عرض مشاركة واحدة
قديم 06-21-2010, 08:39 PM   رقم المشاركة : 3

 

ما رواه الإمام أحمد في " مسنده " وأبو داود في " سننه " من حديث عبد الكريم الجزري, عن قيس بن حبتر عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ)) .
والكوبة: قيل: هي الطبل، وقيل : نوع من أنواع المعازف، وقيل: إنها اسم يطلق على سائر أنواع المعازف .
و إسناده صحيح .
وفي إسناده عبد الكريم الجزري، وقد تابعه علي بن بذيمه عند الإمام أحمد في " مسنده "؛ عن قيس عن عبد الله بن عباس .
وجاء في ذلك: ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلاّم والبيهقي أيضاً من حديث حبيب بن الشهيد وهشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة: (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نهى عن كسب الزمارة)) .
وإسناده صحيح .
ومن نظر إلى هذه النصوص وجدها صريحة في تحريم المعازف.
وليُعْلم: أن ثمّة أمرين:
الأول: هو الغناء.
الثاني: المعازف,وهي آلات اللهو والطرب.
ويخلط كثير من الناس بينها، فالغناء باب واسع يدخل فيه ( الأناشيد ) والألحان والحداء والكلام المسجوع.
وأما آلات الطرب فلم يرد من وجه يثبت القول بجوازها عن الصحابة,ولا عن أحدٍ من التابعين,ولا من أتباع التابعين,ولا من الأئمة المتبوعين.
ولذلك يحمل بعض الجهلة ما جاء من بعض النصوص في إباحة الحداء، وما جاء في بعض النصوص من ( الغناء ) المرادِ به الأشعار يحملها على آلات المعازف واللهو، وهذا جهل شنيع، ومخالفة صريحة، ومكابرة عظيمة لنصوص الشرع.
وهو وضوحاً عند الأئمة بالمكان البين، حتى قال ابن قدامة: ما ظننت أن الجهال يخفى عليهم هذا.
وقد وقع في ذلك كثير من المتأخرين ممن حرمه الله البصيرة والنظر النافذ في كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولغة العرب.
لقد اتفق الأئمة من الصحابة على تحريم ذلك، ولهذا لم ينقل عن أحد منهم القول بجوازه، بل قد نصوا على التحريم.
فقد روى البيهقي وابن أبي الدنيا في " ذم الملاهي " والآجري وغيرهم؛من حديث حماد بن زيد, عن إبراهيم النخعي, عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: ( الغناء ينبت النفاق في القلب كما بنبت الماء البقل ) .
وكذلك جاء عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- ما رواه ابن أبي الدنيا من حديث يحيى بن سعيد,عن عبيد الله,عن نافع,عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه-: أنه مرَّ عليه قوم محرمون وفيهم رجلُُ يتغنىَّ، فقال: (( ألا لا سمع الله لكم ، ألا لا سمع لله لكم )) 0
وما رواه البخاري في " الأدب المفرد " والبيهقي في " السنن " من طريق عبد العزيز الماجشون,عن عبدالله بن دينار قال: مر ابن عمر بجارية صغيرة تغني,فقال:لو ترك الشيطان أحدا ترك هذه.
وكذلك جاء عن عائشة- رضي الله عنها- ما رواه البيهقي في " سننه " من حديث بكير بن الأشجّ عن أم علقمة مولاة عائشة أنها قالت: ( إن بنات أخي عائشة خُفِضن فتألمنَ,فقيل لعائشة: لو جئنا بأحدٍ يلهيهن، فقالت: لا بأس، ائتوا بالمغني فلان، فجيء به .
قالت: فأخذ يتغنى، فدخلت عليه عائشة وهو يتغنى، ويحرك رأسه، وله شعرٌ طويل.
فقالت عائشة عليها رضوان الله تعالى: أُفٍ! شيطان! أخرجوه أخرجوه ) .
وعائشة عليها رضوان الله هي التي دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح, وعندها جاريتان تغنيان بغناء بُعاث .
هنا قالت: ( الشيطان ) ، وهنا ( عندها جاريتان تغنيان بغناء بعاث ) ؟
فذلك غِنَاءٌ وهذا غِنَاء آخر، فذاك شيءٌ وذاك شيءٌ آخر, ولاعلاقة بآلات اللهو والطرب فيه مطلقاً .
وقد جاء عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه- كما رواه أبو داود في "سننه" من حديث نافعٍ, عن عبد الله بن عمر: (( أنه سمع مزماراً فوضع أصبعيه في أذنيه، فقال لابنه نافع: أتسمع صوتاً ؟ فقال: لا، فقال: إني كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ففعل ما فعلت )) .
وإسناده قد تكلم فيه، وصححه ابن رجب -رحمه الله- في رسالته " السماع".
وكذلك قد جاء عن غيرهم من الصحابة، جاء عن عبد الله بن عباس وغيره في ذلك.
ولا يزال العلماء على مرِّ العصور ينقلون إجماع السلف والخلف على تحريم الغناء وآلات اللهو والطرب، فمن نظر إلى العلماء في كل قرن وجد أنهم يتتابعون على نقل الإجماع مقرين له.
ولا أعلم قرناً من القرون خلا من عالمٍ ينقل إجماع العلماء على تحريم الغناء والمعازف.
ولذلك قد نقله زكريا بن يحي الساجي في كتابه "اختلاف العلماء" في القرن الثالث إذ جل حياته فيه.ونقله الآجري رحمه الله في القرن الرابع. ونقله أبو الطيب الطبري وابن عبد البر في القرن الخامس. ونقله ابن قدامة وأبو القاسم الدولعي الشامي الشافعي في القرن السادس.
ونقله ابن الصلاح والقرطبي والعز بن عبد السلام في القرن السابع. ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية والسبكي وابن رجب وابن القيم وابن مفلح وغيرهم في القرن الثامن. ونقله العراقي والبزازي الحنفي في القرن التاسع. ونقله ابن حجر الهيتمي في القرن العاشر. ونقله الآلوسي وأحمد الطحطاوي في القرن الثالث عشر. ونقله الغماري في القرن الرابع عشر.
ولا يزال العلماء على شتى مذاهبهم؛ من المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة مطبقين على تحريم الغناء والمعازف.
ولذلك فمن نظر إلى من حكى الإجماع وجد اختلاف بلدانهم، وتباين مذاهبهم.
فمن المالكية: ابن عبد البر في " التمهيد "، والقرطبي في " تفسيره "، وابن القطان الفاسي في كتابه " الإقناع في مسائل الإجماع ".
ومن الشافعية: جماعة وخلق كثير كابن الصلاح، والعز بن عبد السلام، وابن حجر الهيتمي، والعراقي، والطرطوسي وغيرهم.
ومن الحنابلة": ابن قدامة، وابن رجب، وابن تيمية، وابن القيم، وابن مفلح، وغيرهم.
ومن الحنفية: الفقيه الحنفي محمد البزازي في "المناقب"، وزين الدين الكرماني، وشيخ الحنفية أحمد الطحطاوي في مصر في "حاشيته على مراقي الفلاح".
وكذلك أئمة المذاهب بأنفسهم: قد نصوا على التحريم، وحكى الإجماع من أهل المذاهب على اختلاف بلدانهم.
* فابن عبد البر والقرطبي في الأندلس.
* وابن القطان الفاسي والغماري في المغرب .
* وابن قدامة وابن الحنبلي وابن تيمية والعز بن عبد السلام وابن رجب وابن القيم في الشام .
* وابن حجر الهيثمي والطحطاوي الحنفي في مصر .
* والعراقي والآلوسي في العراق.
* وفي بلاد الترك والبلغار: الفقيه الحنفي محمد البزازي الكردي، في "الفتاوى البزازية" . وغيرهم خلق كثير على اختلاف بلدانهم .
ومن حكى خلافاً في هذه المسألة فقد غلب عليه هواه.
يقول ابن حجر الهيتمي: في كتابه " كف الرعاع " : ( ومن حكى خلافاً في الغناء فإنه قد وهِمَ وغَلِط ، وغلب عليه هواه حتى أصمّه وأعماه ) .
ومن نظر إلى الأئمة الأربعة وجد نصوصهم متضافرة على تحريم الغناء بالنص.
فالإمام مالك: قد روى الإمام أحمد في كتاب " العلل " والخلال في " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " من حديث إسحاق بن عيسى الطبّاع، قال: ( سألت مالكاً عن سماع الغناء ؟ فقال: إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق ) .
وأما الإمام أحمد: فقد نقل عنه ابنه عبد الله في كتابه " المسائل " قال: ( سألت أبي عن الغناء ؟ فقال: ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني )، ثم نقل قول الإمام مالك رحمه الله: ( إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق ) .
قال أبو حنيفة رحمه الله: ( وأما الغناء فهو محرّم عند سائر الأديان). ورد شهادة المغنّي الأئمةُ من أتباع مذهبهِ.
وأما الإمام الشافعي- رحمه الله- فقال: الغناء لهوٌ مكروه، ويشبه الباطل والمحال، وقد نص في كتابه " أدب القضاء " وكذلك في كتابه " الأم " على أن المغنّي ترد شهادته.
وأعْجَبُ مِنْ قول من يقول: إن رد الشافعي لشهادة المغني مع قوله" لهو مكروه يشبه الباطل" ليس بصريح في التحريم. وإن قول الإمام مالك: ( إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق ) ليس بصريح في التحريم.
وإن قول الإمام أحمد: ( ينبت النفاق في القلب ) ليس بصريح بالتحريم!! فأي تحريم يثبت في الشرع عنهم حينئذٍ إن لم يكن هذا القول صريحاً بالتحريم ؟؟
وإن كنا نعلم بل نتيقن أن أقوال الأئمة من الأئمة الأربعة وغيرهم ليست نصوصاً من الوحي، وأن كلامهم ليس بحجه، وأنه بحاجة إلى أن يحتج له لا أن يحتج به، ولكن تساق أقوال الأئمة- رحمهم الله- ليُعْلم الإجماع والإطباق، فإن الإجماع معتبر،ولا يكون إلا على نص.
ونقل تكفير من أباح الغناء عن أئمة من ثلاثة مذاهب متبوعة.
قال بعض أصحاب أبي حنيفة : ( سماع الغناء فسق، والتلذذ به كفر)، والتصريح بكفر مستحل الغناء قال به من الحنفية: حافظ الدين الفقيه محمد البزازي في "الفتاوى البزازية"، وزين الدين الكرماني.
قال البزازي في "فتاويه": ولما عُلِمَ أنّ حرمَتَهُ بالإجماع لزم أن يكفّر مُسْتَحِلَّه .
وقال به القاضي عياض المالكي،بل حكى الإجماع على كفر مستحله.
وحكاه ابن الحنبلي، كما نقله ابن رجب- رحمه الله- في كتابه " ذيل طبقات الحنابلة " عن ابن قدامه.
وإن كان هذا القول ليس على الصواب، بل أن فيه تشدداً، وذلك أن الكفر بعيد، وإنما هو هوى وجرمٌ وذنبٌ، وقد عدّه غير واحد من الأئمة من كبائر الذنوب كابن النحّاس في كتابه " تنبيه الغافلين "، وابن حجر الهيتمي في كتابه " الزواجر " عدّوا سماع الغناء من الكبائر .
ولا أعلم مسألة عدّها العلماء من الكبائر، ونٌقِل الإجماع فيها، فتكون مباحة على قول معتبر.
ومن نظر إلى كلام بعض المتأخرين ممن يتكلم على مسائل الغناء، وكذلك المعازف من الموسيقى وغيرها، ويستدل على إباحتها بما جاء عن بعض الأئمة من السلف أنهم كانوا يستمعون للغناء ونحو ذلك مما ورد عن أهل المدينة، فإنه قد اشتهر عنهم السماع، فالمراد بالسماع هو: الحداء والألحان والأناشيد، وليس المراد بذلك المعازف إطلاقاً.
ولذلك ينقل العلماء أن السماع هو مذهب أهل الحجاز، فأي سماع أرادوا ؟
الجواب : أرادوا السماع الذي قد أطبق عليه الناس الآن في وقتنا عامّة، من المبالغة بسماع الحداء والأناشيد وغيرها.
وقد سُئِل الإمام مالك- رحمه الله- عن الغناء فقال: ( إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق ) .
وسُئِل الإمام الشافعي- رحمه الله–: حيث سأله يونس ، فقال: سألت الشافعي عن السماع الذي أراده أهل المدينة ؟ فقال الشافعي - وهذا نقل نفيس عنه - : ( لا أعلم أحداً من أهل المدينة كره السماع إلا ما كان على الأوصاف، وأما ما كان من إنشاد الشعر والحداء وذكر المرابع، فإنه مباح) ، إذاً المراد بذلك كلّه لا يخرج عن الكلام الملحّن.
ويوهم كثير من النقلة أن المراد بالسماع عند أهل المدينة هو المعازف وآلات الطرب، وهذا جهل شنيع ، فما قال بذلك أحدٌ معتبر.
بل قال ابن حجر الهيتمي في كتابه " كف الرعاع ": ( لم يحفظ عن أحد ولم يرو عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة المجتهدين من قال بإباحة المعازف) .
وقد لبس – أولُبِّس على - كثير ممن صنّف في إباحة اللهو والغناء حيث أدخلوا عن هوى أو شبهة مسألة المعازف والموسيقى فيها، ولا علاقة لها فيه.
وقد نظرت في المصنفات التي صنّفت في هذا الباب، فرأيت أن من ذكر الموسيقى فيها لا دليل في كتابه كلّه على شيء من ذلك، وأنه يستدل ببعض الألفاظ التي جاء فيها ذِكر الغناء ، وذلك لا يعدو كونه شعراً وحداءً، ومن نظر إلى أشعار العرب وكتب اللغة وجد ذلك ظاهراً.
ويستدلون ببعض الأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، فمنها ما جاء في الصحيح من حديث عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: دخل عليَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- وعندي جاريتان تغنيان بغناءٍ بعاث ، فدخل أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (( دعهما)) .
مغنيتان تغنيان: المراد بالغناء هو الحداء، وهذا معلوم ولا ريب فيه، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل اللغة، وإنما خالف فيه من جَهِل الاصطلاح ممن تأخر.
فيقال أولاً: إن ذلك ليس فيه دليل، فليس ثمّة آلة لهوٍ؛ لا مزمار ولا طبل ولا غيرها .
الأمر الثاني: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان سامعاً، ولم يكن مستمعاً، ومعلوم أن ثمّة فرق بين السماع والاستماع.
فالسماع: هو أن ينفذ إلى سمع الإنسان شيء من غير اختياره ومن غير إنصات.
فإن الله عز وجل قد حرّم الغيبة والنميمة وحرّم الاستماع إليها، والجلوس عند من يخوض في كلام الله عز وجل استهزاءاً، وقد ينفذ إلى مسَامِعِهِ شيء من الحرام ولا يأثم بذلك .
وهذا نظير المُحرم حينما يأتي إليه من رائحة الطيب مما لا يتعمّده شمّاً، ولا يلحق في ملابسه فليس عليه شيء.
ويقول ابن قدامة رحمه الله: ( ومن لا يفرّق بين السماع والاستماع فإن ذلك جاهل، وليس أهلاً للفتيا) .
ويخلط كثير من الناس بين هذا وهذا، وقد أورد بعضهم في هذا الباب ما جاء عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- ويأتي الكلام عليه، ووضع إصبعيه في أُذُنيه حينما سمع مزماراً.
فسماع عائشة للمغنيتين اللتين تغنيان عندها بغناء بعاث ليس المراد بذلك المعازف بالإطلاق، وذلك أن عائشة تنكر الزيادة في الإطراب بالقول، فكيف بالمعازف أيضاً ؟
فقد روى البيهقي – كما تقدم – من حديث بكير بن الأشج عن أم علقمة: ( أن عائشة قد خُفِضت بنات أخيها– القاسم بن محمد – فتألمنَ، فقيل: نأتي بمغني يلهيهنَّ، فقالت: ائتوا بفلان، فجيء به فأخذ يغني، فرأته عائشة وهو يهز رأسه وشعره طويل، فقالت: أخرجوه! شيطان شيطان) .
وبعضهم يستدل – أيضاً – بما جاء في الصحيح من حديث عائشة أنها قالت: (( إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليسترني وأنا أنظر إلى زفن الحبشة في المسجد)) .
فيقال: أن الزفن هو الوثب بالسلاح .
والحبشة ماذا كانوا يقولون ؟
قد روى الإمام أحمد في " المسند " والسراج في " مسنده " من حديث أنس بن مالك أنهم كانوا يقولون: ( محمد عبد صالح، محمدٌ عبد صالح) .
فهذا ما كان يزفن به الحبشة في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، إضافة إلى أن الزفن هنا المراد به الوثب بالسلاح والرماح، وهذا جائز لشحذ الهمم لجهادٍ ومكارم الأخلاق ، وغير ذلك، في الأعياد ونحوها ، إذا خلا من المعازف وآلات اللهو، وكان بالمعاني الحميدة، لثبوت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- تقريراً .
وربما استدل بعضهم بما جاء عن عبد الله بن عمر من وضع إصبعيه في أٌذٌنيه وقوله لمولاه نافع: ( أتسمع شيئاً ؟ فقال: لا ).
قالوا : إنه أذِنَ لمولاه نافع أن يسمع !
فيقال: إن ذلك سماعاً وليس استماعاً، وفرقٌ بينهما.
إضافة إلى أن أبا داود قال في " سننه ": ( هذا حديث منكر ) .
قال ابن رجب رحمة الله : ( تابعه ميمون) ، أي : رواه سليمان بن موسى عن نافع عن عبد الله بن عمر، وتابعه ميمون.
وإنكار أبي داود له وجيه، فأين أصحاب نافع من الثقات ؛ كمالك بن أنس، وأيوب بن أبي تميمة السختياني ، وابن جريج، وعبيد الله بن عمر، وأيوب بن موسى، والليث، وغيرهم، أين هم عن رواية نافع لذلك الخبر؟! فلم يروه إلا سليمان وميمون ، مما يدل على نكارته .
وعلى التسليم به، فإن عبد الله بن عمر هو الذي قال عن تلك الجارية: ( لو ترك الشيطان لترك هذه )، يعني: الجارية لمّا مر بها وهي تغنّي.
وحينما يستدل البعض ببعض المرويات مما جاء عن بعض السلف كعبد الله بن عمر، أو عبد الله بن أبي جعفر بن أبي طالب، أنه كان يستمع الغناء ونحو ذلك، فيقال: ما المراد بالغناء هنا ؟
نص القشيري في رسالته: (أن ما روي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن أبي جعفر بن أبي طالب من جملة سماع الأشعار بالألحان).
ليس المراد بذلك –قطعاً - الغناء المحرم والمعازف.
ولذلك يقول ابن رجب في رسالته في " السماع " (( وقد روي عن بعض السلف من الصحابة وغيرهم ما يوهم عند البعض إباحة الغناء، والمراد بذلك هو الحداء والأشعار)).
وابن قدامة- رحمه الله- قد عنّف على ابن الحنبلي إذ فَهِمَ منه غير ذلك الفهم .
وحينما ظهر الغناء في العصور المتأخرة، وتوسع الناس فيه توسعاً كثيراً، حتى بلغ به مبلغاً لا يمكن لأحدٍ أن يجيزه، ولديه أُنْسٌ بنصوص الشرع من الكتاب السنة.
ولما كتب أحد الكتاب من مصر كلاماً يستدل [ فيه ] ببعض النصوص من المرويات عن بعض السلف في إباحة الغناء، كعبد الله بن عمر وعبد الله بن أبي جعفر، وسعد بن إبراهيم وغيرهم من السلف.
قال أحمد ابن الصديق الغماري: - وهو من علماء المغرب، وإن كان فيه لوثةٌ اعتقاديه- ( وأما استدلالهم بذلك فعجيب !! فإن إبليس داخلٌ في إجماع العقلاء على تحريم ذلك الغناء ) .
وهذا قبل نصف قرن تقريباً، فكيف بما أحدثه الناس اليوم من غلوٍّ في هذا الباب، استحداث وسائل الطرب وتنوع آلات الموسيقى ، والتغني بالشعر الماجن ، والكلام المائع الخبث ، فتوسعوا فيه توسعاً لا يأنس به أحد من أهل الإيمان الحق.
ولذلك يقال: إن هذا محرّم بلا ريب، وإن من استدل بشيء من ذلك فقد لبّس وخدع، وقد وهّم الناس، ولبّس عليهم دينهم، وخلط ما جاء من النصوص في شيء وجعله في شيء آخر، وهذا هو غاية الظلم.
ومن أعظم الظلم الكذب على الله عز وجل والافتراء عليه، والظلم هو : أن يوضع الشيء في غير موضعه .
يقول الله تعالى في كتابه: ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ)) (الزمر:60 ) .
وقال: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) (الإسراء:36 ) .
ومن ذلك: الكذب على الله، وأن يُجْعَل الحرام حلالاً بحجة ورود بعض الألفاظ العامة الموهمة ونحو ذلك.
ومن تأمل بعض الآراء الفقهية المعاصرة في هذا الباب من إباحة الغناء، وإباحة اللهو المعازف أو الموسيقى ونحو ذلك، علم أن هذه الآراء والأقوال صنيع من لا يفرّق بين الغناء والحداء وبين الشعر على أي وجهٍ كان.
ومن قال بهذا القول فهو داخل في قول ابن قدامة عليه رحمة الله حيث يقول: ( ومن لا يفرق بين الغناء والحداء وبين الشعر على أي وجهٍ كان ، وبين السماع والاستماع ؛ فإنه ليس بأهل للفتيا ) .
وحينما علّق ابن قدامه على ابن الحنبلي، حينما دخل في هذا الباب والتبس عليه ذلك قال ابن قدامة: ( ويغلب على الظن أن ذلك ليس بخافٍ عليه، وذلك أنه قد استدل للغناء بالحداء وبنصوصه، فإنه لما ضاقت عليه ممادح الغناء مال إلى ما يقاربه وهو الحداء ) .
قال : ( فإن الأقرع يفتخر بجمّة ابن عمّه، وابن الحمقاء يذكر خالته إذا عيب بأمه ) .
وهذا ابن قدامة الذي قد ذكر عنه بعض المعاصرين– محتجاً - أنه قد ذكر الخلاف في مسألة الغناء في كتابه " المغني " فقال: (اختلف أصحابنا في الغناء) وقال عليه: إن الغناء مما يختلف فيه!
وخطاب ابن قدامة لابن الحنبلي هو في العام الذي توفي فيه !!وحكى عنه ابن الحنبلي تكفيره لمستحل الغناء، وقال بعدم صلاح ابن الحنبلي للفتيا وأنه ليس أهلاً لها؛ لأنه قد خلط في هذا، فكيف يأخذ منصف قوله حينما نصّ في " المغني " أن الغناء مما يختلف فيه، فأي غناءٍ أراد ؟!
إذاً كلامه يفسره كلامه، ويفسره – كذلك – لغة العرب الواردة في أشعارهم، وفي لسان الشارع: كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما التغني والتطريب بالقراءة فقيل: إن أَول من قرأَ بالأَلحانِ عُبَيد الله بنُ أبي بَكرة، فَوَرِثَه عنه عَبَيدُ الله بنُ عمر، ولذلك يقال قرأْتُ العُمَرِيَّ، وأَخَذ ذلك عنه سعيد العَلاَّفُ الإباضيُّ، كما نص على ذلك ابن منظور رحمه الله .
* وأما المبالغة بالتلحين والتطريب لكلام الله سبحانه وتعالى، فقد ذكر الخلاف فيه ابن رجب في رسالته " السماع ".
وقال: إن أكثر العلماء على منعه، وذهب بعضهم إلى جوازه، وهو مروي عن أبي حنيفة والإمام الشافعي.
ومنهم من حكى الإجماع كأبي عبيد القاسم ابن سلاّم على المنع.
وأما قراءة القرآن بالتلحين والإطراب، وعلى المقامات مما يسميه أهل الألحان ( مقامات ) فهو محلّ خلاف أيضاً، قد نص على الخلاف ابن القيم وابن رجب الحنبلي وغيرهما.
ويقال: إن التغنّي بالقرآن وتحسين الصوت مقصود شرعاً، ما لم يخرج ذلك عن العادة، حتى وإن أطرب.
والدليل على ذلك: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دخل على أبي موسى الأشعري فقال: (( لقد أُوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود)) .
قال أبو عثمان النهدي رحمه الله -وهو من كبار التابعين قد أدرك الخلفاء الراشدين الأربعة - : ( قد دخلت دار أبي موسى فما واللهِ سمعت صوت صنج ولا ناي أحسن من صوته ) .
وهنا: معلوم أن ما في المزامير وآلات الطرب من الإطراب والمبالغة بالتلذذ وغير ذلك، فإن في قول أبي عثمان النهدي من ذلك أن فيها من الإطراب ما هو ألذّ من ذلك كلّه، وعليه يقال:
أن هذا يحمل على معنيين:
المعنى الأول : أن كلام الله سبحانه وتعالى يطيب القول على أي وجهٍ كان، وأنه ألذّ من ذلك كله.
المعنى الثاني: أن المراد بذلك هو ذات الصوت، وهذا هو الظاهر، وذلك أنه قصد الصوت والتلحين به، وما قصد ذات المعاني، فإن المعاني تسمع عند كلِّ أحد، ولذلك خصّها بدار أبي موسى.
ومعلوم أن ( الصنج ) هو: نوع من أنواع اللهو، وقيل: هو دفتان من النحاس، يضربان ببعض فيصدران صوتاً مطرباً.
و( المزامير ) يدخل فيها آلات اللهو من الطبل و الدف و غيرها، وهي بالعموم جميع ما أطرب حتى وإن كان صوتاً مجرداً.

المصدر
http://www.almisq.net/articles-action-show-id-554.htm


وهذا مقطع فديو صورة و صوت مفيد جداً

http://www.almisq.net/videos-action-show-id-40.htm

وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح

محبكم
[/CENTER][/COLOR][/SIZE]

 

 
























التوقيع

،



..



   

رد مع اقتباس