الموضوع: المعلامة
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-28-2010, 10:24 PM   رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 

المعلامة

الجزء الثامن:


في عام 1377 أو 1378هـ حدث أمر عظيم وعجيب في قريتنا.. (الكهرباء ... !!) الكهربة تدخل (رغدان) فقد اشترى (عبدالله بجاد).. (ماطور) للكهرباء عن طريق أحد أبناء القبيلة المقيم في مدينة جدة.. وامتدت الأسلاك على ظهور المنازل، وعلى الجدران، وعلى عدد من الأعمدة الخشبية، فدخل (الكهرب) أغلب المنازل مقابل (خمسة ريالات للمبة) المصباح الواحد.. وتستمر الإضاءة من أذان المغرب إلى بعد العشاء بنصف ساعة، من الساعة (12) إلى الثالثة والنصف على الأكثر بالتوقيت الغروبي حينذاك، يتخللها انقطاع أو انطفاء مفاجئ قد يستمر أياماً، فكانت الفوانيس أو الأتاريك القليلة في صراع مستمر لإثبات وجودها أمام الكهرب هذا الدخيل الجديد..!!
في ليلة من تلك الليالي،لم يأت النور (الكهرب ما ولّع !؟) واستمرّ الانقطاع عدّة أيام، بعد أن كانت القرى المجاورة تغبط أهل رغدان على هذا التحضر والازدهار لوجود السوق الأسبوعي والكهرباء وكثيرٍ من المستجدات الحديثة والدكاكين المفتوحة يومياً، وبها يسكن عدد من المعلمين من الدول المجاورة، ويرتادها أهل الدول المجاورة للتسوق ولحل المشكلات عند شيخ القبيلة (هاشم بن عدنان).. أو لمراجعة (فؤاد) الذي يمارس التطبيب إلى جانب التدريس..
وقد علمت أن (دار عيسى) وهي إحدى قرى (الحبشي) دخلتها الكهرباء لفترة قصيرة.. بواسطة ( ) أحد أبناء القرية و لم تستمر.
كان موقع (الماتور الكهربائي) في طرف السوق (الأسفل) من القرية، ويعتبر سوق (رغدان) في ذلك الوقت من أكبر الأسواق في المنطقة وأكبر تجمع لأهالي القرى المجاورة والقبائل، يجلب إليه كل شيء يحتاجه الناس من حبوب وماشية وسمن وعسل وحطب وقماش وتمر وبن.. على الجمال والحمير وفي السوق دكاكين صغيرة مبنية بالحجر ومسقوفة بجريد الخشب مملوكة لأهل القرية، وتُعرض بعض البضائع على أرضية السوق، وفي السوق الأسفل شجرة الجميز الكبيرة (الرقعة) تظلل كثيراً من البائعين والمشترين،وللسوق كما عرفنا _فيما بعد_عقود وعهود واحترام، فلا يعتدي أحد على أحد.. وإلا نال جزاءه بتغريمه ماديّاً ومعنوياً على يد شيخ القبيلة والأطراف الأخرى من العرفاء وذوي العلاقة.
انقطع التيار الكهربائي واستمر الخلل عدة ليالي وأياماً، وكما قال العامل الذي يقوم بتشغيله.. ونسميه (المهندس) بأن أحد العابثين وضع كمية من السُّكر في الماكينة!
لكن.. من هؤلاء العابثون أو الحاقدون؟؟ ولماذا السّكر؟!
لا أدري حتى الآن، لقد وُجّه الاتهام إلى كل الأولاد... فقرر شيخ القبيلة وعرفاؤها استدعاء جميع الأولاد في القرية _كإحدى وسائل التحقيق_ للوصول إلى المتسبب، أو من يدل عليه.
وقد يكون الاشتباه في آخرين أكبر سناً.. من الذين لم يُدخلوا الكهرباء إلى بيوتهم..
أخذ مندوب الشيخ (ابن خموس) يطوف على المنازل، لإبلاغ جميع شباب القرية بالحضور إلى بيت الشيخ هاشم، كنت لا أعلم عن سبب هذه الدعوة المفاجئة مع أن والدي وأخي نصحاني بعدم الذهاب.. والبقاء لمذاكرة مادة الحديث للصف السادس، لكنني رغبت بشوق في حضور هذا الاجتماع الذي لم يحدث للأولاد من قبل؛ فلم نكن نذهب إلى منزل الشيخ إلا في عيد الفطر برفقة الآباء، فنستمع إلى الكبار وهم يتحدثون وبأصوات مرتفعة عن بعض القضايا المتعلقة بالغابة أو الحمى، والمشكلات الفردية أو بين طرفين، ثم ننقضّ _نحن الصّغار_ على صحون التمر، وقد نحشو الجيوب.
في هذا الاجتماع الذي كنا نعتبره شيئاً مسلّياً يشبع استطلاعنا عمّا يراد منّا، لم يقدم لنا التّمر كالعادة في كل عيد، بل فوجئنا بالوعد والوعيد والتهديد إن لم نعترف بمن (خرّب الماطور) أو ندلّ عليه..
وحينما لم يعترف أحد؛ قرر الشيخ وكبار أهل القرية إنزالنا إلى (الدبلة) وهي مكان منخفض جداً تحت الدور الأرضي.. تحت (السافلة)، وقيل أن هذا مكان السّجن قديماً، فكان منّا من يضحك، أو الغاضب أو الخائف الحزين...
تذكرت نصيحة والدي لقناعته ببراءتي؛ بألا أذهب.. ولأن مثل هذه الفعلة لا يفعلها صغار السّن؛ (ما تغدي عن العزبان الكبار).كما قال.
أخذنا نتزاحم في ذلك القبو المظلم للاقتراب من نافذة صغيرة لاستنشاق شيء من الهواء، ولنستمد منها بصيصاً من النور..
سمعت أخي عبدالهادي يناديني من خارج النافذة ليعطيني كسرة خبز، وضعها في كتاب الحديث (مادة اختبار الشهادة الابتدائية لليوم التالي). أخذ يضحك قائلاً: ذاكر.. ذاكر، اختبار الحديث غداً..
ومع حلول ظلام الليل سمعنا الباب يفتح لإطلاقنا، فاندفعنا نستبق الخروج عائدين إلى بيوتنا.



* * * * *


كان عددنا في الصفّ السادس "عشرة طلاب" في عام 1378هـ فقد بدأت تتزايد المدارس سنة بعد أخرى، وكل قرية مهما قل عدد أبنائها تسعى لفتح مدرسة بها للبنين، أما البنات فلا مدارس لهن في ذلك الوقت حتى عام 1381هـ حيث فتحت أوّل مدرسة للبنات في (بلجرشي).
كان الاختبار شيئاً رهيباً لنا، فقد توافد إلى القرية طلاب الصف السادس من المدارس الأخرى، فمنهم من أقام مع أسرة من أهل القرية.. أو رافقهم بعض أهلهم للاهتمام بهم، وإعداد طعامهم أو إيقاظهم. وآخرون يأتون صباح كل يوم لأداء الاختبار ثم يعودون إلى منازلهم سيراً على الأقدام أو على الحمير..
ويتم الاختبار أمام لجنة من المعلمين وعدد من مسؤولي التعليم.. موظفين أو مفتشين، وكان رئيس هذه اللجنة مدير التعليم (المعتمد) كما نسميه، وكانوا يسكنون داخل المدرسة المبنية من الحجر ومسقوفة بالخشب.. فنخضع لتفتيش دقيق للجيوب، والسراويل وتحت العمامة والظهر، وأذكر أن طالباً حضر وهو يرتدي ثوبين، فاكتُشِف أنّ ثوبه الداخليّ منقوشاً بالمعلومات، فطلب منه بعد بكاء وتوسّل أن يخلع ثوبه، ويتركه خارج المدرسة، وأثناء الاختبار نسمع من أحد المراقبين أو الملاحظين يقول بصوت مرتفع:
(مضى من الوقت نصف ساعة.. عند الامتحان يُكرم المرء أو يهان... أو بقي من الوقت عشر دقائق...) فنزداد قلقاً وتشتيتاً وربكة.
كنّا قبل بدء الاختبار بعدة أسابيع قد كتبنا (استمارة الاختبار)، وكان هذا الإجراء حدث كبير وهام بالنسبة لأساتذتنا في المدرسة، ولنا الويل والتهديد لمن يخطئ في ملء هذه الاستمارة، ثم يعاد جزء من هذه الاستمارة تحت مسمى (رقم الجلوس) أثناء أداء الاختبار.. فلكل طالب رقم جلوس خاص به على مستوى جميع المدارس الابتدائية في المملكة التي بلغ عدد طلابها (5182) طالباً للمرحلة الابتدائية في ذلك العام، عرفت هذا العدد حين تسلمنا الشهادات بعد سنوات.
كان فراشنا الحنابل وبسط الخصف، مع تثبيت بطاقة رقم الجلوس أمام كل طالب على البساط.
كان جلوسي على الأرض أمام مكتب رئيس اللجنة.. وكلما جلس على مكتبه؛ أخذ ينظر إلى ما أكتبه من إجابات فأجد حرجاً وتشتيتاً لذهني وأفكاري، فأشعر بأنه يحاسبني على إجاباتي أو أخطائي، فأكتب وأشطب. ويسألني شقيقي عبدالهادي عن الأسئلة ومدى سهولتها، فأقول إنها سهلة لولا مداومة نظر (المعتمد) أو قلت المفتّش.. لما أكتب بحكم جلوسي تحت مكتبه، مما يجعلني أحياناً (ألخبط) في إجابتي، فما كان من أخي بحكم معرفته بأعضاء اللجنة، وهو حينها مدير لمدرسة قرية الباحة.. ولعله أوعز لأحدهم بهذه المعاناة، فانحلت هذه المشكلة التي أعاني منها. ثم بلغني أن رئيس اللجنة كان مغتبطاً بإجاباتي، ومعجباً بحسن خطّي.
لم نكن ندري عن مصير إجاباتنا، وأين وكيف يتم التصحيح.
فعلمنا أنها تُرتّب في ظروف مختومة بالشمع الأحمر وبالأرقام/أرقام الجلوس، مع فصل الأسماء وترسل إلى مكة المكرمة، وربما إلى الرياض لتصحيحها.
بعد عدة أسابيع ظهرت النتائج، فكنّا ثلاثة فقط في الدور الأول.
وقد تسلمنا شهادات النجاح من الصف السادس "الشهادة الابتدائية" بعد سنوات من وزارة المعارف بتوقيع وكيل الوزارة معالي الأستاذ عبدالوهاب عبدالواسع .
لا ننسى ذلك الموقف، حين نجحت من الصف السادس (الشهادة الابتدائية) عدت إلى المنزل فرحا أنهب الأرض جريا لأبشر والدي, فقد كنت أحمل في جيبي (سيجارة) فأخفيتها فوق رأسي تحت القبعة والعمامة لئلا يراها والدي, فهنأني, وقبلني, ومنحني ريالاً أو ريالين, مع عبارات المديح والتشجيع, جلست بجانبه مزهوا, وشعرت بتدفق العرق من رأسي بسبب سيري السريع إلى البيت فما كان مني إلا أن خطفت العمامة من فوق رأسي لألقيها بجانبي, فإذا بالسيجارة تنطلق لتستقر في حجر والدي, فنظر إليها بابتسامة مريرة, والتفت إليّ بعد صمت رهيب وقال:من أين جاءت هذه السيجارة, لعلها سقطت من السقف.. اجبني؟؟ من أين، لم لا ترد؟اصفر وجهي, وارتعدت أوصالي خوفا, فما كان منه إلا أن أطبق يده عليّ قبل أن أنطلق هاربا, ونالتني منه الصفعات والتوبيخ بدل تلك القبلات والمديح, فلم ينقذني غير توسلات أمي ووعودي وعهودي بالتوبة عن هذه العادة الســيـــئة, ولا عجب فقد كان عدد من رجال القرية وعلى الأخص من كان يسافر إلى مدن أخرى.. يدخنون وكذلك والدي ومعلمنا الذي ذكرته في الصف الخامس والسادس, ابتداء من أنواع الدخان (الأخضر , واللف , وأبو غليون , وأبو ورده... الخ)..
فقد كنا نشعر –عن جهل– بأن ممارسة التدخين يكمل لنا سمات الرجولة والشباب, وكان احد الرفاق ممن لدى أسرته دكانا لبيع مختلف الحاجيات الأسرية والمواد الغذائية ومنها (الدخان), فكان رفيقي وصديقي هذا يجلب لنا بعض الدخان وتعلمنا منه كيف ندخن والطريقة الصحيحة لامتصاص وشفط السيجارة فكان يقول:
شفط السيجارة ونفث دخانها مباشرة خطأ, والأصح أن (تكنها) أي بشفطها وتبلع الدخان ثم تعيد إخراجه من الصدر والأنف, وهذه الطريقة جعلتنا (نتولع) وندمن على التدخين, ونشتريه, وكان والدي يكره هذا الصاحب الذي علمني الدخان ولا يود أن أصاحبه أو امشي معه أو أزوره أو يزورني في المنزل وظل على هذا الموقف لا يرتاح إليه حتى بعد أن كبرنا.

يتبع........................

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس