عرض مشاركة واحدة
قديم 02-07-2010, 12:12 AM   رقم المشاركة : 30
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية أبوناهل
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 12
أبوناهل is on a distinguished road


 


قصة (( أبوالحصين ))
إحدى قصص مجموعة (أحوال الديار)



------------- أبوالحصين ------------




ملأت شهرته كل أرجاء القرية، وقالوا أن "عياف " رجل بصير، فهو يقول القصائد في المحافل، ويفْرِي الجلود من بعد دبغها، وشاهدوه مرارا يسّلك بقدومه في خشب "الغَرَب"؛ فيصنع الصحون والمحّال.
وكان بعض رجال القرية؛ حين تفضي أيديهم من العمل في العصارى..يقعدون معه أمام الباب في ساحة الدار..قليلون ويكيلون في الكلام معه..فحديثه لا يمل كما يقولون.
مرة يسقيهم القهوة، ومرات تكون أم عياله في شأن يشغلها..فلا يشربون. غير أنهم هذه المرة جئ إليهم بالدلة المهيّلة ومعها صحن صغير؛ عليه حبات قليلة من التمرات، ودارت فناجين القهوة، وارتفعت الى الأشداق بالأصابع حبات التمر، وطاب الكلم ل"عياف".

* * *
قال، إنه افتقد واحدة من دجاجاته مسية البارحة، وألقى ببصر عينيه المزمومتين الى الأرض، وبرطم شفتيه، ولم يبدُ شاربه المجنح قليلاً في هيئة مرضية، ثم ما لبث أن هذب من تربيعة قعدته، وحرك يمينه بكمّها العريض، وألزم أصابع الأخرى على مهل ذؤابة لحيته الجامدة القصيرة، فبان أن هناك حديث سيقال..وقال:
- يا جماعة الخير ..الدجاجة ذهبت في فم " أبو الحصين"، و" أبو الحصين " عدو لكل دجاجاتنا، وإذا كان قد اقتنص دجاجتي اليوم؛ فإنه يعرف الآن طريق صيد دجاجات كل أهل القرية.
قال واحد:
-يخسى "أبو الحصين".
قال آخر :
- "أبو الحصين" ما يغلب الرِّجَال .
قال ثالث:



-لا والله..ما حقه إلا الرصاص.
أشار"عياف" بهزة مقتضبة من يده، وكأنما يرغب في الكلام فقال:
-هذا هو الكلام..فيكم رجال، لم يخرجوا الى الوديان؛ إلا ببنادقهم، والبنادق ما صنعت إلا للرمي بالرصاص ..أقول لكم، إن "أبو الحصين" فعل في خاطري ما لم تفعله حَشيّة البندقية بدجاجتي، وألهمني الحسرة عليها، فقلت: لا هنت يا عياف، جماعتك ما يضحك منهم الماكر..والله لو قتلوه ورموه قدامك بلا روح..لأعشينهم على ذبيحة من الغنم، ولو اشتريتها بقيمة عشرين دجاجة.

* * *
كان القوم في ذيل الشتاء، وكان البرد يجمع آخر أنفاسه في الأيام ..وكانت البطون تقْرم لرائحة وطعم اللحم، فاستيقظت النخوة التي سابقها اللعاب وجرى مع نطق اللسان:
-نجئ به، ولو كان في أبعد الديار.
ولما كانوا يتصيدون المناسبات، لشيء ذي بال يهم الشأن، أو بغير شئ ..ولما كانت البنادق تستثير أيدي حامليها..كان فجر اليوم التالي يواجه انتشار نفر من الجماعة تفرقوا في الوديان ،يدورون عن "أبي الحصين"، ( فأينك يا أبا الماكرين من طردتنا خلفك؟ وأين ذيلك الكث المسحوب من نار بنادقهم؟، وأين من يجرك كالخلقة قدام عيّاف؟، وأين ساعة فهيئ فيها حرقة بطوننا للشحم واللحم؟!).

* * *
حين بلغت الشمس مبلغ الضحى، احتوت الآذان نقر رصاصة ملأت بصداها الوديان، فتوقف الباقون عن البحث، والتموا قرب مبعث الطلقة، وقالوا لا يطاق بعدها طلقة ..فلو سمعنا "عيّاف" ظن أننا قتلنا أبا الحصين وعشيرته، وهذا سيعفيه من ألوفاء بذبيحته اللي وعدنا بها..فهو يريد أبا الحصين الذي سفك دم دجاجته ليس غير.
جاء ابن فلان بأبي الحصين من ذيله، وجرجره كجلد الذبيحة طول الطريق، وعلى كتفه اليمين رفعت أنفها بندقيته الحامية، وتقاطر النفر خلفه الى دار " عيّاف"، صاح ابن فلان من حافة الساحة:
- أخرج يا عياف ..غريمك هامدا في يدي.

* * *
كانت الشمس التي تكاد أن تلج كبد السماء بعد الضحى، تكشف كل خبايا الدنيا في العيون، وكان بيت "عياف" يحمى بنصاعة الضوء، الذي أبان بناء حجريا مرصوصا رابضا وسط ساحة تتقافز في بساطها المحدود شجرات لوز قليلة متباعدة، وبابا النافذة الوحيدين المطلين الى الساحة، والمنقوشين بتعاقب دقيق..قد سطعا بلون القطران الأسود، وكان مصراع الباب يختبئ بدرفته في ظل فتحة داخل البيت.
في جهار النهار القروي يسيح كل شغب وحركة في الانشغال بالحلال والزرع..غير أنه قد خرج على هيئة الخيبة المعبأة من لسان "عيّاف" وهو يندفع من الداخل بقدمين حافيتين وفم مفتوح ليقول، دون أن يقصي عينيه عن أبي الحصين :
-هاه ..سلمت عنايتك يا ابن فلان، لكن "أبو الحصين" هذا ..ليس هو الذي أكل دجاجتي، هذا من وديان القرية المجاورة، وما هو من وديان قريتنا، وحسبك أنك فتكت بروح حيوان ليس له في الأمر ذنباً ولا تأنيباً.

* * *

ألقى ابن فلان ببندقيته عن كتفه، وأسندها الى حجره، حيث قعد على أصابع قدميه مهمهماً: (فعلتها يا عياف).
تناوب بالإلتفات والدهشة رفقاء ابن فلان، وماثلوه في القعدة وإهمال البنادق، فتقاسموا صمتا كالصخر رنا على لجميع.
أضمر ابن فلان ومن معه لـ"عياف" أمراً، وأدرك "عياف" أنهم لن يتيهوا في لعبته، فرأى أن يستحوذهم بلين الكلام، فدعاهم الى داخل البيت، وسقى عطش لهلتهم بالقهوة المهيّلة، ولازال يلاطفهم في هدوء ضغين، ويتحسر على قوم ببنادق تحصد العشائر وقت اللزوم؛ لم تقدر على صيد أبي الحصين الذي فتك بدجاجته.
كان ابن فلان ومن معه لا يتكلمون إلا القليل، وكانت صدورهم تعج بالانتقام، وكانت معرفتهم به وببصيرته واحتياله تهيبهم من فعل لا يعلمونه. ودَّعوه وقاموا، وكان أبو الحصين يشغر فاه ممداً طرف الدار.

* * *
هبطوا بعد أيام إلى سوق القرى، وعمدوا شيخاً عُرِف بحل المتشابهات بين الناس..حكوا له ما جرى لهم مع "عيّاف"، وندت الحسرة والتشفي من حلوقهم، وطلبوا منه حكما يرضيهم، وأكدوا على حفظ الأمر، فوعدهم، وألزمهم موعداً بالمجيء الى قريتهم.
و.. كان ما كان من أمر المجيء، فاستقبل "عياف" الشيخ على خير السعة، وقدم له ولابن فلان ومن معه القهوة المهيّلة والتمر، دار بعد دورة فناجين القهوة الحديث، وأوضح ل"عيّاف" الشيخ ما سمعه من جماعته، وقال:
- .. واليوم، إن كنت ممن يأخذون ويعطون في الحق، ولا ينقصون ما وعدوا به الموعودين.. فجهز سكينك أرق دم ذبيحتك وقدّام كل عين تعلّق أبا الحصين على غصن تلك الشجرة في ساحة دارك..ساعتها، نقول عيّاف كمّل وجمّل وأوفى بوعده قدّام القاصي والداني ..وصلى الله على محمد.
قال كل لسان حاضر: " صلى الله وسلم "، أطبقت الأفواه مع استعداد المسامع لرد يأتي من "عيّاف" ..قال :
-جئت، والله يحييك يا شيخنا، والحق ما يرفضه إلا الجاهل، ولكن، أقول ..إذ كان ابن فلان ومن معه..يؤكدون لي باليمين والحلفان ..إن "أبو الحصين" الذي صادوه، هو بذاته الذي أكل دجاجتي ..فإني أوفي بوعدي دون تقصير، وأطعمهم مرقة ولحم الذبيحة هذه الليلة..وإلا،كيف أقبل؟!

* * *
حيثما التفت الشيخ الى ابن فلان هذا ومن معه ..ورأى أنهم لا يقدرون على حلفان اليمين، وليس هناك ما يستدلون به على أنه "أبو الحصين" الذي أكل دجاجة "عيّاف"..قال ووجهه البالغ النقاء بالشعر الأبيض، وعقال رأسه يكاد ينحدر من مؤخرة رأسه، ويده اليمين تؤمئ بحركة تلاءمت مع قول اللسان :
- يا عيّاف، هذا تعجيز، وفي التعجيز هروب، وفي الهروب إدانة، والإدانة عليك بنكران الحق.
اختلطت الأصوات، و هاج وماج أخضرها بيابسها، وضاقت ساحة المجلس بالهرج، فطلب الشيخ منهم السكوت، واستدار موافقة الطرفين على قبول حكمه، والله على خير ما يقول معين..فقال:
-..اسمع، يا عيّاف..الليلة تعشينا جميع على العيش والسمن، ويسقط عنك ما لزمت به من وعد الذبيحة ..بعدها؛ لا لك، ولا عليك..كيف ترى؟

* * *
رأى "عيّاف"، أنه قد بلغ السبيل المسدود، وأن بعض الشر أهون من بغضه..فالعيش والسمن ليس كتكلفة الذبيحة، ومجيء الشيخ في أمر كهذا ليس بالأمر الهيّن ..وماذا سيذاع عنه في القبائل؛ وهو الذي تملأ بصيرته وطول ذراعه البعيد والقريب..فقال بصوت يقين:
- قبلت حكمك يا شيخنا ..الله يحييكم جميع.

* * *




كان الليل القروي يهبط هادئا نقيا، تخترقه نباحات متقطعة للكلاب، وكانت بنادق القوم ترتكز على كعوبها الى جوارهم قرب جلستهم الملمومة حول صحن العشاء، وقد راحت أفواههم تصطفق بلقم العيش اللينة مع السمن، وكانت تفوح منه لذاذة محببة.
أما أبو الحصين فكان ينتفخ على مهل طرف الساحة، ففي الغد سيغدو مرتعا لزرافات النمل والذباب.


---- في جدة / 12/6/1991 م ---

 

 
























التوقيع



   

رد مع اقتباس