عرض مشاركة واحدة
قديم 07-08-2010, 01:18 AM   رقم المشاركة : 2

 

.

*****

مما يوثق الهاجس القصصي لدى الشاعر عبدالله البردوني وعيه بأن هذا الهاجس يهب انفاسه الشعرية مساحة تأثير اكبر، وينبري الحوار من داخل البنية القصصية كي يستبطن ابطاله وشخصياته في اطار هذه البنية

وقد يكون الشاعر ذاته هو بطل قصته الشعرية، وربما انتقى المقدمة النثرية المناسبة التي تضفي ظلالاً سردية شيقة ينتظمها الحوار في قصيدته «عروس الحزن» التي ضمتها مجموعته من ارض بلقيس، منزلها الكبير بجوار منزلي الصغير وقد لفني وإياها عاطف الحنان والحنين فتلاقينا على بعد، تظل تغني وأظل اصغي الى اغانيها وصوتها يتعثر في دمعها، ودمعها يتحشرج في صوتها، وفي نغماتها تتحاضن الدموع والترنم كأن صوتها عود ذو وتر واحد، بعضه يكبي، وبعضه يغني:-

صوتها دمع وأنغام صبايا = وابتسامات وأنات عرايا
كلما غنت جرى من فمها = جدول من اغنيات وشكايا
لست ادري صوتها يحرقي = بشجوني إنه يدمي.. بكايا
كلما طاف بسمعي صوتها = هز في الاعماق أوتار شجايا
ياعروس الحزن ما شكواك من = أي احزان ومن أي البلايا؟
ما الذي اشقاك يا حسنا وهل = للشقا كالناس عمر.. ومنايا؟
كيف تعطي أمنا الدنيا المنى = وهي تطوي عن أمانينا العطايا
أنا حرماني وشكوى فاقتي = أنا آلامي ودمعي وأساياً
لم يدع قلبي سوى قلبي أنا = لاولا عذبني شيء سوايا
جارتي ما أضيق الدنيا إذا = لم تشق النفس في النفس زوايا

فنتوثق تماماً من أن آلية القص أنقذت النص الشعري من مزلق المباشرة والتقرير لأن عروس الحزن هذه التي اجرى الشاعر على لسانها حواراً باكياً قد لا تكون شخصية حقيقية بل هي من نمط أنسمة الحزن، وربما كشفت الأبيات الثلاثة الأخيرة هدف الشاعر من القصيدة كلها فهي تتضمن موقفاً فلسفياً قوامه التحريض الضمني في وجه الحزن المطبق الذي يصل حد الاحباط واليأس والذي قد يأتي في إهاب فتاة رقيقة جميلة سواء اكان هذا على صعيد الاستعارة التشخيصية أم على صعيد الواقع النابض فمادام الانسان حياً فانه يتواصل مع الحياة وكما هي عليه فان لم يفعل فان سواه سيفعل ذلك ولن يعير أحداً سوى ذاته وفي أسمار القرية ثمة حوار جماعي لا يتبين فيه صوت شخصية معينة بل يتحول الحوار الى حكايا وأساطير وثرثرات:ـ

تجمع القرية الشتات فتحوي = أمسيات من عاصفات الفدافد
فيقصون كيف طار ابن علوان = وماذا حكى علي بن زائد
ويلوكون معجزات فقيه = يحشد الجن والظلام يشاهد
وحكايا تطول عن بائعات الخبز = كم في حديثهن.. مكايد
ويتوبون يستعيذون بالله = لأن الاناث نبع المفاسد
وعلى صمتهم تهيأ شيخ = مثلما تخفق الطيوف الشوارد
فحكى قصة تململ فيها = كل حرف كأنه قلب حاقد
وتعالى فيها التبجح بالثأر = فهاجت مستنقعات العوائد
وتنادوا لبيك يا عم هيا = كلنا سائرون لاعاد واحد
وعلى إثر من مضوا عادت الأسمار = تحيا على اصول القواعد
وتباهي: اردوا صغيرين منا = وقتلنا منهم ثلاثين ماجد

فيرسم الشاعر لوحة القرية بكل ألوانها الزاهية منها المعتمة وبكل ظلالها ومهادها المعتقدي الراسخ، ولكي يؤصل للمكان الأليف/القرية فإنه يحتاج إلى هذا الحشد من التفاصيل التي ترد عبر حوار عام يجريه النص على لسان اهل القرية من فتية وشيوخ مع غياب حوار المرأة المفصح عن تهافت حضورها وخفاء صوتها المرتبط بالعورة، ويغتنم الشاعر الفرصة كي يدين الثأر بوصفه تقليداً اجتماعياً ربما كانت له مبرراته في زمن سابق بيد انه الأن يبدو نزيفاً لا بدله أن يتوقف.
ويسخر الشاعر في قصيدته «لص في منزل شاعر»إذ يحاور لصاً:

يالص عفواً إن رجعت = بدون ربح أو خسارة
لم تلق إلا خيبة = ونسيت صندوق السجارة
شكراً أتنوي ان تشرفنا = بتكرار الزيارة

وتميل القصيدة منذ عنوانها الى معتقد تراثي قوامه أن حرفة الأدب ما إن تدرك احدهم حتى يتسلل الفقر والحرمان الى جيبه وبيته مع أن المسألة نسبية فقد عاش أدباء كثر في كنف البلاط ورفلوا بالعطاء المادي ولم يكن لديهم سوى مواهبهم الأدبية. وربما شاء الشاعر أن يؤرخ لمرحلة من مراحل حياته إذ نظمت القصيدة في عام 6691م حيث كان الشاعر يعيش حياة الكفاف وقد استثمر طرفة شعبية معروفة بث فيها الحياة من خلال الحوار الحي الذي انتظم القصيدة ولاسيما فيما إجتزأناه من أبيات منها.

وقد يحاور الشاعر صنعاء وعدن ومدناً عربية اخرى وربما حاور النجوم والثريا والريح والجدار بل حاور كل شيء عبر آلية أنسنة الأشياء والجمادات وفي سياقات شعرية دالة، ويزخر شعره الغزير بالنماذج الحوارية المبثوثة في غضون ديوانه الضخم ذي المجلدين اللذين نافا على الألف وسبعمائة وخمسين صفحة وبعد فإن الحوار كان أداة فنية فذة بيد الشاعر عبدالله البردوني بحيث أدى دوره في استبطان الشخصيات التي وردت في سياق قصائده وأولها شخصية الشاعر ذاته فضلاً عن شخصياته التي اوردها عبر تقنية القصيدة القصصية بحيث أناط بها النص مهمة التعبير عن مواقف الشاعر وثقافته وأفكاره ومعتقداته ورؤاه وأخيلته وطموحاته وهمومه، وقد اجرى الحوار بنمطية «الدايولوج والمنولوج» وبمهارة تميزت بها الموهبة الشعرية الفائقة للبردوني وهي التي عبرت به حدود اليمن كي يتبوأ موقعاً شعرياً على صعيد الوطن العربي كله.


٭ من أوراق العمل المقدمة لمهرجان البردوني في جامعة ذمار
٭ عميد كلية الآداب والالسن جامعة ذمار



*****

 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس