عرض مشاركة واحدة
قديم 10-14-2012, 11:12 PM   رقم المشاركة : 2

 

.

*****

بين الفصحى والعاميّة

من موقع الأديب عدنان كنفاني

من بدهيات الأمور، ومن المعروف عالمياً وعبر التاريخ، بأن لغة أي شعب هي الحامل لثقافته، وهي المؤرخة له والبانية أمنياته وأمانيه من خلال المنظورات الثقافية والمعرفية.

ومن أجل هذه الحقيقة كان الغزاة عبر التاريخ يلجؤون في غزواتهم على الشعوب الأخرى إلى طمس لغة ذلك الشعب تكريساً لفصله عن تاريخه وجذوره وبذلك تضيع هويته ويسهل ابتلاعه.
وكم من أمّة اندثرت عندما فقدت أول مقومات وجودها "لغتها".!

وقد حبانا الله بلغة رائعة، غنيّة ثريّة بمفرداتها وتصويراتها وموسيقاها، وكرّمها سبحانه بأن جعلها لغة القرآن الكريم، الباقي على مرّ الدهور والعصور، معجزة الخالق لدين الإسلام العظيم.

إنها لغتنا العربية الفصحى دليلنا، وحاملة تاريخنا وثقافتنا ومآثرنا، وكم من باحث في اللغات أكد من خلال بحوث ودراسات بأنها أمّ اللغات، ومنها استذكرت شعوب كثيرة لغتها، وأسست معارفها على أرض لغتنا العربية.

ومن المفيد أن نذكر بكثير من التدقيق بأن أعداء الدين الإسلامي، والطامعين بأرضنا وتراثنا يلهثون جهداً لطمس معالم لغتنا العربية، وهم يسلكون كل سبيل للتشكيك والتشويه والتزييف، ومع شديد الأسف يجدون بين ظهرانينا من ينفخ "عن حسن أو عن سوء نيّة" في أبواقهم، وينادي بما ينادون كي يشككونا حتى بثقافتنا ولغتنا.

العاميّة جميلة، وخصوصية اللهجات واللكنات، ومن طبيعة البيئة والتواجد والظروف أن تجعلها مختلفة باللفظ بين مكان ومكان من عالمنا العربي، بل بين مدينة وأخرى في القطر الواحد، وهي "هذه اللهجات" هوية دلالة ليس أكثر، لكن اللغة العربية الفصحى هي الجامعة تحت لوائها كل من ينطق الضاد. وهي الهوية التي تجمعنا كعرب تحت عباءتها.

ونحن نستمتع بالقصائد والمقطوعات المكتوبة بالعامية، ولكن عندما تصبح قاعدة، ومسلك يطغى على الفصحى، يبدأ الخوف على اللغة الأصيلة.

العامية.. لون محدود من ألوان الفنون، لكنها تنبع ومؤسسة على الفصحى وليست البديلة عنها بأي حال، وهي لون أدبي جميل، ويحمل قيمة تراثية وتوثيقية لمكان محدود، لكن المرعب أنها صارت مسلكاً يلجأ إليه فقراء الإبداع استسهالاً وطريقاً قصيراً مختصراً للسعي نحو النجومية الأدبية.

ومن الغريب أن نجد في كل محفل من يصفق بحرارة لقصيدةٍ بالعامية لا ترقى لأي مستوى أدبي، بل هي مجرد كلمات خالية من الرتم والموضوع والوزن تأكيداً على أنها طريق للاستسهال ليس إلا، وهنا مكمن الخطورة على اللغة الفصحى.

الحداثة تخرج من قلب الأصالة ولا تلغيها، والعاميّة تخرج من المقدرة على الإمساك بناصية اللغة، وهناك من يحلّق بكتابتها، ولن تجد من المبدعين الحقيقيين الذين يكتبون العامية أحداً لا يتقن الفصحى ويكتبها، ويتقن أو يحمل إلماماً بمبادئ العروض وموسيقى الشعر.

أما ما نتابعه الآن في كثير من المنتديات، هو تلك الهجمة غير المتّزنة الطاغية بالعامية لأفراد يسمون أنفسهم شعراء والشعر منهم براء، مستسهلين بالعامية غير المحصّنة ولوج عالم الأدب.

هي دعوة إذن للحذر، وكم نحن بحاجة إلى صدق مع أنفسنا لنقف بحزم ونقول للمسفّ أنت مسف.. ونقول لكل من يعتلي منبراً ثقافياً أن يتمكّن من أدواته، وموهبته، ودراسته قبل أن يطرب إلى من يطلق عليه صفة شاعر، ويستمع ويقرأ ليتعلم ويصقل موهبته إذا كان موهوباً، ويسترشد بالعارفين والمبدعين كي يصحح مسيرته الأدبية، ويصعد سلم الإبداع بثقة.

أما الواجب المفروض على كل مثقف أصيل، أن يعلن بلسانه وقلمه وقلبه كلمة الحقّ بحق ما يقرا ويسمع..

هي مسؤولية ثقيلة تحتاج إلى شجاعة أدبية ولكنها الطريق لا سواها لنحافظ على أصالة اللغة العربية من عبث العابثين..

*****

 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس