الموضوع: المعلامة
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-16-2010, 08:01 AM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 



المعلامة
الجزء الثالث:

لم تستمر الدراسة طويلاً في موقعها السابق فقد انتقلنا إلى موقع آخر (للعدنان) أيضاً، وهو أكثر اتساعاً إلى حدٍّ ما.. به حجرات يفصل بينها ألواح من الخشب، وجدران من خشب العرعر وكُسيت بالطين المخلوط بالتبن (الرّص) لتكون غرفاً صغيرة سميت بعد ذلك بالفصول الدراسية، وفرشت بمساطح الخصف/الخوص، ثم استبدلت بعد ذلك بحنابل مخططة تسمى (الحنابل الهندية).
أخذت المدرسة تضم عدداً كبيراً من التلاميذ من مختلف الأعمار.. يأتون إليها من عشرِ قُرى سيراً على الأقدام، وقد تأخر بعضُ الآباء في إرسال أبنائهم إلى المدرسة مفضلين الاستعانة بهم في مصالحهم الأسرية، وظل بعضهم يتلقى التعليم عند أولائك المعلمين (الفقيه) في المعلامة حتى أغْلِقَت نهائياً، ولم يبقَ أحدٌ بعد ذلك إلا وأرسل ابنه أو أبنائه إلى المدرسة، مع توصية المعلم والتأكيد عليه بالقول: (لك اللحم ولنا العظم).
يخضع تصنيف جلوس التلاميذ في مجموعات إلى ما حفظوه من السور ومستوى القراءة.. خصوصاً للقرآن الكريم بغض النظر عن مراحل العمر مهما تفاوتت بين التلاميذ، فقد ينتقل صغير السن إلى فرقة أكبر منه سنّاً لتميّز مستواه.. وأحياناً يحدث العكس، فقد يحول الطالب المقصر إلى من هم أصغر منه، لأن قلبه _كما يقول المعلم _ قلب ثور!! لا يستوعب الدرس وينسى ما درسه، فيسمى: (مطيّس/بليد)، وقد يكون الطالب الكبير مع حلقة الصغار لأن أهله لم يرسلوه إلى المعلامة من قبل...، فليس غريباً أن تضم إحدى حلقات المبتدئين من هم في سن الخامسة وحتى الرابعة عشر من العمر..
أحد هؤلاء الكبار جداً قدم إلى المدرسة بجسمه الكبير وملامحه القاسية فأثار فينا الخوف، فنحن لا نعرفه من قبل (من قرية أخرى) ويحمل حقيبة حديدية من الصفيح وكبيرة الحجم تستخدم للسفر والملابس وليست للمدرسة، كان يضع فيها دفتراً صغيراً و(جزء عم) وكِسْرة خبز أو(دغبوساً)، فطلب منه المعلم أن يضعها بعيداً لكبرها، فكنا في البداية نهابه ونتفادى الاقتراب منه.. إلى أن اكتشفنا أنه أكثر خوفاً ورهبة منا، يخاف من المدرسة وممن فيها، وكان يتودد إلى الجميع.. لكنه لم يستمر في المدرسة سوى عدة أيام، فلم نشاهده بعد ذلك إلا بعد سنوات طويلة وهو يدير مقاولات معمارية ناجحة.
في البدء كانت حلقات الدرس يشرف عليها معلمنا الوحيد، ينتقل من حلقة إلى أخرى فلا نكاد ننظر إليه إلا خلْسة.. له في نفوس جميع التلاميذ مشاعر متداخلة من الخوف.. الاحترام.. الرهبة، كنا نعتبره يختلف عن الناس الآخرين في كل شيء.. تلك (الخيزرانة) الطويلة لا تفارق يده، فترتجف منا الأوصال بمجرد سماع كلمة: (الأستادْ... الأستادْ جاء).
أسعد الأيام على نفوسنا إذا لم يحضر معلمنا ذلك اليوم، فنستمتع فرحين بما نسمعه من الآخرين بأنه مريض.. أو سافر إلى الشام: (الطائف ومكة المكرمة) فإذا به قادم على الرغم مما سمعناه من إشاعات،وفي كل مرّة يتأخر قليلاً نصدق مثل تلك الإشاعات الكاذبة.
في فصل الشتاء يشتد البرد في (الحجاز) بلاد غامد وزهران، منطقة الباحة كما تسمى الآن، ويتواصل هطول الأمطار وينتشر الضباب فيغيب عن المدرسة طلاب القرى الأبعد، ونمكث نراقب مطلع الطريق المؤدي إلى المدرسة لنطمئن أن المدير ومعاونه الأستاذ مقبول لم يأتيا في هذا اليوم الممطر.
وندعوا الله (يارب لا تجعلهم يأتون..)، فكان الأستاذ (عباس) الذي عُيّن حديثاً في المدرسة بمسمى (فراش/محضر) يقوم بالإشراف والتدريس والتوجيه.. فكان له في نفوسنا مكانة كبيرة، وأخيراً يطلب منا أن ننصرف، فننطلق فرحين إلى منازلنا.. وفي كثير من الأحيان يكون نهيق حمار معلمنا يعلن عن قدومه، حتى أصبحنا نميز صوته من بعيد، ذلك النهيق المجلجل الذي انطبع له في أذهاننا وقعاً خاصاً امتداداً لما نشعر به نحو معلمنا من رهبة وخوف وإعجاب..
وكثيراً ما يتنافس التلاميذ في إحضار ما عندهم من (تبن أو برسيم) يطلبه المعلم لعلف حماره.. تقرباً منه واعترافاً للمعلم بالفضل والجميل، والفخر والعز الذي ما بعده.. حين يقرر والد التلميذ دعوة المعلم أو المعلمين لتناول الغداء في بيتهم.
فلا ينقطع التلميذ عن الفخر بذلك الحدث، ويظل يحدث رفاقه عن المعلم.. طريقته في الأكل.. الجلوس.. ماذا قال..؟ وكيف يتحدث؟ فننصت باهتمام إلى حديث زميلنا المحظوظ.
وفي تلك الأيام الباردة يطلب المعلمون من التلاميذ القريبة بيوتهم أن يحضروا حطباً من أجل إيقاده داخل المدرسة للتدفئة.. فتتكاثف سحب الدخان ويتوقف الدرس.. ونواصل السعال.. ونذرف الدموع، فلا نكاد نبصر شيئاً سوى تلك الفئران الخارجة من جحورها وهي تنطلق كالسهام من مكان إلى آخر.




* * * * * *


في أحد أيام عام 1373هـ أخذنا أماكننا في المدرسة.. مرّت الدقائق والساعات دون أن ندرس شيئاً!! أساتذتنا الذين أصبح عددهم ثلاثة: (عبدالرحمن بن رمزي، ومقبول العرابي، وعبدالله بن عطية).. كانوا يتحدثون بينهم غير ملتفتين إلى التلاميذ وغير آبهين لما يحدثونه من جلبة وشجار، وبين وقتٍ وآخر يحضر بعض من رجال القرية إلى المدرسة ترتسم على وجوههم علامات التساؤل والقلق فلم نلبث حتى أُمرنا بالانصراف من المدرسة وانطلقنا نتسابق إلى منازلنا لأجد أسرتي والجيران ملتفين ومنصتين إلى (الرادي)/المذياع النادر وجوده في القرية... الحزن مخيّمٌ على كل شيء، والناس يرددون: (مات عبدا لعزيز..) سمعت والدي يقول:
(أخو نورة.. الله يرحمه..) وسألت أمي: من عبدالعزيز الذي مات؟! أجابتني باقتضاب: (الملك).
ومن هو أخو نورة؟! وانتهرتني جدتي (عليّة) رحمها الله قائلة:
(آصه.. من الهذر.. هذا الولد ما يخلّي شيء إلا وينشِد عنه..)!
مع غروب ذلك اليوم الذي وصل فيه خبر موت الملك عبدالعزيز أخذت الأسر تُدْخل أشياءها وممتلكاتها من الحيوانات إلى داخل المنازل بعد أن كانت تُتْركُ في أفنية البيوت والساحات، قررت جدتي ضرورة إدخال الحمار والبقرة إلى (السِّفل) بدلاً من البقاء في الساحة كالمعتاد، دخل الحمار بسهولة لكن البقرة ظلّت تمتنع من الدخول، وتتراجع عند المدخل.. وتهرب بعيداً..
وكنت أشاهد الموقف بتعجب وتساؤل، لماذا نُدْخلها البيت ومكانها في الساحة.. تحت الحماطة والعشّة..!؟ وبسبب إصرار البقرة كان لها ما أرادت، فبقيت في الساحة وظل والدي _ يرحمه الله يكلأ البقرة بين فترة وأخرى طوال الليل... ولا تنسى والدتي أن توصد الباب (الجامع) وباب (السِّفل) بـ (الرّصد). فألاحظها تعود إليها للتأكد من غلقها بإحكام، لم تستمر هذه الحالة طويلاً.. فعاد الشعور بالأمن والطمأنينة ليحل محل الحذر والتوجس، والذي أكّد لي زوال الخطر أن أمي تركت استخدام ذلك الرّصد الكبير.. وبقيت الأشياء في الساحة ليلاً كالمعتاد.


* * * * *

مازال المستوى الدراسي يتحدد بما وصل إليه التلميذ من تلاوة القرآن الكريم، مع ما تميز به من إجادة للكتابة وحسن الخط، فإذا وصل التلميذ إلى سورة العنكبوت تقوم بعض الأسر بذبح شاة احتفالاً بهذا المستوى، وهي امتداد لعادة قديمة ومقولة يرددها البعض:
( عند سورة العنكبوت، شاة تحيا... وشاة تموت..)

وحين يختم التلميذ القرآن الكريم يعود لقراءته مرة أخرى فيقال: (ختم .. ونكس) وهذه شهادة فخر واعتزاز..
فيستعين المعلمون بأولئك الذين يختمون القرآن لمتابعة وتدريس الطلبة الآخرين، والمستجدين الصغار (فيذكرني ذلك.. أو يكون أشبه بالطالب المعيد في الجامعة اليوم)، كما يتولون المراجعة والاستماع إلى ما كان مطلوبٌ حفظه وتلاوته، فيحصون ويعدّون علينا أخطاءنا على أصابعهم، ويبلِّغون بها المعلم ويكون العقاب بقدر عدد الأخطاء، وكثيراً ما يتوسل الطالب الصغير من الكبير الذي يستمع إلى القراءة بأن يخفض عدد الأخطاء ويعتمد الأمر حينها على الأريحية والتسامح أو الهبات الصغيرة...
كنا قد وصلنا إلى سورة (البلد) ونسمي السورة بمطلعها فنقول: سورة: (لا أقسم بهذا البلد ) فطلب (الأستاد) من أحد التلاميذ الكبار أن يستمع إليّ في تلاوة هذه السورة، فوقعت في ثلاثة أو أربعة أخطاء فما كان من (عطية) إلا أن تعاطف معي مشكوراً وقال للمعلم: (حافظ يا أستاد).. نظر المعلم إلى كل منا.. وكأنه بتلك النظرة المرعبة كشف الحقيقة، وعلى الفور نادى (غرم الله) وقال له: سمّع له سورته، وشرع يستمع ويقبض أصبعاً بعد الآخر على كل خطأ بترصد ودقة متناهية، فازددت ارتباكاً وكثرت الأخطاء.. فكنت أقرأ وأنظر إلى أصابعه أكثر مما أنظر إلى الآيات، فذهب إلى المعلم ليخبره بأني أخطأت: (ثمان غلطات). نظر إليّ المعلم وقال (بليد ...!) ثم استدعى عطيّة فأتى يرتجف خوفاً وحاول أن يحلف بأني كنت حافظاً.. فأسكته المعلم متوعداً إياه بعقاب شديد، أما أنا فكنت في وضعٍ مزرٍ لا أرى سوى تلك العصا الطويلة فأنظر إليها بهلع وأخذت ركبتاي تصطكان ببعضهما من شدة الخوف..
وبعد فترة تحقيق عصيبة في هذه القضية، قال الأستاد (امسكوهما)..
فانطلق اثنان من التلاميذ وأخذا يربطان أقدامنا بعمامة كريشي (شماغ) وشدها إلى أعلى من طرفها فأصبحت أقدامنا إلى أعلى، ونحن على الظهر.. وأخذت تتساقط الضربات على باطن الأقدام وعلى الساق وارتفع الصياح.. ونداء الاستغاثة.. وإعلان التوبة، فكنت إلى جانب رفيقي كجندب بجوار عصفور، وكان يتلقى ضربات أكثر مني لكبر رجليه بالنسبة لي..
عدت إلى البيت وأنا لا أقوى على السير..
رأت أمي ما أنا فيه.. لكني توسلت إليها بألا تُخْبر أبي، فيزيدني ضرباً وتوبيخاً، ومع هذا لم يغب عنه الأمر حين سمعته يقول للوالدة: (يستاهل ما جاءه) أحسست بأنه ينظر إليّ بنظرات ظاهرها الغضب من إهمالي.. وعدم حفظي لدرسي، وباطنها الشفقة على ما أصابني بعد أن رأى الآثار الدامية في رجلي وباطن قدمي.
نمت بلا عشاء _ موعد العشاء بعد صلاة المغرب مباشرة _ بعد أن دهنت أمي أقدامي بالزبدة أو السمن، وكنت أسمعها تتذمر من هذا العقاب وتدعو على (الأستاد) قائلة:
(.. من يخبط هذا الخبط!؟.. الله يكفينا فيه..) فأشعر بالرهبة وكأن الأستاذ يستمع إلى هذه الكلمات والدعوات (أو سيعلمُ بها!!).
استيقظت في اليوم التالي متثاقلاً كئيباً، لا أرغب في الذهاب إلى المدرسة، ولكن هل أستطيع؟!.. أخذت والدتي تقول لي بهمس:
( آصه.. اُسْ.. لا يسمعك أبوك..)..
مع أن والدي علم بما أريد لكنه _ عادة _ يتغافل حتى آخر لحظة.. ثم يتدخل بحزم ويحسم الموقف، فسمعته يطلب من أخي (عبدالهادي) أن ينتظرني ليصطحبني معه إلى المدرسة فقد أنهى دراسته فيها وكان في جدة عند عمي شقيق والدي.
يتبع .........


 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس