يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-22-2012, 05:35 PM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

لتحذير من السَّفَه في العقل والمال
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التحذير من السَّفَه في العقل والمال"، والتي تحدَّث فيها عن السَّفَه ومعناه وصفات المُتخلِّقين به، وبيَّن خطورته، مُحذِّرًا من مغبَّته، مُستدلاًّ على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، ومن الواقع المُشاهَد.

الخطبة الأولى
الحمد لله العليِّ القدير، هو القاهرُ فوق عبادهِ ويُرسِلُ عليهم حفَظَةً، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[القصص: 70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، أرسلَه الله بالهُدى ودينِ الحقِّ ليُظهِرَه على الدينِ كلِّه ولو كرِهَ المُشرِكون، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولةَ لي ولكم - عباد الله - هي تقوى الله - سبحانه -؛ فهي سِلاحُ كلِّ مؤمنٍ، ودِثارُ كلِّ خائفٍ، وبُشرى كلِّ راغبٍ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة: 100].


أيها الناس:
يتفقُ الناسُ جميعًا مهما اختلَفَت مدارِكُهم أن العقلَ من أعظم نِعَم الله على العبدِ، به يميزُ الخبيثَ من الطيبِ، والزَّينَ من الشَّيْن، هو علامةٌ فارِقةٌ بين الآدميَّة وبين البهيميَّة والحجر الصَّلدِ، إنه لا يعرفُ قدرَ العقلِ إلا من وُهِبه، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[النحل: 78].
وإنه لا يعلمُ مقدارَ العقلِ إلا من رأى فاقِدَه أو فقِدَ الاستِنارةِ به، ومن وهبَه الله عقلاً لا أثرَ له في واقعِ حياته فهو كمثلِ الحِمارِ يحمِلُ أسفارًا، أو كالعِيسِ في البَيْدَاءِ يقتلُها الظَّمَأ والماءُ فوق ظُهورِها محمولٌ.
لقد تسلَّلَت الاِزدِواجيَّةُ والتَّضادُّ لدى كثيرٍ من العقول، وما ذاك إلا لاضطرابِ وسائل التلقِّي التي يتعارَكُ فيها الحقُّ والباطلُ، والزَّيْنُ والشَّيْنُ، في زمنٍ يتقدَّمُ الحقُّ فيه تارةً ويتسلَّلُ الباطلُ فيه تاراتٍ.
وإنه متى تسلَّل الخللُ إلى العقل لِواذًا فتجاذَبَته الخِفَّةُ والطَّيشُ والاضطرابُ في الرأيِ والفكرِ والأخلاق؛ فإنه السَّفَهُ ما مِنه بُدٌّ، والسفيهُ في مثل هذا: هو ظاهرُ الجهل خفيفُ اللُّبِّ، استمهَنَ عقلَه بالتقليدِ الأعمى، والإعراضِ عن النظرِ به خللٌ في تفكيره، وخللٌ في لسانه، وخللٌ في قلمه، وخللٌ في أخلاقه، يفِرُّ منه العُقلاءُ فِرارَ الصحيحِ من الأجربِ.
السَّفَهُ - عباد الله - ليس جنونًا ولا فُقدانًا للعقل؛ وإنما هو سوءُ استعمالٍ له أو تهميشُه عن أداء دوره الذي خُلِق له، فكلُّ صاحبِ عقلٍ سارَ مع مُرادِ الله ومُرادِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو العقلُ السلمُ، ومن ندَّ عن مُراد الله ومُراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو السَّفيهُ وإن كان عقلُه يفوقُ عقولَ الدُّهاة.
ومن هنا وصفَ الله - جل وعلا - بالسَّفَه كلَّ من عانَدَه أو ندَّ عن شِرعتِه ومِنهاجِه، كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ[البقرة: 13]، فوصفَهم بالسَّفَه مع كمال عقولهم ودهائِهم؛ لمُخالفتهم صِبغةَ الله، ولهذا توعَّد اللهُ كلَّ سفيهٍ لا يُعمِلُ عقلَه فيما يُرضِي اللهَ - سبحانه -، أو يُعمِلُه فيما لا يُرضِي الله، بقوله تعالى: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف: 179].
والسَّفَه - عباد الله - آفةٌ تعتري الإنسانَ في أموره الدينية وأموره الدنيوية؛ أما الأمور الدينية فيكونُ ذلك بمُحادَّة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم –، والنُّكوص عن شِرعة الله أو مُضادَّتها، أو الاستِهزاءِ بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو السخريةِ بشيءٍ من أمور الدين، أو التهوين من شأن الشريعة الإسلامية ووصفها بالتخلُّف أو النُّقصان أو عدم مُلاءمتها لواقع الحال، كلُّ ذلك سَفَهٌ وخَبالٌ، كما قال تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا[البقرة: 142]، فقد وصفَ الله هؤلاء المُعترِضِين بالسَّفَه؛ لأن العاقلَ لا يعترِضُ على الله ولا على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثمَّ يكون عزيزًا كريمًا، بخلاف المُعترِض فإنه يُصابُ بالذلِّ والصَّغار، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ[المجادلة: 20].
ولم يكن وصفُ السَّفَهِ - عباد الله - قاصرًا على مُعانَدة بعض سُفهاءِ الإنس تجاهَ دينهم ومتهم ومُجتمعهم، كلا؛ بل إن اللهَ - سبحانه - ذكرَ ذلك عن أمةِ الجنِّ أيضًا، وذلك بقولهم: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا[الجن: 4]؛ أي: يقول بُهتانًا وزُورًا.
فانظروا - يا رعاكم الله - كيف اتفقَت الجِنَّةُ والإنسُ على وصفِ من تخبَّطَ في أمور الدين، ولتَّ فيها وعجَنَ بغير هُدًى من الله أنه سَفيهٌ ليس من العُقلاء في وِرْدٍ ولا صَدَرٍ، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة: 130].
ولهذا - عباد الله - تكون مغبَّة السَّفَه في أمور الدين وخيمةً، فهي غيرُ قاصرةٍ على السفيهِ وحدَه؛ بل تعمُّ السفيهَ والعقلَ والمُجتمعَ كلَّه؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سُئِل: أنهلِكُ وفينا الصالِحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبَثُ».
ولهذا قال الله - جل وعلا -: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[الأنفال: 25]، فمن سَفَهِ السفيهِ أنه يجُرُّ الويلَ والهلاكَ لمُجتمعه جرَّاءَ سفَهِهِ وحماقاتِهِ، وما كان خوفُ موسى - عليه السلام - من السَّفَه في أمور الدين إلا خشيةَ أن تعُمَّهم العقوبةُ من الله، فكان كلامُ موسى لربِّه: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ[الأعراف: 155].
وأما السَّفَهُ في الأمور الدنيوية - عباد الله - فيكون في التصرُّف في المال بما يُخالِفُ شرعَ الله، أو بالتبذيرِ والإسرافِ فيه، ومن ذلكم: الاتِّجارُ والمُرابَحَة فيها بتهوُّرٍ وعدم استِحضارِ حُرمتها وحُرمةِ أصحابها، فهذا سَفَهٌ ووضعٌ للأمور في غيرِ موضعِها، ولهذا قال الله تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا[النساء: 5].
لقد كثُر السَّفَهُ في الأموال، فاستهانَ البعضُ بالحقوق وتصرَّفوا بأموال الناس بلا ذِمَّةٍ ولا أمانة، فاضطربَت الإِحَنُ والمُشاحَّةُ والدعاوَى، وكثُر الإعسارُ المُفاجِئُ، والخسائرُ المُتراكِمة، ونشأَت الفتنُ بين المُساهِمين والمُستثمرين، فبغَى بعضُهم على بعضٍ، ولعَنَ بعضُهم بعضًا، كلُّ ذلك بسببِ الطمعِ والجشَع، وضعفِ القناعَة المُولِّدة للسَّفَه الماليِّ؛ لأن للمال ثورةً كثورةِ الخَمرة تأخُذ شارِبَها حتى ينتشِي.
وجامِعُ الأمر في ذلكم: هو قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «من يأخُذ مالاً بحقِّه يُبارَك له فيه، ومن يأخُذ مالاً بغير حقِّه فمَثَلُه كمثَلِ الذي يأكلُ ولا يشبَع»؛ رواه مسلم.
فليتَّقِ اللهَ أولئك الذين استأمنَهم الناسُ على أموالهم، وليُرابِحُوا فيها بما أحلَّ الله، وألا يتهوَّروا ولا يُفرِّطوا، ولا يقعُوا في الرِّيبةِ والشُّبهَة، ولا يستغِلُّوا ثقةَ الناسِ بهم، وليذكُروا قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أخذَ أموالَ الناسِ يُريدُ أداءَها أدَّى اللهُ عنه، ومن أخذَها يُريدُ إتلافَها أتلفَه الله»؛ رواه البخاري.
ثم إن من السَّفَه - يا رعاكم الله -: قتلَ النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وكلما ازدادَ المرءُ قتلاً ازدادَ سَفَهًا، وإن تعجَبوا - عباد الله - فعَجَبٌ سَفَهُ من يقتُلون شُعُوبَهم وبني جِلدَتهم ممن وصفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمثالَهم بأنهم سُفهاءُ الأحلام، ومن أفعالهم: أنهم يقتُلون أهلَ الإسلام، ويدَعُونَ أهلَ الأوثان، كما يجري لبعضِ إخواننا ممن قُتِلوا وعُذِّبُوا سَفَهًا بغير علم، وكم هي الحالُ المُؤرِّقةُ مع إخواننا في سورية والذين يُواجِهون أشدَّ أنواعِ الجَور والقتل والوحشية التي لا يرضاه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُقِرُّها دينٌ ولا مِلَّةٌ ولا عُرْفٌ، قتلٌ وغدرٌ وعِنادٌ، وكلما قيل لهم: اتقوا الله ولِينوا بأيدي إخوانكم، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وتأبَّطوا أسلحتَهم، وأصرُّوا واستكبَروا استِكبارًا.
وأمثالُ هؤلاء يصدُقُ فيهم قولُ ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -: "إذا سرَّك أن تعلمَ جهلَ العربِ فاقر قولَ الله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ[الأنعام: 140]"؛ رواه البخاري.
وبهذا المُناسَبة فإن الشكرَ موصولٌ لكل من كانت له يدٌ طُولَى في الإنكار على أولئك؛ من حكوماتٍ، وقادة، وعلماء، ومُفكِّرين، وشُعوب، وأخُصُّ منهم: الدول التي سحَبَت سُفراءَها، ووقفَت ضدَّ الظلم والعُدوان، ومنهم: هذه البلاد بقيادتها.
فإلى مزيدٍ من الجهود وممارسة تضييق الخِناقِ ضدَّ هذا التصعيدِ السَّفيه في نَزيفِ الدماء، وجمعِ الكلمة في اتخاذ خُطواتٍ مُتقدمةٍ تكون كفيلةً في حقنِ الدماءِ ورفع القتلِ والظلمِ.
بارَكَ الله في الجهود، وسدَّد الخُطى، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، وأُصلِّي وأُسلِّمُ على عبده ورسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن المُجتمعات الجادَّة الواعِية هي تلكم المُجتمعات التي تُحسِنُ التعامُل المُتكامِل، وتلمَّسُ مواقعَ الخللِ لدى بنِيها والمُنتَمين إليها؛ لتشكُر الناجِح وتُكرّمه، ولتُصلِح المُتعثِّر وتُقوِّمه، ومن ذلكم: أخذُها على أيدي سُفَهائِها، وإصلاح شأنهم، والقضاء على مظانِّ السَّفَه لئلا تغرقَ سفينةُ المُجتمع الماخِرة بقضِّها وقضيضِها.
السَّفيهُ آفةٌ في المُجتمع عالةٌ عليه؛ لأنه لا يعرفُ متى يجبُ أن يتكلَّم ولا متى يجبُ أن يسكُت.
السَّفيهُ يتطفَّلُ على كلِّ شيءٍ، ويتكلَّم ويهرِفُ في كل شيءٍ.
السَّفيهُ هو الرُّويبِضَةُ الذي يتكلَّمُ في أمرِ العامَّة، وينصِبُ نفسَه نِدًّا لذوي العلمِ والاختِصاصِ.
السَّفيهُ يسبِقُ طيشُه عقلَه، وغضبُه حلمَه، وغفلتُه يقظتَه، لا تزيدُه المُجاراةُ إلا هذَرًا، ولا المُداراةُ إلا بطَرًا، ولا أمانُ العقوبةِ لا هرَفًا وتماديًا.
وأما السَّفيهُ في الأخلاقِ فدواؤُه السكوتُ، ومُتاركتُه بلا جوابٍ أشدُّ عليه من الجوابِ في الغالبِ، سفيهُ الخُلُق إذا ردَدتَ عليه فرَّجتَ عنه، وإذا خلَّيتَه فإنه يموتُ كمَدًا، قال عنه الشافعيُّ - رحمه الله -:
يُخاطِبُني السَّفيهُ بكلِّ قُبحٍ
وأكرَهُ أن أكون له مُجيبًا
يزيدُ سفاهةً وأزيدُ حِلمًا
كعودٍ زادَه الإحراقُ طِيبًا
فالسَّفيهُ - عباد الله - كالضَّرعِ إن حلبتَه درَّ، وإن تركتَه قرَّ.
وقد كان عُميرُ بن حبيبٍ ممن أدركَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقولُ لبَنِيه: بنِيَّ! إياكم والسُّفهاء؛ فن مُجالستهم داءٌ، من يحلُم عن السَّفيه يُسَرُّ، ومن يُجِبْهُ يندَمُ، ومن لا يرضَى بالقليلِ مما يأت به السَّفيهُ يرضَى بالكثيرِ.
ولا خيرَ في عقلٍ إذا العلمُ غائبٌ
ولا خيرَ في علمٍ يكونُ بلا عقلِ
فلا بُدَّ من علمٍ وعقلٍ كلاهُما
يصُدَّان عنَّا ذا السَّفاهَةِ والجهلِ
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56]، وقال - صلواتُ الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها شرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمُشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في سُوريا، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في سُوريا، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، اللهم اشفِ مرضاهم، وفُكَّ أسراهم، وارحم موتاهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللم شأن من ظلمَهم في سِفال، وأمرَه في وبالٍ، يا حيُّ يا قيُّوم يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2012, 05:40 PM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

غيابُ القيم في ظل الفتن
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "غيابُ القيم في ظل الفتن"، والتي تحدَّث فيها عن القِيَم والأخلاق الحميدة التي جاء بها الإسلام، ورسولُ السلام - عليه الصلاة والسلام -، ونبَّه على ضرورة التمسُّك بها، مُشيرًا إلى ما يحدُثُ في هذه الأيام من تطاوُلٍ على الذات العليَّة، والمقامِ النبوي، وأيضًا مُندِّدًا بما يحدُثُ من بعضِ الحُكَّام الظلمةِ والطُّغاة الذين سامُوا شعوبَهم سوءَ العذابِ، مُستشهِدًا في ذلك بالآيات الكريمة، والأحاديث الصحيحة، وبعضِ الأشعار المُعبِّرة.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُك ربي ونستعينُك ونستغفرُك ونُثنِي عليك الخيرَ كلَّه.
حمدًا وشُكرًا يا إلهي وخالِقِي
وليس بذاكَ الشكرِ نُوفِي فضائِلَك
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نلهَجُ بها اعتقادًا واعترافًا، ونرشُفُ من معينِها أزكَى المناقبِ عَلَلاً واغتِرافًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أسمَى العبادِ شمائلَ وأوصافًا، اللهم فصلِّ وبارِك عليه، من نحَلَ البريَّةَ دُررًا من الشِّيَم أصنافًا، ومن بديعِ القِيَم أصدافًا، وعلى آله الطيبين الطاهرين الأُلَى كانوا على الحقِّ أُلاَّفًا، وصحابتِهِ الغُرِّ الميامين نُبلاً وألطافًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو من الرحمن جنَّاتٍ ألفافًا، وسلِّم ربَّنا تسليمًا كثيرًا ما انهمَرَ غيثٌ وكَّافًا.


أما بعد، فيا عباد الله:
خيرُ ما يُوصَى به تنافُسًا واستِباقًا: تقوى الله - عز وجل - خوفًا وإشفاقًا؛ فتقوى الديَّان تعمُرُ القلبَ إشراقًا، وتُزكِّي الأركانَ ندًى وإيراقًا، والروحَ خضوعًا وائتِلاقًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
وما لبِسَ الإنسانُ أبهَى من التُّقَى
وإن هو غالَى في حِسانِ الملابِسِ
وإن التُّقَى للمرءِ زادٌ ورِفعةٌ
وخيرُ ضِياءٍ في ظلامِ الحنادِسِ
أيها المسلمون:
في مُلتَهَبِ القضايا العالمية الكاسِرة، والمِحَن السياسية الهاصِرَة، والفِتنِ المُدلهِمَّةِ الكاسِرة تنبجِسُ قضيةٌ تأصيليَّةٌ جِدُّ مهمَّة، أصلُها ثابتٌ مُنيف، وفرعُها باسِقٌ ورِيف، لها دلالاتٌ كعذبٍ رحيقٍ، ورَسمٌ وضِيءٌ رقيق، كيف وقد قامَ الإسلامُ على جانبٍ منها متين، ورُكنٍ لسعادة البشريَّة ركين.
ولكن من أسَفٍ لاعِجٍ غاضَت أنهارُها، وانطَفَأت أنوارُها لدى كثيرٍ من الناس دون خجلٍ أو إحساس، تلكُم - يا رعاكم الله - هي: قضيةُ القِيَم المُزهِرَة، والشِّيَم الأخَّاذة المُبهِرَة التي أعتَقَت الإنسانَ من طيشِه وغُرُوره إلى مداراتِ الحقِّ ونورِه، ومن أوهاقِ جهلِه وشُروره إلى علياءِ زكائهِ وحُبُوره.
وأنَّى يخفَى على شريفِ علمِكم أن الإسلامَ وحده إياه لا غيرَه ولا سِواه هو مَوئِلُ القِيَم والفضائل، والمهدُ البديعُ لشُمِّ المُثُلِ والخلائِل، قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[الأنعام: 161].


معاشر المسلمين:
وفي إرشاد العالَمِ إلى أعالي القِيَم، وقِمَم الشِّيَم جاء الإسلامُ بالمُساواة بين الأجناس، والتراحُم بين الناس في تآلُفٍ وتعارُف ينبُذانِ التعادِيَ والتخالُف، يقول الباري - جلَّ اسمُه -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات: 13].
وكذا شِيمةُ إحقاقِ الحقِّ وإن لم يُطَب؛ إذ به قِوامُ العالَمِ وأمنُه وانتِظامُه، وقُطبُ رَحاهُ ومَرامُه، وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ[الإسراء: 105].
ومن مذخورِ تلك القِيَم ورِكازِها: الحثُّ على إقامةِ فُسطاطِ العدل، ذلكمُ المَعينُ الرقراق الذي يُسعِدُ العبادَ، ويُخصِبُ البلاد، وتطمئنُّ بهيبتِهِ القلوبُ، وتنجلِي به غياهِبُ الكُرُوب؛ بل تعدَّى الأمرُ العدلَ إلى الإحسانِ، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ[النحل: 90].
مُطلَقُ العدلِ والإحسانِ في الأسرة والمُجتمع والأوِدَّاء مع الرعيَّةِ أو الأعداء؛ بل في العالمين على حدٍّ سواءٍ.
وإذا العدالةُ في العالَمين تحكَّمَت
جاءَت لهم بنعيمِها النَّعماءُ
نالُوا الحقوقَ كبيرُهم كصغيرِهم
فالكلُّ في بابِ القضاءِ سَواءُ
إخوة الإسلام:
أما دفعُ الظلمِ واجتِثاثُ أُصولِه، ودَحرُ جلاوِزَته وأُسطُوله، فقيمةٌ أصَّلَتها الأديان، ودانَ بها بنُو الإنسان على اختلافِ مذاهِبهم ومشارِبهم، وعزَّزَها الإسلامُ ونصرَها، وتوعَّدَ من خالَفَها وغمَرَها، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا[طه: 111]؛ لأن الظلمَ يُتبِّرُ الديارَ، وعُقباه أشدُّ فتكًا من النار، يقول - عليه الصلاة والسلام -: «إن الناسَ إذا رأَوا الظالمَ فلم يأخُذوا على يديه أوشكَ أن يعُمَّهم الله بعقابٍ منه»؛ رواه أبو داود والترمذي.
وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البيهقيُّ وابن حبان في "صحيحه" -: «شهِدتُ في دار عبد الله بن جدعان حِلفًا لو دُعِيتُ إلى مثلِهِ في الإسلام لأجبتُ».
وهذا الحِلفُ ينتصِفُ إلى الوَضيعِ من الرفيعِ، وللمظلومِ من الظالِم، ومن ذي المرتبة لذي المتربَة.
أما مُثُلُه وقِيَمُه - عليه الصلاة والسلام - أوانَ السِّلمِ والأمان، والحربِ والطِّعان؛ فإنها دستورُ المبادِئِ النفائِس، والفرائِدِ العرائِس؛ عن بُريدَةَ - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سرِيَّة أوصاه في خاصَّتِهِ بتقوَى الله ومن معه من المُسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزُوا بسمِ الله، وفي سبيل الله، ولا تغُلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تُمثِّلُوا، ولا تقتُلوا وَليدًا»؛ رواه مسلم. وفي روايةٍ: «ولا شيخًا ولا امرأةً».
الله أكبر، الله أكبر! إنها الأخلاقُ الإنسانية، والشمائلُ المُحمدية.
إذا غَزَا فالرِّفقُ يغزُو قبلَه
والرِّفقُ أعتَى جحفَلٍ جرَّارِ
إخوة الإيمان:
وفي هذا الأوانِ العَصيبُ استِناخَ الظلمُ ليلاً حالِكًا في طُغاةٍ سامُوا شُعوبَهم الظلمَ والاستِبداد، والطُّغيانَ والاستِعباد، وصمُّوا عن صوتِ الحقِّ والرشاد، ولجُّوا في الجُحودِ والعِناد.
فيا للهِ! كيف ضاعَت القِيَم وغابَت الشِّيَم؟! أين النُّهَى والرأيُ الأسَدُّ؟! حَتامَ الارتِكاسُ في مُستنقَع الطُّغيان والبطشِ الأشَدِّ! حتى غدَت تلك الرُّبَى الشَّهباء والخمائِلُ الفَيحاء بين الأنقاضِ والأشلاءِ، وأهوالِ الدموعِ والدماءِ.
يا قومِ نادُوا طُغاةً عمَّهم أفَنٌ
أن ليس هذا من الأخلاقِ والقِيَمِ
إن المبادئَ والأخلاقَ سُنَّتُها
تبنِي الشُّعوبَ وترعَى حُرمةَ الأُمَمِ
وما وحشيَّةُ الإنسانِ وقسوتُه إلا مِرآةُ حِقدِه وانتِكاستُه، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ[ص: 55].
نعم، لنا اللهُ مولانا نُؤمِّلُه
عند الرخاءِ وفي الشِّدَّاتِ والنُّوَبِ
ربٌّ يغارُ ومن يطلُبهُ يُدرِكهُ
لا أرضٌ تقِيهِ ولا قصدٌ إلى هَرَبِ
عباد الله:
شُرَفاءَ العالَم، عُقلاءَه وأحرارَه في كل مكانٍ! لقد تحتَّم وآن تعزيزُ القِيَم وإعلاءُ الشِّيَم، وإحياءُ الذِّمَم بين بني الإنسان، والائتلافُ حول معاقِدِ الحقِّ والعدلِ والأخلاقِ، لا حول الذَّوَاتِ والطوائِفِ والأعراقِ.
وأن يُحقَّقَ الإِخاءُ الإنسانيُّ والأمنُ العالَميُّ، المُجرَّدُ عن المطامِعِ والدوافِع، المُبرَّأُ عن الأغراضِ المدخولةِ والمنافِع، وأن يكون لله احتِسابًا، ولآصِرةِ الإنسانيةِ انتِسابًا، فلن يرسُو العالَمُ المنكوب في مرافِئِ العدلِ والسلامِ إلا بدحرِ الظلمِ والعُدوان، وإن شذَّ من شذَّ ومانَ دون حُجَّةٍ أو بُرهان.
وأن يكون الانتِصارُ للقِيَم طيَّ الأفكارِ والأرواحِ لا الأدراجِ ومهبِّ الرياح، إلا يكُن فعلَى الدنيا العَفاء، وسطِّرُوا على أطلالِ الهيئاتِ والمجالسِ والأُمَم عباراتِ الفناءِ.
ليس السلامُ ترنُّمًا يحلُو لِمَن
عشِقَ السلامَ لجَرسِهِ يتسمَّعُ
إن السلامَ مواقِفٌ تُبنَى على
أُسُس العدالةِ لا تُخانُ وتُقطَعُ
أين تجريمُ الإرهاب، وتحريمُ الإرعاب؟! أين شِيَمُ الإنصافِ والنُّصرةِ والسلام التي أعلَنَت بياتًا شتائيًّا حَولاً كاملاً لا أمَدَ لانقِضائه، وتحرُّكًا تقليديًّا لا أملَ لانطِوائِه، حِيالَ إخواننا المكلومين في سوريا.



نبكِي على تلك الرُّبَى في
الشامِ حيثُ الجُرحُ غائِر
ونَهيمُ في أرجائِها
بين المساجِدِ والمنائِر
فاللهُ المُستعان.
وإلى متى يستمرُّ الاستِبدادُ والطُّغيان المُمنهَجُ يحصِدُ أرواحَ الأطفال والشيوخ، وأبطالَ العِزَّة والشموخ، ولا حول ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
هُمُ الذين لك اللهمَّ قد صبَرُوا
وكلُّهم لك فيما كانَ مُحتسِبُ
فلا يُغَرَّ بما يلقَونَ طاغيةٌ
فلن يكون لغيرِ المؤمنِ الغَلَبُ
فالصُّبحُ آتٍ وإن طالَ الدُّجَى زمنًا
والغيثُ يُرجَى إذا ما اسودَّتِ السُّحُبُ
فلِزامًا على أصحابِ المُبادَرات والقرار غَذُّ السيرِ بمَضاءِ الصارمِ البتَّار، لانتِشالِ البلَدِ الجريح، والوطنِ من مُدَى الخَديعة والاستِكبار الصريح، اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا[فاطر: 43].
يا ربِّ سلِّم أهلَها
واحمِ المواطِنَ والمنازِلَ
واحفَظ بلادَ المُسلمين
عن الميامِنِ والشمائِل
يا ربِّ صُن أعراضَهم
ونُفوسَهم من كلِّ قاتِل
وغدًا إذا الحقُّ اعتَلَى
حتمًا سيزهَقُ كلُّ باطِل
أمة الإسلام:
وفي ظلِّ تعزيزِ قِيَمنا الربَّانية الومَّاضة التي تتأبَّى على التدليسِ والمُوارَبَة والتلبيسِ: العدلِ، والصدقِ والوفاءِ، والرِّفقِ والصفاء، والأمانةِ، والإحسان، والإخاء، وسِواها من كرائمِ الشِّيَم الغرَّاء، وإبَّان غرسِها أزاهِير ضوَّاعةً في أفئِدَة المُجتمعات والأجيال.
ستنطلِقُ بنا - بإذن الله - أشعةُ هدايةٍ وحياةٍ نحوَ أمةٍ عالمية مُترَعةٍ بالوِفاقِ والازدِهار، مُتألِّقةٍ بمعاني الإباء والنصرِ الغِزار، في حًصَانةٍ ذاتيَّةٍ فريدة عن متاهاتِ الضلالةِ والصَّغَار والقِيَم المنبوذَةِ الحِقار التي قَذَفَت بها الشبكات والتِّقَانات، وكثيرٌ من مواقعِ التواصُل الأفِكات، في سباقٍ محمومٍ من التقليعاتِ والتغريدات.
فالانتِصارُ للقِيَم سَنَنُ العَودة الظافِرَة بالأمة لنقودَ العالَمَ بفُولاذِيِّ الهِمَّة، ونكون فيه كما أرادَ الله لنا الهُداةَ الأئمة، ونسُوقَه إلى أفياءِ السلامِ والعدلِ بالخُطُمِ والأزِمَّة.
وبعدُ، أيها المسلمون:
هل صيحةٌ في اللهِ تُوقِدُ عزمَنَا
فندُقُّ ما حاكَ الضلالُ وزوَّرَا؟!
هل غضبةٌ للهِ تجمَعُ شملَنَا
لنقُودَ هذا العالَمَ المُتحيِّرَا؟!
هذا الرجاءُ وذاكَ الأمَلُ، ومن اللهِ - سبحانه - نستلهِمُ سدادَ القول وصوابَ العمل، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[يوسف: 100].
أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، فاستِغفروه وتوبوا إليه واشكُروه، إنه كان حليمًا غفورًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله، زكَّى القلوبَ والأعمالَ بأسنَى القِيَم، وأشكُرُه - سبحانه - على إنعامه المِدرارِ الأَتَمّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مِعراجُنا إلى شُمِّ القِمَم، وصلواتُ ربي الطيباتِ المُبارَكات على النبيِّ الكريمِ هادِي الأُمَم، وآلهِ وصحابتهِ معادنِ المناقِبِ وأسمَى الشِّيَم، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ما جلَّت الأنوارُ حالِكَ الظُّلَم، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واستمسِكوا جميعًا بعُرى الخِصالِ الحميدة والقِيَم؛ تفوزوا الفلاحَ والمجدَ الأعَمَّ.
إخوة الإيمان:
القِيَمُ الإسلامية هي مِعراجُ الروح لبناءِ الشخصيةِ السَّوِيَّة العالمية؛ شخصيَّةٍ مُبارَكةٍ مُتماسِكة، راسِخةٍ مُتناسِقة، وجيهَةٍ غير مُتشاكِسة، وأُسوتُنا المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، هو المُضمَّخُ من القِيَم بأعظمِ الحظِّ والنصيبِ؛ كيف وقد ترقَّى بالإنسانية شطرَ الكمالات، والمعالِي المُشمخِرَّات.
وإننا لنُزجِي للعالَمِ الذي اعتسَفَ كثيرًا من القِيَم، وأبادَها كالرِّمَم؛ تذكيرًا بلُمَعٍ من شِيَمه الباهِرَة، وسيرتِه الطاهِرة؛ فقد كان - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام - كان الصِدقُ أليفَه، والحِلمُ حليفَه، والعدلُ طريقَه، والتواضُع رفيقَه، وإحقاقُ الحقِّ رحيقَه، أما الأمانةُ فسجيَّتُه، والرحمةُ الفيَّاضة فشِيمتُه، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
ملأتَ الكونَ أخلاقًا ونورًا
وقد كانت معالِمُه يَبَابًا
إذا ما الطُّهرُ صافَحَنا شَذَاهُ
غَدَا أصفَى الوَرَى قلبًا ثِيابًا
إذا ما الحِلمُ عطَّرَنا رُواهُ
سَباكَ العفوُ صبرًا واحتِسابًا
ومن أهمِّ ما يُعزِّزُ القِيَم في وقتِ جَفافِ منابِعِها، ويُعلِي الشِّيَم في زمنِ التطاوُلِ على مرابِعِها؛ تربيةُ النشءِ وتوجيهُ الجيل وشبابِ الأُمَّة على التأسِّي والاقتِداءِ بالحبيبِ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ووجوبِ تعظيمِهِ ومحبَّتِه، وتوقيرِه وطاعتِه، وطبعُهُم على إجلالِه وإعظامِه، وذَودُهم عن بُؤَرِ الجُنوحِ الفِكريِّ النَّزِق، والتمرُّدِ الأرعَنِ على الأُصول والثوابتِ الشرعية، والقِيَم النبوية المرعيَّة.
فمن اللَّوعَة والأسَى، والخَطبِ الذي نجَمَ - وبحمدِ الله - ما عسَى: التطاوُلُ على الذاتِ العليَّة، وجنابِ سيدِ البريَّة - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -.
إنا إذا سِيْمَ الرسولُ أذِيَّةً
تُلفَى لدينا أُهبَةٌ وكِفاحُ
ودِماؤُنا دون الرسولِ رخيصةٌ
ففِداؤُه المُهجاتُ والأرواحُ
ولكن بفضلِ اللهِ، ثم بفضلِ الله؛ وُئِدَت في مِهادِها؛ بل قبل ميلادِها، مِصداقًا لقول الحق - تبارك وتعالى -: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 95].
ألا بُعدًا، وبُعدًا، ثم بُعدًا
لمن يرمِي النبُوَّةَ بالسِّهَامِ
برِئْنَا من سَفَاهَتِهِ وعُذْنَا
بربِّ الكونِ من سُوءِ الخِتامِ
وهذا، وإن الأمةَ لترفعُ التقديرَ أعبَقَه، والدعاءَ أصدقَه لمقام خادمِ الحرمين الشريفين - أيَّدَه الله - كِفاءَ غيرتِه وانتِصارِه للمُقدَّسات، ومواقفِه الصارِمةِ البَلْجاء حِيالَ إخوانه في بلاد الشام، وما نضَحَت به مشاعِرُه من نُبْلٍ وصفاءٍ، وغَيرةٍ على قِيَم الحقِّ والعدلِ والاتِّحادِ والإخاءِ، ودعوتِه الصادقةِ إلى حقنِ الدماءِ، وكذا مواقِفُه الحكيمةُ الحازِمة ممن تطاوَلَ على المقام الإلهي، والجَنابِ المُصطفوِيّ.
اللهم فاجعل ذلك له في موازين الحسنات، ورفيعِ الدرجات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعَوَات.
ولا غرْوَ أيها الإمام الهُمام، دُمتَ مُوفَّقًا مُؤيَّدًا مُسدَّدًا.
فعِندكم دينٌ وفيكم شِيَمٌ
خَزرجِيَّاتٌ ومجدٌ لن يُرامَا
ونفوسٌ لم تُطِق صبرًا على
ظالمٍ وتأبَى أن تُضامَا
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على من سمَا في العالَمين قدرًا وجَنابًا: خيرِ الوَرَى آلاً وصِحابًا، صلاةً تعبَقُ مِسكًا وتَطيابًا، كما أمرَكم المَولَى العزيزُ الجليلُ في مُحكَم التنزيلِ، فقال تعالى قولاً كريمًا لُبابًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
فصلِّ ربِّي وسلِّم كلَّ آوِنةٍ
على المُشَفَّعِ وانشُر طِيبَه فِينا
وآلهِ الغُرِّ والأصحابِ ما حَفِظُوا
عهدَ النبيِّ وبَرُّوه مُوفِّينا
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على الرحمة المُهداة، والنِّعمةِ المُسداة: نبيِّنا وسيِّدنا وقُدوتنا محمدِ بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر الطُّغاةَ والظالمين، وسائرَ المُفسدين والمُلحِدين وأعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحة التي تدُلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلاد والعبادِ.
لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ الأرض وربُّ العرشِ الكريم، حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل، حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل، حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل.
إلهَنا، إلهَنا، إلهَنا! عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤُك، وتقدَّسَت أسماؤُك، ولا إله غيرُك، منك الفَرَج، وأنت المُستعان، وإليك المُشتكَى، ولا حول ولا قوةَ إلا بك.
اللهم ارفع عن إخواننا في بلاد الشام، اللهم ارفع عن إخواننا في بلاد الشام، اللهم انصر إخواننا في سوريا، اللهم انصر إخواننا في سوريا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم وأموالَهم، وأدِم أمنَهم وأمانَهم يا ربَّ العالمين.
نَدرأُ بك اللهم في نُحور أعدائِهم، ونعُوذُ بك اللهم من شُرُورهم.
اللهم إنا نسألُك أن تغفِرَ لموتاهم، اللهم اغفِر لموتاهم، اللهم اشفِ مرضاهم، اللهم عافِ جَرحاهم، اللهم عافِ مُبتلاهم يا رب العالمين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين الذين سفَكوا دماءَ المُسلمين، الذين سفَكوا الدماء، ونَثَروا الأشلاء، ولم يرحَموا الشيوخَ والأطفالَ والنساءَ، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل عليهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا لا تُؤاخِذنا بما فعلَ السُّفَهاءُ منَّا، ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين الأحياءِ منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزَّة عمَّا يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2012, 05:44 PM   رقم المشاركة : 3

 

الشام .. فضلها وتاريخها
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الشام .. فضلها وتاريخها"، والتي تحدَّث فيها عن الشام وفضلها من الكتاب والسنة، وذكرَ بعضَ الدلائل النبوية عنها، ثم أشادَ بصبرِ وجلَد أهلِها على مرِّ العصور، ونبَّه إلى ضرورة التحلِّي بالصبر على هذا الابتلاء مُعدِّدًا بعضَ فضائل الصبر.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي تحُولُ بأمره الأحوال، يُداِلُ الأيام فكم من دُولٍ أدلَّ عليها ثم أدالَ، وكم من زُمرةٍ تسلطَنَت وظنَّت خُلودَ سُلطانها فزلَّت ثم زالَت ومُلكُها زال، أحمدُ ربي - سبحانه - وأُثنِي عليه وأشكُرُه وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله الكبيرُ المُتعال، يُمهِلُ من غيرِ إهمال، وهو شديدُ المِحال عظيمُ النَّكَال، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أكرمُ الرسلِ وأتمُّ الرجال، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وصلَّى على الصحبِ والآل.
أما بعد:
فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
ثم إن خيرَ الوصايا: الوصيةُ بتقوى الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].

أيها المسلمون:
حين دحا الله الأرضَ وأجرى يدَ الخلقِ على الخليقة، جعل فيها بلادًا وذرأَ فيها بشرًا، ثم اصطفى الله من هذه البلاد بلادًا، ومن البشر بشرًا، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ[القصص: 68]، فكانت مكةُ والمشاعِرُ وطَيبةُ الطيبة، وكان شامًا منها بلادُ الشام.
واصطفى الله من البشر أنبياءَه ورُسُله، وقضى لبلاد الشام حظًّا وافرًا منهم، فجعل أرضَها مدرجَ الأنبياء، ومُتنزَّلَ الوحيِ من السماء، هي أرضُ المحشَرِ والنشَر، وحين يبعثُ اللهُ المسيحَ ابنَ مريم في آخر الزمان لا ينزلُ إلا فيها، عند المنارة البيضاء شرقِيّ دمشق؛ رواه مسلم.
طُوبَى للشام! ملائكةُ الرحمن باسِطةٌ أجنحتَها عليها، إنها بلادٌ بارَكَها الله بنصِّ الكتاب والسنة؛ فهي ظِئرُ الإسلام وحاضِنَتُه، وعاصِمتُه حينًا من الدهر، سُطِّرَت على أرضها كثيرٌ من دواوين الإسلام، ودُفِن فيها جموعٌ من الصحابةِ ومن عُلماء المُسلمين.
كم ذرَفَت على ثراها عيونُ العُبَّاد، وعُقِدَت في أفيائِها ألوِيَةُ الجهاد، وسالَ على دفاتِرِها بالعلوم مِداد، وجرَت على ثراها دماءُ الشهداء: صحابةً وأخيارًا وأصفياء، وتداوَلَ الحُكمَ فيها ملوكٌ وسلاطين،أضافوا للمجدِ مجدًا وللعِزِّ عِزًّا.
كُسِرَت على رُباها حملاتٌ صليبيةٌ تقاطَرَت عليها مائتي عام، قارَبَ أعدادُ الجُند فيها سُكَّانَ بلاد الشام كلِّها.
إذا عُدَّت حضاراتُ الإسلام ذُكِرَت الشام، وإذا ذُكِر العلمُ والفضلُ والفتوحُ ذُكِرَت الشام، هي أرضُ الأنبياء، وموئِلُ الأصفياء، وما زارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلادًا خارجَ الجزيرة إلا بلاد الشام.
وفي آخر الزمان عندما تكون الملحَمَةُ الكُبرى يكونُ فُسطاط المُسلمين ومجمعُ راياتهم بأرضِ الغُوطَة فيها مدينةٌ يُقال لها: دمشق، هي خيرُ مساكن الناسِ يومئذٍ؛ كما أخرجه الطبراني من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولقد أدركَ الصحابةُ - رضي الله عنهم - دعاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم بارِك لنا في شامِنا، اللهم بارِك لنا في شامِنا»؛ رواه البخاري.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فسدَ أهلُ الشام فلا خيرَ فيكم، ولا تزالُ طائفةٌ من أمتي منصورةً على الناسِ لا يضرُّهم من خذَلَهم حتى تقومَ الساعةُ»؛ رواه الترمذي.
فلم يلبَثُوا بعد رحيله - صلى الله عليه وسلم - إلا قليلاً، حتى توجَّهَت قلوبُهم إلى الأرض التي بارَكَها الله، ووصَّى بها رسولُ الله، فخفَقَت إليها بيارِقُ النصر، ورفرَفَت في روابيها ألوِيةُ الجهاد، وسُطِّرَت ملامِحُ من نورٍ، ونشرَ الإسلامُ رِداءَه على الشام، تُزجيه طلائعُ الإيمان، يتقدَّمُهم خالدُ بن الوليد، وأبو عُبيدة بن الجرَّاح، وشرحبيلُ بن حسنة، وعمرو بن العاص، ويزيدُ بن أبي سفيان، والقَعقاعُ بن عمرو، وضِرارُ بن الأَزوَر، وفيهم ألفُ صحابيٍّ منهم مائةٌ ممن شهِدَ بدرًا، وتوالَى عليها الصحبُ الكِرامُ.
قال الوليدُ بن مُسلم: "دخلت الشامَ عشرةُ آلافِ عينٍ رأَت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -".
عيونٌ بعد طُهر المدينة ترى نظرةَ الشام، ولا غَروَ؛ فقد اختارَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، ووصَّى بها الخُلَّصَ من أصحابه؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «سيصيرُ الأمرُ إلى أن تكونوا جنودًا مُجنَّدةً، جُندٌ بالشام، وجندٌ باليمن، وجندٌ بالعراق». قال ابنُ حَوالةُ - رضي الله عنه -: خِر لي يا رسول الله إن أدركتُ ذلك. فقال: «عليك بالشامِ؛ فإنها خِيرةُ الله من أرضه، يجتبِي إليها خِيرتَه من عباده، فأما إن أبيتُم فعليكم بيَمَنكم، واسقُوا من غُدُركم؛ فإن الله توكَّلَ لي بالشامِ وأهله»؛ أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود.
وصارَت الشامُ عاصِمةَ الإسلام، قامَت فيها أولُ ممالكِ الإسلام وأعدلُ ملوك الإسلام، شعَّ منها نورُ العلم، وبُسِط فيها رِداءُ العدل، ونُشِرَت فيها قِيَمُ الحق والحرية، وسطَّر المُسلمون هنالك أروعَ الأمثِلة في حُسن الجِوار، وكرمِ التعامُل مع الآخرين.
وحفِظَ المُسلمون لأهل الأديان ذِمَمهم، وتركُوا لهم مذاهبَهم ومعابِدَهم، فعاش الناسُ في تسالُمٍ وأمانٍ، أحرارًا في أرضهم ومُعتقَدهم، ونالَت الشامَ بركةُ العدل، فرغَدَ عيشُها، ووفَرَ رِزقُها، حتى قال عُمرُ بنُ عبد العزيز وهو مُتربِّعٌ على عرشها: "انثُروا الحبَّ على رؤوس الجِبال حتى لا يُقال: جاعَ طيرٌ في بلاد المُسلمين".
وتكسَّرَت على رُباها جُيوشُ التَّتَر، وعلا فيها نورُ الإسلام وانتصَر، حتى صارَ السائلُ يسألُ ابنَ تيمية - رحمه الله -: "هل المُقامُ بالشام لظهور الإسلام بها أفضلُ أم بمكَّة والمدينة؟".
ثم مضَى الدَّهرُ، ودالَت الأيام، وظهرَ على الأمر فيها مَن بظهورِه استحَالَت حالُها؛ فما الشامُ بالشامِ التي تعهَد، صوَّحَ نبتُها، وذَبَلَ زهرُها، وضاقَ بأهلها العيشُ، وترحَّلَ الأمنُ من مرابِعِها، واقتطَعَ الأعادي جُزءًا من أراضيها، وما زال في أرض الشام العُلماءُ والصالِحون، ومنهم من تفرَّقَ في الديار؛ تفرَّقوا عن أوطانهم مطرودين، تُلاحِقُهم يدُ الظلمِ والبَغيِ، عيُونُهم تفيضُ بالدمعِ، والغُرباءُ أكثرُ ما يكونون شفقةً على أهلهم وديارِهم، وهم يرَون في الشاشات أماكن يعرِفونها من بلادهم، لهم فيها ذكرياتٌ وشُجونٌ، تقصِفُها الطائِرات، وتدكُّها المدافِع.
أيها المسلمون:
الشامُ ترِكةُ الفاتحين من الصحابة والتابعين، ووديعةُ المُتقدِّمين من المُسلمين للمُتأخِّرين، تاريخُها مُلهِم، وحاضِرُها مُؤلِم، وأهلُها لهم في الصبر حكايا تطُول عسَى صبرُهم إلى خيرٍ يَؤول.
وإننا في الوقتِ الذي نستحضِرُ فيه ذلك المجد وذلك التاريخُ القديم لنقفُ على جُرحَيْن غائِرَيْن في بلاد الشام، دمِيَا فاعتلَّت بنزفِهما الأمةُ، كِلا الجُرحَيْن رَطبٌ، ومع ذلك تعملُ المناجِلُ فيهما عملَها: جُرحُ فلسطين، وجُرحُ سُوريا، وبينهما نُدوبٌ هنا وهناك، وهي أيامُ تمحيصٍ وابتِلاءٍ.


أيها المسلمون:
كيف يستطيعُ إنسانٌ في هذه الأيام أن يتجاوَزَ مذابِحَ القِيَم في شامِنا الحبيب وهو يرى غدرَ القريب، وخُذلان البعيد، وخِيانةَ الراعي للرعيَّة، مُقدَّراتُ الشعب ومُكتسباتُه تُوظَّفُ لسحقِه وإذلالِه، وسِلاحُه الذي يدفعُ به غائِلَةَ العدُوِّ عاد على أوداجِ الشعبِ ذبحًا وتقطيعًا، تُسحَقُ الأمةُ لمصلحةِ أفرادٍ ما بالَوا بها يومًا، لقد كُشِف المستورُ، وترنَّحَت الشعارات، وتبيَّن أن العدوَّ الذي وراء الحُدود أرحمُ أحيانًا من العدو الذي في داخل الحُدود.
نساءٌ وأطفالٌ لم يحمِلوا حتى الحجرَ، نثَرَت صواريخُ الغدر حجارةَ منازلهم، وتشظَّت تحت الرُّكام أجسادُهم، ترى الأذرُع مبتورة، والأجسامَ تحت رُكامِ المنازل مقبور، في صُورٍ تُنبِئُ عن مقدار خواءِ نفوسِ مُرتكبيها من الإنسانية والمُثُل، وتجرُّدِ أفعالهم من الشِّيمَةِ والنُّبْلِ، جرَت دماءُ الشاميين جرَيَان دجلة والفُرات، ليس على عدوٍّ ظاهرٍ؛ بل على يدِ مُدَّعِي بعثِ العروبة وحِراسةِ العرب على وجهٍ لا يحتملُ العُذر ولا تستُرُه المُبرِّرات.
أيها الشاميُّون الكرام:
سلاحُكم له كرامةٌ، فلا يُدنَّس بالنَّيلِ بهِ من إخوانكم، وقوتُكم ذُخرٌ للعرب، فلا تتقوَّوا بها على أهلِيكم، واجعَلوا سلاحَكم لأهلِكم حامِيًا، وعن أرضِكم مُدافِعًا، لا عُذرَ لكم أمام الله والتاريخِ أن تعود فَوهات البنادِق على صُدروكم، ويُذيقَ بعضكم بأسَ بعضٍ، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء: 93]، وحِّدوا الصفوف، واجمَعوا الكلمة، واستعِينوا بالله واصبِروا.
عباد الله:
إن فضلَ الشام وكونَها ثغرَ الإسلام يُحتِّمُ على المُسلمين التنادِي لنُصرة أهلها ودفعِ البَغيِ عنهم، ورفعِ الضَّيْمِ عنهم، ولقد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاحَ الشام مِعيارًا لصلاح الأمةِ كلها، مما يُحتِّمُ على المُسلمين - كلِّ المُسلمين - أن يدفَعوا بما استَطاعوا لكي لا تُغيِّرَ يدُ الفسادِ وجهَ الشام الجميل، وتبقى كما تاريخُها إيمانٌ وعلمٌ وحضارةٌ ونورٌ، لا يجُوعُ فيها طيرٌ كما أراد عُمر، ولا يُروَّعُ فيها بشرٌ؛ وفاءً للصحابة الفاتحين، والعُلماء الأماجِد الذين توسَّدوا ثَرَى الشامِ في رَقدة الدنيا الأخيرة، وقِيامًا بحقِّها كِفاءَ ما وهبَتْه العربَ والمُسلمين.
ولقد نادى العُقلاءُ الغيورون على مصالِحِ الأمة، وارتفعَ صوتُ خادمِ الحرمين الشريفين من أولِ ساعةٍ يُنادِي بتحكيم الحقِّ والعدل، والمنطقِ والحِكمة والعقل، وتقديمِ المصالحِ العامة العُليا على المصالحِ الشخصيةِ حقنًا لدماءِ المُسلمين، وحِفظًا لوَحدة صفِّهم وأراضيهم، ودفعًا للخلافات الطائفية والمذهبية، وثباتًا على مواقفِ الدين والأخلاق، ووقفَ - حفظه الله - صادِعًا بكلمةِ الحقِّ والعدلِ مع إخوانه وأصدقائِهِ الغَيورين.
فسدَّدَ اللهُ المساعِي، وأصلحَ الشأن، وجعلَ العواقِبَ إلى خيرٍ.
وإنَّا لنُؤمِّلُ في صُبْحٍ يَطوِي الليلَ الخانِقَ، وتتنفَّسُ له الأزهارُ، وتُشرِقُ به شمسُ الخلاص، والأملُ بالله كبير أن تعُودَ إلى بُشراها الأيام، والسماءُ تُرجَّى حين تحتجِبُ.
عسى اللهُ أن يُبدِّلَ ليلَكم صُبحًا، وخوفَكم أمنًا، ولاءَكم عافيةً، وأن يُولِّي عليكم خِيارَكم، ويكفِيَكم شرَّ شِرارِكم، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.



الخطبة الثانية
الحمد لله الوليِّ الحميد، يخلُقُ ما يشاءُ ويحكُمُ ما يُريد، وهو العدلُ يفعلُ ما يشاءُ ويحكُمُ ما يُريد، بيده العطاءُ والمنعُ، والابتِلاءُ والمُعافاة، - سبحانه وتعالى وتقدَّسَ - لا تخرُجُ أفعالُه وأوامرُه عن الحِكمةِ والرحمةِ والمصلحة، ونحن عبيدُه بنو عبيدِه بنو إمائِهِ، ماضٍ فينا حُكمُه، عدلٌ فينا قضاؤُه، وهو - سبحانه - أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، لا يقضِي لأوليائِه قضاءً إلا كان خيرًا لهم، ساءَهم ذلك القضاءُ أو سرَّهم، وله الحِكمةُ البالِغةُ المحمودةُ في كل ما يجرِي على المُؤمنين حتى وإن كان القضاءُ في ظاهِرِه بلاءً وشرًّا، فإن في طيَّاته من الحِكَم والمصالِحِ ما لا يُحصِيهِ إلا اللهُ، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: 216].
وإذا أيقنَ المؤمنون بهذه الحقيقةِ، وتعرَّفوا أوجُهَ الخير والرحمةِ فيما يُصيبُهم؛ امتلأَت قلوبُهم بالثباتِ والصبرِ، وبالرجاءِ والأملِ والثقةِ بوعدِ الله، والاطمِئنانِ إلى حُسن تدبيرِه واختِيارِه، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19].
إن الجُرحَ غائِر، والمُصابَ عظيم، والألمَ شديد، ولكنَّ الوعيَ الذي أحدَثَه هذا الدمارُ في الأمةِ كبير، ولئن اشتَكَت الشامُ؛ فلقد تداعَى لها جسدُ الأمةِ بالحُمَّى والسَّهَر، وظهر التلاحُمُ بين المُسلمين، وسرَت الحياةُ في جسدهم الواحِد، وضجَّت المساجِدُ بالدعاء، واستيقَظَت في الأمةِ مشاعِرُ دفينة، مشاعِرُ كادَت أن تنطمِس، وكادَت أن تقضِيَ عليها شهواتُ الحياة، ولطالَما حاولَ أعداءُ الإسلام تخديرَها بالمُلهِيات ووسائل الترفيهِ - زعَموا -.
وإذ بها تستيقظُ من جديدٍ، وتتأجَّجُ في القلوب، وهي ترى دماءَ الأحِبَّةِ تجري على أرضِ الشامِ المُبارَكة، وعادَ الناسُ عودةً صادقةً إلى الدين، وبانَ صِدقُ الصادقين، وظهر خُذلان الخاذِلين، واهتزَّت ثقةُ العالَمِ بمُنظَّمته الدولية، وتبيَّن أنها لا تتحرَّكُ إلا وفقَ مصالِحها الأنانية، لا يُؤثِّرُ في قلوبِ أربابِها صريخُ الأطفال، وأنينُ الجرحَى والمُعذَّبين.
واستيقَنَت قلوبُ المؤمنين بقولِ الحقِّ - سبحانه -: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[آل عمران: 160].
رُوِي عن عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - أنه أنشَدَ:
ولا تجزَع إذا ما نابَ خَطْبٌ
فكَم لله من لُطفٍ خفِيِّ
وكم يُسْرٍ أتَى من بعد عُسْرٍ
ففرَّجَ كُربةَ القلبِ الشَّجِيِّ
وكم أمرٍ تُساءُ به صباحًا
وتأتيكَ المسَرَّةُ بالعَشِيِّ
إذا ضاقَت بك الأحوالُ يومًا
فثِق بالواحدِ الفردِ العلِيِّ
أيها المؤمنون:
إن الله تعالى يُريد منَّا عند كل مُصيبةٍ أو نازِلةٍ أن نُكفكِفَ العَبَرات، وأن نمسحَ الأحزان، وأن نُجدِّدَ التوبة، وألا نهِنَ ولا نيأَس، وأن نُدافِعَ القدرَ بالقدر، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران: 139].
معاشر المُسلمين:
إن التعرُّف على أوجهِ الخيرِ والرحمةِ في هذه الأحداث، والرضا بقضاء الله –عز وجل - والتسليمِ لقدره لا يعني التواكُل والعَجز، والرِّضا بالفساد والذِّلَّة والمهانة، وتركَ الأخذِ بأسبابِ النصرِ والعِزَّةَ والكرامَة، ولكنَّه يُقوِّي اليقينَ بوعد الله - سبحانه -، والثقةَ بنصره، والاطمئنانَ إلى قضائِهِ وتدبيرِه.
الابتِلاءُ رفعةٌ وتطهيرٌ وتمحيصٌ، والشهادةُ اختيارٌ واصطِفاءٌ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى[القصص: 60].
الألمُ يُولِّدُ الأمل، وبقدر ما يشتدُّ الكربُ يحصُلُ اليقينُ بقُرب الفرَج، واعلَم أن النصرَ مع الصبر، وأن الفرجَ مع الكَرب، وأن مع العُسرِ يُسرًا.
بالصبرِ يكونُ المَدَدُ من السماء، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ[آل عمران: 125].
وبالصبرِ يذهبُ أذى الأعداء، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا[آل عمران: 120].
ولقد أثنَى اللهُ على الصابرين في البأساء والضرَّاء وحين البأس، فقال - سبحانه -: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[البقرة: 177].
إنه لا بُدَّ من الصبر ولا بَديلَ عنه، لا بدَّ من الصبرِ على ما تُثيرُه الأحداثُ من الألمِ والغَيظ، ومن اليأسِ أحيانًا والقُنوط، لا بُدَّ من الصبرِ ومن المُصابَرة، مُصابَرة الظالمين الذين يُحاوِلون جاهِدين أن يفُلُّوا من صبر المؤمنين.
وإذا كان الباطلُ يُصِرُّ ويصبِرُ ويمضِي في الطريقِ، فما أجدرَ أهلَ الحقِّ أن يكونوا أشدَّ إصرارًا، وأعظمَ صبرًا، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[النساء: 104].
فيا أهل الشام! اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف: 128].
إن الله - عز وجل - قد تكفَّلَ لنبيِّه بالشام وأهله، من تكفَّل الله به فلا ضيعَةَ عليه، وإن وصفَ الشام في الكتاب والسنة بالبركة لمُبشِّرٌ بأنه لن يطُولَ فيها أمَدُ الفتنةِ والطُّغيان؛ لأنها موطِنُ برَكةٍ وأمنٍ وإيمانٍ
ولقد كان الشامُ مقبرةً لأعداءِ الأمةِ والكِبار؛ ففيها انكسَرَ الصليبيُّون والتتار، وفيا يُغلَبُ الروم - كما في حديثِ المَلحَمة الكُبرى -، وفيها يُهلَكُ الدجَّال ومن تبِعَه من اليهود، وقد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فسادَ الشام مُؤذِنًا بذهابِ الخير من الأمة، وجعل صلاحَها مُبشِّرًا بصلاح أمرِ الأمةِ كلها، وها هي اليوم تجِيءُ البُشريات والليالي بالأماني حافِلات.
وإننا لنُقسِمُ بالله - عز وجل - جازِمين مُوقِنين بما عوَّدَنا ربُّنا من نُصرة أوليائِهِ والدفاع عنهم إذا أخَذوا بأسبابِ النصر، بأن الكربَ والشدَّةَ لن تطُول على قومٍ أنزَلوا حاجتَهم بالله، وهتَفوا: يا اللهَ، ما لنا غيرُك يا اللهَ! والله تعالى يقول: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[آل عمران: 101]، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[الروم: 47]، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[الصافات: 173]، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ[الحج: 40]، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ[غافر: 51].
أيها المؤمنون:
إن انتظار الفرَجِ من أعظم العبادات، وإن اليأسَ من رحمةِ الله من كبائرِ الذنوبِ،وعلى المؤمنين ن يملأَ قلوبَهم الفألُ بقُربِ الفرَجِ واليقينُ بنهايةِ الظالمين، فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا[مريم: 84].
ولقد يُريد اللهُ لعباده نصرًا وفرَجًا أعظمَ مما يظُنُّون، وتمكينًا أدوَمَ مما ينتظِرون، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[الطلاق: 3].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى والرسول المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه يا قويُّ يا عزيزُ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَله مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ العرشِ الكريم، لا إله إلا أنت، عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤُك، وتقدَّسَت أسماؤُك، اللهم يا مَن لا يُهزَم جُندُك، ولا يُخلَفُ وعدُك، ولا يُردُّ أمرُك، سُبحانك وبحمدِك.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجَك القريب، اللهم فرَجَك القريب.
اللهم إنا نستودِعُك إخواننا في سوريا، اللهم إنا نستودِعُك دماءَهم، ونستودِعُك أعراضَهم، ونستودِعُك أعراضَهم يا مَن لا تضيعُ ودائِعُه، اللهم إنا نستنزِلُ نصرَك على عبادك المُستضعفين المظلومين، اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماكَ بهم رُحماك يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم إنا نستنزِلُ بطشَك على القوم المُجرمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميعُ الدعاء.
نستغفِرُ الله، نستغفِر الله، نستغفِرُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ ونتوبُ إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا غدَقًا طبقًا مُجلِّلاً عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تسقِي به العباد، وتُحيِي به البلاد، وتجعلُه بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-23-2012, 10:54 PM   رقم المشاركة : 4

 

العسر مع اليسر
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "العسر مع اليسر"، والتي تحدَّث فيها عن الفتن والمِحَن التي تمرُّ بها أمةُ الإسلام وبلادُه، وبيَّن أن تلك الفتن لن تدوم طويلاً؛ حيث ذكر الأدلة الدامغة من الوحيَيْن التي تُبيِّن أن بعد العُسر يُسرًا، وأن الفرجَ مع الكرب، وأن الله مُزيح الهمِّ ومُزيل الغمِّ.

الخطبة الأولى
الحمد لله الذي يجعل بعد العُسر يُسرًا، أحمده - سبحانه - حمدًا يزيدُنا به نعَمًا وخيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يخلُقُ ما يشاءُ ويختارُ المُتفرِّدُ في الكون نهيًا وأمرًا، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ الخلق طُرّا وأعظمُهم بِرًّا، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه أصوبِ السالكين إلى الله وأهداهم سَيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكرُوا أن للمتقين في الدنيا حياةً طيبةً، ولهم في الآخرة جناتٍ تجري من تحتها الأنهار.
أيها المسلمون:
تيسيرُ العسير، وتذليلُ الصعب، وتسهيلُ الأمور أملٌ تهفُو إليه النفوس، وتطمحُ إلى بلوغ الغايةِ فيه والحَظوةِ بأوفى نصيبٍ منه، وإدراكِ أكملِ حظٍّ ترجُو به طِيبَ العيشِ الذي تمتلكُ به أزِمَّةَ الأمور، وتتوجَّهُ به إلى خيراتٍ تستبِقُ إليها، وتنجُو من شُرورٍ تحذَرُ سوءَ العاقبة فيها.
ولذا فإن من الناسِ من إذا أصابَه العُسر في بعض أمره رأى أن شرًّا عظيمًا نزلَ بساحته، وأن الأبوابَ قد أُوصِدَت دونه، والسُّبُلَ سُدَّت أمامه، فتضيقَ عليه نفسُه، وتضيقَ عليه الأرضُ بما رحُبَت، ويسوءَ من ظنِّه ما كان قبلُ حسنًا، ويضطربَ من أحواله ما كان سديدًا ثابتًا مُستقِرًّا، وربما انتهى به الأمرُ إلى ما لا يحِلُّ له ولا يليقُ به من القولِ والعمل.
أما المتقون الذين هم أسعدُ الناس وأعقلُهم فإن لهم في هذا المقام شأنًا آخر، وموقفًا مُغايِرًا بما جاءَهم من البيِّناتِ والهُدى من ربِّهم، وبما أرشدَهم إلى الجادَّة فيه نبيُّهم - صلوات الله وسلامه عليه -، إنهم يذكُرون أن ربَّهم قد وعدَهم وعدَ الصدقِ الذي لا يتخلَّف، وبشَّرَهم أن العُسرَ يعقبُه يُسرٌ، وأن الضيقَ تردُفُه سَعَة، وأن الكربَ يخلُفُه فرَجٌ؛ فقال - سبحانه -: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[الشرح: 5، 6]، وقال - عزَّ اسمه -: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا[الطلاق: 7].
وهو موعودٌ مُقترِنٌ بشرط الإتيان بأسبابٍ عِمادُها وأساسُها وفي الطليعةِ منها: التقوى التي هي خيرُ زاد السالكين، وأفضلُ عُدَّة السائرين إلى ربِّهم، ووصيةُ الله تعالى للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131].
وهي التي تبعثُ المُتَّقي على أن يجعل بينه وبين ما نهى الله عنه حاجزًا يحجُزُه، وساترًا يقِيه، وزاجِرًا يزجُرُه، وواعِظًا في قلبه يعِظُه ويُحذِّرُه.
فلا عجبَ أن تكون التقوى من أظهرِ ما يبتغي به العبدُ الوسيلةَ إلى تيسير كلِّ شُؤونه، وتذليلِ كل عقبةٍ تعترِضُ سبيلَه أو تحُولُ بينَه وبين بلوغِ آماله، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[الطلاق: 4].
ومع التقوى يأتي الإحسانُ في كل دروبِه؛ سواءٌ منه ما كان إحسانًا إلى النفس بالإقبال على الله تعالى والقيام بحقِّه - سبحانه - في توحيده وعبادته بصرفِ جميعِ أنواعِها له وحده - سبحانه - محبَّةً وخوفًا ورجاءً وتوكُّلاً وخضوعًا وخشوعًا وإخباتًا وصلاةً ونُسُكًا وزكاةً وصيامًا وذِكرًا وصدقةً؛ إذ هو مُقتضى شهادة أن لا إله إلا الله التي تعني: أنه لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، وتلك هي حقيقةُ التصديقِ بالحُسنى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[الليل: 5- 7].
ومما يبسُطُ مدلولَ هذا ويُوضِّحُه: أن يعلمَ المرءُ أن الله تعالى قد اتَّصَفَ بصفاتِ الكمال، وأنه - كما قال الإمامُ ابنُ القيِّم - رحمه الله -: "يُجازِي عبدَه بحسبِ هذه الصفات؛ فهو رحيمٌ يحبُّ الرُّحَماء، وإنما يرحمُ من عباده الرُّحَماء، وهو ستِّيرٌ يحبُّ من عباده السّتر، وعفوٌّ يحبُّ من عباده من يعفُو عنهم، وغفورٌ يحبُّ من يغفِرُ لهم، ولطيفٌ يحبُّ اللُّطفَ من عباده، ويُبغِضُ الفظَّ الغليظَ القاسِي الجَعظَرِيَّ الجوَّاظ، رفيقٌ يحبُّ الرِّفقَ، حليمٌ يحبُّ الحلمَ، برٌّ يحبُّ البِرَّ وأهلَه، وعدلٌ يحبُّ العدلَ، قابِلُ المعاذِير يحبُّ مَن يقبَلُ معاذيرَ عباده، ولذا فهو يُجازي عبدَه بحسبِ هذه الصفاتِ وجودًا وعدمًا؛ فمن عفا عفا عنه، ومن غفرَ غفرَ له، ومن رفقَ بعباده رفقَ به، ومن رحِمَ خلقَه رحِمَه، ومَن أحسنَ إليهم أحسنَ إليه". اهـ.
ومن هذا الإحسانِ - يا عباد الله -: التيسيرُ على المُعسِر إما بإنظاره إلى ميسرةٍ، وإما بالحطِّ عنه، كما جاء في الحديثِ: «ومن يسَّرَ على مُعسِرٍ يسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه".
فإذا جمعَ إلى ذلك: التضرُّعَ إلى خالقه ودعاءَه بما كان يدعُوهُ به الصفوةُ من خلقه؛ كدُعاء نبيِّه موسى - عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام -: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي[طه: 25- 28]، وكذلك دعاءُ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يدعُو به عند تعسُّر الأمور، وذلك قولُه: «اللهم لا سهلَ إلا ما جعلتَه سهلاً، وأنت تجعلُ الحَزْنَ إذا شئتَ سهلاً».
مُلتزِمًا في ذلك آدابَ الدعاءِ وسُننَه؛ من إخلاصٍ لله، ومُتابعةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابتداءٍ بحمده - سبحانه - والثناءِ عليه، والصلاة والسلام على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، واستِقبالٍ للقبلة، وإلحاحٍ في الدعاءِ، وعدمِ الاستِعجالِ فيه بأن يقول: دعوتُ فلم يُستجَب لي، ومع سُؤال الله وحده دون سِواه، واعترافٍ بالذنبِ، وإقرارٍ بالنِّعمة، وتوسُّلٍ إليه بأسمائه الحُسنى وصفاتِهِ العُلَى، أو بعملٍ صالحٍ سلَفَ له، أو بدعاءِ رجلٍ صالحٍ حيٍّ حاضرٍ، ورفعِ اليدين، والوضوءِ إن تيسَّرَ، وإطابةِ مطعمه بأكل الحلال الطيِّب واجتِنابِ الحرام الخبيثِ، واجتِنابِ الاعتِداءِ في الدعاءِ بألاَّ يدعُوَ بإثمٍ، ولا بقطيعةِ رحِمٍ، وبألاَّ يدعُوَ على نفسه ولا على أهله أو ماله أو ولده، وبعدم رفعِ الصوت فوق المُعتاد وفوق الحاجة.
هنالك تُرجَى الإجابة، وتُستمطَرُ الرحمةُ الربانية، ويُرتَقَبُ اليُسرُ، ويُفرَحُ بفضل الله وبرحمته، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[يونس: 58].
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرِه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
جاء في بَسطِ مدلولِ قولِ الله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[الشرح: 5، 6] قولُ بعضِ أهل العلم بالتفسير: "هذه إشارةٌ عظيمةٌ أنه كلما وُجِدَ عُسرٌ وصعوبةٌ؛ فإن اليُسرَ يُقارِنُه ويُصاحِبُه، حتى لو دخلَ العُسر جُحرَ ضبٍّ لدخلَ عليه اليُسرُ فأخرجَه، كما قال تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا[الطلاق: 7]، وفي تعريفِه بالألف واللام الدالةِ على الاستغراقِ والعموم دليلٌ على أن كل عُسرٍ وإن بلغَ من الصعوبةِ ما بلغَ ففي آخره التيسيرُ مُلازِمٌ له". اهـ.
وإنها لَبشارةٌ عظيمةٌ - يا عباد الله - لمن أصابَه العُسرُ، ونزلَ به الضُّرُّ، وأحاطَ به البلاءُ، واشتدَّ عليه الكربُ من أهل الإسلام قاطِبةً، ومن أهل الشام خاصَّةً الذين سِيموا سُوءَ العذاب بغيًا وعَدوًا وظُلمًا؛ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ[فاطر: 43].
فليُبشِروا باقترابِ النصرِ، وتنفيسِ الكربِ، وتفريجِ الشدَّة، وكشفِ الغُمَّة، ورفعِ البلاءِ، والعافيةِ من البأساء والضرَّاء.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وأحسِنوا الظنَّ بالله، وثِقُوا بوعده الحق الصادقِ الذي لا يتخلَّفُ ولا يتبدَّلُ أن مع العُسرِ يُسرًا.
واذكروا على الدوامِ أن الله تعالى قد أمَرَكم بالصلاةِ والسلامِ على خير الورَى، فقال - جل وعلا -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، اللهم دمِّر الطُّغاةَ والمٌفسدين يا رب العالمين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، واجزِه خيرَ الجزاء عن مواقفِهِ الإسلاميةِ الحكيمةِ الحازِمةِ مع قضايا المُسلمين كافَّةً ومع قضيةِ المُسلمين في سُوريةَ خاصَّةً يا رب العالمين.
اللهم إنا نجعلُك في نحور أعدائك وأعدائنا يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نُحورهم ونعوذُ بك من شُرُورهم، اللهم إنا نجعلُك في نُحورهم ونعوذُ بك من شُرُورهم، اللهم اكفِنا شرَّ أعدائِك وأعدائِنا بما شِئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ.
اللهم اكشِف عن أهل سُورية ضُرَّهم، ونفِّس عنه كربَهم، ويسِّر عُسرَهم، وفرِّج ضِيقَهم، واستُر عوراتهم، اللهم استُر عوراتهم وآمِن روعاتهم، اللهم استُر عوراتهم وآمِن روعاتهم، ونجِّهم مما يخافون يا رب العالمين، واكفِهم بما شئتَ شرَّ أعدائهم، واكفِهم بما شئتَ شرَّ أعدائهم، وارحَم ضعفَهم، اللهم ارحَم ضعفَهم، واجبُر كسرَهم، واشفِ جرحاهم، اللهم اشفِ جرحاهم، واكتُب أجرَ الشُّهداء لقتلاهم، وفُكَّ قيدَ أسراهم، وأطعِم جائِعَهم، واستُر عارِيَهم، وقِنا وإياهم شرَّ الفتن، اللهم قِنا والمُسلمين جميعًا شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطَن يا رب العالمين.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-23-2012, 11:00 PM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

ذم الانتقام
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "ذم الانتقام"، والتي تحدَّث فيها عن وجوب خلوِّ الصدر وسلامته من الغَشَش والدَّخَن، وبراءة النفس من نَزعة التشفِّي والانتقام، وذكرَ أن الانتقام مذمومٌ في الإسلام في الجُملة، ولا يُحمَد بحالٍ إلا إذا انتُهِك الحُرُمات، وذكرَ الأدلةَ على ذلك من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل لا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء: 1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أما بعد، فيا أيها الناس:
إن سلامةَ الصدر وخُلُوَّه من الغَشَش والدَّخَن، وبراءةَ النفس من نَزعَة التشفِّي وحب الانتِصار من المُخطِئ تلبيةً لرغبَاتِ النفس المُنتشِيَة في مُعالَجة الخطأ بالقوةِ الضارِبةِ لهِي سِمةُ المؤمنِ الصالحِ الهيِّن الليِّن، الذي لا غِلَّ فيه ولا حسَدَ؛ إذ ما قيمةُ عيش المرءِ على هذه البَسيطةِ وقلبُه مُلبَّدٌ بحبِّ الذات، مُتفنِّنًا في الفَظَاظَةِ والغضَاضَة والغِلظَة، يُعزِّزُ من خلالها قسوةَ قلبه، وضِيقَ عطَنه، فيُصبِحُ سيِّئَ الطبع، سافِلَ الهمَّة، شرِهَ النفس، يأنَفُه الناسُ عند كل مرصَدٍ.
كثيرون هم الذين يبحَثون عن مصادر العِزَّة والفلاح مع كثرتها، وتنوُّع ضرُوبها، وقِلَّة المُؤنة في تحصيلها، دون إجلابٍ بخيلٍ ولا رَجِلٍ، إنما رِكابُها شيءٌ من قوة الإرادة، وذمٍّ للنفسِ عن تجرُّع حُظوظها المُتمثِّلة في الأنانية؛ فطِيبُ النفسِ، وحُسن الظنِّ بالآخرين، وقَبول الاعتذار، وإقالَةُ العَثرة، وكظمُ الغيظ، والعدلُ في النَّصَف أو العقوبة، كلها معاييرُ نقاءٍ وصفاءٍ، وعلاماتٌ للنفسِ الراقيةِ المُتشبِّثةِ بهديِ الإسلام الراقِي في التعامُل مع النفس ومع الآخرين.
ومتى ما خرجَ الانتصارُ للنفسِ ممن أخطأَ في حقِّها أو ظلمَها عن تلك الصور والمعايير؛ فإنه الولوجُ في دائرة حبِّ الانتقامِ، ولا شكَّ.
وإذا اصطبَغَت النفسُ بحبِّ الانتقام ووقعَت في أتونه؛ فإن الغِلظةَ والجَبَروت والبطشَ والإسرافَ والحَيف هي العلاماتُ البارِزةُ التي تحكُمُ شخصيةَ المرءِ الذي سيُشارُ إليه بالبَنَان على أنه رمزُ الظلمِ والنَّذَالة والوحشيَّة؛ لأن المعروفَ عن الانتقام أنه: إنزالُ العقوبةِ مصحوبةً بكراهيةٍ تصِلُ إلى حدِّ السَّخَط، والحقد، والإسرافِ في العقوبة.
الذي يُفرِزُه جنونُ العظمة وحبُّ القهر، كما قال فرعون: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى[غافر: 29]، وكما جاء عن قوم عاد: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت: 15]. الانتقامُ يُذكَرُ غالبًا في معرِضِ الذمِّ؛ لكونه مقرونًا بالقسوةِ والغِلظةِ وموت الضمير، وعامةُ الناسِ لا يعرِفون منه إلا هذا المعنى.
وعندما حضَّنا الإسلامُ على العفوِ والتسامُحِ وكظمِ الغيظِ لم يُرِد لنا أن نكون ضُعفاء، ولا جُبَناء، ولا أن يغرِسَ في نفوسِنا الذِّلَّةَ والهَوَان، كلا؛ فإنما أرشدَنا إلى ذلكم ليُبيِّن لنا أن اللِّينَ والسماحَة هُما أفضلُ وسيلةٍ لاستلالِ السَّخِيمةِ والكُرْهِ من قلبِ من أساءَ إلينا.
ولذا فإن الانتقامَ مع ما فيه من القسوة والجبَروت فإنما هو علامةُ ضعفٍ لا قوةٍ، والضعفُ هنا يكمُنُ في أن الغِلظةَ والتشفِّي لهُما السيطرةُ في قلبِ المُنتقِم على التسامُح والاعتِدال، فمن هُنا صارَ المُنتقِمُ ضعيفًا؛ لأن سجِيَّة الشرِّ والحُمق والهوى هي الغالبةُ أمام نَزوَته ورغبته، وهذا سببُ الضعفِ لدى المُنتقِم؛ لأن التشفِّي طرفٌ من العَجزِ ليس بينه وبين الظالمِ إلا سترٌ رقيقٌ وحجابٌ ضعيفٌ.
ولقد كان من أميَز سِمات النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ، وأن رِسالتَه إنما هي رحمةٌ للعالمين، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107]، وهذه الرحمةُ والشَّفَقةُ واللِّينُ التي أزهَرَت في فُؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - هي ما جعلَتْه يتلقَّى الثناءَ من العليِّ الأعلى من فوق سبعِ سماواتٍ: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم: 4]، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[آل عمران: 159].
ومن هنا نُدرِكُ أن المُنتقِمَ كالأعمَى، لا يُدرِكُ ويُحِسُّ إلا بنفسه، المُنتقِمُ ليس أهلاً للعدل ولا للإنصافِ؛ لأن همَّتَه في تحقيق هدفه وشفاءِ غيظه، ليس إلا، فهو عدوُّ عقله؛ لأنه يشينُ حُسنَ الظَّفَر فيقبُحُ بالانتِقام دون أن يتزيَّن بالعفو أو القصد.
المُنتقِمُ بليدُ الإحساسِ، قد تجرَّدَ من العاطفة، إذا استُغضِبَ زَأرَ، وإذا زأَرَ افترَسَ، وإذا افترسَ أوجعَ، وإذا كان القتلُ يُعدُّ من أنكَى جِراحات الحياة، فإن الله - جل وعلا - قال فيه: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا[الإسراء: 33].
غيرَ أن المُنتقِمَ من الناس لا يقِفُ عند هذا الحدِّ، ولن يُدرِكَ عقلُه ولُبُّه قولَ الله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[النحل: 126]، فهذه الآيةُ دلَّت على الانتِصار من الظالمِ، لكنها في الوقتِ نفسِهِ بيَّنَت أن العفوَ أخيَرُ وأفضلُ، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[الشورى: 40]،
ومن أراد أن يلِجَ التقوى من أسهل أبوابها فليعمل بقول الله - جل وعلا -: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[البقرة: 237].
لقد ضربَ الانتقامُ والتشفِّي بأطنابِه في قلوب بعضِ الناسِ، وقد ظهرَ ذلك جلِيًّا في تعامُل الأبِ مع ابنِه أو أخيه، أو الزوجِ مع زوجته، فلربما ضربَها، أو حبسَها، أو علَّقَها فلا هي زوجة ولا هي مُطلَّقة، وأذاقَها صُنوف الهوان والذلِّ والإيلام، كلُّ ذلك انتِقامًا وبَطشًا وانتِصارًا لرُجولةٍ زائفةٍ، وقلبٍ مُلتاثٍ، وقولوا مثلَ ذلكم في تعامُل جارٍ مع جارِهِ، أو مُديرٍ مع موظَّفٍ، أو أُسرةٍ مع خادمها، أو ما شابَهَ ذلكم من أمثلةِ تبلُّدِ الإحساسِ والدُّونيةِ في التعامُلِ مع الآخرين بعيدًا عن مبادِئِ الدِّين الحنيفِ والأخلاقِ الحميدة.
وليتَ أمثالَ هؤلاء يُدرِكون جيِّدًا أن أفضلَ وسيلةٍ للانتِقام ممن أساؤوا إليهم: هي ألا يكونوا مثلَهم في الإساءة؛ ليزدادوا حقارةً لأنفسهم، وامتِهانًا لسَجَايَاهم؛ فقد جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطعُوني، وأُحسِنُ إليه ويُسيؤُون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهَلون عليَّ. فقال: «لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك»؛ رواه مُسلم.
والمعنى: فكأنما تُلقِمُهم الرَّمادَ الحارَّ في أفواههم.
وقد قال جعفرُ الصادقُ - رحمه الله تعالى -: "لأَن أندمَ على العفوِ عشرين مرةً أحبُّ إليَّ من أن أندمَ على العقوبةِ مرةً واحدةً".
وقد جرَت سنةُ الله أن من انتقَمَ ممن هو دونه انتقَمَ منه من هو فوقَه، وسُنَّةُ الله لا تُحابِي أحدًا.
ولأجل هذا - عباد الله - فإن لذَّة العفو أطيبُ من لذَّة التشفِّي، وذلك أن لذَّة التشفِّي يلحقُها ذمُّ الندَم، ولذَّةَ العفو يلحقُها حمدُ العاقبة، وقد قال الله - جل وعلا -: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ[الشورى: 37]، وهذا دليلٌ على أن الانتِقام يقبُحُ على الكِرامِ.
ومن طَبعُهُ الانتقامُ فهو كالغَيمِ الذي لا يُرجَى صحوُه، يغضبُ من الجُرمِ الخفِيِّ، ولا يُرضيهِ العُذرُ الجَلِيُّ، حتى إنه ليُبصِرُ الذنبَ ولو كان كسَمِّ الخِيَاطِ، ويعمَى عن الحسناتِ ولو كانت كجِبال تِهامة، له أُذُنان يسمعُ بإحداهما البُهتان، ويصُمُّ بالأخرى عن الاعتِذار، وله يَدَان يبسُطُ أحدُهما للانتِقام ويقبِضُ الأُخرى عن الحِلمِ والصفحِ، مثَلُه كمثَلِ من قال اللهُ عنه: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ[البقرة: 205، 206].
فهل يعِي هذا أولئك الجبَّارون المُنتقِمون المُسرِفون الذي يسومون أقوامَهم سُوءَ العذاب، فيُذبِّحون أبناءَهم، ويُرمِّلون نساءَهم، ويُيتِّمون أطفالَهم، أولئك الذين باعُوا الضميرَ، ونحَروا الرحمةَ، وأخذَتهم العِزَّةُ بالإثمِ، فعلَوا في الأرضِ، وجعلوا أهلَها شِيَعًا، وقالوا مقولةَ فرعون الأول: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ[الأعراف: 127].
غيرَ أن المؤمنين الصابرين يُردِّدون قولَ الله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ[الزمر: 36، 37].
باركَ الله ولكم في الكتابِ والسنةِ، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكرِ والحِكمة، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن لله الأسماءَ الحُسنى التي هي غايةٌ في الحُسن والجمال، ومنها الصفاتُ العُلَى التي تليقُ بجلالهِ وعظيمِ سُلطانه؛ فمن صفاته - سبحانه وتعالى -: الانتقام الذي يقصِمُ به ظهورَ الجبابرةِ بعد الإعذارِ والإنذارِ؛ فقد قرَنَ انتقامَه بعِزَّته، فقال - جل وعلا -: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[إبراهيم: 47]، وقال - سبحانه -: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[المائدة: 95].
والانتقامُ في شريعتنا الغرَّاء مذمومٌ في الجُملة، غيرَ أن ثمَّةَ انتقامًا محمودًا شرعَه الله لنا لإيجاد مبدأ التوازن بين المصالحِ والمفاسِدِ، وعدمِ الإخلالِ بها عن منازلها التي أُنيطَت بها لتحقيقِ مصالحِ العباد ودرء مفاسِدهم، وهذا الانتقامُ المحمودُ إنما يكون لمن انتهَكَ محارِمَ الله، وذلك بالحُدود والتعزيرات والعقوبات المشروعة؛ فقد قال - سبحانه -: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[النور: 2]، فنهانا - سبحانه - عن الرحمةِ في حُدوده وإقامةِ شِرعتِه وفقَ ما أرادَه لنا - سبحانه وتعالى -.
وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: "ما ضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا بيده قطُّ، ولا امرأةً، ولا خادِمًا إلا أن يُجاهِدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقِمُ من صاحبه إلا أن يُنتهَكَ شيءٌ من محارمِ الله، فينتقِمُ لله - عز وجل –"؛ رواه مسلم.
فالانتقامُ لغير محارمِ الله معرَّةٌ، كما أن الحِلمَ والبُرودَ أمام محارِمِ الله خيانةٌ عُظمى.
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ.
ونسألُك اللهم نعيمًا لا ينفَد، وقُرَّةَ عينٍ لا تنقطِع، ونسألُك اللهم لذَّةَ النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضرَّاء مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين.
اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَكَ يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام، يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-23-2012, 11:08 PM   رقم المشاركة : 6

 

الفقر وعلاجه في الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الفقر وعلاجه في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن مشكلةٍ عامَّةٍ في كل مُجتمعٍ من قديم الزمان، ألا وهي: مشكلة الفقر والفقراء، وبيَّن أنَّ الإسلام جاء بالحلول الكثيرة لها، ولم يُهمِلها، وذكرَ العديدَ من الحلول التي كفَلَها الإسلام لحل هذه المشكلةِ وعلاجِها.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله فالقِ الإصباح، وجاعلِ الليل سكَنًا، القائمِ بأرزاق خلقه، فما لأحدٍ منهم عنه غِنًى، الخلائقُ كلهم إليه فُقراء، وله - سبحانه - وحده الغِنَى، الدوامُ له - عزَّ شأنه -، ولهم همُ الفناءُ، أحمده - سبحانه - وأشكره على جزيلِ نعَمِه وآلائه سِرًّا وعلَنًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ من حقَّ توحيدَه فأتى يوم القيامة آمِنًا، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله دعا إلى الله، وأقام المِلَّة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، وما ضعُفَ وما وَنَى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار سادتنا وأئمتنا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الفَناءِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما سجَى ليلٌ وأضاءَ سَناء.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، وإياكم والغفَلات، واحذَروا الأماني الكاذِبات؛ فريبُ المَنون كامنٌ في الحَرَكات والسَّكَنات، وما أقربَ الحياة من الممات، قصَمَت المنايا مديدَ الأعمار، وهدمَ تعاقبُ الليالي مشيدَ الديار، فأصبحَت الأحوال خبرًا، والأحاديثُ عِبَرًا، مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى[يوسف: 111]، فاستعِدُّوا - رحمكم الله - ليوم الحِسابِ؛ فذلكم يومٌ ما أطولَه، وحسابٌ ما أثقلَه، وحاكمٌ ما أعدلَه، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[الزلزلة: 6- 8].
أيها المسلمون:
قضيةٌ مألوفة، وظاهرةٌ في المُجتمعات معروفة، مُشكلةٌ في جميع الأُمم والأعصار، والحضارات والأمصار، مسألةٌ لا يخلو منها مُجتمع، ولا تنفَكُّ منها دولةٌ، مهما بلغَ تقدُّمُها وثراؤها، وحُسن إدارتها وسياساتها.
مُشكلةٌ ذاتُ أباعدٍ اجتماعيةٍ، وامتداداتٍ سُلوكية، وجودها في أمةٍ أو دولةٍ ليس مثلَبَةً ولا عيبًا، ولكن نِسيانُ ذلك وإهمالُه، أو عدمُ النظر في أسبابه، والسعيِ في علاجه هو المَعيبُ وفيه المسؤولية؛ ذلكم: هو الفقرُ والفُقراء.
لقد عرفَت البشريةُ الفقرَ منذ أزمان التاريخ المُتطاوِلة، وأعصارِه المُتعاقبة، وحاولَت البشريةُ في مسيرتها الطويلة بمِلَلها ومذاهبِها ومُفكِّريها وأنظمتها أن تحُلَّ مشكلةَ الفقر، وأن تُخفِّفَ من مُعاناة الفُقراء بالترغيبِ والترهيبِ تارةً، وبالمواعظِ والوصايا تارةً، وبالتنظيرِ والمِثاليات تارةً، وأحيانًا بمبادئَ مُتطرفةٍ ذات اليمين وذات اليسار، ناهِيكُم بما أثارَه ويُثيرُه الهدَّامون من الإثارات الطبَقِية، والنَّعَرات المذهبية؛ بل إن المبادئ الهدَّامة والتوجُّهات السيئة تبني أوكارَها وتُقيمُ أفكارَها في رُبوع الفقر والحِرمان والضياع. هذا بعضُ التصوُّر والتصوير.
أما في دين الإسلام، دينِ العقيدة والشريعة، والعبادة والمُعاملة، والدين والدولة، دين تِبيان كلِّ شيءٍ، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[النحل: 89]، الدينُ الذي يُخرِج الناسَ من الظلمات إلى النور، ومن الظلمِ إلى العدلِ، ومن الفقرِ إلى الغِنَى الدينُ الذي يُصلِحُ الدنيا بالدين؛ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[طه: 123]، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ[إبراهيم: 1].


معاشر الإخوة:
من رواسِخِ ديننا وثوابتِه: أن لكل مُشكلةٍ حلاًّ، ولكل داءٍ دواءً؛ فالذي خلقَ الداءَ خلقَ الدواءَ، ومن قدَّرَ المرضَ قدَّرَ العلاجَ، فالمرضُ قدر الله، والعلاجُ والشفاءُ بقدر الله، وإذا كان الفقرُ قدرًا وبلاءً فإن مُقاومته والسعيَ في الخلاص منه قدرٌ وعلاجٌ كذلك.
الإسلامُ أقرَّ حقوقَ الفقراءِ وضمِنَها وحفِظَها وحماها، ووجَّه بالدفاع عنها منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا؛ صيانةً للمُجتمع، وحِفظًا للأُسَر، وإشاعةً لروح الإخاء، وسلامةً للدين، واستقامةً للخُلُق.
أيها المسلمون:
الفقرُ في نظر الإسلام بلاءٌ ومُصيبةٌ، تعوَّذَ منها، ووجَّهَ بالسعي للتخلُّص منها، ليس في مدحِ الفقراء آيةٌ في كتاب الله، ولا حديثٌ صحيحٌ في سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ بل لقد استعاذَ النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من الفقر، وجعله قرينًا للكُفر: «اللهم إني أعوذُ بك من الكُفر والفقر»؛ رواه أبو داود وغيره.
وفي الحديثِ الآخر: «اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقِلَّة والذِّلَّة، وأعوذ بك أن أظلِمَ أو أُظلَم»؛ رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكمُ من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه -، ورمَزَ له صاحبُ "الجامع الصغير بالحسن".
وعمر - رضي الله عنه - يقول: "لو كان الفقرُ رجلاً لقتلتُه".
ونبَّه القرآنُ الكريمُ إلى أن الجوعَ عذابٌ ساقَه الله إلى بعض الأُمم الكافرةِ بنِعَمه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[النحل: 112]، وفي المُقابِل؛ فقد امتنَّ الله على قُريشٍ بأن أطعمَهم من جُوعٍ، وآمنَهم من خوفٍ.
وفي الحديثِ: «إن الرجلَ ليُحرَمُ الرِّزقَ بالذنبِ يُصيبُه»، وفي المُقابِلِ كذلك - عباد الله - فإن الغِنَى نعمةٌ، يمُنُّ الله بها على من يشاء من عباده؛ بل لقد امتنَّ الله بذلك على حبيبه وخليله محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال - عزَّ شأنه -: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى[الضحى: 8]، ومحمدٌ - عليه الصلاة والسلام - لما سألَ ربَّه الهُدى والتُّقَى سألَ معه الغِنَى، فقال: «اللهم إني أسألُك الهُدى، والتُّقَى، والعفافَ، والغِنَى»؛ رواه مسلم.
ودعا لعبد الرحمن بن عوفٍ في صحابةٍ آخرين - رضي الله عنهم -، دعا لهم بالبركةِ في تجارتهم، ودعا لخادمه أنسٍ - رضي الله عنه - فقال: «اللهم كثِّر مالَه». وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما نفعَني مالٌ كمالِ أبي بكرٍ»؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وعند البخاري: «اللهم إني أسألُك علمًا نافعًا، ورِزقًا طيِّبًا، وعملاً صالحًا مُتقبَّلاً». وحسبُكم قولُه - عزَّ شأنه -: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[نوح: 10- 12].
معاشر الأحِبَّة:
إذا كان الأمرُ كذلك؛ فإن الفقرَ - نعوذُ بالله منه -: حالٌ يكون معها المرءُ عاجِزًا عن تلبيةِ حاجاته؛ من الغذاءِ، والكِساءِ، والدواءِ، والسكنِ، والتعليمِ، وفُرصِ العمل. الفقرُ: عدمُ الدَّخْل أو نقصٌ فيه، يعجَزُ معه الفقيرُ عن تحقيق مُتطلَّباته من العيش اللائقِ بكرامةٍ وحُسن رعايةٍ.
في حالة الفقرِ لا يستطيعُ الفقيرُ القيامَ بمناشِطِ الحياة وحيويتها، ومن ثمَّ تبرُزُ صُورٌ من انتشار الأمراض، وسوء التغذية، والوفيات، ونقصِ التعليم وقلَّة فُرصه، واستخدام الأطفالِ.
نعم - معاشر الإخوة -؛ من حقِّ الفقيرِ أن يتهيَّأ له مُستوًى من المعيشةِ مُلائِمٌ لحاله يُعينُه على أداء فرائضِ الله، ومطلوباتِ الشرع، وأعباءِ الحياة، ويَقيهِ من الفَاقَةِ والحِرمان.
أيها المسلمون:
وأولُ ما يتوجَّهُ إليه النظرُ في حلِّ هذه المُشكلة وعلاجِها وتقليل آثارها مما تُؤكِّدُه توجيهاتُ ديننا هو: مُطالبةُ كلِّ مسلمٍ قادرٍ، مُطالبَتُه بالعملِ، كما لا بُدَّ من إيجاد فُرص العمل؛ فالعملُ هو الوسيلةُ الأولى والسلاحُ المَضَّاءُ - بإذن الله وعونه - للقضاء على هذه المُشكلة. العملُ - بتوفيق الله - هو جالبُ المال، وعامِرُ الأرض. العملُ أساسُ الاقتصاد والإنتاج، والغِنَى، والعَفاف، والكفاف، والثَّراء. العملُ مجهودٌ شرعيٌّ كريمٌ يقومُ به العبدُ من عباد الله ليعمُرَ أرضَ الله الذي استُخِلِفَ في عِمارتها بنفسه ومع غيره.
إن ديننا يُقرِّرُ ويُؤكِّد أن الله خلقَ الأرضَ، وبارَكَ فيها، وقدَّرَ فيها أقواتَها، وأودعَ في ظهرها وبطنها البركات المذخُورة، والخيرات المنشورة ما يكفي جميعَ عباد الله عيشًا هنيئًا مريئًا، وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ[الأعراف: 10]، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء: 70].
وفي توجيهات الإسلام: أن هذه الخيرات والبركات والأرزاق المبثوثة لا تُنالُ إلا بجُهدٍ يُبذَل، وعملٍ يُؤدَّى، وسعيٍ دَؤُوبٍ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ[الملك: 15]، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[الجمعة: 10]، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[المزمل: 20].
فمن سعَى وانتشرَ في الأرض، وضربَ في أرجائها مُبتغيًا فضلَ الله ورِزقه؛ فإنه أهلٌ لنوالِهِ، ومن قعدَ وتكاسَلَ وتمنَّى الأماني؛ كان جديرًا بأن يُحرَم، «لو أنَّكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزَقَكم كما يرزقُ الطيرَ تغدُو خِماصًا، وترُوحُ بِطانًا».


معاشر الإخوة:
العملُ في الإسلام عبادةٌ، وما تعدَّى نفعُه وامتدَّ أثرُه فهو أفضلُ عند الله وأزكَى مما كان قاصِرًا نفعُه على صاحبِه، وأبوابُ العملِ مفتوحةٌ في الإسلام على كل مصاريعها، يختارُ منها الراغبُ ما يُلائمُ قُدرتَه وكفاءَته وخبرتَه وموهبتَه؛ «فالتاجرُ الصدوقُ الأمينُ مع النبيين والصدِّيقين والشُّهداء»؛ رواه الترمذي، والحاكم بإسنادٍ حسنٍ.
«وما أكلَ أحدٌ طعامًا خيرًا من أن يأكل من عملِ يده»؛ رواه البخاري. «وما من مُسلمٍ يغرِسُ غرسًا، أو يزرعُ زرعًا فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ إلا كان له به صدقة»؛ رواه البخاري.
وكان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يتَّجِرون في البرِّ والبحر، ويعملون في نخيلهم، والقدوةُ بهم. وسُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الكسبِ أفضلُ؟ قال: «عملُ الرجلِ بيده، وكلُّ بيعٍ مبرورٍ»؛ رواه أحمد.
عباد الله:
وثمَّة نظراتٌ حول العمل عند بعض الناس لا بُدَّ من الوقوف عندها ذاتُ مِساسٍ كبيرٍ في المُعالَجة:
النظرةُ الأولى: موقفٌ قاصِرٌ ضارِبٌ جُذورَه منذ أيام الجاهليَّة الأولى إلى عصرِنا هذا - مع الأسفِ -، ذلك هو: الاستهانةُ بالعمل، أو ببعض أنواع العمل، ولا سيَّما عند العرب الذين يحتقِرون الأعمال اليدوية، وبعضَ الحِرَف والمِهَن، وهذا - وربِّكم - ليس من الدين، ولا من الأصالة، ولا العقل الراجِح.
فدينُكم رفعَ قيمةَ العمل أيًّا كان نوعُه من وجوه الكسبِ الحلال، ونهَى وحذَّرَ وشنَّع على البِطالة والعجزِ والاتِّكال على الآخرين؛ فكلُّ كسبٍ حلالٍ فهو عملٌ شريفٌ عظيمٌ مأجورٌ صاحِبُه، وفي الحديثِ الصحيحِ: «لئن يأخُذ أحدُكم حبلَه، فيأتي بحزمةِ الحَطَبِ على ظهره، فيبيعُها، فيكُفُّ بها وجهَه خيرٌ من أن يسألَ الناسَ أعطَوه أو منَعُوه».
نعم، هذه هي مهنةُ الاحتِطابِ؛ فهل تُرى أحدًا يزدَريها بعد هذا التوجيهِ النبويِّ الكريمِ؟!
وأنبياءُ الله أفضلُ خلق الله ومُصطَفوه كلُّهم قد رعَوا الغنَمَ، وفيهم: صانِعُ الحديد، والنجَّار، والخيَّاط، والبَزَّاز، والحرَّاث، وموسى - عليه السلام - رعَى الغنَمَ، وآجَر نفسَه عشر سنين عند الرجل الصالح، ونبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - رعَى الغنمَ لقُريش، وسافَرَ بالتجارةِ.
وأئمةُ الإسلام وعلماؤه كان فيهم البزَّارُ، والقفَّالُ، والحَذَّاء، والزَّجَّاج، والخرَّاز، والحطَّاب، والجَصَّاص، والخيَّاط، والخوَّاص، والقطَّان، والموَّاز، وغيرُهم مما لا يكادُ يُستثنَى من مهنٍ مُباحةٍ. فكفى بذلك شرفًا، وكفى بهم قُدوةً وأُسوةً.
النظرةُ الثانية: من الناسِ من يدَعُ العملَ لأنه لم يتيسَّر له في بلده وعند أهله. سبحان الله - عباد الله -، يُؤثِرُ البَطالَةَ والحاجةَ والحِرمان على السعيِ والسَّعَة والعفافِ والغِنى؟! وما علِموا أن أرض الله واسِعةٌ، ورِزقَ الله في المشيِ في مناكبِها والضربِ في أرجائها، رِزقُ الله غيرُ محدودٍ بمكانٍ، ولا محصورٍ بجهةٍ.
ونحن في هذه البلاد الطيبةِ المُبارَكةِ يفِدُ إلينا إخوانٌ لنا من بلادٍ شقيقةٍ وصديقةٍ، وفَدوا إلينا من أصقاع الدنيا يُسهِمون معنا في بناء بلدنا، وإعمارها، ويسعَون في تحصيل أرزاقهم، ويكِدُّون من أجل أهلِيهم وأطفالِهم. فعلى الرَّحبِ والسَّعَة.
ويعلمُ الله كم نسعَدُ حين نرى أبناءَنا يُشارِكونهم ويُنافِسُونهم التنافُسَ الشريفَ، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً[النساء: 100]، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[المزمل: 20].
وسُئِلَت أمُّ مسلمة عن تفرُّق أولادها، فقالت بلغة الأم المُربِّية العاقلة الحكيمة: باعَدَت بينهم هِمَمُهم.
النظرةُ الثالثة: فئاتُ من الناس يزهَدون في العمل مُعتمِدين على الصدقات والزَّكَوات والتبرُّعات والأُعطِيات، وقد يتزَلَّفُ مُتزلِّفٌ لدى الأغنياء والوُجَهَاء والكُبَراء أشبَه بالمُتسوِّل والشَّحَّاذ لتكون يدُهُ هي السُّفْلَى، يستجْدِي المِنَحَ والعطايا، قويًّا قادرًا لا تحلُّ له الصدقاتُ ولا الزَّكَوات.
وبعدُ، عباد الله:
فإن الإسلام لم يجعل لمُتبطِّلٍ كسولٍ حقًّا في صدقات المُسلمين وإحسانهم، وما ذلك إلا ليدفعَ القادرين للعمل والكسبِ الحلال، وما فتحَ عبدٌ على نفسهِ بابَ مسألةٍ إلا فتحَ الله عليه بابَ فقرٍ.
اللهم إنا نعوذُ بك من العجزِ والكسلِ، والجُبن والبُخل، والمأثَمِ والمغرَم، وغلبَةِ الدَّيْن وقهرِ الرجال، ونعوذُ بك من الفقر إلا إليك، اللهم أغنِنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سِواك، وأغنِنا بفضلِك عمَّن أغنيتَه عنَّا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ[يوسف: 65].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله هادي من استَهداه، ومُعطِي عبدَه فوقَ ما يتمنَّاه، أحمده - سبحانه - وأشكرُه على جزيلِ ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معبود بحقٍّ سِواه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه قرَّبَه وأدناه، وأره من عظيمِ ملكُوته ما أراه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين السادة، وأصحابه المُكرَّمين السَّرَاة، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا لا حدَّ لمُنتهاه.
أيها المسلمون:
وعلى الدولة في الإسلام مسؤوليتها في تهيئةِ فُرص العمل وطرق المعاشِ، وإيجاد الوسائل والتجهيزات والإعدادات، إن وظيفةَ الدولة في دين الإسلام وظيفةٌ إيجابيةٌ واسِعةٌ شاملةٌ، وظيفتُها: حمايةُ الذين يملِكون والذين لا يملِكون.
والمُجتمعُ في نظرِ الإسلام مُتاربِطٌ مُتماسِكٌ، جسدٌ واحدٌ إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهَر والحُمَّى. العلاقةُ بين أفراده ومُؤسَّساته ليست علاقة إنتاج، أو علاقة عرضٍ وطلبٍ، إنها أعمقُ من ذلك وأقوى، إنها علاقةُ عقيدةٍ وفكرٍ وعاطفةٍ، ووحدة نظامٍ وشريعةٍ، جسدٌ واحدٌ يُمِدُّ ويستمِدُّ، وينفعُ وينتفِعُ.
والدولةُ هي رأسُ المُجتمع، وهي جهازُه الذي يرعَى هذا الترابُط ويُحافِظُ عليه ويصُونُه، ويُؤكِّدُ لُحمتَه، ويرعَى ثمرَتَه، «كلُّكم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيته، فالإمامُ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والرجلُ راعٍ في أهلِهِ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته ..» الحديث.
الدولةُ تُحقِّقُ العدلَ، وتدعُو إلى الخيرِ، وتتَّخِذُ من الأساليب والوسائل والإجراءات ما يُعالِجُ الفقرَ، ويُخفِّفُ آثارَه، ويضمنُ العيشَ الكريمَ لكلِّ مُحتاجٍ، ويُحقِّقُ التكافُل بين المُجتمع، وهي: وسائل وأساليب وإجراءاتٌ تختلفُ باختلاف الأزمِنةِ والبيئاتِ والأحوال والنوازِل والمُستجَدَّاتِ والموارِد.
وللاجتهاد وحُسن السياساتِ والإدارات في هذا مدخلٌ واسعٌ من الإعداد والتدريب، وتوجيه كل أحدٍ إلى ما يُحسِنُه، مع الأجرِ العادلِ وتشجيعِ المُحسِنِ ومُكافأته، ومُجازاة المُسيءِ ومُعاقبتِه، في سياساتٍ تصُونُ ثروات الأمة، وتزيدُ في إنتاجِها، وتُحسِّنُ مُستوى خدماتها، وتحفَظُ طاقاتها، وتُقدِّرُ جهودَ أبنائِها في مواهبهم، وقُدراتهم، وكفاءاتهم، ومُؤهِّلاتهم، في بناءٍ حضاريٍّ، وإدارةٍ مُنظَّمة، وسياساتٍ مُحكَمة؛ عِمارةً للأرض، وتطبيقًا للشرع، وتوظيفًا للطاقات في توازنٍ بين حقوق الإنسان وواجباته.
وهذا وليُّ أمرنا خادمُ الحرمين الشريفين - حفظه الله وأعزَّه، وأمدَّ في عُمره على طاعته -، وقد جعل الإصلاحَ شَعارَ حُكمه، كان من أحد معالمِ مسيرته الإصلاحية المُظفَّرة: تفقُّدُه لبعض أحياء الفُقراء ومساكنهم؛ ليقِفَ على صُور المُعاناة.
ثم أتبَعَ ذلك بقراراتٍ وسياساتٍ وإنشاء مُؤسَّساتٍ تتولَّى مُعالجةَ ذلك، وأصدرَ توجيهاته لرجال الدولة لتنفيذِ ذلك ومُتابعتِه.
وبعدُ، عباد الله:
فإن كان من تنبيهٍ فهو: أن الحياةَ الإسلامية بمناشِطِها وأعمالها ووظائفها هي حياةٌ نظيفةٌ نزيهةٌ، لا تُقِرُّ العبَثَ، ولا تسمحُ بالفساد والتحلُّل، وصرفِ المالِ والطاقات فيما لا يحِلُّ، لا ليلاً ولا نهارًا، لا في لهوٍ ولا مُجونٍ ولا سُوء استغلالٍ.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فدينُكم يُطارِدُ الفقرَ بأحكامِه وتشريعاته وتوجيهاته، والمُسلمُ يستقبِلُ صباحَه باكِرًا مُتوضِّئًا مُتطهِّرًا مُصلِّيًا طيبَ النفسِ، مُستقيمَ الخُلُق، حافظًا لنفسه وماله وأهله ووقته.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله، وهو الصادقُ في قِيلِه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم احفَظهم واحقِن دماءَهم، واحفَظ اعراضَهم، وأطعِم جائِعَهم، اللهم واشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، اللهم وانصرهم على من بغَى عليهم، اللهم واربط على قلوبهم، وثبِّت أقدامهم، اللهم واجعل لهم من كلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، وانصُرهم ولا تنصُر عليهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظلَمة في سُوريا، اللهم عليك بهم فإنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في الطُّغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم اجعل تدبيرَهم في تدميرهم، واجعل دائرةَ السوء عليهم يا قويُّ يا عزيزُ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-31-2012, 10:14 PM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

سوريا .. الفرَج قادم

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 75/1433هـ بعنوان: "سوريا .. الفرَج قادم"، والتي تحدَّث فيها عن بلاد الشام وما ألمَّ بها من خُطوبٍ ومِحَنٍ وبلايا، وهو يُذكِّرُ المسلمين عامَّةً وأهلَنا فيها خاصَّةً بوجوب الصبر والاحتِسابِ؛ فإن نصرَ الله قريبٌ، وبتمسُّك الأمة بعقيدتها، وتلاحُمها وتراحُمها فيما بينها تُنصَر على أعدائها، ثم ختمَ خُطبتَه بدعَواتٍ مُبارَكاتٍ لإخواننا المُستضعفين في سوريا وغيرها من بُلدان المُسلمين.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، سبحانه وبحمده ابتلَى النفوسَ بالسرَّاء والضرَّاء فزكَّاها واحتثَاها، ورقَّاها واصطفاها.
لك الحمدُ حمدًا يملأُ الأرضَ والسما
كثيرًا غزيرًا ما يُعدُّ ويُحسَبُ
لك الحمدُ يا غفَّارُ ما هلَّ صيِّبٌ
بزاخرِ وبْلٍ فيضُهُ ليس ينْضَبُ

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً ندرأُ بها الفتنَ اعتقادًا وشفاهًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من تصبَّر في النوائبِ فانتصَرَ بفضلِ الله وتلافاها، ومحا معالمَ الظلم والطغيانِ فعفَّاها، اللهم فيا ربِّ صلِّ وبارِك عليه، وعلى آله الطاهرين الميامين أزكى البريَّة قلوبًا وأصفاها، وصحبهِ الكرامِ البَرَرة خيرِ من اعتصَمَ بالشريعة الغرَّاء وتقفَّاها، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين يرجو من الباري رحماته ومُوفَّاها، وسلَّم تسليمًا كثيرًا عديدًا مُبارَكًا مزيدًا.

أما بعد، فيا عباد الله:
خيرُ ما يُوصَى به في أول الأمر وبادئِهِ، وخِتامه وعائِدِه: تقوى الله - عز وجل - في كل الآناء، في الكُرَب واللأواء، والمِحَن والبأساء؛ فتقواه - سبحانه - تكشِفُ كُرَبًا وقلقًا، وتُبدِّدُ فزعًا وفرَقًا، ويأسًا وأرَقًا، وكم تُحقِّقُ نصرًا وألَقًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[الطلاق: 2، 3].
وتمسَّكوا بجَنابِ تقوى ربِّكم
كي تسلَموا من سُخطِهِ وعقابِهِ
وتجنَّبوا سبقَ الخُطى فلكم هوَى
عبدُ الهوى من حِصنِهِ وعُقابِهِ

أمة الإسلام:
في حوالكِ الكُروب، ومعامِعِ الخُطوب، ومُدلهِمَّات الدُّروب، وتحت وطأةِ مناسنِ اللُّغوب التي تعتوِرُ المُسلِمَ إبَّان الشدائدِ والضوائق، والأرزاءِ والعوائق؛ تشرئِبُّ النفوسُ إلى إشراقات الطمأنينة، وبشائرِ الانبلاجِ والسَّكينة، وتتطلَّعُ الأرواحُ إلى أرَجِ الرحمات المُسرِّيَات، وعبَقِ النَّفَحات المُسلِّيَات، ويزدادُ الأمرُ إلحاحًا وتأكيدًا في هذه الآونةِ العصيبة، والحِقبةِ التأريخية اللهيبة التي أحدَقَت بأمتِنا اللهيفَةِ من أطرافِها، وتناوشَتْها المِحَنُ من سِواها وأكنافِها، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21].
أيها المؤمنون:
من استلهَمَ حقائقَ الغِيَر السَّوَالِف، واستنطَقَ دقائقَ الفوادِحِ الخَوالِفِ، وراضَ بصيرتَهُ في رياض الوحيَيْن الشريفين؛ أيقَنَ دون أدنى مَيْن أن المُسلِمَ غرضٌ لفواجِعَ ونوائِب، تذَرُ القلوبَ ذوائِب، سُنَّةُ الله في الخلق ماضية، وحِكمةٌ منه في البرايا قاضية، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[محمد: 31].
ولنا في إمام الأتقياء - صلى الله عليه وسلم - خيرُ قُدوةٍ وعزاء، والناسُ في صُروفِ المِحَن صِنفان:
من أناخَ رِكابَهُ في جنبِ الله واستكفاه، وتوكَّل عليه ورجاه، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[الطلاق: 3].
والصِّنفُ الثاني: من إذا ضافَتْه رزِيَّةٌ جَزِعَ وتسخَّطَ، وفي أودِيَةِ اليأسِ اضطربَ وتخبَّطَ، وظنَّ بالله الظنُون، واستصرَخَ ريبَ المَنون، مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ[الحج: 15].
فضاؤُهُ - سبحانه - نافِذٌ صائر، وحُكمُه في البريَّة سائِر، لا رادَّ لما قدَّرَه، ولا مُعقِّبَ لما أبرَمَه ودبَّرَه، وما يمَسُّ المُؤمِنَ من فوادِحَ وضرَّاء، ومِحَنٍ وبأساءٍ فهو لفريقٍ كفَّارةٌ وإمهالٌ، وتذكيرٌ بالرَّغَب والرَّهَب والابتِهال، ولآخرين مَرقاةٌ لدرجاتِ الكمال. فلا يضجَرنَّ المؤمنُ البصيرُ إن عَراهُ خَطبٌ عسير؛ فأثبتُ الناسِ عند الصُّروف وأعظمُهم صبرًا أفضلُهم عند الله منزلةً وقدرًا، وما يبتلِي اللهُ عبدَه إلا ليُطهِّرَه من الذنوب أو يُعظِمَ له أجرًا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[البقرة: 177].
وجلَّت حكمةُ الله عن الإعناتِ والتعذيبِ؛ بل هي للاجتباءِ والرحمةِ والتهذيبِ، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19]، فدونَ الشهدِ لا بُدَّ من إبَرِ النَّحْلِ، ودون الرُّطَب سُلَّاءُ النَّخْلِ، وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد: 4].
إخوة العقيدة:
والمؤمنُ راسِخُ الإيمان يُوقِنُ أن الشدائدَ - لا مَحالةَ - إلى تقشُّعٍ وانقِضاء، متى فزِعَ إلى من بيده تصاريفُ القضاء، فكأيٍّ من مكروهٍ وافاه الفرَجُ في طرفَة عينٍ، وتضوَّعَ منه السرورُ دون عناءٍ وأَيْن.
إذا اشتملَت على اليأسِ القلوبُ
وضاقَ لما به الصدرُ الرَّحيبُ
أتاكَ على قنوطٍ منك أمرٌ
يمُنُّ به اللطيفُ المُستجيبُ

معشر المسلمين:
وما يكونُ من المِحَن في الأفراد والذَّوات يُصيبُ أيضًا الأُمَمَ والمُجتمعات، وها هو واقِعُنا الرَّاهِنُ خيرُ شاهدِ عيانٍ وأصدقُ مُنبِئٍ وبُرهان؛ فكم من أُمَمٍ وانِية عزَّت بعد هُمود، ونهَضَت بعد خُمُود، وسادَت بعد جُحُود! وكم من أقوامٍ بطِروا معيشتَهم تحطَّموا في الوجود، وشيَّعَتهم الدعواتُ السَّاخِطاتُ إلى الأرماسِ واللُّحود؛ جزاءً وِفاقًا بما كان منهم من العِنادِ والكُنُود، والإفسادِ الذي طبَّقَ شرُّه السُّهُولَ والنُّجُودَ، وأشباهُهم - دكَّ الله جِباهَهم - تناسَوا في عُتُوِّهم قوةَ الله التي لا ترُدُّها الحُصون، وسطوتَه التي لا تحُولُ دونَها الوُكونُ، وجبرُوتَه الذي لا يعزُبُ عنه الانسِرابُ والكُمُون.
أنَّى كان طاغيةُ الشامِ ويكونُ؟! وإن كان في عُقر القِلاعِ الحَصينةِ المَشيدة، وخلفَ المتارِسِ الشديدة؛ فاللهُ المُنتقِمُ طَليبُه، والديَّانُ الجبَّارُ حَسيبُه؛ جزاءَ بغيِهِ وطُغيانه، وتمرُّده وعُدوانه، فاللهم دمِّر أهلَ الظلم والطُّغيان والعِناد، كما دمَّرتَ قومَ نوحٍ وعاد، وثمود وفرعون ذي الأوتاد.
أتُداسُ أقداسُ الجُدود تعنُّتًا
ومساجِدُ التقوى تُهانُ وتُزدَرَى
ودمُ الثَّكَالَى واليَتَامَى مُهرَقٌ
يجري على أشلائهم مُتحدِّرًا

وإزاءَ تلك العظائمِ القواصِم، والويلاتِ الحواطِم، تتوهَّجُ في الأفئدةِ أقباسُ الغضبِ والحمِيَّة، وتتردَّدُ في نفوسِنا الكَلْمَى لوعَاتُ الفَجيعةِ الدموِيَّة حِيالَ أولئك الجَلاوِزَةِ العُتاة، والجَعاظِرَة القُساة، الذين تأجَّجَت في عيونِهم جُدَى التدمير والتَّنكيل، واسوَدَّت في قُلوبهم جِمارُ الإبادةِ والتَّقتيل، رُعونةٌ تجاوَزَت النَّظير، وصَفاقَةٌ فاقَت المَثِيلَ، مما يتطلَّبُ - وعلى الفورِ - وقفَ العُنفِ وإراقةِ الدماءِ، ويُؤذِنُ بكارثةٍ إنسانيةٍ لن ينسَها التأريخُ المُعاصِر.


وإن دماءً أُهدِرَت سوف يصطلِي
بموَّارها الطُّغيان والمارِدُ النَّكْرُ
فإن يجرِي في الأعماقِ تيَّارُ ثأرها
فقد ضاقَت الأرواحُ وامتلأَ الصَّدرُ

أيها المسلمون:
وفي كتابِ ربِّنا أعظمُ العِبَر والدُّروس، والعِظاتِ التي تُثبِّتُ النفوس، نفوسَ الأعِزَّة القِلَّة، والأبطال الأجِلَّة، الذين يُقارِعون الطُّغاة في دمشق الصامِدة، وحلَبَ الشَّهباء، وحِمصَ الصابِرة، وإدلب وحماةَ الباسِلة، ودَرعا وبابا عمرو، وسِواها من تلك الرُّبُوع الشامخة؛ فدمشقُ دمعٌ لا يُكفكَف، وآهاتٌ لا تُخفَّف، لكنَّ بشائرَ النصر تلُوح، وراياتِهِ خفَّاقةٌ تُرفرِف، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ[الحشر: 2]، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ[البقرة: 249].
الله أكبر، الله أكبر! إنه النصرُ المُبينُ المُؤزَّر؛ فاللهَ اللهَ في الصبر والثبات، فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال: 45، 46].
إخوة الإسلام:
وإن المقاصِد العظيمة والغاياتِ السَّامِية النَّبيلة لإخواننا في سُورية المُضمَّخة بنور العقيدة لتتَهاوَى حِيالَها شُمُّ المتارِسِ والمَعاقِل، ويُؤازِرُها كلُّ غَيُورٍ عاقل، ولا يُصادِمُها إلا فَدْمٌ أعيَى من باقِل؛ كيف وشِعارُهم: الله أكبر، ولن نركَعَ إلا لله، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ[الحج: 40]، إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد: 7]،
ونِعْمَ الشِّعار! وثَغرُهم دارُ الشامِ، ونِعمَ الدَّارِ! أولئك الذين يستجمِعون أخلاقَ النصر وأسبابَه، وايْمُ الله هم المُنتصِرون، والذين يستلئِمون بأخلاقِ الهزيمةِ هُمُ المُنهزِمون.
يا رِجالَ الإسلام هُبُّوا وكونوا
دائمًا للبُغاةِ بالمِرصادِ
لا يرُدُّ الحُقوقَ إلا إباءٌ
يصطلِي من أُوارِهِ كلُّ عادِي

أمة النصر والأمجاد:
وإننا لنتفاءَلُ - بإذن الله - بانبِلاجِ صُبح النصر المُبين، في كل مكانٍ على الضِّرابِ والآكام لإخواننا في بلاد الشامِ الأبِيَّة، هاتِفين: صَبرًا صَبرًا .. فإن مع العُسرِ يُسرًا، إنَّ مع العُسر يُسرًا، ومع اليُسر نصرًا، وطُوبَى لكم طُوبَى، وستبرُقُ بين بيارِقِكم بوعدِ الله بوارِقُ الفجر، وتباشيرُ النصر، وسيُسطِّرُ التأريخُ بمِداد البُطُولةِ ملحَمَة العِزَّة والفخر؛ فالبغيُ مهما زمجَرَ فإلى تتبيرٍ وزَوالٍ، ومهم دمَدَمَ فإلى غُبُورٍ ودَوالٍ.
يا ربِّ! حِمصٌ مُزِّقَت أوصالُها
والسِّترُ يُهتَكُ في رُبوعِ الشَّامِ
فاجعَل عيونَ المؤمنين قريرةً
بدمشق ترفعُ رايةَ الإسلامِ

ألا بحبلِ الله فاستعصِموا، وبالعزيز القدير استنصِروا، تُنصَروا وتستبصِروا، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة: 214]، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
بارك الله ولي ولكم في الوحْيَيْن، ونفعني وإياكم بهَدي سيدِ الثَّقَلَيْن، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[يوسف: 100]، وتوبوا إليه واستغفِروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-31-2012, 10:14 PM   رقم المشاركة : 8

 

الخطبة الثانية
الحمد لله العزيز الديَّان، ناصِر المُستضعَفين من أهل الإيمان، وقاصِم جبابِرة البَطشِ والطُّغيان وإن طالَ الأَوَان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، نهَى العالمين عن البَغيِ والعُدوان، وصدَّ المارِدين بالحُجَّة والسِّنان، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطاهرين ساداتِ الزمان، وصحبِهِ الأُلَى كانوا من الليل القُوَّامَ والرُّهبان، ومن النَّهار الدُّعاةَ والفُرسان، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حقَّ تقواه، ولتَهْنِكم بشائرُ النصر - بإذن الله -؛ فالظلمُ مرتَعُه وَخيم، والظالمُ منبوذٌ لئيمٌ، ومصرَعُهُ - لا محالةَ - وشيكُ الذَّميم، واستيسقنوا - رحمكم الله - أن النصرَ مع الثباتِ والاصطِبار، والظَّفَرَ قرينُ الاعتِصام بالواحدِ القهَّار.
إخوة الإيمان:
وهذه المرحلةُ الحرِجَة في مسارِ أمتنا مطِيَّةٌ ذَلول لمزيدِ التمالُئِ المُستذئِب من قِبَلِ المُتربِّصين المَكَرة، والشَّانِئين الغَدَرة، وهذا التمحيصُ شطر الاجتِباء والتخليص هو المِسبارُ الكاشِفُ لمقدار ثباتِ الأُمَّة وتلاحُمها، واتحادِها وتراحُمِها، ومن المُثُلِ والعِبَر التي تُزجَى وتُساقُ: ما أصابَ المُسلمين يوم أُحُدٍ من البلاء، ورغمَ ذلك ظهرَ دينُ الله وعَزَّ، وانتشرَ وبَزَّ.
وتلك المُثُلُ والقِيَمُ هي التِّرياقُ الشافِي، والبَلْسمُ الوافِي للحقائق المُشرِقة التي تسيرُ على نُورِها وهُداها الفُلولُ المُسلِمةُ في أرض الشام، وفلسطين ضدَّ الصهايِنة اللِّئامِ، وملءُ قلوبِهم وقلوبِنا: النصرُ للإسلام، والفوزُ للإسلام، والمجدُ للإسلام، بإذن الله الملكِ العلَّام، وإن تكالَبَ عليهم ضِئضِئُ الإرهاب والإجرام، فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[الروم: 47]، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[يوسف: 110].
فإيمانُنا بالنصرِ رغمَ عُتُوِّكم
كإيماننا بإلهِنا القادِرِ الفَرْدِ
متى صدَقَت منَّا النَّوَايا وأخلَصَت
فنحنُ مع النصرِ المُبينِ على وعدِ

وبعدُ، معاشر الأحِبَّة:
فلكَم تقتضِينا أُخُوَّتُنا القَعْساء، وعقيدتُنا الشمَّاء مُؤازَرَةَ أهالينا في سُورية الفَيْحاء، وفلسطين الإِباء؛ ليُحقِّقوا الأمنَ والانتِصار، وحقنَ الدماء والاستِقرار، ولو تجرَّعنا لأجل ذلك كُؤوسَ الصبرِ المِرار، وأن نصطبِرَ على ما أصابَنا، وألا نشكُو إلا إلى الله أوصَابَنا، فسُودُ النوائِب لطالَما أسفَرَت عن نَّيْلِ الأماني والرَّغائِب، والخَطْبُ الجَلَلُ بريدٌ لأزكى الأمَل، بإذن الله - عزَّ وجل -، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 139- 141].وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على سيد الأنامِ، وقُدوةِ أهل الإسلام، الصابرِ على المِحَن بتوكُّلٍ على الله واستِعصامٍ؛ فقد أمرَكم بذلك المَولَى في كتابِهِ عزيزِ النِّظام، فقال تعالى قولاً كريمًا بديعَ الإحكام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
وفي "جامع الترمذي" عن أُبَيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسول الله! كم أجعل لك من صلاتي؟ قال: «ما شئتَ». قلتُ: أجعلُ لك صلاتي كلَّها؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذًا تُكفَى همَّك، ويُغفَرُ لك ذنبُك».
ومحبَّةُ الهادي الصلاةُ عليه من
ثغرٍ ومن قلبٍ دُعاءً حاضِرًا
صلَّى عليك اللهُ في قُرآنِهِ
والمؤمنونَ أماجِدًا وأكابِرًا

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على الرحمة المُهداة، والنِّعمةِ المُسداة: نبيِّنا محمدِ بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في دُورِنا، وأصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعبادِ يا مَن له الدنيا والآخرةُ وإليه المعاد.
اللهم انصُر إخواننا المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في سُوريا، اللهم انصُر إخواننا في بلاد الشام، اللهم انصُر إخواننا في بلاد الشام، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، اللهم اشفِ مرضاهم، وعافِ جرحاهم، وفُكَّ أسراهم، اللهم عافِ مُبتلاهم، اللهم اقبَل موتاهم في الشُّهداء يا سميعَ الدُّعاء.
اللهم عليك بطاغية الشام ومن مالَأه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصَى من بَراثِنِ اليهود المُعتدين، والصهاينة المُجرمين، يا قويُّ يا عزيزُ، يا جبَّارُ يا مُنتقِم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر المُسلمين في كل مكان على عدوِّهم وعدوِّك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنهم مظلومون فانصُرهم، اللهم إنهم مظلومون فانصُرهم، اللهم إنهم مظلومون فانصُرهم، يا مُجيبَ دعوة المُضطرين، يا كاشِفَ السُّوء، يا ناصِر المُستضعفين، يا مُنجِيَ المؤمنين.
نَدرأُ بك اللهم في نُحورِ أعدائهم، ونعوذُ بك اللهم من شُرُورهم، اللهم عليك بأعدائهم وخُذهم أخذَ عزيزٍ مُقتدرٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمُسلمين والمُسلِمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألِّف بين قلوبهم، واهدِهم سُبُل السلام، وجنِّبْهم الفواحِشَ والفِتَن ما ظهرَ منها وما بطَنَ.
اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، اللهم ارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين الأحياءِ منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:50 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir