عرض مشاركة واحدة
قديم 01-25-2010, 10:45 PM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية أبوناهل
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 12
أبوناهل is on a distinguished road


 

--- موت على الماء ---


النجمة تنام في قميص من بريق ووهج .. تقطر ضوءاً فضياً يعوم في فضاء رقيق .. لم يكن الشايب قد توضأ للصبح .. صنبور الحنفية ينقط .. يفرغ إبريق الوضوء المعدني المتعرج من أثر الصدمات .. فالأولاد يتخذونه كرة حين غفلة الشايب .. يلعبون به .. يدحرجونه بين أقدامهم الحافية في تراب الحوش .
غنت عصافير اللوز .. صاحت ديكة الجيران تسابق تذاكير الشايب ، وخيوط الفجر .. لحية الشايب.. شعيرات الكف تقطر بالوضوء .. وبرد الصباح يتنفس طقيقاً في ركبتيه وغضاريف ظهره .. والزاوية المنحنية.. يتدثر بجبته الصوفية المحمرة ثم يبسط سجادته الخوصية .. يهتدي برسم مئذنتها .. حين يكبر يرى الرسم مقلوباً فيعود يعدل وضعها ويكبر .. يسجد وتلتصق بالجبين المعلم .. ويسجد وتلتصق ثم يبسطها ويسجد وتلتصق ثم يبسطها ويسجد .. ويسلم على ملائكة اليمين واليسار .. يطوي سجادته ويعلقها على وتر الحائط الطيني .

كانت تسقط .. ثم بمفردها .. يطويرها ويعلقها .

دجاجتنا تشقشق ملء الدار .. تصفق بجناحيها .. ثم تنتف ريشها وتبيض على كيس اللوز المركون إلى جوار بيتنا العتيق .. حين اقترب أخي ليحمي بيضتها السوداء الكبيرة من قط وحشي .

.. نظرت في وجهه .. فقأت عينه وهربت من القط الذي يلتهم كل ما تبيضه .

إذا سألنا أخي الأعور قال (ذباب .. ذباب ذبني وذبيته) .

على ساحات قريتنا النائمة في ظل براءتها الفقيرة .. تسح الحشرات من عيون المجاهدين .. يختبئون تحت أمن الاسم .. يوكلون اللقمة على أمن الاسم ..

في زفاف ابن عمي المجدور الوجه .. دق طبل الفرح .. زغردت النساء الحافيات .. اتشحن بالخمار .. كتمن الأنفاس، ومضين إلى حيث سجن العروس الأبدي .حيث لا تخرج منه إلا حيث إنكسار مثواها .

وفي زفافه .. تجمع الأولاد .. رقص الرجال بالعصي .. كان شيخ القرية يحظر عليهم حمل النار فالرقص بها يخيف أمن الاسم .. ذاك الذي يوكلون عليه اللقمة .

عند انعطاف الرقصة الدائرية .. وقف الشايب يحمل سجادته الخوصية ويرقص بها .. يهدد بها الفضاء .. ويلاطم بقفزاته سحابات الغبار المنبعثة من تحت أقدام الراقصين .

والصوت واحد .. خلف الشاعر ينجر .. يتوزع أصداء تتقاذفها الحناجر : دقدق الراعد .. وهل الناوي .. وهبوا للما محرفه .

انطفأ رسم الزفاف بعد ثلاث .. عادت الأقدام المتعبة .. تحت الخطو .. تسرح وتروح ..

وجلود البقر تحمل أعباء العيال : رزقاً .. حياة .. وتعباً .

لما تمر أيام الجفاف يقبع المجاهدون في دفء ما أكنـزوه .. يقطر عليهم .. يقطر .. (ويكون فقر من ماء ولا فقر من ظمأ) .

تتحاشد الأوعية الجائعة حول رماد الغمام .. ينقشون أقدامهم من أشواك الطلح القاسية .

الشايب يخلل لحيته .. يراها نسيجاً أبيض من لباس الموت يستدعي أولاده .. يقرأ عليهم سورة .. و .. يرسم لهم مملكته التي ورثها عن أمه حين نهب الآخرون تحت مضاجعهم ماءها يقيس حدود أقسامهم بسجادته الخوصية .

الأولاد يتابعون رسمها الدموي .. تمتلئ وجوههم زرقة .. تفيض العيون أسى .. ورقاص أصفر يتناثر من أفواههم أسى .. ودماء .. الرسم تغوص في الرمال .. لا تنبت الزرع .. يعرفونها .. لكن الماء يغطي الجذور .. والدماء تنـزف في كل يوم اثنين وعشرين مرة .

لم تخرس وصية الشايب .. غير أن الأولاد لم تتبين في أيديهم أرغفة السّيّال .. البعض على صدورهم تسيل زركشة الماء الذي غطى أمنياتهم .. آخرون .. آخرون .. وآخرون يذوبون شوقاً يحملون على رؤوسهم يطوفون على الجرن الشاحبة .

لم تخرس وصية الشايب .. ظلت معلقة بسجادته .. تنطق بالعدل تتنبأ بأساطير ضوء يكشف الغيمة الداكنة . .

في شتاء الأيام تهب الرياح بساحة الحوش تعلب بالإبريق المعدني المتعرج .. وتقذف به في الأحلام العقيمة .. ينتظر تباشير الفجر القادمة من مسافات البعد .. ويفتح فاه للسباحة القادمة من عقبات تهامة .. لتمطر ماء الوضوء وتمسح عن أعشاب البراءة سحنة الغربة الداكنة .

وكان الأولاد يحملون زهوراً يطوفون بها على الجرن الفقيرة .. يفترشون أحزان غربتهم ويموتون انتظاراً لأفراح وهمية ميتة .

 

 
























التوقيع



   

رد مع اقتباس