عرض مشاركة واحدة
قديم 05-29-2010, 06:03 PM   رقم المشاركة : 2

 

الاقتصاد في الفخر وانتقاء المفاخر الحقيقية في نظر الإسلام يدلان على انتباه الشاعر لمحاذير التفاخر, فمما يَتَشَرَّف المسلم بِذِكْرِه الوفَادَة على الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به ومصاحبته والجهاد معه ومع الصحابة وأن من الأجداد المُحَدِّثين والفقهاء .. وهنا نقول إن ذلك لهو الشرف كل الشرف, والمجد التليد كل المجد, وبهذا الاقتصاد والانتقاء يُرجَى أن يخرج موضوع القصيدة عن العصبية القبلية, وعن مشابهة أفعال الجاهلية, فضلاً عن تذكيره بوحدة أصل الناس واشتراك الجميع في الشرف, وتصريحه بالأخوة الإسلامية, وكذلك عدم طعنه في القبائل الأخرى وغير ذلك مما وُفِّق له الشاعر . وأما بعض الشعراء الآخرين ومنهم غير شعراء فإن مُؤاخذتهم صريحة في الوقوع في تلك المحاذير, وهنا لا بد من وقفة ولو قليلة مع هذه المسألة وذلك لخطورتها وأهميتها في تماسك المجتمع فأقول : التفاخر صفة ذميمة, وهو ثمرة الكِبر وقرينه, قال تعالى: « إن الله لا يحب كل مختال فخور » وَإِنَّمَا نهى عن التَّفَاخُرِ لِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ من إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالتَّنَافُرِ وَالتَّحَاقُدِ , وأشهر أنواع الفَخْر هو ما يكون بالنَّسَب وهو مُحَرَّم شرعاً، وهو من خصال الجاهلية المذمومة، وهو نَزْعَة دفينة في النفس لا تكاد تنفك عن صاحب نَسَب وإن كان صالحاً وعاقلا إلا أنه قد لا يظهر منه ذلك عند اعتدال حاله ولكن حال الغضب ونحوه كما روي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : « قاولتُ رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ له يا ابن السوداء » فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أبا ذر طَفّ الصَّاع طَفّ الصَّاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل » أخرجه ابن المبارك, ولأحمد من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : «اُنْظُرْ فَإِنِّكَ لَسْت بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلا أَسْوَدَ إلا أَنْ تَفْضُلَهُ بِتَقْوَى » فقال أبو ذر رضي الله عنه : « فاضطجعت وقلت للرجل قم فطأ على خدي » . وقوله: « طَفّ الصَّاع » الطَفّ هو أن يقرب الإناء من الامتلاء من غير أن يمتلئ, ومنه التطفيفُ في الكيل أي نقصانه, فالتَّطْفِيفُ ضِدُّ التَّوْفِيَةِ, ومعناه كُلُّكُم في الانْتِسابِ إِلى أَبٍ واحدٍ بمَنْزِلَةٍ واحدةٍ في النَّقْصِ والتَّقاصُرِ عنْ غايَةِ التَّمامِ وشَبَّهَهُمْ في نُقْصانِهم بالكَيْلِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَمْلأَ المِكْيالَ, وفي حديث آخر عند أحمد «طَفُّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَئُوهُ» . وأخرج مسلم في هذا « أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الاحساب والطعن في الانساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة ». والنفس لا تقبل الفخر والتعالي عليها من أحد من جنسها وذلك لتساوي الناس في الجزء الأهم والأكبر وهو الأصل والمادة ثم إن ما تميز به الفخور لا يعدو كونه هِبة من الله لا من خَلْقه وإيجاده هو, فضلاً عن كون المتفاخَر به لا استمرار له وسرعان ما ينقطع إما بزواله أو بموت الفخور . ولما كان الناس في الجاهلية - ولا زال غير المسلمين منهم - لا يعرفون ميزاناً حقيقياً للتفاضل فكانوا يَرَون التفاضل بالأنساب والأحساب أو الألوان واللغات والثقافات أو العدد والقوة مما لا يصح التفاضل بناءً عليه .. فقد جاء الإسلام وقضى على تلك الاعتبارات ونبذها بنصوص قطعية صريحة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من ذلك قول الله تعالى: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ , وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ , أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ , وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ , وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ , وَلا لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلا بِالتَّقْوَى» رواه أحمد والبيهقي وصححه الألباني . وَأخرَج مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال : " « إنَّ اللَّهَ أوحى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ على أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ على أَحَدٍ » ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا « إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ مُنَادِيًا يُنَادِي أَلا إنِّي جَعَلْت نَسَبًا وَجَعَلْتُمْ نَسَبًا, فَجَعَلْت أَكْرَمَكُمْ أَتْقَاكُمْ , فَأَبَيْتُمْ إلا أَنْ تَقُولُوا فُلانُ بْنُ فُلانٍ خَيْرٌ مِنْ فُلانِ بْنِ فُلانٍ , فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ نَسَبَكُمْ , أَيْنَ الْمُتَّقُونَ » . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ « مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» . وأخرج البخاري عَنْ أَبيِ هُرَيْرَةَ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ ؟ قَالَ : أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ ، قَالُوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ ، قَالَ : فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ ، قَالَوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ ، قَالَ : فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي ؟ قَالُوا: نَعَمْ ، قَالَ: فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا» متفق عليه, وقال صلى الله عليه وسلم : « إن أوليائي منكم المتقون من كانوا وحيث كانوا » . ذلك كله هو قاعدة الإسلام ومبدأه في التفاضل والمساواة التي هي أهم قضايا العصر على مستوى العالم, فقد بَيَّنَ الإسلام أصل الخليقة وردَّ الناس إليها، ووَضَّحَ أساس التفاضل المحمود الذي يحقق للبشرية السعادة والرقي المنشود, وطَرَحَ ما سواه, فمن يقول للأمم مِن حولَنا التي تُجَهِّلُنا وتدَّعِي الحفاظ على حقوق الإنسان وتحقيق العدل والمساواة أنَّ هذه هي تعاليم الإسلام وهديه ومباديه !؟ وأنه لم يعتبر عند التفاضلِ جنسيةً ولا مكانةً ولا بداوة أو ريفية أو مدنية ولا نسب ولا جنس ولا لون ولا جاه ولا سلطان غير التقوى التي يمكن لأي إنسان مهما كان أن يُحَصِّلَها, ثم أن مناط التفاضل هذا الذي سيسعى أهل الهمم لتحقيقه سيكون وسيلة نمو ورقي ولا يخل بمبدأ المساواة في ذاته ولا يكون ذريعة للظلم والتفرقة بين الناس لأن حصول كل ما هو خير متوقف عليه ولأنه لن يستطيع أحد أن يتفاخر به لخفاءه - أي الميزان وهو التقوى - بين الناس ولتعارض التفاخر به مع التقوى ذاتها لأن أهم شروطها الإخلاص .. يا للعدل الباهِر المحقق للحياة الكريمة !! . ونظراً لما يسببه التفاخر بالأنْساب والأعراق من أضرار ووبالٍ على المجتمعات البشرية فقد بلغ نَبْذِ الإسلام له إلى أنْ أنْزَلَهُ إلى درجةٍ بالغةٍ في الانحطاط حيث روى أبو داود والترمذي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فَحَمُ جَهَنَّمَ أو لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ على اللَّهِ من الجُعْلِ الذي يُدَهْدِه الخَراءِ بأنْفِه، إنَّ اللَّهِ أذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ ، إنما هو مُؤْمِنٌ تَقِىٌّ وَفَاجِرٌ شَقِىٌّ ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خلق مِنْ التُرَاب » أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن, ولفظ أبي داود: « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ, مُؤْمِنٌ تَقِىٌّ وَفَاجِرٌ شَقِىٌّ, وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ, لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ فَخْرهُمْ بِرِجَالٍ أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِدَّتِهِمْ مِنَ الْجِعْلاَنِ الَّتِى تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ » كما أخرجه أحمد والبيهقي, وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية والألباني . وقد جاء عن أهل العلم في شرح هذا الحديث في قوله: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب» أي لا يليق بمن أصله التراب الافتخار والتكبر والتجبر . وقوله: «لينتهين» اللام في جواب القسم أي والله لينتهين « أقوام يفتخرون بآبائهم أو ليكونن » عطف على لينتهين والضمير الفاعل العائد إلى أقوام هو واو الجمع المحذوف من ليكونن يعني والله إن أحد الأمرين واقع لا محالة إما الانتهاء أو كونهم « أهون على الله من الجعلان » . وقوله: «الْجِعْلاَنِ» وجاء في اللفظ الآخر الجُعْلِ : هو حشرة سوداء من نوع الخنافس ويقال لها أبو جعران, وَمِنْ شَأْنِهِ جَمْعُ النَّجَاسَةِ وَادِّخَارُهَا وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْ رِيحِ الْوَرْدِ وَرِيحِ الطِّيبِ , فَإِذَا أُعِيدَ إلَى الرَّوْثِ عَاشَ . وقوله: « العُبِّيَّة »: قال أهل اللغة: هي الكبر والفخر والنخوة . وقوله: « يُدَهْدِه » : أي يدحرج . وقوله: « النَّتَنَ » وفي اللفظ الآخر «الخراء » : هو الغائط . وقوله: «مؤمن تقي وفاجر شقي» قال الخطابي : معناه أن الناس رجلان مؤمن تقي فهو الخيِّر الفاضل وإن لم يكن حسيبا في قومه ، وفاجر شقي فهو الدني وإن كان في أهله شريفا رفيعا , وقيل معناه : أن المفتخر المتكبر إما مؤمن تقي فإذن لا ينبغي له أن يتكبر على أحد ، أو فاجر شقي فهو ذليل عند الله ، والذليل لا يستحق التكبر ، فالتكبر منفي بكل حال
ألقاب القبائل : ( الهيلا , ظهور السواني , متيهة البكار معسفة المهار, ذباحة الحايل لطّامة العايل , طيبين المبادي كعام المعادي, أهل المحاجي والعلم المفاجي , كبار الصحون وساع الطعون... إلى غير ذلك من الألقاب الكثيرة ) : لوحِظ في الآونة الأخيرة من أناس كثيرين في قنوات متخصصة ومنتديات - خاصة القبلية - ولقاءات تلفزيونية وغيرها كَثْرَةُ الأخذ والعطاء في هذه الألقاب والعزاوي والتنازع عليها بين مُدَّعي ونافٍ لها عن غيرهم خاصة في الشِّعر, مما يتطلب الوقوف معها لمعرفة حقيقتها وأبعادها وما لها وما عليها, فأقول: عرفنا في الفقرة السابقة أن الشرع جاء بتحريم التفاخر بالأنساب بأدلة قطعية الثبوت والدلالة, فإذا عَرَفَ المسلم ما جاء به الإسلام من مَنْع الافتخار بالأنساب وذَمِّه مع أن الأنساب ثابتة ومتباينه؛ فإن منع الافتخار باللألقاب العارضة يكون من باب أولى , هذا لو كانت هذه الألقاب ثابتة ولا اشتراك فيها, فما بالك بأن هذه الألقاب غير ثابتة لأحد بعينه ثبات النسب واختصاص صاحبه به وأنها مُشترَك فيها من حيث اعتبار معناها ؟ وبيان هذا الكلام بدليله فيما يلي : هذه الألقاب عبارة عن الفاظ مُجَرَّدة, واللقب لا يعدو كونه لفظ وصْفِي واسم ليس له قيمة مالية كالأسماء التجارية, ولا اعتبار شرعي في إثبات النَّسب كالأسماء الشخصية, ولا شَبَه لها بالاسماء إلا من حيث قبول إطلاقها على أكثر من شخص, وليس اللقب جوهراً قائم بذاته يُحاز فيُسرق بالنقل كما قال بعضهم ! وليس هو عَرَضَاً قائماً بغيره ملازماً له لا ينفك حتى يثبت به الوصف والدلالة على مُعيَّن, وليس هو فعلاً يُسْند ويُنْسَب لفاعلٍ لا يمكن تعدده بعد صدوره منه, مما يقتضي ويلزم منه عدم صحة احتكاره أو التفرد بدعواه لشخص أو لقبيلة معينة كما وصل الأمر ببعضهم إلى أن قال فيه أنه ذخيرة أجداده ونحو ذلك, هذا دليل, ودليل آخر أن هذه الألقاب لولا ملاحظة ما تدل عليه من مدح لما أُطلق على القبيلة, إذ هذا شأن الألقاب كما عَرَّفها علماء اللغة, وليس للتعريف والدلالة على الذات كما هو شأن الأسماء التي قد لا تُعَلَّل, وإذا كان الأمر كذلك فإن المعاني الجميلة بل وحتى العبارات الجميلة التي تستخدم للتعبير عن تلك المعاني ليست حَكْراً على أحد ولا يستطيع عقلاً أن يختص بها أحد دون غيره فيمنعه من تحصيلها كالكرم والشجاعة وصورهما التفصيلية ونحو ذلك, وبناءً عليه فالصحيح أن يُقال هذه الألقاب تنطبق على كل قبيلة حققتْ تلك المعاني التي تدل عليها تلك الألقاب ولا بأس أن يطلق اللقب على قبيلتين أو أكثر . إذا تقرر ما مضى من تحقيق معنى اللقب وأنه لا يعدو كونه لفظ مجرد وتَسْمِيَةٍ بمعنىً فيه مدح يمكن إطلاقه على أكثر من قبيلة في وقت واحد أو أوقات متعددة إذا تقرر ذلك فإن التنازع على هذه الألقاب المجردة لا يسوغ للعقلاء فعله لِظهور خَطإِه, ولا ينبغي للحكماء التعرض له لما يُفضِي إليه من الفساد ولكون الخَطْب فيه يسير . ثُمَّ إنَّ اهتمام الناس بالإلقاب وعَدّ الأحساب ونحو ذلك من حطيم الكلام الخالي من الأفعال وحتى بكثير الأشعار والإنشغال بها عن أسباب الفلاح ومقومات الحضارة يدل على فراغ فكري وخطأ في المفاهيم, فهولاء الأمم من حولنا في أقطار الأرض في جميع القارات لا شيء من ذلك عندهم بل قد لا يعرف بعضهم أباه ومع هذا فقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الحضارات والتنظيمات والاختراعات والصناعات والتفوق المادي علينا ونحن في ذلك متخلفين عنهم ومستهلكين لما ينتجون وعيال عليهم, مما يجعل القلب يتفطر حسرة وندامة, مع أن أصول أسباب التفوق في جميع المجالات أوفر لدينا منهم !!! وما ذلك إلا بسبب ما ذُكر من اهتمامنا بما لا ينفع وأحياناً بما قد يضر, وليتنا عندما انشغلنا بها كنا مأمورين بذلك شرعا لنقول هذا إلتزام بديننا أو ليته على الأقل من المباحات ولكنه مما نهى عنه الشرع !! وللأسف فإنَّ ما مَضَى يؤكد ما قيل من كثرة أقوال العرب وقلة أفعالها وصبرها خاصة في الحروب - التي صموا آذان بعضهم بأنهم أهلها - مقارنة بغيرهم, فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن المستورد القرشي كان عند عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « تقوم الساعة والروم أكثر الناس » . فقال له عمرو : ( أبصر ما تقول ) . قال : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال : ( لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا : إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة ، وأوشكهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف ، وخامسة حسنة جميلة ، وأمنعهم من ظلم الملوك ) . ولِئَلاَّ يتأثَّر المسلم العربي بِمَا قد وَرِثَه من أخلاق سَيئة من أجداده الأعراب قبل الإسلام - إذ العرق دساس - فيستمر على نهجهم متناسياً آداب الإسلام وأخلاقه, أو خالطاً بينهما ظاناً أن هذه الأخلاق الحسنة السائدة الآن في المجتمع العربي المسلم يظنها مما وَرَّثَهُ العرب كما سَمِعْناه من بعض العوام في قصايدهم وحكاياتهم .. حِنَّا العرب .. وحِنَّا البدو .. لذلك كُلّه سأورِد بعض ما ذَكَرَه بعض علماء السِّيَر والاجتماع في أخلاق العرب وصفاتهم قبل الإسلام أو ما زال فيهم منها, حيث قالوا في الأعراب الذين هم مادة العرب: أنهم تَمَيَّزوا بالمكابرة, والتباهي, والزهو, والشموخ, والعنجهية, فلا يعترف أحدهم بالحقَّ ولو عَرَفه ما دام مخالف لهواه, بارعين في التَّهَكَّم والاستهزاء حتى مِن ما هم دونه, وعُرفوا بالفضاضة, والغِلْظة, والقَسوة, والأنانية, والجَفاء, فإذا تَكلَّموا رَفَعوا أصواتهم، وإنْ استنكروا شيئاً قطَّبوا حواجبهم عُبُوساً, وحدَّوا أنظارهم, ونفخوا مناخرهم, وأمالوا أعناقهم وازْوَرُّوا, كما عُرِفوا بكثرة الشَّر مع الحمق, والغدر, كما عُرف الأعراب بأخذ الثأر وعدم ترْك الانتقام غالباً, ولا مجال عندهم للسماحة والعفو, وقد قال الله عزَّ وجل فيهم « الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ » و « قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا » ومما قِيل أنَّ الأعراب أهل مِنَّة وأذَى, إذا فعلوا معروفًا ولو قليلاً بقوا يتحدثون عنه, وأما حقيقة ما اشتهروا به من الكرم إنما يفعلونه للمباهاة والسُمْعة والذِّكْر، وقد صَرَّحوا بذلك في أشعارهم, قال حاتم الطائي: أماوي إن المالَ مالٌ بذلتُه *** فأوَّله شُكرٌ وآخره ذِكْرُ, وقد أخرج الإمام أحمد وأبو يَعْلَى أنَّ عديّ بن حاتم قال: ( يا رسول الله إنَّ أبي كان يكرم الضيف، ويحمل الكلَّ، ويُعين على نوائب الدهر، فهل ينفعه ذلك عند الله ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن أباك طَلَبَ شيئاً فَأصَابَه » وفي رواية للطبراني : « إنَّ أباك كان يُحبُّ أن يُذكر » . وقد قال الله عزَّ وجلَّ في مثل تلك الأعمال: « وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً » إذ الإيمان بالله والإخلاص له أساس الأمر . وقد عُرِف الأعرابي بالجهل المُطْبَق, ولذلك كَثُرَ نَعْتُه بقولهم: الإعرابي الذي يبول على عَقِبَيْه, وهو صارم عبوس، وضحكه قليل وغالباً غير صادق، ويكره الدعابة, والأعرابي يكره الإنقياد لأحد وإن كان أميراً,كما يكره النظام والترتيب إذْ لم يألف عليها, وقد تَرَكَ جميعُ شُعوب الأرض حضاراتٍ وآثاراً إلا الأعراب, إلى غير ذلك مما هو كثير, وإنما اضطررتُ لإيراد بعضه لعلاقته القوية بخلق التفاخر ونحوه عند قبائلنا العربية ليكون الواحد مِنا على بينة من أمره لِيَعْرِف أنَّ الفَضْلَ فيما لَدَيْنا من خيرات وأخلاق حَسَنَه يَعُودُ للإسلام وليس للعروبة ولِنَعْرف حقيقةَ إِعْزاز الإسلام لنا وثمرة تهذيبه لأخلاقنا, وكيف أنقذنا الله به, لِنأتَمِر بِأمْرِه ونَنْتهِي عن نَهْيِه . ونعود للكلام عن الألقاب فأقول أكثر تلك العزاوي والألقاب - التي لا زالت إلى اليوم - للقبائل مما فيه معنى الشجاعة والقوة, إنما نشأ في كثير من الأحوال عن حروب وغزو بين القبائل نفسها داخل الجزيرة بعد الإسلام - مع الأسف والحسرة خاصة ما بين القرن السادس إلى الثالث عشر الهجري وهنا نقول عن ما يذكره كثير من الشعراء من الافتخار بغزو قبيلته القبائل المجاورة في سالف الزمان أن ذلك هو عين العار وليس افتخار, إذ كيف يكون فخراً للمسلم غزو أخاه المسلم وقتله وسلبه ! - فضلاً عن أن بعض هذه الألقاب نُسِجَتْ أواخر القرن الحادي عشر واوائل القرن الثاني عشر وقد سجعها شخص واحد فارغ عَلِم أم لم يعلم ما سيكون لها من الآثار .. المهم أنه لا ينبغي التعويل عليها ولا الوقوف عندها وكثرة تردادها, إلا أنْ جاء الحرب مع اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار فهناك يُقال تعالوا يا أهل تلك العزاوي وتلك الألقاب قولوها وحققوا معناها, وأما تصميخ آذان بعضكم البعض بها على وجه التعالي - معاشر المؤمنين الإِخوة - فغير وجيه ولا يجوز لأن بعضكم أولياء بعض, وقد انقذكم الله من براثين الجاهلية فلا تنكصون على أعقابكم, وما تلك الألقاب التي تُصَدَّر بها بعض المنتديات والمُكَاتَبات والأشعار إلا من ذلك النوع من التفاخر الممقوت ومن العصبية والحمية الجاهلية . ومن الأدلة كذلك على ما تمَّ تحقيقه أنَّ كثيراً من هذه الألقاب يُطلق الواحد منها على أكثر من قبيلة , كلقب ( ظهور السواني ) يقول بعض البقوم أنه لنا وكذلك يقول بعض السبعان ومثل ذلك يقول بعض الهوامل من مطير ومن عبده من شمر وغيرهم, وهناك من يعرف الحق وهم كثير فيقول أن اللقب يطلق على أكثر من قبيلة , وكذلك لقب (متيهين البكار معسفين المهار) يقول بعض البقوم أنه لنا وكذلك يقول بعض السبعان ومثل ذلك يقول بعض بني هاجر وغيرهم من القبايل , ولعلي أكتفي بهذا لئلا أطيل وإلا فأكثر ألقاب القبائل من هذا النوع ويكفي إيراد الأمثلة على تنازعها ليثبت ما تم تحقيقه من الكلام فيها مما سبق . وهنا وقفة مع شاعرنا في هذه القصيدة عندما تعرض للقب الهيلا نجده لم يَنْفِهِ عن الآخرين ولم يصف بالعدوان من تلقب به ولم يتعرض لأحد بسوء, وإنما قال ما اعتقده فيه مِن أنه أول ما أُطلق على قبيلته, مع أن موضوع قصيدته في هذا الشأن ! وما ذلك بعد توفيق الله له إلا لبعد نظره وقوة فهمه, في حين أننا نسمع للأسف عكس ذلك من البعض الآخر . وختاماً لأصل الموضوع فمَن نظر إلى الناس بقلبٍ مليء بالاحتقار والتعالي عليهم، ولو عاملهم معاملة حسنة في الظاهر؛ فإن الله لا يزكيه، ولا يعطيه السؤدد، ولا يبارك له فيما أعطاه في الناس، ومن صحب الناس سليم القلب نقي السريرة ولو كان من أوضع الناس منزلة فإن الله يورثه من المحبة والتقدير ما لم يخطر له على بال؛ ولذلك تجد بعض الناس لا يُعرف بيته، ولا تُعرف قبيلته، ولا جماعته، ولا يُعرف نسبه، وليس له ألقاب, ولكن ما إن يدخل على إخوانه وأصحابه وزملائه وعلى الناس؛ إلا وجدت المحبة والتقدير والأنس به والرضا عليه، شيءٌ لا يملكه وإنما هو من الله عز وجل وقس على الشخص القبيلة , وتجد الآخر الذي يتعالى على الناس ويفتخر عليهم مع أنه معروف البيت ومعروف المكانة؛ ومع ذلك نسأل الله السلامة والعافية تمله النفوس وتكرهه القلوب، ولا يرتاح أحدٌ لمجالسته، وإن جامله في الظاهر، فإنه لا يرتاح له في الباطن . فالإنسان العاقل ينبغي أن يعلم أنه لن يخفي سريرة إلا ويظهرها الله، فمن أخفى احتقار الناس رماه الله بالاحتقار في قلوب الناس، فكما أنه يحتقر أناساً في الغيبة، وإن جامله الناس في الظاهر، ولكنهم يحتقرونه في كل الظروف، وليجرب ذلك الإنسان وسيجد؛ لأن الله عدل ولا تخفى عليه خافية، ويجزي الإنسان بما في قلبه، فمن أسر سريرة الخير زكى الله له العلانية، ومن أسر سريرة الشر ابتلاه الله في علانيته .

 

 

   

رد مع اقتباس