الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون:
في كل عامٍ نترقَّب هذا الشهر لنستريحَ من وعثاء الدنيا وصخَبها، ولتستروِح قلوبُنا وتبتلَّ نفوسُنا وقد ألحفَها جفافُ السنين، وأرهقَها عصفُ الحياة، يعود شهرُ الخير لتتصافحَ الأيادي المُتباعِدة، وتتصلَ الحِبالُ المقطوعة، وتنتهي حكاياتٌ من الشِّقاق غصَّت بها أروِقةُ المحاكم، وشقِيَت بها دوائرُ الأسر والأحياء والمجتمعات، ويؤذِّن حادي الصفح أن حيَّ على الصفاء، فتأتلِف القلوبُ المُتباينة وتجلو الأُخوَّة الإسلامية بأعظم رابطة، فتبدو الأُخوَّة في أكمل صُورها.
يعد شهرُ رمضان لتعودَ معه الذكريات الجميلات، ويفتحُ أبوابَ الفأل في حياة الأمة وقد غصَّت من الضياع والمُشكلات، وفي القلب غُصَّةٌ من الجراحِ الداميات، والنفوس المُزهقَات، ومن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم.
تتعلَّق فيه القلوبُ بشأن الدعاء، وتُعلِنه في كل ليلةٍ جهارًا شعيرةً من شعائر هذا الشهر العظيم، ويُسِرُّ به عبادُ الله في سجَداتهم وصلواتهم وهم يؤمنون أن الغيبَ بيد الله، وأن الأمر كلَّه بيده، وهو على كل شيءٍ قدير، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ[الأنعام: 18]، ويكون مشهدُ الدعاء من أبلغِ مشاهد هذا الشهر وأكثرها تأثيرًا، وقد قال - تبارك في اسمه - في ثنايا آيات الصيام: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[غافر: 60]، ولا غالبَ في هذه الأزمات إلا الله، فهو المُستعان وإليه المُلتجَأ وبه المُعتصَم، ففرُّوا إلى الله، وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[الحج: 78]، واصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[آل عمران: 200].
أيها المسلمون:
يعودُ شهر الصيام ويذكُر المسلمُ لجُوعه به جوعةَ إخوانه، فيقتطعُ من ماله دراهِم، ومنن طعامه لُقيماتٍ يُشارِك بها الجوعَى والمحرومين، ويُنمِّي بها فضيلةَ الإحسان إلى عبيد الله، ويشكر المُنعِم المُتفضِّل - سبحانه -، وأنت ترى الجوعَ يضربُ بعضَ الناس بقسوة، وما أرضُ الصومال عنا ببعيد.
فاستبِقوا الخيرات - أيها المؤمنون -، وتبوَّؤوا من الجنة الدرجات، فاليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، ومن خافَ يوم الحساب فليُطعِم جوعَة، ويسُدَّ خلَّة، وفي صفات أهل الجنة: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا[الإنسان: 8- 12]، وفي الأمن من يوم الفزع الأكبر يقول الحقُّ - سبحانه -: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[البقرة: 274].
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه الخير للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، واحفظ دينَهم وأعراضَهم وديارهم وأموالهم.
اللهم كن للمظلومين والمُضطهدين والأُسارى والمنكوبين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم انص المُرابِطين في أكناف بيت المقدس، اللهم اجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم إنا نسألك العفوَ والعافيةَ والمُعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم وفِّقنا للصالحات، وكفِّر عنا السيئات، وتقبَّل صلاتَنا وصيامَنا ودعاءنا، وصالحَ أعمالنا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.