يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 12-11-2011, 11:51 PM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

مفهوم السلام في الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 14/1/1433هـ بعنوان: "مفهوم السلام في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن السلام ومفهومه في الإسلام وكيفية تحقيقه في هذه الأزمان المتأخرة، وبيَّن أننا نعيشُ في عصرٍ بلغ فيه التقدُّم والتطوُّر شأوًا عظيمًا، ومع ذلك لا زال أكثرُ الناس لا يُدرِكون معنى السلام الذي هو الإسلام الحقيقي، ويفهمونه خلافَ معناه، ويضعونه في غير نِصابِه؛ مما أدَّى إلى حدوثِ الكوارثِ العظيمة والفتنِ الجَسيمة التي تمرُّ بها دولُ العالَم.
الخطبة الأولى
الحمد لله الكبيرِ المُتعال، ذي العِزَّة والقوة والجلال، مُرسِلِ البرقَ خوفًا وطمعًا، ومنُشِئِ السحابَ الثِّقال، فالقِ الحبِّ والنَّوَى شديدِ المِحال، له يسجُدُ من في السموات والأرض طوعًا وكَرهًا وظِلالُهم بالغُدُوِّ والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله رفيعُ الخِصال، قدوةٌ في الأقوال والفِعال، صادقٌ مصدوقٌ بالقلبِ والجوارِحِ والمَقال، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى أزواجه أمهات المؤمنين والآل، وعلى أصحابه والتابعين لهم في الخِلال، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم المَآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولَةَ لي ولكم - عباد الله - هي تقوى الله - سبحانه - التي أوصَى بها الأولينَ والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131]، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[العنكبوت: 17].

أيها المسلمون:
إن الله - سبحانه وتعالى - خلقَ هذا الكونَ عُلوِيَّه وسُفلِيَّه، بإنسِهِ وجنِّه، وملائكتِهِ وجمادِه ودوابِّه وطيرِه؛ ليعبُدوه وحده - سبحانه - لا شريكَ له، وليكون الكونُ كلُّه خاضعًا لعظمته، مُوقِنًا بعبوديته لخالقه، كما قال - سبحانه -: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56]، وكما قال - جل وعلا -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ[ص: 27]، وكما قال - سبحانه -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[الدخان: 38، 39].
إذًا لم يخلُق الباري - جل شأنُه - هذا الكونَ بأكملِه عبثًا، وما سخَّره - جل وعلا - لعباده عبَثًا، وما جعل لهم الأرضَ ذَلولاً يمشُونَ في مناكبِها ويأكلون من رزقِه سُدًى، كلا؛ إذ كيف يكون ذلك والخالقُ - جل شأنُه - يقول: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ[الأنبياء: 16- 20].
ومن هنا؛ جاء إنكارُ الباري - سبحانه - وتوبيخُه لمن لم يُدرِك معنى خلقِ الله للسماوات والأرض، ولم يجعل هذا الخلقَ وسيلةً لتحقيقِ عبوديته - سبحانه - دون سِواه، فقال عن أمثال هؤلاء: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ[فصلت: 9] إلى أن قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[فصلت: 11].
فيا لله العجَب! كيف يستكبِرُ من في الأرضِ عن عبوديته - سبحانه - والسماءُ التي تُظِلُّهم والأرضُ التي تُقِلُّهم طائعتان للباري - جل شأنُه -، هذا ما قاله - سبحانه وتعالى - عن سماواته وأرضِهِ.
وأما الطيرُ في السماء؛ فقد قال الله عنه: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ[النور: 41]، وما عدا ذلك من دوابٍّ وجمادٍ وشجرٍ وحجرٍ؛ فقد قال الله عنه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراء: 44]؛ أي: أنتم أيها الإنسُ والجِنُّ لا تفقَهون عبوديَّتَهم لله وتسبيحَهم له.
فأين عقلُك - أيها الإنسان -، وأين قلبُك - أيها الإنسان -، وأين تفضيلُه لك على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلاً؟!
ألا قُتِل الإنسانُ ما أكفَرَه؛ نعم، قُتِل الإنسانُ ما أكفَرَه، يخلُقُه ربُّه ثم هو يخضَعُ لغيره، ويرزُقُه ربُّه فيشكُرُ غيرَه، فضَّلَه ربُّه بالعقل والحِكمة والآدميَّة، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا[الإسراء: 89]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ[البقرة: 243]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[الأعراف: 187]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ[هود: 17].
ومن العجبِ الذي لا ينقَضي، والدهشةِ التي لا تتوقَّف: أن يكون من يملِكُ الوسيلةَ الكاملةَ للعبودية أقلَّ في خُضوعه لله من سائر مخلوقاتِهِ دوابًّا وجمادات، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ[الحج: 18].
فتأمَّلوا - يا رعاكم الله - أن الله - سبحانه - لم يستثنِ مما ذكرَ إلا البشرَ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ[البقرة: 253]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[يوسف: 103].
عباد الله:
إننا نعيشُ في زمنٍ بلغَ شأوًا رفيعًا في الحياة المادية، والنظريات الفلسفية، والثورةِ التِّقَنِيَّة، والترسانةِ العسكرية المُتشبِّعة بروحِ الأنانية والعُدوانية، وإرادة العُلُوِّ في الأرض وإهلاكِ الحرثِ والنَّسْل، والله لا يُحبُّ الفساد، لكنَّ هذه الحضارة لم تستطِع إشباعَ الروحِ بالرحمةِ والطمأنينة والحكمةِ والعدلِ والإيثار، ولا أدلَّ على تلكم النَّزعة من إفرازِ هذه الحضارة: السِّباقَ المحمُوم نحو التسلُّح على حسابِ الاحتياجات البشرية للأخلاق والطعام والشراب والمعيشة بأضعافٍ مُضاعَفة.
حتى جَثَا على سياسة العالَم الثالُوثُ الخانِق، وهو: الخِواءُ الرُّوحيُّ، والتزييفُ التاريخيُّ للحقائق، والقهرُ العسكريُّ، ومن ثمَّ خُلِقَت أسلحةُ الدمارِ الشاملِ، فدُعَّت إلى شعوبِ العالَم دعًّا، والتي صوَّرَت السلامَ حُمقًا، والرحمةَ عجزًا، والعدلَ استِكانَة، وجعلَت مفهومَ الغباء فيمن يُحاوِلُ أن ينالَ حقَّه باسم العدالة أو الرحمة، وجعلَت مفهومَ الغِبطَة في الضعيفِ المهزولِ الجاثِي على رُكبَتَيْه الذي يسبِقُ مدمَعُه مِدفعَه؛ بحيثُ أصبحَ لا يُوجَد مفهومُ العدل إلا حيث يُوجَد الجَور، ولا يُوجَد مفهومُ السلام إلا حيثُ تُوجَد الحرب، حتى تشرَّبَ العالَم اليومَ ألوانًا من الاعتِداءات السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ بحيث إن الأمانَ لدى كثيرٍ من المُجتمعات أصبحَ كسرابٍ بقِيعةٍ يحسبُه الظَّمْآنُ ماءً.
والسرُّ الكامِنُ في ذلكم كلِّه: هو تهميشُ السلام؛ نعم، السلامُ الذي هو الطُّمأنينةُ والسكينةُ والاستقرارُ، السلامُ الذي يُقرِّرُ العبوديةَ للحَكَم العدل، ويُؤمِنُ به ربًّا خالقًا رازِقًا لا معبودَ سِواه، السلامُ الذي شرَعَه الله الملكُ القدُّوسُ السلام، السلامُ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيْهِ ولا من خلفِه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، السلامُ من ربِّ السلام، السلامُ من ربِّ البشر إلى البشر، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[النساء: 125].
إنه مهما عمِلَ البشرُ من جهود، ومهما بذَلوا من علومٍ ومعارِف، ومهما استعمَلوا فيها من وسائل، فلن يبلُغوا مِثقالَ ذرَّةٍ من علمِ الله؛ لأن الله يقول: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا[طه: 110]، ويقول - سبحانه -: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ[البقرة: 255]، فمال البشرية إذًا لا ترجُوا لله وقارًا، وقد خلقَهم أطوارًا؟! لن يُصلِحُ الناسَ مثلُ السلام الذي جاء من عند الله.
ألا إنه لا يُعرفُ في التاريخ مبدأٌ أو دينٌ أو فِكرٌ أرأَف ولا أرحَم ولا أعدَلُ من دين الإسلام، ولا أدلَّ على ذلكم من اتفاقِ أهلِ الإسلام أنه لا يجوزُ في حال الحربِ مع العدوِّ أن يُقتلَ شيخٌ كبيرٌ، ولا طفلٌ صغير، ولا امرأةٌ، ولا أن تُقطَعَ شجرةٌ؛ فأيُّ سلامٍ أعظمُ من هذا السلام؟!
ولكنَّ الأسف كل الأسف أن يُدرِكَ بعضُ المسلمين هذا كلَّه ثم هم يُهروِلون نحوَ شِعاراتٍ برَّاقة، وفلسفاتٍ ما أنزلَ اللهُ بها من سُلطان يُفسِّرون بها السلامَ على غير وجهِهِ.
وإن مما لا شكَّ فيه أنه كلما قلَّت الصحوةُ السليمة والنَّظرةُ الثاقبة لدى المسلمين تُجاه المعنى الحقيقية للسلام كلما ازدادوا ولَهًا إلى سرابِ السلام الزائِف، فالتَفتوا إلى لونه وتجاهَلوا طعمَه، نظَروا إلى دمعةِ المُخادِع ولم ينظرُوا إلى مِدفعِه، علِموا أن الحيَّة لا تبتسِمُ وهي تلدَغ، وخفِيَ عليهم من يلدغُ وهو يبتسِم.
وقد أحسنَ أبو حاتم البُستيُّ - رحمه الله - حينما ضربَ مثلاً عن أحد شيوخه أن صيَّادًا كان يصطادُ العصافيرَ في يومِ ريحٍ، قال: جعلَت الرياحُ تُدخِلُ في عينَيْه الغُبار فتذرِفان، فكلما صادَ عصفورًا كسرَ جناحَه وألقاه في ناموسَة، فقال رجلٌ لصاحبِه: ما أرقَّه عليهم، ألا ترى دموعَ عينيْه! قال الآخر: لا تنظُر إلى دموعِ عينيْه، ولكن انظُر إلى عملِ يديْه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[البقرة: 208، 209].
إنه لا بُدَّ لكلِّ فردٍ أن يتحرَّر من الأنانية واللامسؤولية، وأن يقطَعَ قيودَ وأغلالَ السلبيَّة واللامُبالاة؛ ليكون لبِنَةً صالحةً في بناء بُرج السلام الشامِخ الذي ما خابَ من بَناه ولا ندِمَ من اتخَذَه دارًا؛ لأن معرفةَ الله الحقَّة والإيمانَ بما جاء من عنده - سبحانه - هي السبيلُ الوحيد للفرزِ بين السلام الحقِّ والسلامِ الزائفِ؛ لأن السلامَ في الإسلام هو العدلُ والصدقُ والأمانةُ والرحمةُ، وأما السلامُ بالمفهومِ الزائف فإنه مبنيٌّ على المصلحةِ الذاتية والقوةِ الكابِحة ومبدأ الهيمَنَة للأقوى، أو على المبدأ الجاهليِّ الذي يجعلُ الظلمَ من شِيَم النفوس، ومن يكنْ ذا عِفَّةٍ فلِعلَّةٍ لا يظلِم.
ولقد صدقَ الله - جل وعلا - في عُلاه: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا[الكهف: 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتِنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه الداعِي إلى رِضوانِه، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وأزواجِه وأصحابِه وإخوانِه.
أما بعد، فيا أيها الناس:
إننا حينما نتحدَّثُ عن السلام الذي هو الإسلام، ونرى أنه هو المُنقِذُ للبشرية من ظُلمات التِّيه والانحِراف العقَدي والأخلاقيِّ والفِكريِّ والعسكري، إننا حينما نتحدَّثُ عن ذلكم فإننا لا نعنِي أن السلامَ يقتضي الدُّونيَّة أو الخُنوع أو الاستِكانة، كلا؛ فإن أمةً لم تركَع إلا لخالقِها لا يُمكِنُ أن تخضَعَ لغيره البَتَّة، وإن أمةً لا تعرفُ إلا الله فلن يغلِبَها من لا يعرفُ الله، غيرَ أن الإسلامَ هو السلامُ الحقيقيُّ بكلِّ ما تعنيه الكلمةُ من معنًى، فالله - جل وعلا - هو السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ[الحشر: 23].
وقد وردَ ذكرُ السلامِ في القرآن مُتصرِّفًا أربعًا وأربعين مرَّةً، في حين أن لفظَ الحرب لم يرِد في الكتاب الحكيم إلا ستَّ مراتٍ، والمسلمون يقولون كلَّ يومٍ وليلة لفظَ السلام عشر مراتٍ؛ وذلك اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرَف من صلاته؛ حيث كان يقول: «أستغفرُ الله. أستغفرُ الله. أستغفرُ الله. اللهم أنت السلامُ، ومنك السلامُ، تبارَكتَ ذا الجلالِ والإكرامِ»؛ رواه مسلم.
فالسلامُ دينُ الله في الأرض، وتحيَّةُ المسلمين فيها السلام؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أفشُوا السلامَ بينكم»؛ رواه مسلم.
وفي ميدان الحربِ والقتالِ إذا بذلَ العدوُّ كلمةَ السلام وجبَ الكفُّ عنه واعتبارُه مُسلمًا مُتمتِّعًا بالسلام؛ عملاً بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[النساء: 94].
وإذا كان هذا كلُّه في الحياةِ الدنيا فإن الجنةَ في الدار الآخرة هي السلام: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس: 25]، وتحيَّة المؤمنين يوم يلقَون ربَّهم: سلامٌ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا[الأحزاب: 44]، والملائكةُ حينما يدخلون على أهل الجنة يُلقون عليهم السلام: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[الرعد: 23، 24].
أما حياةُ المؤمنين في الجنة فقد وصفَها الله بقوله: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا[الواقعة: 25، 26].
بارك الله ولكم في القرآن والسنة، واعلموا - رحمكم الله - أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة : 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-19-2011, 12:28 AM   رقم المشاركة : 2

 

فضل كلمة التوحيد: لا إله إلا الله
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 21/1/1433هـ بعنوان: "فضل كلمة التوحيد: لا إله إلا الله"، والتي تحدَّث فيها عن فضل كلمة التوحيد، وأن الله - سبحانه - فضَّلَ المسلمين بها على غيرهم من الأمم، وذكر ما يجبُ عليهم تجاهَ ربِّهم شُكرًا لهذه النعمة وحِفاظًا عليها، وشدَّد على ضرورة التمسُّك بالكتاب والسنة لضمانِ النصر والتمكين في الدنيا، والفوز بجنات النعيم في الآخرة.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدك ربي ونستعينُك ونستغفرُك ونتوبُ إليك، ونُثنِي عليك الخيرَ كُلَّه ثناءً كثيرًا طيبًا مديدًا، مِلءَ الآفاق مُبارَكًا مزيدًا.
لك الحمدُ اللهم يا خيرَ ناصرِ
لدينِ الهُدى ما لاحَ نجمٌ لناظِرِ
لك الحمدُ ما هبَّ النسيمُ من الصَّبَا
على نِعَمٍ لم يُحصِها عدُّ حاصِرِ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا بربوبيته وألوهيته وتوحيدًا، وتعظيمًا لجلاله - سبحانه - وتفريدًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أزكى من دعا للتوحيدِ اعتقادًا وعملاً فريدًا، صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين البالغين بالحقِّ رُكنًا شديدًا، وعِزًّا مشيدًا، وصحبِهِ الباذِلين لكلمةِ الإخلاص طارِفًا وتليدًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ممن رجا وعدًا واتَّقَى وعيدًا، وسلِّم ربَّنا تسليمًا عديدًا إلى يوم الدين سرمدًا مزيدًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن رُمتُم من التآخي ائتلافًا، ومن التمكينِ والعِزِّ ازدِلافًا، ومن ثوابِ الرحمنِ جناتٍ ألفافًا؛ فعليكم بتقوى الله قولاً وعملاً واعترافًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
عليك بتقوى اللهِ سرًّا وجهرةً
ففيها جميعُ الخيرِ حقًّا تأكَّدَا
لتُجزَى من اللهِ الكريمِ بفضلِهِ
مُبوَّأ صدقٍ في الجِنانِ مُخلَّدًا

أيها المسلمون:
في عصرنا الراهِن المُدلهِمِّ بالتقلُّبات الفكريةِ، والتحدياتِ السياسية والمُجتمعية، والمُؤثِّرات الثقافيةِ والمعلوماتية، وعلى مشارِفِ عامٍ هجريٍّ مُبارَكٍ جديدٍ لا يكتمِلُ استشرافُ المُستقبَل ورسمُ آفاقِهِ واستنطاقُ أندائهِ وأعماقهِ إلا في ضوءِ نعمةٍ جُلَّى قد كمُلَت فضائلُها وتمَّت، وكثُرت دلائلُها وجمَّت، وأذهبَت الغياهِبَ عن الدنيا وجلَّت، وهزَّت فيالِقَ الإلحاد والوثنيَّةِ وفلَّت؛ إنها أعظمُ كلمةٍ قِيلَت في هذا الوجود، وسُطِّرَت رمزًا للخُلود، وأجلُّ عبارةٍ لهَجَت بها الألسُن في الأصقاع، وأزكَى مقولةٍ شُنِّفَت بها الأسماعُ.
هي النعمةُ المُسداة، والمِنَّةُ المُهداة، هي أكبرُ نعمةٍ يمنُّ الله - تبارك وتعالى - بها على من يشاءُ من عباده، إنها - يا رعاكم الله -: كلمةُ التوحيد: (لا إله إلا الله)، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[محمد: 19]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 25].
معاشر المسلمين:
ولئن كان هذا أمرًا متفقًا عليه عند أهل القبلةِ تقريرًا، وسطَّرَته أقلامُهم تحريرًا، وتأصَّلَ في قلوبهم استشعارًا وتذكيرًا؛ فإن فِئامًا من بني الإسلام قد رضُوا باللَّقَب، واكتفَوا بالاسمِ وقنِعوا بالوصفِ، وغفَلوا عن المضمونِ في الجُملة، فتبلَّدَت منهم الحواسُّ، وجفَّت المشاعِر، وأجدَبَت القلوبُ إلا من رحِمَ الله.
ولهذا مهما بلغَ من حُرِمَ هذا الشرفَ العظيمَ في هذه الحياة الدنيا من مراتِب، وهما أُوتِي من جاهٍ ومالٍ وجمالٍ، ومن قوةٍ ودهاءٍ وذكاءٍ إلا أن أمنيَّته يوم القيامة: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا[النبأ: 40].
فنعمةُ (لا إله إلا الله) لا تُقدَّرُ بثمن، وكلُّنا في حبِّها مُرتَهَن؛ في الحديثِ الصحيحِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن موسى - عليه السلام - قال: يا ربِّ علِّمني شيئًا أذكُركَ وأعدوك به. قال: يا موسى! قُل: لا إله إلا الله. قال موسى: يا ربِّ! كلُّ عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى! لو أن السماوات السبعِ وعامِرهنَّ غيري، والأرضِين السبعَ في كِفَّة، ولا إله إلا الله في كِفَّة مالَت بهنَّ لا إله إلا الله»؛ أخرجه الحاكم، وابنُ حبَّان، وصحَّحه.
الله أكبر! إنه لو وقفَ المسلمون عند مُقتضى كلمةِ الإخلاصِ وأحكامها، وبديعِ مضامينها ومرامِيها؛ لما رأينا الظلمَ والاعتداء من الطُّغاة على الأبرياء، ولما تناهَشَ عِزَّتَنا الأعداءُ الألِدَّاءُ.
إخوة الإيمان:
إن هذا الدين القيم هو النعمةُ العُظمى، والمِنَّةُ الكبرى، وبه يمتازُ المؤمنُ عن غيره من أهلِ المِلَل الذين يشترِكون معه في نعمةِ الوجود والعقلِ والرزقِ وغيرها، إلا أن المسلمَ ينفرِدُ - بكلِّ شرفٍ واعتِزازٍ - بنعمةِ الإسلام، بنعمةِ (لا إله إلا الله)؛ فهي نعمةٌ تستوجِبُ منَّا أن نُمرِّغَ وجوهَنا وجِباهَنا وأنُوفَنا شُكرًا لله ربِّ العالمين.
إذا نزلَ الإسلامُ ساحةَ معشرٍ
تبدَّلَ فيه عُسرُه أبدًا يُسرًا
هو الأمنُ والإيمانُ والنعمةُ التي
بها تسعَدُ الأجيالُ في شأنِها طُرًّا
فمن لم يحيَ بها في هذه الحياة فهو الميتُ حقًّا؛ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام: 122]، ومن لم يستأنِس بها فهو المُستوحِشُ يقينًا؛ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[الزمر: 22].
أليس الله - تبارك وتعالى - هو الذي خلَقَنا فسوَّانا، وأوجدَنا وأحيانا، وبإحسانِهِ ربَّانا، ومتى دعوناهُ أجابَنا ولبَّانا، ومن كل كربٍ وضيقٍ نجَّانا؟ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[النمل: 62].
فيا أحبَّتنا المكروبين المرثُوئين في كل مكانٍ! ألِظُّوا بالدعاء، واستَغيثوا بربِّ الأرضِ والسماءِ أن يُنجِيَكم من كل باغٍ ظَلوم، ومُستبدٍّ غَشوم.
يا مَن بذَرت الكيدَ في أرضِ النَّدَى
مهلاً فلن تجنِي سوَى البغضاءِ
لن يُقنِعَ الناسَ الكذُوبُ بقولِهِ
ولو ارتقَى لمنازلِ الشُّرَفاءِ
ومن أعظم معاني هذا الدين وأسمى مبادئه؛ بل أروع حقائقه وأجمل دقائقه التي هي جوهرُه ولُبُّه، وعِمادُه وطُمْبُه: إظهارُ الانكِسار والافتِقار والحاجةِ لله الواحدِ القهَّار.
أمةَ العقيدة:
الفائزون بكلمة التوحيد هم طُلاَّبُها، والعاجِزون من أعياهم التحقُّقُ بها واكتِسابُها، فهُرِعوا إلى التِّقانات والفضائيات، ولوَّثوا سَلسالَ التوحيد بالشركيَّات والخُرافات، ووَبيلِ المُعتقَدات؛ فليست كلمةُ التوحيد مُجرَّد لفظةٍ تُقال، أو عبارةٍ تُردَّدُ على الألسُن، وإن كان مُجرَّدُ التلفُّظ بها عاصمًا للدمِ والمالِ والعِرْضِ، ولكن هي بمثابةِ الدمِ للبَدَن، والهواءِ للأحياء، والماءِ للنبات، فإذا ما استقرَّت في السُّويْداء وحُقَّت، وانداحَت في الروحِ وترقَّت، إلا وأعلَنها صاحبُها مُدوِّيَةً: ألا معبودَ بحقٍّ يستحقُّ أن تُصرَف له العبادة إلا اللهُ الواحدُ الأحدُ الصمدُ، لا إله إلا الله.
فتُصبِحُ أقوالُه وأعمالُه، ذَهابُه وإيابُه لله رب العالمين لا شريكَ له؛ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
وأن يُفردَ الله - جل وعلا - في رُبوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وطاعته والتحاكُم إلى شريعته، ولقد تجسَّدَت هذه الروح في أكمَل عبادِ الله وأحبِّهم إليه وأكرمِهم عليه وصفوتِه من خلقِه: أنبيائه ورُسُله - عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم -.
هذا نبيُّنا وحبيبُنا وقدوتُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يستقبِلُ القبلةَ يوم بدرٍ، ثم يمُدُّ يديه فيهتِفُ بربِّه: «اللهم أنجِز لي ما وعَدتَني، اللهم آتِني ما وعدتَني، اللهم إن تهلِك هذه العُصابة من أهل الإسلام فلن تُعبَد في الأرض». فما زال يهتِفُ بربِّه حتى أتاه أبو بكرٍ - رضي الله عنه - والتزَمَه من ورائه، وقال: يا نبيَّ الله! كفاكَ مُناشَدَتَك ربَّك، فإنه سيُنجِزُ لك ما وعدَك، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ[الأنفال: 9].
معاشِر الأحِبَّة:
المُتأمِّلُ في هذا الحديثِ الشريفِ يجِدُ فيه صورةً حيَّةً ناطِقةً بالذلِّ والخُضوعِ، والتضرُّع والانطِراح، والافتِقار والالتِجاءِ إلى اللهِ الواحدِ الأحدِ من أفضل خلقِ الله - عليه أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم -.
ورسَمتَ للتوحيدِ أكملَ صورةٍ
نفَضَت عن الأذهانِ كلَّ غُبارِ
فرجَاؤُنا ودُعاؤُنا ويقينُنا
وولاؤُنا للواحدِ القهَّارِ
وفي ظِلالِ تلك الضَّرَعات الوارِفة في معارجِ التوحيدِ الخالِصِ بين يدي الله - عز وجل - من جميعِ أنبياءِ الله ورُسُله: نوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى وأيوب ويونس وزكريا ومحمدٍ - عليهم الصلاة والسلام -، يرتسِمُ أثرُ العقيدة وتحقيقُها لخيْرَي الدنيا والآخرة.
أمةَ التوحيد والسنة:
ومع ما لكلمة التوحيدِ من مكانةٍ جُلَّى؛ فإن الحِفاظَ عليها وتحقيقَ شُروطها ومُقتضياتها لاسيَّما في مجال التطبيقِ وميادين العملِ، وساحاتِ المواقفِ والابتلاءات يُعدُّ المقصدَ الأعظمَ في الحياة كلِّها؛ إذ أعظمُ مقاصدِ الشريعةِ الغرَّاء: حِفظُ الدين وجودًا وعدمًا، وحِراسةُ العقيدةِ من كلِّ ضُروبِ المُخالَفاتِ، لاسيَّما في عصرٍ طغَت فيه الصراعاتُ العقدية، والنَّعَراتُ الطائفيَّة، والخِلافاتُ المذهبيَّةُ.
وامتدَّ فُسطاطُ اللَّوثات، وانتشرَ رُواقُ المُحدَثات، واختلطَ فيها سَخينُ المَدامِعِ بدويِّ المدافعِ، ونالَ المُتمسِّكون بعقيدتهم الصحيحة وسنةِ نبيِّهم - عليه الصلاة والسلام -، ومنهجِ سلَفهم الصالح ما نالَهم؛ فإن العاقبةَ الحميدَةَ - بإذن الله - لهم.
فصبرًا صبرًا أهلَ التوحيد والسنة، صبرًا صبرًا أهلَ التوحيد والسنةِ في كل مكانٍ، ويا بُشراكُم؛ فهذه راياتُ النصر تلُوحُ، وبشائرُه تغدُو وترُوح، وشواهِدُه المُشرِقة المُتمثِّلةُ في مهدِ الرسالة، ومنبَعُ العقيدة والأصالَة، وموئِلُ السنة: المملكةُ العربيةُ السعودية أُنموذجًا مُتألِّقًا، وسَلسالاً مُتأنِّقًا في إيمانها وعقيدتها وأمانها ورخائها واستقرارها، كلُّ ذلك بفضل اللهِ، ثم بفضلِ صحةِ المُعتقَد، وسلامةِ المنهَج، وتحقيقِ العدلِ، ونزاهَةِ واستِقلالِ القضاء، وتطبيقِ الشريعةِ بيُسرِها وسماحتِها، ووسطيَّتها واعتدالِها.
ولن يبُوءَ المُزايِدون عليها وعلى عقيدتها ومنهجِها وقضائِها ووُلاتِها وعلمائِها، المُتوسِّعون بنشر أباطيلهم، المُصدِّرون لأضاليلهم، المُتنمِّرون في بيانات السُّوءِ والفتنةِ من قراصِنةِ العقيدة، وسَماسِرةِ الأفكارِ والتصوُّرات، ومُعولِمةِ الثقافات والتِّقانات إلا بالبَوارِ والتَّبَار.
أمةَ الإسلام:
ومع ما تعيشُهُ أمتُنا الإسلاميةُ من الواقعِ المريرِ في بِقاعٍ عزيزةٍ علينا مما أقضَّ مضاجِعَ المؤمنين الصادقين؛ فإننا نشعُرُ مُتفائلين أن لهيبَ التمحيصِ لا بُدَّ أن يُضِيءَ طريقَنا إلى العامِ الهجريِّ الجديدِ، مُستيقنين أن كلمةَ التوحيدِ عُدَّتُنا مطلعَ كل عامٍ جديدٍ، وأنها المثابَة التي لا مندُوحةَ لأمةٍ من أن تفِيءَ إلى معاقدِ شُموخِها وسُطوعِها، وعِزَّتها ولُموعها، لتحقيقِ أملِنا المنشود، وسُؤدَدنا المفقود، وما ذلك على اللهِ بعزيزٍ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور: 55].
لا إله إلا الله.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنةِ، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والحِكمةِ، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المُسلمين من كل ذنبٍ خطيئةٍ، فاستِغفروه وتوبوا إليه، إن ربِّي لغفورٌ رحيمٌ.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-19-2011, 12:29 AM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا لم يزَل فيَّاحًا، ابتغاءً لمرضاتِهِ واستِمناحًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أشرقَ نورُها وضَّاحًا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أخلصَ الدينَ لله دعوةً وإصلاحًا، اللهم فصلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلهِ وصحبِه الأُلَى نشَروا التوحيدَ غُدُوًّا ورواحًا، فعمَّ البسيطةَ هِضابًا وبِطاحًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله في السرِّ والعلَن، واحمَدوه على ما شرعَ لكم من التوحيدِ وسنَّ، واحذَروا شوبَه بما ظهرَ من البدعِ وما بطَن، واعلمُوا أن أصدقَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ.
أمة التوحيد والسنة:
إن المُتأمِّل البصير الذي يرومُ عِزَّةَ أمته هو من يستنطِقُ الحادِثات المُستجِدَّات في ضوءِ أصولها الكُلِّيات تجاوُزًا للتحديات، وتخلُّصًا من الصِّراعات، وإننا لنُعيذُ أمتنا - وهي تُكابِدُ من المِحَن ما تُكابِد - أن يتفاقَمَ بلاؤُها من ذاتِها أكثرَ من عُداتِها.
وفي هذه الآونةِ خُصوصًا تعظمُ الأمانة وتجِلُّ المسؤولية المُناطةُ بأهل العقيدة، وحملَة الشريعة، ورجال العلم والدعوةِ والإصلاح، السائرين على المنهجِ الربانيِّ الوضَّاح، وكذا القادةُ والساسةُ أن ينتشِلوا المُجتمعات والأجيال من أوهاقِ الافتِئاتِ على العقيدة، والمُزايَدة على مرامِيها البَلْجاءِ العَتيدة، وأن يتَّخِذوا من التوحيد والسنة أطيبَ سَقْيِ وغِراسٍ، وخيرَ مِنهاجٍ ونِبراس، لإصلاحِ أحوالِ الأمة، وتوثيقِ اتحادها، ودحرِ الأرزاءِ عنها، وتحقيقِ أجلِّ مُرادها، ولن يكون ذلك إلا بالاعتصامِ بالكتابِ والسنةِ؛ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 103].
بني الإسلامِ قد حانَ اعتصامٌ
بحبلِ اللهِ نهجًا والتِزامًا
لنرفعَ رايةَ الإسلامِ عدلاً
ونحمِي حوزةَ المجدِ اعتِزامًا
إذ ذاك؛ يأبَى الله - سبحانه - تحقيقًا لوعده إلا أن يُتِمَّ نورَه بكشفِ الغُمَّة ونصرِ الأمة، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام: 82].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على أزكَى البريَّةِ قدرًا، المبعوثِ في الدياجِي بدرًا، من أعلى رايةَ التوحيدِ والسنةِ نهيًا وأمرًا؛ فقد قال - جلَّ في عُلاه - قولاً كريمًا، ولم يزَل سميعًا عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
مُحمدٍ المُختارِ والآلِ بعدَهُ
وأصحابِهِ الغُرِّ الكرامِ الأكابرِ
مدَى الدهرِ والأزمانِ ما قالَ قائلٌ
لك الحمدُ اللهمَّ يا خيرَ ناصرِ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيدِ الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبِهِ الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُلِ الشرك والمشركين، ودمِّر الطُّغاةَ والمُفسِدين وسائرَ أعداء الدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم وفِّقنا لكل خيرٍ يا رب العالمين، اللهم أيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا.
اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفَين إلى ما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وخُذ بنواصيهم للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقهم وإخوانَهم وأعوانَهم إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه خيرُ البلاد والعبادِ يا رب العالمين.
اللهم احفَظ على هذه البلاد عقيدَتها وقيادتَها وأمنَها واستقرارَها ورخاءَها يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم رُدَ عنا كيدَ الكائدين، وعُدوان المُعتدين، ومكرَ الماكرين، وحسَد الحاسِدين، اللهم واكفِنا شُرورَهم بما شِئتَ يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في عقيدتهم واتباعهم لسنة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، المُتمسِّكين بمنهجِ سلَفهم الصالح، اللهم كُن لهم في كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم احقِن دماءَ المُسلمين، اللهم احقِن دماءَ المُسلمين، اللهم احقِن دماءَ المُسلمين، وأصلِح أحوالَهم في كل مكانٍ.
اللهم احفَظ على إخواننا في يمننا وفي شامِنا وفي كل مكان أمنَهم واستقرارَهم يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين والمُسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 12 ( الأعضاء 0 والزوار 12)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:53 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir