عرض مشاركة واحدة
قديم 01-28-2010, 09:59 PM   رقم المشاركة : 10

 

السماء … والحناجر محترقة



اتشحت أوراق اللوز بخضرة مذهبة .. رفرفت كأجنحة الطير، وفي خفة وبطء كانت ترسل حفيفاً مثرثراً وسط هذا الصمت وكان يسيل على الصخور .. شجر الطلح .. الطريق المنساب الخالي .. : صمت دقيق وشفاف ، الهواء يهب بارداً وخفيفا .. رائحة النسيم تظلل كل شيء .
الأشياء نائمة .. هادئة في حين بدأ النور يتسلل في كسل وخجل .
العم عاطي يطل بوجه متغضرف، وأنف كالضفدع المسلوح .. من النافذة الخشبية كأنه صورة شيطان في إطار عتيق .
أطل بنظرة متراخية وغائمة .. شملت بيوت القرية .. وهي تبدو كحبات تئن متناثرة على خوان أصفر، بين البيوت الصخرية : تقافزت عواميد متفرعة من الأشجار الهزيلة .
الأنظار جميعاً ترقب السماء .. والسماء تظهر مجدورة ، ثم تكنسها الرياح .
والأرض ترقب ..
والأرض تلهث والزرع .
لكن الرياح تصنفر هذا الوجه الرغوي فيبدو حليقاً .. شاحباً ..
كان العم عاطي يطل بوجهه .. ويرى الخلجان فاغرة جافة ومغبرة .
كانت الحشائش كشعر ماعز .. إبراً لا حياة فيها .. جافة هشة .
وكانت تتثنى ثم تسقط متكسرة .. رياح السحاب تحمل عواءً وتتسرب جافة .. حارقة .
العم عاطي ..
يسقي زرعه من البئر المجاورة .
ثوره حبيش ينتزع الماء من البئر .. يشف ماء .. البشر ترشفه ببطء .. يتدرج ليصبح وشلاً .
العم يجرجر ثوره حبيش ذا السنام المائل كأذن القرد .. مع ابنثاق النهار الجديد .
تنقط على لثام السكون المرطب بالنسيم .. أظلافه القبقابية .. خفوتاً طرياً .. يتفرع صوت العم عاطي.. يصطفق بالحجارة المتساندة على حافتي الطريق .
يا مقسم الأرزاق ..
الصباح رباح ..
يا عيال الحلال ..
الصباح رمادي .. غائم .. واقتم و .. قاتم هذا الصباح .. ممتقع ! السماء مغلفة بالكحل .. تزحف مثقلة .. تمني بماء اسود .
(الثور حبيش .. يحمل على ظهره حياة هذا الزرع .. ويحمل غرباً كبيراً .. كبيراً ومملوءاً بماء البئر ويحمل دلائل مهذبة .. ينزعه من البئر .. ويحمل حبالاً من جلود إخوته .. بطول البئر .. يحمل أحزمه وأكتافاً من الخشب .. وحلقاً حديدية .. عدة المجرة لنـزع الماء) .
حبيش ..
يحمل مؤونة.. تعب العم عاطي .. وعنايته حبيش يحمل غرباً كبيراً ومثقلاً بالماء يعلهي به كل يوم .
تغدو البئر قاعاً .. تنفث رائحة الجفاف .
الزرع لم يعد يمد أكفا خضراء.. يتسارق القبل .. يتمايل في غضون .. لم يعد .
تيتم الزرع ..
رائحة الجفاف تنفث ..
والبئر قاع صفصف .
هذا الصباح ممتقع ..
السماء مكتحلة .. والعم عاطي ..
لا .. إنها مكنسة منظفة وقوية .. الرياح ..
يا مقسم الأرزاق ..
الصباح رباح ..
يا عيال الحلال ..
وهذا اليتيم يمد حناجر جافة يابسة .. ويشغر إلى السماء يبسط عروقاً .. ويفتش عن ندى ، الزرع ..
تتهدل أذرعته الرطبة الخضراء .. تتفصد من شرايينها الحياة .. تيبسها الرياح، تقف شاحبة .. وتمد حناجر جافة ومحترقة ..تشغر إلى الأعلى .. الأذرع تشيخ خضرتها وتصفر .
العم عاطي .. السماء .. الزرع ،
حبيش .. مؤونة العيال .. الأذرع تقف شاحبة .. جافة ويابسة .. تبث حزناً مسحوقاً وحارقاص .
يا مقسم الأرزاق ..
.. يا مقسم .
الأوعية .. الأنظار ، السماء ،
… والرياح مكنسة قوية منظفة .
وهذا الصباح ممتقع
الصباح رباح .. يا عيال الحلال ، والسماء .. ما كل هابطة رحمة ..
أمطرت مرة حجارة .. ومرة أمطرت ذهباً، لكنها تزحف وتحمل .
الصباح رباح .. الرباح .. الصباح، والصباح ممتقع .. أجهم الوجه .. غضب ،
السماء .. تقيء.. وتنهمر .. وتقيء ماء قوية وكثيفة .
أمطرت مرة ..
ومرة أمطرت .
ما كل هابطة رحمة .. والسماء ..
تقيء حصباء ..
وتقيء ماء .
تمايلت رؤوس جافة ..
ترجرجت .. تمايلت وتهافتت ..
مهجورة .. عفنة .. الأوراق الصفراء ..
وتذوب في الماء الأسود ..
كان يمضغ لسانه ..
كان يلوكه في امتعاض وقسوة .. و
كان قلبه يمتليء بالسخام ، العم عاطي.


عبدالعزيز مشري

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس