عرض مشاركة واحدة
قديم 06-06-2012, 09:34 PM   رقم المشاركة : 26
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 13
غامداوي is on a distinguished road


 

67 .. من ذاكرة طفل ( 2 )





وتتوالي الايام علينا بعد توقف صافرات الانذار واصوات الطائرات وطلقات المدافع ولا جديد يأتينا في انتظارنا لعودة ابينا ولم يكن لدينا حيلة سوي الاسراع في سرعة البرق كلما كان هناك طارق للباب عسي ان يكون هذا الطارق من يقتلنا انتظاره.

ولا تجد امي حيلة من انها تذهب كي تسأل عن ابي العائد الغائب لعلها تجد مايطمأنها بعدما يئست من الانصال بالمسئولين عبر الهاتف من خلال تلك الارقام التي كانت في الجريدة لمن يريد ان يسأل عمن غاب ولم يعد من العسكر.ولأنني الولد الاكبر كان علي ان اتحمل المسئولية في ذلك الموقف رغم سنوات عمري السبع.

ذهبت مع امي لنبدأ رحلة البحث الشاقة. مئات من النساء والرجال يتزاحمون امام النوافذ القلية في وزارة الحربية المخصصة للاستعلام عن المفقودين . وتبقيني امي بعيدا بعض الشئ كي تزاحم هي علي الشباك الوحيد المخصص للنساء.

لم اكن انا الطفل الاوحد المتواجد في هذا المكان. غيري عشرات الاطفال الذين جاءوا مع امهاتهم يسألون عن مصائر اباءهم ليكون الحديث مع بعض هؤلاء الاطفال وسيلة ضرورية لاستهلاك الوقت في انتظار عودة امي التي تزاحم جاهدة للوصول الي الشباك.

هذ الطفل ابوه ايضا ضابط وجاء للسؤال عن ابيه الذي غاب عنهم لاكثر من شهر. وذاك الطفل جاء مع امه ليسأل للا ستدلال عن ابيه رئيس رقباء الذي يغيب من 3 اسبيع .. وهذا .. وهذا .. وهذا .. وهذا.. ولا يقطع احاديثنا الا صراخ سيدة هنا او هناك وقد عرفت ان ابنها او زوجها قد تاكد موته في المعركة او بكاء رجل علم ان ابنه او اخيه قد مات.


عشرات من حالات البكاء تقابلها مئات من تعابير الحزن والحسرة علي وجوه من لم يجد اجابة عن تغيب ابيه او شقيقه او ابنه.
مابين وقت وآخر استرق السمع للاحاديث التي تدور بين المتحاشدين. ومنهم من يتحدث انه يأتي الي هنا من الصباح الي المغرب كل يوم من خمسة ايام ولم يستدل عمن يبحث عنه. ومنهم من يقول حزنا ان الجميع ماتوا علي الجبهة لكن المسئولين لا يريدون اعلان ذلك. ومنهم من يسب الحرب ومن كان السبب فيها. غير ان اغلب الاحاديث كانت عن تنحي عبد الناصر منذ يومين وعن عودته عن التنحي استجابة لمطالب الجماهير.

في ذلك الوقت كنت اعرف عبد الناصر واحبه واعشقه. وكيف لايكون لي كذلك وقد كان لنا الاب الكبير الحنون لكل المصريين في اغنيات المدرسة. وقد كان لنا القائد الطاهر في صفحات الجرائد. وقد كان لنا الزعيم المنزه في محطات الاذاعة. كانت صوره في كل مكان حتي غرفة الضيوف لدينا كانت له صورة ذات برواز كبير في صدر الجدار المقابل للباب اشتراها ابي ووضعها حبا له واذكر انه اخبرني انه يعتز بمن في الصورة لان لولاه ماكان له ولا لغيره من أولاد العوام الالتحاق بالكلية الحربية. صوره كانت في كل المحلات حبا وليس أمرا ولا خوفا حتي صوالين الحلاقة. لم تكن صوره علي الجدران فقط لكنها كانت داخل قلوب المصريين.
كنا نأكل عبد الناصر, كنا نشرب عبد الناصر, كنا نقرأ عبد الناصر. كنا نري عبد الناصر. كنا نتحدث عبد الناصر, وايضا كنا نحلم عبد الناصر. وربما كنا نتنفس عبد الناصر. كان الجميع يحب عبد الناصر بجنون حتي ان صنبور المياه قبل ذلك الوقت كاد ان ينزل منه عبد الناصر بدلا من المياه من حب عبد الناصر.

كان عبد الناصر معنا في كل مكان. علي واجهات المدارس. وعلي عناوين الشوارع. وعلي اسماء الاحياء. وعلي ماركات المصانع. وعلي مجلدات الكتب والدفاتر المدرسية. كان عبد الناصر هو المعلم. وكان هو الطالب. كان العامل والفلاح, كان العقل والقلب والجوارح.

كان المصريون في ذلك الوقت معظمهم يعيشون في حلم كبير واسطوره هائلة اسمها عبد الناصر.


واتابع الاحاديث التي تتبادل بين المتزاحمين في مواجهة وزارة الحربية يسألون عن من غيبتهم عنهم حرب عبد الناصر.
الكل لا يصدق ان عبد الناصر سيمضي. الكل شبه يتفق انه لن تقوم لنا قائمة بدونه. البعض لديه ان التصميم اننا سنستمر لكن مع عبد الناصر.

في هذ الوقت كنت اري واسمع عن عبد الناصر لكنني كنت لا اتكلم.

عادت امي من الزحام لأسألها عن مكان ابي وتجيبني انهم لم يصلهم اخبار بعدعنه وانهم سيتصلون بنا في حال وصول جديد الاخبار.

ونحن نصعد درجات السلم ومعنا اذيال الخيبة في البحث عن ابي كان باب شقة جارتنا زوجة الضابط مفتوح ويصدر من داخلها بكاء ونحيب . كان هناك في الصالة جمع من نسوة العمارة يحيطون بصاحبة الشقة التي كانت تجلس الي الارض والدموع الغزيرة تنهمر من عينها وهي تردد : حانعمل ايه من غيره.

كان يقف الي الناحية الاخري من الصالة ولد الضابط الجار والذي كان يكبرني بسنة وكان يرافقنا دائما في اللعب. كان هو الآخر يبكي. اخذته امي من يده وصعدت بنا الي شقتنا واحضرت لنا ولأخوتي بعض الاطعمة لتتركنا وتهبط ثانية الي شقة الجارة الذي لا ينقطع عنها البكاء والعويل.

واسأل جاري الطفل ماذا بأمه ليجيبني ان ابيه قتل في المعركة.

الصدمة الاولي لي في عبد الناصر وانا لا كاد ان استوعبها. وأسأل نفسي كيف قتل ابا جاري الصغير في غفلة من عبد الناصر, وكيف تركه عبد الناصر ليتمكن منه اليهود ويقتلونه. وحديث ساذج داخل رأسي يراودني. اليهود هم الذين يقتلوننا ولسنا نحن قاتليهم ويتولد داخلي احساس ان ابي هو الآخر ربما لم يستطع عبد الناصر الدفاع عنه وحمايته مثل جارنا.

لم ادرك حقيقة الموت من قبل الا مع جدي لأبي الذي مات منذ 3 سنوات عندما عرفت بموته ان الموت غياب من غير نهاية لذلك فقد يكون غياب ابي بغير نهاية بعدما تخلي عنه عبد الناصر.




.. وللمذكرات بقية ان شاء الله.

 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس