يحكى أن أعرابياً وجدَ جروَ ذئبٍ تائهاً، فحمله معه إلى بيته و قرر أن يعتني به، ودفعه إلى شاةٍ عنده كانت قد وضعت حملها حديثاً، فرضع منها و عاش بين القطيع آمناً. فلما شبّ الذئب واشتد عوده وطالت أنيابه، هجم على تلك الشاة وبقر بطنها... وعندما علم الأعرابي بذلك، هاله ما رأى وقال:
أكَــلْـتَ شُـوَيْـهَــتـي وفـجـعْــتَ قـلْـبـي
وأنــت لـشَــاتـِــنـَـــــا ولَـــــــــدٌ رَبـِــيـْــبُ
غُــذِيـْــتَ بـِــدَرِّهــَـــــــا ورُبــــيـْـــتَ فـــيــنـَــا
فــمَــنْ أنْـــبـَـــــاكَ أنّ أبـــَـــــــــــــــــاكَ ذِيـْــــبُ
إذا كـــانَ الطِّـــبــــــاعُ طـــــبـــــــاعَ ســــُــــــوءٍ
فـــــلا أدبٌ يــــُــــفــــــيـــــــدُ ولا أديـــــــبُ
هذه هي الصورة النمطية للذئب في الحكايات العربية القديمة... الغدر والشراسة والمكر والدهاء، صفاتٌ ارتبطت في أذهاننا بالذئب، هذا المخلوق الذي يجوب الصحراء وحيداً يحيطه الغموض. أما الحذر، فهو مضرب المثل فيه، كما يقول حميد الهلالي:
يـــنـــامُ بـإحــدى مُــقـــلـــتـَــيـــــهِ ويـَـــتـّـــــقـــي
بأخـرى الأعادي، فهو يقظـانُ هاجعُ
مع مرور الزمن، دخل الذئب إلى أمثالنا الشعبية، ولكن الغريب في الأمر أن أكثر الأمثال التي وجدناها تدعو الناس للتشبه بالذئب، فأنت «إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب»... غالباً ما تحضر صورة الذئب في الأمثال الشعبية للتدليل على صراع الناس بين بعضهم البعض، أكثر من صراعهم مع الذئب نفسه، وتدعونا للحذر في تعاملنا مع بعضنا، «فمن يعش بين الذئاب، يربّي أظفاره». أو كما قيل:
وإن لم تــكنْ ذئـباً على الأرضِ أمْــرَدا
كـثـيـرَ الأذى، بَـالَـتْ عـليكَ الـثــعَـالـبُ
صديقي الذئب
ومع ذلك نجد بعض النصوص الشعرية القديمة التي أنصفت الذئب كما في قصيدة الشنفرى الأزدي الشهيرة. فخلفَ المفردات القديمة تكمن معانٍ جميلة تستحق عناء قراءة الشرح والغوص فيها. يُـعلن الشاعر في البداية تخليه عن قومه ولجوءه إلى قوم آخرين، لا يغدرون به، ولا يحاسبونه على أصله أو ضعف نسبه:
أقـيمـُــوا بَـني أمـّـــي صُـدورَ مـَــــطِـــيـّـــكُــمْ
فــــإنـــّــــي إلى قـــَــــــوْمٍ سـِــــــواكُـــــمْ لأمـْـــــــيــَــــــلُ
ولِــي دُونَــكمْ أهْلُونَ، سِيْدٌ عَــمـَـــلَّــسٌ
وأرْقـــَـــطُ زُهْــــــــــلُـــــــولٌ وعَـــــــرْفـــَـــــاء جَــيْــألُ
هُـمُ الأَهلُ لا مُـســتــودَعُ الـســرِّ ذائــعٌ
لــدَيـــهِــمْ ولا الجـَــانــي بِـمَـا جَــــرَّ يُــخْــذَل
فالذئب القويّ والنمر المرقّط والضبع العَرفاء، لا يُـفشون سره لأحد ولا يُـسلمون صاحبهم إلى عدوّه كما فعل قوم الشاعر. ويبدو أن الذئب هو الأحب إلى قلبه من بين أصدقائه الثلاثة، فأفرد له أبياتاً يصف فيها معاناة الجوع ومواساة مجتمع الذئاب لبعضها البعض:
غــدَا طــاويـــاً، يُــعـــارضُ الريــحَ هَــافِــيــــاً
يــخـُــوتُ بـأذنـــابِ الـشِّــعَـــابِ، ويَــــعــسِــلُ
فـلـمـّــا لَـــوَاهُ القــــــوتُ من حـــيــثُ أَمَّـهُ
دعـا، فأجابـَــــتـْــــــهُ نــــــظـــــــائـِــــــــرُ نُــحَّــــــلُ
مُـــــهَـــــلْــــهَــــلَــــةٌ، شِـــيــبُ الوجــوهِ، كأنّها
قِداحٌ بكفَّْ يـاسِرٍ، تـتـقلـقَـلُ...
فـضــجَّ، وضَــجـّـــتْ، بالـبَـــــرَاحِ، كــأنّــها
وإيـّــــــاهُ، نُــــــــوْحٌ فـــــوقَ عــلــيــاءَ، ثــــُـــــكَّـــــلُ
شكا وشَكَتْ، ثمّ ارْعَوى بَعْدُ وارْعَوَتْ
ولَلصَّـبْــرُ، إنْ لم ينـفعِ الـشكْـوُ، أجْـمَـلُ
فالذئب إذا عوى، تجيبه الذئاب من بعيد كأنها نساءٌ ثكالى تنوح على فقيدها، أو تواسي بعضها البعض. ثم بعد الشكوى والضجيج، تعود ولم تجد أفضل من الصبر الجميل على الجوع وقساوة الصحراء.
وبينما تُـظهر الأبيات التعاطف مع الذئب، يبدو لنا أن الشاعر إنما يصف نفسه، ويتعاطف مع حالة الصعلكة التي يعيشها هو، متمثلةً في الذئب. وكذلك تبرز علاقة الشاعر بالطبيعة الصحراوية التي اختارها لتكون موطناً له.
وفي نصٍ شعري آخر للفرزدق يحضر الذئب أكثر تميزاً هذه المرّة... كان الفرزدق مسافراً مع بعض رفاقه وفي الطريق قرروا التوقف للمبيت، ولكن النوم جفا الشاعر تلك الليلة، فقرر أن يعد الطعام لرفاقه ليوم غد، فأشعل النار وذبح الشاة. وبينما هو كذلك، إذ اقترب منه ذئبٌ أطْـلَس عَسّال (رمادي اللون، يهتز في مشيته)... وبعد أن التقت نظراتهما وبشيء من الحذر والترقب، قطع قطعة من الشاة ورماها له، فاقترب الذئب شيئاً فشيئاً حتى تناولها وهرب بها. وبعد أن استيقظ القوم، أخبرهم الفرزدق بما جرى في ليلة البارحة. ولأنّ مثل هذا الموقف لا يمر على الشاعر مرور الكرام، فقد نظم أبياتاً:
وأطْـلَسَ عَسّالٍ، وما كانَ صَاحباً
دَعــوتُ بـنـــاري مـَــــوْهِـــنـَـــاً فـأتـاني
فلّما دنا، قلتُ: ادْنُ دونَـكَ، إنني
وإيّـــاكَ في زادي لــمــشـــتَـــرِكَــــانِ
فـبِـتُّ أُسَوِّي الـزادَ بـيـنـي وبـيـنَهُ،
على ضــوءِ نـــــارٍ، مَــــرّةً، ودُخــانِ
فـقـلـتُ لَهُ لمّا تـكـشّـرَ ضاحكاً...
وقـــائِـمُ ســيــفـي مـن يــدي بـمـكـانِ
تـعَـشَّ، فـإنْ واثــقْـتَــنـي لا تـخـونُـنـي
نَـكُـنْ مـثـلَ من يـا ذئبُ يـصطـحِـبانِ
وأنتَ امرُؤٌ، يا ذئبُ، والغدرُ، كنتُما
أُخَــيَّـــيـْــــنِ، كـانــــا أُرْضِـــعــــا بـلَـبَــان
ولو غيرَنا نَـبَّـهْـتَ تـلتـمـسُ القِرى
أتــاكَ بـســـهـــمٍ أو شـبــاةِ سِـــنـَــانِ
وكلُّ رفيقَـي كُلِّ رَحْلٍ وإن هُما
تـعـاطى الـقـنـا قـوْمـاهُـمـا، أخَــوانِ
يخاطب الشاعر الذئب خطاباً مباشراً، فيقول له اقترب وشاركني في زادي ولكن إيّاك أن تغدر بي، فأنت والغدر أخوان قد رضعتما من ثدي واحد. أما الذئب فقد كانت إجابته على شكل تكشيرة عريضة يستعرض فيها أنيابه، كأنه يقول: لا تغدر بي أنت، فأنا لدي أسلحتي أيضاً، كما لديك سلاحك. تمكن الشاعر من تجسيد المشهد بدقة، واستخدم مفردات وتعابير تجعل القارئ يتخيّل الصورة في ذهنه بكل وضوح كأنه مشهد سينمائي. فأنت عندما تقرأ هذه الأبيات تبدأ بتخيّل الذئب وهو يقترب من بعيد في ظلام الليل، ثم ترى الدخان يتصاعد بينك وبينه، وهنا تبدأ حالة الحذر والترقّب بين الطرفين. ويضيف الخطاب المباشر الكثير من الدراما إلى المشهد، وخلاصته أن الشاعر يقول: سأكرمك ولكن لا تغدر بي، فنحن أخوان في السفر، حتى لو تحارب أهلنا...
وبعد هذه الأبيات الوجدانية وحالة التواصل العفوية بين الشاعر والذئب، لا يفوت الفرزدق أن يستغل هذا الموقف بذكاء ليمدح قومه كعادته، فهم أهل المكرمات والفروسية... كأنّ كل هذه المقدّمة كانت من أجل هذين البيتين:
وإنّــا لَــتَـــرعى الـــوحــشُ آمـنـــةً بــِنا
ويـرهـبـُـنـا أن نـغـضبَ الـثــقـلانِ
فَـضَـلْـنَـا بـثِــنْـــتَـــيـْـنِ المَـعـاشِــرَ كُـلَّـهُـمْ
بـأعْـظَـمِ أحـلامٍ لـنــــا و جِــــفــــــانِ
الذئب والحداثة
أما في عصرنا الحاضر فقد أصبح الذئب شبه منقرضٍ، لذلك يظهر في النصوص الشعرية الحديثة بشكل رمزي يوظفه الشاعر لإيصال فكرته.
في قصيدة بعنوان «امضِ يا ذئب» لعبدالقادر الحصني، لا ينشغل الشاعر بوصف شكل الذئب ولونه ومشيته، فهو على الأرجح لم يقابل ذئباً في حياته قط، بل يركز على صفات أخرى مشتركة بينه وبين الذئب:
عِمْتَ ليلاً أيها الطارقُ في هذا الظلامْ
شدّك الجوع إلى ناري
فضيفيَ أنتْ
لا تيأس من الزادْ
ولا تبدِ انكساراً...
هاكَ من زادي
ازدردْ ما شئتَ
واشربْ من قراح الماءْ
مثلي لا يُرَجِّي النطقَ من مثلك... عيناك كلامْ...
أسلوب المخاطبة المباشرة يتكرر هنا كما في النص السابق. والذئب كذلك لا ينطق، بل ينطق بعينيه كما كشرّ ذئب الفرزدق ضاحكاً...
حدّثني صديقاً لصديقْ
كيف أهوالٌ على رأسك مرّتْ
كيف هذا الواسع الشاسع من منبسط الرمل يضيقْ
هل تصدّق أنه يؤلمني جوع الضواري...
من شِيَم الصحراء ألاَّ يغدر الصعلوك بالصعلوكْ
من يأخذ بعدي تحت جنح الليل زاداً لصغاري
امضِ يا ذئب إلى مسعاكْ
امض يا ذئب سيطويني ويطويكَ إذا حلّ نهارُ الناس غيبْ
وتذكر وجه صعلوكٍ تمنى هذه الليلةَ
لو تحملُ منه امرأةٌ طفلاً
يسميه ذؤيبْ
امضِ يا ذئبُ... امضِ
يستلهم الشاعر حالة الصعلكة كما كانت حاضرة لدى الشنفرى منذ ألف وأربعمائة عام. ويظهر التعاطف مع الذئب، بل يتعدى ذلك إلى مرحلة أخرى، فيُعد نفسه صديقاً له تجمعهما حالة الصعلكة والسفر في ليل الصحراء. والأهم من ذلك، كلاهما سيطويهما إذا حلّ نهارُ الناس غيب... لعل خلاصة القصيدة تكمن في هذه الجملة التي لن نحاول أن نشرحها، بل نتركها لخيال القارئ ليفهم منها ما يشاء، فهكذا أرادها الشاعر: (امضِ يا ذئبُ سيطويني ويطويك إذا حل نهار الناس غيب).! ومرةً ثانية يبدو لنا أن الشاعر في خطابه للذئب، إنما هو يخاطب نفسه ويحاور الصعلوك الكامن في داخله.
وفي حالةٍ أخرى، يقتبس محمود درويش صورة الذئب من القصص القرآني، وبطريقة تحطّم الصورة النمطية للذئب. فالذئب الآن مظلوم وليس ظالماً كما اعتدنا، بل هو ضحية الغدر والمكر البشري. ويجيد الشاعر توظيفه لإيصال فكرته:
أنا يوسفُ يا أبي
يا أبي إخوَتي لا يحبّونني
لا يريدونني بينهم يا أبي...
أنت سمّيتني يوسفَ
وهم أوقعوني في الجُبِّ، واتهموا الذئبَ
والذئبُ أرحمُ من إخوتي
بل الذئب في هذه الأيام أرحم من غالبية البشر، وليس من إخوة يوسف فقط.
كتبها عماد علي بوخمسين
ونقلتها عن القافلة مجلة أرامكو السعودية