، فلم أعد أقوى على المشي أو الوقوف، وتغيبت عن المدرسة.. وعالجني والدي _يرحمه الله_ بالكيّ في قمّة رأسي، فقد كان ذا مواهب متعددة وله أفكار وتصرّفات جريئة لمواجهة كثير من المواقف أو المشكلات التي قد تواجهنا في البيت أو أيّ بيت في القرية.. يقاوم الثعابين ويُسْتنجد به في القرية من أجلها، وكان يختن أطفال القرية ويخلع الأسنان المؤلمة، ويقوم بتركيب بدائل الأسنان الأمامية من عظام الجمل ويلبسها بالفضة أو الذهب لمن يريد.. ويُصلِح الأجهزة المستحدثة في ذلك الوقت كالساعات أو الرادي، إلى جانب صياغة الحليّ والسيوف والخناجر ولا أبالغ _لأنه أبي_ فهو يكاد أن يكون مبدعاً أو مخترعاً لأشياء كثيرة حتى الأجهزة التعويضيّة الصغيرة إذا تلفت للسيارة التي أخذت تأتي إلى المنطقة لأول مرة يقوم بإصلاحها أو عمل البديل.
وأذكر أن عمي (عقيل) يرحمه الله أراد أن يرمي بالبندقية هدفاً في الجبل وحين أطلق الزناد انفجرت البندقية في وجهه فأصيبت عينه وتعرض أنفه لقطع عميق فعالجه والدي بتثبيت الشق بمساكة صنعها من الفضة لأنفه لتثبيته ليلتئم ولا يتشوّه..
كما أسعف امرأة من القرية شربت الماء من فم القربة وكان في الماء (علقة) سوداء مستطيلة فاندفعت إلى فم المرأة واستقرت في حلقها، وكادت تختنق.. نظر إليها فرأى الطرف الأخير لهذه العلقة يظهر ويختفي في البلعوم فعمل ملقطاً مدبباً طويلاً وتصايد العلقة حتى أمسك بها وانتزعها بعد عدة محاولات، فقد كانت متشبثة بفمها الذي يشبه الشفّاط...
ولم أدرك في حينه أنّ في المجتمع من (يحتقر) بصمت كثيراً من المهن ويأنف من ممارستها أو مصاهرة أصحابها.. وقد كان الوالد محط إعجاب الآخرين...
مع اقتراب موكب الملك سعود يرحمه الله من قريتنا كان قد أُعدّ له حفل استقبال في مخيم كبير في إحدى الأراضي الزراعية الواسعة، قدمت خلاله العرضة الشعبية والخطب الترحيبية، ومنها خطبة ألقاها أخي (عبدالهادي) بعد أن ألقى خطبة مدرسة قرية الباحة بصفته مديراً للمدرسة ولأن العلم والتعليم كان في بداية عهده في المنطقة عامة والمعلمون (المتنورون) في ذلك الزمن قليلون، بل أنهم يُعدّون على أصابع اليد الواحدة في كل قبيلة وقرية، حتى الرسائل وكتابة الوثائق (الحجج) المتعلقة بالبيع أو الشراء أو الصلح يستمر البحث عمّن يقرؤها أو يكتبها على يد أناس معروفين ونادري الوجود في بعض القرى يسمى أحدهم (الفقيه) إلى جانب إمامة المسجد مثل (علي بن محمد بن اسماعيل) وكذلك الحال في كل قبيلة أو قرية من القرى الرئيسة في المنطقة.
وفي قريتنا لقد اصطفّ الطلاب في هذا الحفل للهتاف والترحيب والإنشاد ولست معهم بسبب المرض، وتم توزيع عشرة ريالات من الفضّة لكل طالب.
في آخر أيام زيارة الملك رافقت جدتي (عليّة) للاصطفاف مع الناس على طريق الموكب، في انتظار السيارة التي بها النقود التي تُوزع على الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً.. فيقفون أو يقعدون منتظرين الموزّع، فينزل من سيارة حمراء (وانيت أو لوري) لا أعرف الفرق بينهما أو الاسم.. فيبدأ بتوزيع الريالات الفضيّة على الناس، والسيارة تمشي ببطء فقد ينال أحدهم عشرة ريالات أو أقل أو أكثر، فكان نصيبي بقية ما بيده (ثلاثة ريالات)، كما تمّ توزيع مجموعات من العمائم والثياب من قماش الدوت أو المبرم.. على بعض الرجال.
ويواصل عدد من الرجال والنساء العجائز السير من مكان إلى آخر من أجل اللحاق بغنيمة توزيع هذه النقود،ولا أنسى ذلك الموقف... الذي رأيت فيه إحدى النساء ومعها ثلاثة من أبنائها، ولكنها جعلتهم خمسة.. فقد ألفت قطعة قماش (حوكة) واحتضنتها على أنها الطفل الرابع الرضيع، وألبست حجراً بقطعة قماش أخرى وكأنه طفلها الخامس،فأعطى الموزع لها ولكل واحدٍ من الخمسة نصيبه.. فذهب ذلك التصرف مثلاً طريفاً.
كما منح الخطباء والمشائخ نصيبهم، وكذلك أصحاب الضيافات على جانب الطريق مهما كانت بساطتها.
والطرق في ذلك الوقت ترابية ووعرة خلال الجبال والشعاب والأودية.






يتبع .........

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس