الموضوع: المعلامة
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-18-2010, 09:59 PM   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 



المعلامة
الجزء الرابع:


وما أن استقر بي الجلوس في المدرسة وحضر الأستاذ فإذا به يستدعيني أنا و (عطية) الذي تعاطف معي، أوقفنا أمامه وبيده عصا وإلى جواره أخرى، كان يجلس على مكتب خشبيّ قديم.. يسند إحدى قوائمه بحجر مستطيل.. أما المقعد الذي يجلس عليه فهو صندوق من الخشب غُطّي ببطانية بالية..، لعلي كنت أهرب مما أنا فيه من خوف برصد هذه الأشياء المميزة والتي يتمنى كل من يشاهدها أن يجلس عليها، على اعتبار أنه أعز مكان،، التفت إلينا قائلاً: (يا بلداء) ونادى:
(امسكوهم) وقفز طالبان كبيران لربطنا في العمامة وشُدّت أرجلنا إلى أعلى، كما طُلب من كل منا أن يمسك ثوبه ويشده إلى ركبتيه لستر ما قد ينكشف أثناء الضرب، كان يقف بعصاه الطويلة ينتظر أن نتهيأ للعقاب، أخذت أبكي بشدة..
وفي تلك اللحظة رأيت والدي يقف معنا عاقداً كفيه خلف ظهره، وكأنه نزل من السماء، أخذ ينظر إلى المشهد بصمت، فلا حديث سوى حركة العيون حائرة في محاجرها، مرت ثوان معدودة خلتها دهراً.. سأل والدي:
- لماذا تضربهما اليوم؟!!
* لأن ولدك (ما حفظ) والثاني كذاب...
- ألم تضربهم أمس؟! ألا ترى ما أصاب قدم الولد... إلمح بطون رجليه...
* إذا كسرت العظم فلك الحق.. ما ودّك ينتج مثل (آخوه)؟ يقصد أخي عبد الهادي.
- قطّعت رجل الولد.. حتى المدرسة ما بغى يجيها!!
* وسأضربهما حتى اليوم .. ليتوبا .. وما يتكرر منهما الذي صار..
- يكفي (ما جاهم).. ترى الولد ما يحتمل هذا كله.. والله ما قدر يمشي..
* لازم.. لازم نزيدهم.. المفروض اليوم وبكره.. لمصلحتهما..
- والنهاية.. النهاية معك أبا عبدالرحمن!!
أعرفُ ملامح والدي _ رحمه الله _ إذا غضب، أحسست بهذا الحوار المشحون بين والدي ومعلّمي.. الكلمات تكاد تتفجّر.. تمنيت _بقدر ما فرحت بوجود والدي_أنّه لم يحضر، فلم أتخيل أحداً يستطيع أن يقول للمعلم أيّ شيء يغضبه..
* هل جئت لتضارب؟!
- أنا ما جيت أضارب لكن القهر ما نبغيه.. تفكّهم؟ وإلا لأ؟!! اتق الله فيهم.. وأنا ماجيت أضارب.. أتيت للسؤال عن درسه وما كنت أدري أنّك (بتطيح) فيهم بالضرب كل يوم... (عليّ الطلاق.. لما تفكهم ليخبث بالك).
* تطلق علينا في المدرسة...! طلّق على (مرتك)..
- إنك (سمعتاها)..
* طيّب عساهم ما درسوا.. ولا تعلّم ولدك.. خذه من المدرسة.. خذ ولدك خلّه يشتغل معك في الفضة.. وإلا مع الغنم..
- ولدي ما آخذه.. بيدرس في مدرسة (ابن سعود) ما هو في بيت (أبوك)..
وانطلقنا الاثنان كعصفورين انفلتا من القفص على حين غفلة.
أخذت أشعر بقلق وخوف لا أستطيع التعبير عنه في ذلك الوقت بعد تلك المشادة بين والدي ومعلمي.. فلن يكون والدي معي في المدرسة كل يوم، سوف يكرهني الأستاد ويعاقبني في كل مرّة ولأي سبب مهما كان بسيطاً..
كانت تستبد بي هذه الأفكار السوداء التي لم يحدث منها شيء.. ومرت الأيام بشكل عادي.. ثم تلاشى هذا الشعور نهائياً حين علمت أن الأستاذ سوف يحضر إلى منزلنا لتناول طعام الغداء، وأخذت أعلن هذا الخبر لرفاقي بكل فخر واعتزاز، بعد ذلك كنت أسرد لهم كل شيء عن تلك الزيارة.. ماذا قال.. كيف يتحدث.. هل يضحك.. كيف يأكل...؟؟ فأصف لهم ذلك بطريقة طفوليّة وأقلّد حركاته.. وكلماته بإعجاب شديد، وخيال واسع.
كان للمدرسة وللمعلمين والتلاميذ مكانة كبيرة في نفوس الآباء والأمهات والأسر عامة، ويعبّر عن ذلك بعض الآباء الميسوري الحال بدعوة المعلمين وجميع الطلاب للغداء في المنزل، فيكون هذا الحدث فريداً يتناقله الناس، وقد حضرت دعوتين من هذه.. عند (سعد بن فيضي) و(صالح بن جمعان) رحمهما الله _ ويقدم عدد من الطلاب الأناشيد والخطب في منزل صاحب الدعوة.
وأحياناً يصل إلى المدرسة كمية من التمر الجاف (الهليل) من عند بعض الأسر لتوزيعه على التلاميذ هديه أو صدقة. فيُوزع على كل طالب ثلاث حبات أو أكثر أو أقل حسب الكمية.. ويكون التوزيع مع بداية خروجنا للفسحة التي ننتظرها بفارغ الصبر فنتزاحم على ذلك (البرميل) الذي أصابه الصدأ لنشرب منه بعد أن يُمْلأ كل صباح بواسطة إحدى النساء، بقربتها الجلدية، ويرتبط بالبرميل (مغراف) علاه السّواد وتلبّدت به الأوساخ وهو عبارة عن علبة قديمة من العلب التي يُحفظ فيها الأناناس الذي يُجْلبُ من المدينة، ومن كان منزله قريب.. فيمكنه الذهاب إلى المنزل في فترة الفسحة، وعليه أن يتوضأ في البيت من أجل أداء صلاة الظهر في المدرسة، فكنت أنا وزميل لي نعاني من ضيق في الوقت حين نذهب إلى المنزل فنجد أمهاتنا قد أعددن لنا ما نأكله، ونخشى أن نتأخر وعلينا أن نتوضأ..
وكثيراً ما نذهب ونعود ونحن نجري.. فلا نستمتع بتلك الفسحة،فما كان من زميلي هذا _ غفر الله لي له _ إلا أن قال:
( وهل يمديك أن تتوضأ؟!).. فقلت: لا.. أكمّل فسحتي (أكلي) من أجل الوضوء.. فقال: ( أنا لا أتوضأ..)..
فصِرتُ إذا ضاق بي الوقت ( أفعل مثله..).
بعد ذلك طُلِب من الجميع أن يتم الوضوء في (الجلّة) الوادي القريب.. ثم نصلي في مساحات داخل المدرسة على الأرض.. أو على قطع من الحصير، أما (الحنبل) الوحيد فيخصص للمعلمين في المقدمة.
أرضية المنزل الذي ندرس فيه ترابية، وجدرانه من الداخل من الحجر المغطى بالطين والشيدة (تراب أبيض) بحلب والتي تُجلب من بعض الجبال القريبة، والسقف من سيقان شجر العرعر، ومهما بُذل فيه من جهد للنظافة فهي لا تكاد تظهر، ومع ذلك تقوم (امرأة) بمحاولة التنظيف والكنس في الصباح قبل بدء الدراسة أو يوم الجمعة من كل أسبوع، مع صبّ قربة ماء لإكمال ما نقص من ذلك البرميل الذي نشرب منهُ.
في بداية يوم دراسي جديد، أحسسنا بأن هذا اليوم غير عادي إذ سمعنا النداء:
( دخول.. دخول ).. لم نعتد أن ندخل في هذا الوقت المبكر قبل أن نقضي فترة نلهو .. ونترامى بالحجارة والأشياء تحت أشعة الشمس، أخذنا أماكننا بصمت، كانت حركات معلمينا غير عادية، ذلك الوقار المعهود تعرض إلى شيء من الاضطراب والتوجس.. سمعنا (الأستاد عباس الفرّاش) يهمس قائلاً:
( المفتش... المفتش..)..
لم يكن يعني لنا هذا الأمر شيئاً في أوّل الأمر لولا سُحنته المختلفة وهو يهمس بهذا الاسم، وعباس لا نراه من قبل إلا ضاحكاً يتندر على كل طالب، ويمازح المعلمين.. فانتقلت عدوى مشاعره إلى كل منا لتحفر في نفوسنا رهبة قدوم زائرٍ مخيف.. وبعد فترة انتظار قاسية على الجميع شاهدنا رجلاً ممتلئاً يدلف من المدخل بخطوات ذات إيقاع مهيب ووجهٍ صارم.. يصوب منه نظرات حادة وفاحصة إلى كل شيء.. أخذ يتجوّل في كل مكان.. رأيناه يقف بجانب ذلك البرميل الذي نشرب منه.. كشف غطاءه.. نظر إلى داخله باشمئزاز.. تفحص (المغاريف) الصّدئة، كان جلوسنا قريباً من ذلك البرميل، فأخذنا نشهد تأففه وهو يقول كلمات غاضبة لم نفهمها، فما كان منه إلا أن أخذ يقذف بتلك المغاريف بعصبية إلى الخارج.. كان يشير إلى أشياء كثيرة لم نتبينها، وفي الحال رأينا ذلك البرميل يُنْقل إلى الخارج.. وأخذنا نتساءل بصمت وذهول عن تصرفه هذا؟!! لماذا يحرمنا من شرب الماء، ويمنع شُرب الماء في المدرسة؟!!
وفي اليوم التالي علت وجوهنا الدهشة والانبهار لتلك الحنفية الجديدة اللامعة ذات (البزبوز) الأصغر، والغطاء المحكم و(المغاريف) البيضاء التي تغرينا بشرب الماء من غير حاجة إليه.


يتبع .........

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس