" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله ق ريب " قوله تعالى : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة " " حسبتم " معناه ظننتم . قال قتادة والسدي وأكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة , والحر والبرد , وسوء العيش , وأنواع الشدائد , وكان كما قال الله تعالى : " وبلغت القلوب الحناجر " [ الأحزاب : 10 ] . وقيل : نزلت في حرب أحد , نظيرها - في آل عمران - " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " [ آل عمران : 142 ] . وقالت فرقة : نزلت الآية تسلية للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين , وآثروا رضا الله ورسوله , وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وأسر قوم من الأغنياء النفاق , فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم " أم حسبتم " . و " أم " هنا منقطعة , بمعنى بل , وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة ألف الاستفهام ليبتدأ بها , و " حسبتم " تطلب مفعولين , فقال النحاة : " أن تدخلوا " تسد مسد المفعولين . وقيل : المفعول الثاني محذوف : أحسبتم دخولكم الجنة واقعا . و " لما " بمعنى لم . و " مثل " معناه شبه , أي ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم فتصبروا كما صبروا . وحكى النضر بن شميل أن " مثل " يكون بمعنى صفة , ويجوز أن يكون المعنى : ولما يصبكم مثل الذي أصاب الذين من قبلكم , أي من البلاء . قال وهب : وجد فيما بين مكة والطائف سبعون نبيا موتى , كان سبب موتهم الجوع والقمل , ونظير هذه الآية " الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم " [ العنكبوت : 1 - 2 - 3 ] على ما يأتي , فاستدعاهم تعالى إلى الصبر , ووعدهم على ذلك بالنصر فقال : " ألا إن نصر الله قريب " . والزلزلة : شدة التحريك , تكون في الأشخاص وفي الأحوال , يقال : زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالا - بالكسر - فتزلزلت إذا تحركت واضطربت , فمعنى " زلزلوا " خوفوا وحركوا . والزلزال - بالفتح - الاسم . والزلازل : الشدائد . وقال الزجاج : أصل الزلزلة من زل الشيء عن مكانه , فإذا قلت : زلزلته فمعناه كررت زلله من مكانه . ومذهب سيبويه أن زلزل رباعي كدحرج . وقرأ نافع " حتى يقول " بالرفع , والباقون بالنصب . ومذهب سيبويه في " حتى " أن النصب فيما بعدها من جهتين والرفع من جهتين , تقول : سرت حتى أدخل المدينة - بالنصب - على أن السير والدخول جميعا قد مضيا , أي سرت إلى أن أدخلها , وهذه غاية , وعليه قراءة من قرأ بالنصب . والوجه الآخر في النصب في غير الآية سرت حتى أدخلها , أي كي أدخلها . والوجهان في الرفع سرت حتى أدخلها , أي سرت فأدخلها , وقد مضيا جميعا , أي كنت سرت فدخلت . ولا تعمل حتى هاهنا بإضمار أن ; لأن بعدها جملة , كما قال الفرزدق : فيا عجبا حتى كليب تسبني قال النحاس : فعلى هذا القراءة بالرفع أبين وأصح معنى , أي وزلزلوا حتى الرسول يقول , أي حتى هذه حاله ; لأن القول إنما كان عن الزلزلة غير منقطع منها , والنصب على الغاية ليس فيه هذا المعنى . والرسول هنا شعيا في قول مقاتل , وهو اليسع . وقال الكلبي : هذا في كل رسول بعث إلى أمته وأجهد في ذلك حتى قال : متى نصر الله ؟ . وروي عن الضحاك قال : يعني محمدا صلى الله عليه وسلم , وعليه يدل نزول الآية , والله أعلم . والوجه الآخر في غير الآية سرت حتى أدخلها , على أن يكون السير قد مضى والدخول الآن . وحكى سيبويه : مرض حتى لا يرجونه , أي هو الآن لا يرجى , ومثله سرت حتى أدخلها لا أمنع . وبالرفع قرأ مجاهد والأعرج وابن محيصن وشيبة . وبالنصب قرأ الحسن وأبو جعفر وابن أبي إسحاق وشبل وغيرهم . قال مكي : وهو الاختيار ; لأن جماعة القراء عليه . وقرأ الأعمش : " وزلزلوا ويقول الرسول " بالواو بدل حتى . وفي مصحف ابن مسعود : " وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول " . وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين , أي بلغ الجهد بهم حتى استبطئوا النصر , فقال الله تعالى : " ألا إن نصر الله قريب " . ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك وارتياب . والرسول اسم جنس . وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير , والتقدير : حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله , فيقول الرسول : ألا إن نصر الله قريب , فقدم الرسول في الرتبة لمكانته , ثم قدم قول المؤمنين لأنه المتقدم في الزمان . قال ابن عطية : وهذا تحكم , وحمل الكلام على وجهه غير متعذر . ويحتمل أن يكون " ألا إن نصر الله قريب " إخبارا من الله تعالى مؤتنفا بعد تمام ذكر القول .
قوله تعالى : " متى نصر الله " رفع بالابتداء على قول سيبويه , وعلى قول أبي العباس رفع بفعل , أي متى يقع نصر الله . و " قريب " خبر " إن " . قال النحاس : ويجوز في غير القرآن " قريبا " أي مكانا قريبا . و " قريب " لا تثنيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنثه في هذا المعنى , قال الله عز وجل : " إن رحمة الله قريب من المحسنين " [ الأعراف : 56 ] . وقال الشاعر : له الويل إن أمسى ولا أم هاشم قريب ولا بسباسة بنة يشكرا فإن قلت : فلان قريب لي ثنيت وجمعت , فقلت : قريبون وأقرباء وقرباء .
تفسير القرطبي