يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-04-2011, 05:55 PM   رقم المشاركة : 1

 

خطبة المسجد الحرام - 1 رجب 1432 - الإعتصام بالكتاب والسنة سبيل النجاة - الشيخ أسامة خياط


الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحكمُ الحاكمين وأسرعُ الحاسبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله خاتمُ النبيين وإمام المرسلين وقائد الغُرِّ المُحجَّلين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -؛ فإن المرء لا يزالُ بخيرٍ ما اتقى الله وخالفَ نفسَه وهواه، ولم تُشغِله دنياه عن أُخراه.
أيها المسلمون:
حياةُ القلب وطُمأنينة النفس وسُمُوُّ الروح مطمحُ كل عاقلٍ، ومقصدُ كل لبيبٍ، ومُبتغَى كل أوَّاب، ومُنتهى أمل كل راغبٍ في حيازةِ الخير لنفسه، ساعٍ إلى خلاصها من أغلال الشقاء، واستنقاذها من ظلمات الحَيرة ومسالك الخيبة وأسباب الهلاك.
وإذا كان لكل امرئٍ في بلوغ ذلك وجهةٌ هو مُولِّيها وجادَّةٌ يسلُكها؛ فإن المُوفَّقين من أُولي الألباب الذين يسيرون في حياتهم على هُدًى من ربهم، واقتفاءٍ لأثر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لا يملِكون إلا أن يذكروا - وهم يلعقون الجراح، ويتجرَّعون مرارة الفُرقة، وغُصَص التباغُض والتقاتُل - لا يملِكون إلا أن يذكروا آياتِ الكتاب الحكيم وهي تدلُّهم على الطريق، وتقودُهم إلى النجاة.
حين تُذكِّرُهم بتاريخ هذه الأمة المُشرقِ الوضِيء، وتُبيِّنُ لهم كيف سمَت وعلَت وتألَّق نجمُها وأضاء منارُها، وكيف كان الرَّعيلُ الأول منها مُستضعفًا مهيبَ الجناح، تعصِفُ به أعاصيرُ الباطل، وترميه الناسُ عن قوسٍ واحدة، فآواه الله ونصرَه نصرًا عزيزًا مُؤزَّرًا، وأسبغَ عليه نعَمَه، وأفاضَ عليه البركات، ورزقَه من الطيبات، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26].
إنه إيواءٌ إلهي، وتأييدٌ ربَّاني من الله القوي القادر القاهر الغالب على أمره، تأييدٌ مُحقِّقٌ وعده الذي لا يتخلَّفُ لهذه الأمة بالاستخلاف في الأرض، والتمكين تبديل خوفها أمنًا إن هي آمنت بالله، وعمِلت الصالحات، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55].
ولا غَروَ أن يبلغ ذلك الرعيلُ الأول من التقدُّم والرُّقِيّ مبلغًا لم يسبِقه إليه ولم يلحق به أحدٌ عاش على هذه الأرض؛ لأن الإيمان دليلُه، ولأن الإسلام قائدُه، ولأن الشريعة المُباركة منهجه ونظامُ حياته، فاستحقَّ الخيرية التي كتبَها الله لمن آمنَ به واتبع هُداه، وتبوَّأ مقام الشهادة على الناس يوم القيامة، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143].
وإن آيات الكتاب الحكيم لتُذكِّرهم أيضًا أن الاستقامة على منهج الله واتباعَ رضوانه وتحكيم شرعه لا يكون أثرُه مُقتصرًا على الحَظوة بالسعادة في الآخرة ونزول جنات النعيم فيها فحسب؛ بل يضمنُ كذلك التمتُّع بالحياة الطيبة في الدنيا، وتلك سنةٌ من سُنن الله في عباده لا تتخلَّفُ ولا تتبدَّل، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]، وقال - سبحانه -: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 1- 3].
فحين تكون حَيدةُ الخلق عن دين الله، والجَفوة بينهم وبين ربِّهم بالإعراض عن منهجه؛ هنالك يقع الخلل، ويثور الاضطرابُ المُفضِي إلى فسادٍ وشرٍّ عظيم عانَت من ويلاته الأمم من قبلنا، فحلَّ الخِصامُ بينهم، واضطرَمت نارُ العداوة والبغضاء بعدما كانت المحبةُ والأُلفةُ تُظلُّهم بظِلالها، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14].
وهو خللٌ يتجاوز فسادُه وتتسعُ دائرتُه فتشمل الأرضَ والبيئةَ كلها، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
ذلك أن الصلة وثيقةٌ بين الكون وبين ما نأتي وما نذَر من أعمال، فإن مشَت على سَنَنٍ قويم وطريقٍ مستقيم بإدراك الغاية من خلق الإنسان، وتحقيق العبودية لله رب العالمين، والمُسارعة إلى مرضاته، والاستقامة على منهجه؛ فإن الله يُفيضُ عليهم من خزائن رحمته، ويُنزِّلُ عليهم بركاتٍ من السماء، ويُفيئُ عليهم خيرات الأرض، كما عبَّر عن ذلك نوحٌ - عليه السلام - في دعوته لقومه وحثِّه لهم على الإيمان بربهم والاستغفار لذنوبهم: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10- 12].
وقال - عزَّ اسمُه - في شأن المُعذَّبين من أهل القرى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
وتلك مساكنُ وآثار الذين ظلموا أنفسَهم بنبذ كتاب الله وراءهم ظِهريًّا، واتخاذهم أهواءهم آلهةً من دون الله، واتباعهم ما أسخط اللهَ، وكراهتهم رضوانه؛ فكانت تلك الديار مشاهِد عِظةٍ وذكرى لأولي الألباب، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45].
ولذا فإن أُولي النُّهى لا يملكون - وهم يسمعون نداء الله يُتلى عليهم في كتابه - إلا أن يُصيخوا ويستجيبوا لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ هي دعوةٌ تحيا بالاستجابة لها القلوب، القلوب التي لا حياة لها إلا بالإقبال على الله تعالى وتحقيق العبودية له، ومحبته وطاعته، والحذر من أسباب غضبه، وبمحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته، والاهتداء بهديه، وتحكيم شرعه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24].
فإنه - سبحانه - يحُول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الإيمان - كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - أي: فلا يستطيع أن يُؤمن ولا يكفر إلا بإذنه - عز وجل -.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده"، والنسائي وابن ماجه في "سننهما" بإسناد صحيح عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من قلبٍ إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإذا شاء أن يُزيغَه أزاغَه»، وكان يقول: «يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك»، قال: «والميزانُ بيد الرحمن يخفِضه ويرفعه».
فاتقوا الله - عباد الله -، واستجيبوا لله وللرسول، واذكروا أن ربكم قد ضمِن لمن اتبع هُداه وسار على منهجه أن يُؤتِيَه المجدَ ويُبلِّغه الرِّفعةَ التي تصبُو إليها نفسُه، فقال - عزَّ اسمُه -: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44]، وقال - سبحانه -: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10]؛ أي: شرفكم، ومجدكم، ومكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم، وفوزكم في الدنيا والآخرة.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن المؤمن حين يقفُ على مُفترق طرقٍ، وحين تُعرضُ عليه شتَّى المناهج؛ لا تعتريه حيرةٌ، ولا يُخالِجه شكٌّ في أن منهج ربِّه الأعلى وطريقه هو سبيل النجاة وطريق السعادة في حياته الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين.
وفي آيات الكتاب الحكيم مما قصَّ الله علينا نبأه في شأن أبينا آدم - عليه السلام - حين أُهبِط من الجنة بتأثير إغواء الشيطان وتزيين المعصية له أوضح الأدلة على ذلك، فأما المُتِّبعُ هُدى ربِّه فهو السعيدُ حقًّا، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123]، وأما المُعرِض عن ذكر ربه بمخالفة أمره وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبالأخذ من غيره فعاقبةُ أمره خُسره، ومعيشة ضنكًا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه: 124- 126].
إنها معيشةٌ يُصوِّر واقعَها الإمام الحافظُ ابن كثيرٍ - رحمه الله - بقوله: "أي: ضنكًا في الدنيا؛ فلا طمأنينة له، ولا انشراحَ لصدره؛ بل صدرُه ضيِّقٌ حرِجٌ لضلاله وإن تنعَّم ظاهرُه، ولبِسَ ما شاء، وأكل ما شاء، وسكنَ حيث شاء؛ فإن قلبه ما لم يخلُص إلى اليقين والهُدى فهو في قلقٍ وحيرةٍ وشكٍّ، فلا يزالُ في ريبه يتردَّد، فهذا من ضنك المعيشة". اهـ.
أعاذنا الله منها، ومن العمى بعد الهدى، وجعلنا ممن أنابَ إلى ربه وتابَ إليه فهدى.
فاتقوا الله - عباد الله -، واتخذوا مما جاءكم من ربكم من البينات والهُدى خيرَ عُدَّةٍ تبلغُون بها سعادةَ الآخرة والأولى.
وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى؛ فقد أمركم بذلك الربُّ - جل وعلا -؛ فقال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطغاة والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم التناد.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غير مفتونين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعَ سخطك.
اللهم احفظ المسلمين في جميع ديارهم، اللهم احفظهم في سوريا وفي ليبيا وفي اليمن، وفي جميع ديارهم وأمصارهم يا رب العالمين، وقِهم شر الفتن، اللهم قِهم شر الفتن، اللهم قِهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطَن، واحقن دماءهم، وألِّف بين قلوبهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 06-19-2011, 12:45 AM   رقم المشاركة : 2

 

خطبة المسجد الحرام - 15 رجب 1432 - الشيخ صالح بن حميد
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله من لجأ إليه بلَّغه فوق مأموله، ومن سأله أعطاه أكثر من سُوله، أحمده - سبحانه - منَّ على من تاب إليه وأنابَ بعفوه وغُفرانه وقَبوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مؤمنٍ بالله ورسوله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله بيَّن سبل الهدى وبلَّغ الدينَ كلَّه بفروعه وأصوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أقاموا شرع ربهم بكماله وشموله، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها المسلمون - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله - فلقد نطقَت الغِيَر بالعِبَر، فانظروا لخلاصكم قبل انقضاء أعماركم، واعتبِروا بمن مضى من القرون والأقران، وسلُوا القبورَ عن ساكنِيها، فالعاقلُ من راقبَ العواقبَ، ومن أخطأَته سهامُ المنيَّة قيَّده عِقالُ الهَرَم، ألا يكفي زاجرًا للمُقيمين مَن رحَل؟!
فإذا عزمتَ - يا عبد الله - على الخير فبادِر، فالموت يفصِمُ العُرى، وليس في الآخرة من عِوَض، وسكرانُ الهوى بعيدُ الإفاقة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 9- 11].
أيها المسلمون:
داءٌ وَبيل وشرٌّ خطير يُولِّد أعظمَ الشرور، ويُنتِج أشد المفاسد، كم أُدمِيَت به من أفئدة، وقَرَحت من أكباد، وقُطِّعت من أرحام، وقُتِّل من أبرياء، وعُذِّب مظلومون، وطُلِّقَت نساء، وقُذِفَت مُحصَنات، وانتُهِكت أعراض، وتفكَّكَت أُسَر، وهُدِّمت بيوت؛ بل كم قد أُوقِدت به من فتن، وأُثِيرت نعَرات على مستوى الأفراد والأُسَر والبلدان والأقاليم، ففسَدت العلاقات، وساءت الظنون، ولم يدَع مُقترِفُها هذا الداء للصلح موضعًا، ولا للوُدِّ مكانًا.
مرضٌ خطيرٌ من أمراض القلوب وآفات اللسان وأدواء المجتمعات، وعصرُنا في إعلامه واتصالاته ومواصلاته ساعَدَ على انتشاره وزاد في آثاره، هل عرفتم هذا الداء - عباد الله -؟!
إنه: مرض الوِشاية والسعاية وبلاءُ النميمة وقَالة السوء؛ نقلُ الكلام بين الناس على جهة الإفساد، وزرع الأحقاد، وبثِّ الضغائن، النميمةُ رأس الغدر، وأساسُ الشر، وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 10- 13].
صفاتٌ مُتواليات، ونُعوتٌ مُتتابعات، كل خصلةٍ أشد من الأخرى، حلاَّفٌ كثيرُ الحلِف؛ لأنه يعلم من نفسه عدم صدقه وشك الناس فيه وانتزاع الثقة منه، مَهينٌ حقير ولو بدا نظيرَ الهيئة بهيَّ الطلعة؛ لأنه لم يُكرِم نفسَه في داخله، ولم يقدُر الناسَ، والمهانة صفةٌ نفسية تلصقُ بالمرء ولو كان ذا جاهٍ أو مالٍ أو جمال.
همَّازٌ غمَّاز باللَّحَظ واللفظ والإشارة والحضور والغَيبة.
منَّاعٌ للغير عن نفسه وعن غيره، مُعتدٍ مُتجاوزٌ للحق والعدل والإنصاف، فضلاً عن أن يكون من أهل الإحسان ونشر الخير والمحبة.
أثيمٌ واقعٌ في المحرمات، والغٌ في المعاصي، عُتُلٌّ فظٌّ قاسٍ مكروهٌ ولو بدا فيه لُطفٌ مُتصنَّع ورقَّةٌ مُتكلَّفة، زنيمٌ شرير يحبُّ الإيذاء ويستمتعُ ببذل الشر وزرع الأحقاد.
النمَّام - معاشر الأحبة - ذو الوجهين يُقابِل هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، مُتلوِّن حسب المواقف والمصالح، ما دفعَه إلا عداوةٌ وبغضاء، أو مُشاركة أصحاب السوء ورفاق الرذيلة، أو حب التحدُّث أو التزيُّن في المجالس بأعراض الناس، أو إرادة السوء بمن حكَى عنهم ووقع فيهم.
الواشي ينسى نفسَه ويشتغل بعيوب غيره، إن علِم خيرًا أخفاه، وإن درَى بشرٍّ أفشاه، وإن لم يعلَم هذا ولا ذاك امتطَى مطيَّة الكذب، وبئس مطيَّة الكذب: زعَموا.
الواشُون والنمَّامون باعوا دينَهم بدنيا غيرهم، ورضا الناس بسخَط الله، تملَّكوا الناس ولم يخافوا الله، لا يألون الأمةَ خسفًا، والأمانةَ تضييعًا، والأعراض انتهاكًا وتقطيعًا.
النمَّام لسانُه حلو وقلبه يلتهِب، يُفسِد في ساعة ما لا يُفسِده الساحر في سنة، لا يعرف للشهامة سبيلاً ولا للمروءة طريقًا، كم حمل هذا النمَّام من الأوزار والآثام والخطايا، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «لا يدخل الجنةَ نمَّام»؛ متفق عليه من حديث حذيفة - رضي الله عنه -.
وقد مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال: «إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير؛ بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتِرُ من البول»؛ متفق عليه.
وفي الحديث عند مسلم: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنبِّئكم والعَضْه؟ هي النميمة القالَة بين الناس».
وفي الحديث الآخر: «تجدُ من شر الناس عند الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ».
ويقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: "النمَّامُ شر خلق الله".
وقد أجمعت الأمة على تحريم النميمة؛ فهي من أعظم الذنوب والكبائر، وفي الحديث: «شرُّ عباد الله المشَّاؤون بالنميمة، المُفرِّقون بين الأحبة، الباغون للبُرآء العَنَت»؛ أخرجه أحمد.
معاشر الإخوة:
النميمة مبنيةٌ على الكذب والحسد والنفاق، وهذه أثافِيُّ الذل، وكفى بذلك قُبحًا وذمًّا وسوءًا.
النميمة من شر ما مُنِيت به الفضائل ورُزِئَت به العلاقات، والنميمة - وقاكم الله - تكون بالقول وبالكتابة وبالرمز وبالإشارة وبالإيماء.
معاشر الإخوة:
والنميمة تقعُ بين الأُسَر والأزواج، تُضرِمُ النار في البيوت العامرة، وتنشر الفُرقة في الأُسَر الكريمة، تُوغِر الصدور، وتُقطِّع الأرحام، وتقعُ في الموظَّفين والمسؤولين وأصحاب الأعمال بقصد إلحاق الضرر والحرمان من المُستحقَّات المالية والوظيفية.
وليَحذر الكبراء والوُجهاء والعلماء من بعض الجُلساء ممن قلَّت ديانتُه، وضعُفَت أمانتُه، الذين يُرضون الناسَ بسخط الله، فعلى هؤلاء الفُضلاء الكُرماء التثبُّت فيما يُنقَل، والتمحيصُ فيما يُقال، حتى لا تُبسَط أيدي، وتقوى أطماع، ومن ثمَّ تحُلُّ العقوبة بالأبرياء، وتُؤكَل أموال الضعفاء.
ومن أهم ما يجب التنبُّه إليه، والتحذير منه، والتمعُّن فيه: ما تتناقَله وسائل الإعلام، وما يكتُبه بعضُ الكاتبين من: قالَ فلان، وأخبر فلان، ورأى فلان.
ومن ذلك: ما تُمارِسُه بعض وسائل الإعلام وشبكات المعلومات والاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي فيما يُعرف بالتعليقات والتحريرات والأخبار والمتابعات والأحداث، فهي لا تخلو من وِشاية وسِعاية وتحريفٍ على جهة الغمز واللمز والطعن المُباشر وغير المباشر مما يُثير الفتن، ويُثير النعَرات الإقليمية والمذهبية والسياسية في أكاذيب وأراجيف وظنونٍ لا تقِف عند حد.
وفي أيام الحروب والفتن واضطراب الأحوال وظروف الشائعات يعظُم الأمر ويشتد الخَطب، مما يدعو إلى مزيدٍ من الحيطة والحذر والتحرِّي، ناهيكم بما تبلُغه هذه الكلمات والتعليقات المُبطَّنة بالوشاية والنمنمات تبلغه في أصقاع الدنيا وآفاقها وقد ركِبت القاعدة الظالمة:الغاية تُبرِّر الوسيلة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
معاشر المسلمين:
ومن حُمِلت إليه النميمة، أو بلَغته الوِشاية، أو حضر مجلس نمَّام، أو سمِعه فينبغي ألا يُصدِّقه، فإنما هو فاسق، وقد قال - عز شأنه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6]، كما يجبُ بُغض هذا المسلك والنفرة منه، فهو معصيةٌ من أكبر المعاصي، وكبيرةٌ من كبائر الذنوب.
والأجمل بالمسلم والأجدر ألا يُسيءَ الظنَّ بأخيه الذي نُقِل عنه الكلام، ثم إذا سمِع كلامًا أو بلغه حديث فلا يتجسَّس ولا يتتبَّع، وليحذَر أن يكون نمَّامًا ليحكي ما بلَغه وينقُل ما سمِعه.
ومن قبل ذلك وبعده فليتق الله ولينصَح وليُنكِر بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فالخطر عظيم، والأثر جسيم، نصحًا لإخوانه، وحبًّا لهم، وشفقةً عليهم، فيسعى في كل ما يُؤلِّف القلوب، ويجمع الكلمة، ويحفظ المودة، وينبذ الفُرقة، ويُجنِّب البغضاء.
فاحذروا - رحمكم الله وعافاكم -، ومحِّصوا وتحقَّقوا، ولا تتعجَّلوا، واعفوا واصفَحوا واغفروا واسمعوا وأطيعوا.
سعى رجلٌ إلى عليِّ - رضي الله عنه - برجلٍ، فقال عليٌّ - رضي الله عنه -: "يا هذا! إن كنتَ صادقًا فقد مقتناك، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن شئتَ الإقالَة أقلناك"، فقال: أقِلني يا أمير المؤمنين.
وسعى رجلٌ بالليث بن سعد إلى والي مصر، فبعث الوالي إلى الليث، فلما دخل عليه قال الوالي: يا أبا الحارث! إن هذا أبلغني عنك كذا وكذا، فقال الليث: "سَلْه - أصلح الله الأمير - عما أبلَغَك: أهو شيءٌ ائتمنَّاه عليه فخاننا فيه فما ينبغي أن تقبَل من خائن، أو شيءٌ كذبَ علينا فيه فما ينبغي أن تقبَل من كاذب"، فقال الوالي: صدقتَ يا أبا الحارث.
وجاء رجلٌ إلى وهبِ بن مُنبِّه فقال: إن فلانًا يقول فيك كذا وكذا، فقال: "أما وجدَ الشيطانُ بريدًا غيرَك؟!".
وبعد، عباد الله:
فكم جرَّت هذه الصفةُ الذميمة على كثيرٍ من الأبرياء والغافلين طاهري القلوب سليمي الصدور، كم جرَّت من مآسٍ، وكم قضَت على أنفُس، وسلَبَت من أموال، وشتَّتت من أُسَر، وأوقعَت من علماء، وأخرجَت من ديار، وجلَبَت من مِحَن، واغبرَّت بصالحين مُطمئنين، وحرَمت أطفالاً وأمهاتٍ من أُسرهم وأهليهم، قطَّعت أرزاق ومنَعت نفقات بدون جنايةٍ اقترفوها؛ بل بوشايةٍ كانوا ضحيَّتها.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، فكم هي نعمةُ الله على عبده ألا يكون ممن يحسُدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فيعصِمه الله من النميمة، ويحفظه من الوشاية، ويحميه من قالَة السوء، ومن أراد السلامة فليجتنِب كثرة الكلام، وإفشاء الأسرار، وقبول مقالات الأقوام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة: 1- 9].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وهو بالحمد جدير، أحمده - سبحانه - وأشكره على فضله العميم وخيره الوفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشير النذير والسراجُ المُنير، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله ذوي القدر العليِّ وأصحابه أولي الشرف الكبير، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن على طريق الحق يسير، وسلَّم التسليم الكثير.
أما بعد:
فإخوانك - أيها المسلم - من إذا فارقتَهم حفِظوك، وإذا غِبتَ عنهم لم يَعيبوك، ومُبلِّغك الشر كباغيه لك، ومن أطاع الواشي أضاع الصديق، ومن نمَّ لك نمَّ عليك، ومن بلَّغك السبَّ فقد سبَّك، وشرٌّ من الساعي من أنصتَ إليه، ولو صحَّ ما نقلَه النمَّامُ إليك لكان هو المُجترئَ بالشتم عليك.
أما من نُقِل عنه الكلام فهو أَولَى بحلمِك وصفحِك؛ لأنه لم يُقابِلك بالسوء والشتم، ويكفيكم في ذلك: قول نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُبلِغنَّ أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإني أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سليمُ الصدر»؛ أخرجه أحمد.
فالعاقلُ يُغضِي عما ينقلُه الوُشاة، ويتحاشَى عما لا يليقُ بأهل العقل والحكمة؛ إذ عند التأمُّل والنظر ترى أن قصد النمَّام إلى المُخبِر أكثرُ من قصده إلى المُخبَر به، فاللومُ على من أعلَمك لا من كلَّمك.
قيل لأم الدرداء - رضي الله عنه -: إن رجلاً نالَ منكِ عند عبد الملك بن مروان، فقالت: "إن اتُّهِمنا بما ليس فينا فطالما زُكِّينا بما ليس فينا".
على أنه من نُقِل إليه من أخيه نميمة فلا مانع أن يُعاتِبه على الهَفوة، ويقبَل عُذرَه إذا اعتذَر من غير تعنيفٍ في العِتاب، ومن ثمَّ توطين النفس على الإكثار من الشكر عند الحِفاظ والصبر عند الضياع، والرفقُ بالجاني عِتاب، والصفحُ من شِيَم الأحرار.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وحافِظوا على أُخوَّة الإسلام ورابطة الإيمان، فمن أراد أن يسلم من الإثم ويبقى له وُدُّ الإخوان فلا يقبَل قولَ أحدٍ في أحد، فقد أحبَّ قومٌ بقول قوم وأبغضوهم بقول آخرين فأصبَحوا على ما سمعوا نادمين.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - عزَّ شأنُه، وهو الصادق في قيله - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الأئمة الحُنفاء المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانهم وأعوانهم لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رشدٍ يُعَزُّ فيه أهل الطاعة، ويُهدَى فيه أهل المعصية، ويُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم وابسُط عليهم أمنَهم، واجمع كلمتَهم، واكشف كربَهم، وأزِل غمَّهم، وطيِّب معاشَهم، وأرخِص أسعارهم، واحفظهم بحفظك، واكلأهم بعنايتك يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين، فإنهم لا يُعجزونك، اللهم أنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 07-01-2011, 06:24 PM   رقم المشاركة : 3

 

خطبة الجمعة 22/7/1432 من المسجد الحرام


الغيرة على الأعراض

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الغيرة على الأعراض"، والتي تحدَّث فيها عن الأعراض وكيف حافَظت عليه الشريعةُ المُطهَّرة، والسبل التي اتخذَتها وقايةً من انتهاكها، وحذَّر من فتنة النساء وانتشارها، ونبَّه إلى عدم الاستماع لأقوال المُحرِّرين للمرأة من دينها وعفافها، مُشيرًا إلى المخاطر التي يتسبَّب فيها الاختلاط بين الرجال والنساء.


الخطبة الأولى

الحمد لله أسبغ علينا نعمًا لم تزَل تترى فِياضًا، أحمده - سبحانه - وعدَ عبادَه المُتطهِّرين جناتٍ ألفافًا عِراضًا، فطُوبى ثم طُوبى لمن صانَ لمحارمِه أعراضًا، وأعرض عن الدنايا إعراضًا، الحمد لله حمدًا زاكِيَ الأثر، مُردَّد الذكر بالآصال والبُكَر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نسمو بها مقاصد وأغراضًا، وثباتًا على التُّقى وحِفاظًا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله بعثَ اللهُ به العفافَ والطُّهرَ بعد أن غاضَا، صلَّى عليه الباري وعلى آله الطاهرين الطيبين الداعين إلى المكارم فِعالاً وألفاظًا، وصحبه الأُلَى نشروا الفضائل في العالمين وألظُّوا بذلك إلظاظًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ يرجو من المنَّان شرابًا طهورًا وحِياضًا، وسلَّم تسليمًا مباركًا إلى يوم الدين ما تعاقبَ الملَوانَ وآضَا.
أما بعد، فيا عباد الله:
أنفسُ ما يُنحَلُ من الوصايا المُنجِحات والعِظات المُبهِجات: تقوى الله - عز وجل - ربِّ البريَّات، فالتقوى - رحمكم الله - لصيانة المحارم أوثقُ العُرى، وأغنى غناء لمن رامَ من المكارم الذُّرَى، وأعظمُ الزاد للشرف سَيرًا وسُرًى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة: 197].

بُشرى لمن زُوِّد التقوى لمُنقلبٍ حيَّاه مُدَّخرٌ فيه ومُطَّلَعُ

أيها المسلمون:
قصدَت شريعتُنا الغرَّاء تحقيق أعظم المصالح وأسنى المقاصد، وتزكية النفوس دون البوائِق والمفاسد، فصاغَت مجتمعًا شريفًا أَنوفًا للآفات والمُحرَّمات عَيُوفًا، وعن مساقط الأدران عَزوفًا، وبذلك قادَت أمتُنا المباركةُ حفظَ الأعراض بزمام، وبلغت من الذَّود عن المحارم الذِّروة والسَّنام، ومن ثَمَّ أذهَلت العالمين سلسال العفاف بعد الأُوام، يقول الملك العلاَّم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ[آل عمران: 110].
ومن تلك الخيرية الزكيَّة: أن جعل الديَّانُ انتهاكَ الأعراض قرينَ الشرك وقتل النفس المعصومة، يقول - جلَّ اسمه -: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا[الفرقان: 68]، فالمؤمنُ الغَيور يُؤثِر الموتَ على أن يرِد من الخَنا أكدار، والفوتَ اختناقًا على أن يتنسَّم أقذَار؛ بل إن خُدِشَ عِرضُه أبرقَ حميَّةً وثار، وأرعدَ واستثار، وكان كالقسورة إن دِيسَ عَرينُه أو وُسِم عِرنينُه، إنها الغيرةُ الإسلامية، والنخوة الإيمانية التي ملأت عليه وجدانَه ونفسَه، وفِكرَه وحِسَّه.
في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ يَغار، والله أشد غيرة»، وفي رواية: «وغيرةُ الله أن يأتي المؤمنُ ما حرَّم الله عليه»؛ رواه البخاري ومسلم.
إخوة الإيمان:
وفي هذا العصر الطافح - مع شديد الأسى اللافِح - عمَّ التفريطُ في أرسان العِفَّة والحياء والتصوُّن والإباء، ونهَضَ أقوامٌ خلف سراب التحرُّر - بلْهَ ضِرام الإغراء -، وأرخى كثيرٌ من الآباء والأزواج لمحارمهم الزِّمام، فلاطَفَت المرأةُ الرجلَ ومازَحَت، وتساهَلت في صيانتها وتسامَحت؛ بل في كثيرٍ من المجتمعات هتَكَت الحياء، فكشَفَت عن مواطن الفتنة والإغراء دون حرجٍ أو إغضاء، وما درَت أنها تُحاربُ المجتمع بسلاح الإثارة، وتُزنِقُ النفوسَ في أودية الغواية وحمأة الخطيئة.
وفي مُوازي ذلك تمُدُّ أوابدُ من البشر المُفترسة، وسباعٌ من الإنس الضارية حبائلَ التحرُّش وخُدع الإغواء لإيقاع الأنفس الطاهرة في الغيِّ الدنيء، والمُستنقَع الآسِن الوبِيء، وإرغام شُمِّ المعاطِس بتدنيس شرفهم النقي وعِرضهم السنِيّ.
إنها النَّزوات الطائشات والخيانات الهاصِرات التي قوَّضت حصنَ الأعراض، وكانت عن الغيرة في جفاءٍ وإعراض، خصوصًا في الإجازات عند المُنتجعات والسياحات، هنالك وهناك.
أصونُ عِرضي بمالي لا أُدنِّسُه لا بارَكَ الله بعد العِرضِ بالمال

لأن اكتساب المال لصيانة الأعراض لا لابتذالها، ولعِزِّ النفوس لا لإذلالها.
ربَّاه ربَّاه! أين فوارس الحياء والحِشمة، أين لُيوث الشَّرف والعصمة؟! وا حرَّ قلباه إن تبلَّد الإحساس وهانت المحارم لدى الناس.
أيها المسلمون، أيها الشُّرفاء الغُير:
هنا تُزمجِرُ الحروف، وتصطرخُ الكلمات، وتتفجَّرُ العبارات، وتتفجَّر شآبيبُ العَبَرات حيالَ اغتصاب العِرض والشرف، وما جرَّ من كمدٍ وأسف؛ فكم من فتاةٍ فرَّطت في خَفرها فانطفأ سَناؤها؟ وكم من مُراهِقةٍ أغراها أغلفُ القلب صفيقُ الشعور فتحطَّم إباؤها؟ وكم من نفسٍ وادِعة اجتُثَّ صفاؤها؟ وكم من أُسرٍ هانئة مُزِّق هناؤها؟
فكانت الحسرات والجراحات، والحروقات والنشَّجات، إن غَيمةً واحدة قد تحجُب شمسَ السعادة أبدًا؛ فكيف بهاتيك الصواعق والرُّهوب.
يا هاتكًا حُرُم الرجال وسِتـرَهم قد عِشتَ غير مُكرَّمِ
عِفُّوا تعِفُّ نساؤكم في المَحرَمِ وتجنَّبوا ما لا يليقُ بمسلمِ


ويا سبحان الله! عباد الله:
أغاضَت ينابيعُ الغيرة في القلوب، وغدَت جذوةُ النَّخوة في هُفولٍ ولُغوب؟! وبأخرةٍ تتكسَّر النِّصالُ على النِّصال، في افتراسِ القاصِرات، تلكم الزَّهرات الزاهِرات، العَبَقات الناصِعات.
ووايْمُ الله! لئن كان سارق المال مجرمًا؛ فإن سارق الأعراض رأسُ الجُناة وأكبرُ المجرمين، وما شرع الله الزواجِر والحدود إلا لتطهير المجتمعات من كل غويٍّ لَدود، ولانزجار النفوس عن شُؤم تلك الجريمة الباتِكة الأليمة كانت العقوبة على سمع المؤمنين وبصرهم، يقول الحق - تبارك وتعالى -: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[النور: 2].
معاشر المسلمين:
وصَوبَ هذه القضية التي انداحَ ضررُها واستحَرَّ خطرُها لزِمَ كشفُ الشُّبهة والمِرية، ودحضُ المُغالَطة والفِرية، وذلكم - يا رعاكم الله - أن فِئامًا عدُّوا حفظَ المكارم وصَون المحارم من لدن الأُباة تنكُّرًا لطبيعة الرُّقِيِّ في الحياة، ووأدًا للطموحات وتقدُّم المجتمعات، واتهامًا للنوايا البريئات؛ بل هو ببُهتهم شِنشِنةُ مادَت وبادَت.
والتأكيدُ على حجابِ المرأة وسِترها رأوه هضمًا لحقِّها، وحكمًا برِقِّها، يا لله والله أكبر؛ آلدعوة إلى حماية الشرف على هدي خير السلف معرَّةٌ تُدفَع ومسبَّةٌ تُرفع؟! يُهاجمُها المأفونون دون بأسٍ وخجَل، أو استفظاعٍ ووجَل، يُعزّزُ أهواءَهم أقلامٌ مسمومة تُروِّجُ لإبراز الوضيعات ووصف الوَضاعات، وتأجيجِ الشهوات والنزوات التي تدُكُّ معاقلَ النخوة والرجولة، وتبُكُّ الحفيظةَ والبطولة، وما ذلك إلا سقوطٌ بالفطرة العفيفة، وارتكاسٌ بالأخلاق الشريفة، وتمرُّدٌ على أحكام الديَّان وشِرعة الرحمن.
ألا ليتَ شِعري يا أمة النخوة والإباء؛ لئن أُصيبت الغيرةُ على الأعراض بخدشٍ أو مِقراض ونحن عُصبةٌ أيقاظ إنا إذًا لخاسرون، إنا إذًا لخاسرون، وغدًا لنادمون!!
وفي ديوان الحِكَم المأثورة: "الذبُّ عن الشرفِ والعِرض أربَى من الذِّيَاد عن الحِمَى والأرض، ومن أحبَّ المكارم غارَ على المحارم".
إذا المرءُ لم يَدنَس من اللُّؤمِ عِرضُه فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ
وإن هو لم يحمِلْ على النفس ضَيمَها فليس إلى حُسن الثناء سبيلُ

أيتها الأخوات الشريفات، والحرائرُ المَصونات العفيفات:
يا من أعزَّكنَّ الله بالحجاب، وشرَّفكنَّ بالسِّتر والجلباب! تمسَّكن بحجابكنَّ، اللهَ اللهَ في حيائكنَّ وعفافكنَّ، اعلَمن - يا رعاكنَّ الله - أن صحوةَ المرأة الحَصان الرَّزان المُنبثِقَة عن مشكاةِ الشرع الحنيفِ ومقاصِده الكلية وقواعد المرعيَّة العليَّة هي التي تقود من مسيرة الفضيلة والذكاء مراكبها، وتتصدَّرُ من الدعوة للطُّهر والنقاء مواكِبها، يقول - عز وجل -: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى[الأحزاب: 33].
إنه لعَمرُ الحق الخُلُق الحيِيُّ الرفيعُ الخفِرُ البديع لما يجبُ أن يكون عليه الأوانِسُ الطاهرات، والنساءُ الفُضليَّات، حفظًا لفطرتهنَّ النفسية، ولطائفهنَّ الوجدانية، وتحقيقًا للفوز والحياة، والعصمة والنجاة.
وبعدُ، أمة الإسلام:
ألا فلنحذَر على عِفَّتنا وعِزَّتنا وغيرتنا وكرامتنا من أحلاسِ الغريزة الخَسيسة، والنَّزوات الخبيثة التعيسة، التي تفتِكُ بالأمن والاطمئنان، وتُثيرُ الأضغانَ في المجتمع والعُدوان، لذلك يقول المُجتبى - عليه الصلاة والسلام -: «فإن الله قد حرَّم عليكم دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم»؛ خرَّجه الإمام أحمد في "مسنده".
فجمع في التحريم بين الدم والعِرض لِما فيه من إيغار الصدور وإثارة الأعداء للشرور، هذا وإن أهل الحِفاظ على الأعراض لا يرُومون لأمتهم إلا الحياةَ الفاضلةَ النظيفة والعِيشَة الرضيَّة الشريفة، فضلاً من الله ومنّة، لا باكتسابٍ منَّا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[الأحزاب: 59].
بارك الله في الجهود، وحقَّق أجلَّ المُنَى وأسنى القُصود، إنه غفورٌ ودود، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا.


الخطبة الثانية

الحمد لله على ما أسدَى من النِّعم، أحمده - سبحانه - حثَّ على حفظ الأعراض من بوائِق الغَشَم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أجزلَ لأهل العفافِ المثوبَة والكرَم، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله البالغُ من الطُّهر شُمَّ القِمَم، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه الأندَى من زَهر الأكَم، ذوي المناقِب السنيَّة والشِّيَم، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وصُونوا الأعراض عن الرِّيَب والتُّهم، تبلُغوا من الشرف المَروم أسنى القِسَم، ومن تولَّى بعدُ فقد زاغَ وظلَم.
أيها المسلمون:
ومن الرِّماح الهاتِكة لحِمَى العفاف والاحتشام: الدعوةُ إلى الاختلاط المحرَّم بين الإناث والذكور الباعِث على الشرور والثُّبور دون إنكارٍ أو اعتراض، أو توجيه من الآباء أو امتعاض، وكون ذلك - بزعمهم - من الثقة المحمودة الآثار، ولكن هيهات هيهات! لا يصحُّ ذلك إلا لدى الأغمار، فخضراءُ الدِّمَن شرَكُ الفتن ومهوَى الحسرة والنَّدَم، يقول - عليه الصلاة والسلام -: «ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرَّ على الرجال من النساء»؛ متفق عليه.
وبحسب غيرةِ الأبَوين يكون الأبناءُ شجًى في الحلق أو قُرَّةً للعين، أما منبتُ الدنايا ومسرحُ الرذائلِ والدنايا التي ترشُقُ الشرفَ والحشمةَ بمُدمِّر الشظايا: فوسائلُ الاتصالات، وأجهزةُ التِّقانات، وأعمدةُ المقالات والكتابات، وقنواتُ الفضائيات وشبكاتُ المعلومات التي أجَّجَت الغرائز وألهَبَت الشهوات، وا لهفَتاه كم استطالَت وعتَت وأتَت من عقرِ الأعراض ما أتَت، حتى رمَت عفافَ الأمة عن قوسٍ واحدة، على حدِّ قوله - سبحانه -: أَتَوَاصَوْا بِهِ[الذاريات: 53].
فيا هؤلاء وأولئك من الوالِغين في أعراض المسلمين: كُفُّوا عن أعراض الأمة جُشاءَكم، ويا ليتَ هذا السباقَ المحموم، والتكالُب المذموم، والتباكِيَ المزعوم على قضايا المرأة سُخِّر في نُصرة قضاياها الكُبرى، والمُطالبة بحقوقها العُظمى، والانتصار لها، ورفع الظلمِ الواقعِ عليها في شتى المجالات.
فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإلى الله المُشتكى، وهو حسبُنا في شرف المسلمين وأعراضهم وكفَى.
وأخيرًا: إخوة الإيمان:
فإنه للقضاء على داء انتهاك الأعراض، أو التحرُّش بالشريفات العفيفات لزِمَ الحثُّ على الزواج والتيسير في المهور؛ لأن الإحصانَ هو الحل الإسلامي الرشيد والمنهجُ الشرعي السديد لقضية الغرائزِ والطِّباع التي تُبرَمُ في اندفاع، مع امتثال أمر الحق في رعاية الشباب والفتيات، وصونهنَّ عما يوردهنَّ المهالك والفوادِح الحوالِك، فإنهنَّ ربَّات الخُدور، وباعِثاتُ الشرفِ والفخرِ والسرور، ومحاضنهنَّ الأسريَّةُ البَرَّة مِهادُ الرضا والخيرُ الموفور، فاعتبِروا يا أولِي الأبصار، فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[الحج: 46].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على النبي الكريم، ذي المحتدِ الكريم والأصل الفخِيم، كما أمركم المولى العظيم في الذكر الحكيم، فقال - جلَّ في عُلاه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
عليه صلاةُ ربِّ العرش تندَى كما تندَى الرياضُ بكل فجرِ
يُواصِلُ عَرفُها آلاً وصحبًا كأنَّ ثناءَهم نفحَاتُ زهرِ

اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المُهداة، والنعمةِ المُسداة: نبيِّنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأدِم الأمن والاستقرار في ديارنا، وأصلِح ووفِّق أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمَين الشريفين، اللهم وفِّقه للبِطانة الصالحة التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم اجمع به كلمةَ المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد.
اللهم وفِّق جميع ولاة المسلمين، اللهم اجعلهم لشرعك مُحكِّمين، ولأوليائك ناصِرين يا رب العالمين.
يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال، برحمتك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأننا كلَّه.
اللهم أحسِن عاقِبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اكشِف الغُمَّة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم أصلِح أحوال الأمة في كل مكان، اللهم احفظ دينَهم وأنفسهم، واحقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أموالَهم وأعراضَهم يا حي يا قيوم.
اللهم من أرادنا وأراد ديننا وأمنَنا وأعراضَنا بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه تدميرَه يا سميع الدعاء.
اللهم انصر إخواننا المُضطهدين في سبيلك، المُضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المُستضعفين والمُضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم عجِّل بفَرَجهم يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10].
سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 07-02-2011, 03:24 PM   رقم المشاركة : 4

 

خطبة الجمعة 29/7/1432 من المسجد الحرام بمكة المكرمة


تأملات في معنى التشهد

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "تأملات في معنى التشهد"، والتي تحدَّث فيها عن شرح وتفسير معاني التشهد في الصلاة، وبيان السنن الواردة والأدعية المأثورة في آخر الصلاة قبل السلام.


الخطبة الأولى

إن الحمد لله وله بعد الحمد التحايا الزاكيات، وهو المستعان فمن غيرُه يُرتَجى عند الكروب ودَهم المُلِمَّات، وعليه التُّكلان فحسبُنا الله وهو حسبُ الكائنات، وأشهد أن لا إله إلا الله وله تُزجَى كل تحية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المجبولُ على أكرم سجيَّة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وذريته أكرم ذرية، وعلى صحابته ذوي النفوس الرضيَّة، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجليَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
من اتقى الله وقاه، وكفاه وأسعدَه وآواه، وتقوى الله خيرُ الزاد ذُخرًا، وعند الله لأتقى مزيد.
أيها المسلمون:
مُذ كان الأدبُ في الناس والناسُ يكسُون به فِعالَهم وكلامَهم عند مخاطبة العظماء ومُلاقاتهم، وخيرُ الناس خُلُقًا أحسنُهم أدبًا، ودينُ الإسلام يُعلِّمنا في الصلاة التي هي عمود الدين وشرفُ العبادات لله رب العالمين أن نتوسَّل إلى الله بأجمل التحايا، وأن تلهَجَ ألسنتُنا بأطيب العبارات وأزكى الكلمات، ومن أعظمُ من الله، ومن أكرمُ منه - جلَّ في عُلاه -؟!
وتأمَّل كيف تتحرك جميعُ أعضاء المُصلِّي وجوارحُه في الصلاة عبوديةً لله خشوعًا وخضوعًا، فإذا أكملَ المُصلِّي هذه العبادة وقبل أن يُسلِّم انتهت حركاتُه، وختمَها بالجلوس بين يدي الرب تعالى جلوسَ تذلُّل وانكسار وخضوعٍ لعظمته - عز وجل - كما يجلسُ العبدُ الذليلُ بين يدي سيده.
وجلوس الصلاة أخشع ما يكون من الجلوس وأعظمُه خضوعًا وتذلُّلاً، فأُذِن للعبد في هذه الحال بالثناء على الله - تبارك وتعالى - بأبلغ أنواع الثناء، وهو: التحيات لله والصلوات والطيبات.
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا إذا جلسنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قُلنا: السلامُ على الله من عباده، السلامُ على فلان وفلان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا: السلامُ على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلامُ عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتُم أصابَ كلَّ عبدٍ صالحٍ في السماء أو بين السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخيَّرُ من الدعاء أعجبَه إليه فيدعو به»؛ رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون:
من عادة الناس إذا دخلوا على ملوكهم أن يُحيُّوهم بما يليقُ بهم تعظيمًا لهم وثناءً عليهم، واللهُ أحقُّ بالتعظيم والثناء من كل أحدٍ من خلقه، وفي التشهُّد يجمعُ العبدُ أنواعَ الثناء على الله - عز وجل - وأجمل عبارات الأدب والتحية، والتحيات جمع تحية، والتحية هي التعظيم، فكل نوعٍ من أنواع التحيات الطيبة فهو لله، والتحياتُ على سبيل العموم والكمال والإطلاق لا تكون إلا لله - عز وجل -، وهو - سبحانه - أهلٌ للتعظيم المُطلق، فالعظمة والملكُ والبقاءُ لله.
والصلواتُ؛ أي: والصلوات لله، وهو شاملٌ لكل ما يُطلَق عليه صلاةٌ لغةً أو شرعًا من الدعاء والتضرُّع والرحمة، فالصلواتُ كلها لله، لا أحد يستحقُّها سواه، والدعاءُ أيضًا حقٌّ لله - عز وجل -، كما قال - سبحانه -:وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[غافر: 60].
فكل الصلوات فرضُها ونفلُها لله، وكل الأدعية لله.
والطيبات: هي الأعمال الزكية، ما يتعلَّقُ بالله وما يتعلَّقُ بأفعال العباد؛ فما يتعلَّق بالله فإن له من الأوصاف أطيبَها، ومن الأفعال أطيبَها، ومن الأقوال أطيبَها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا»؛ أخرجه مسلم.
فهو - سبحانه - طيبٌ في كل شيء، في ذاته وصفاته وأفعاله.
وله أيضًا من أعمال العباد القولية والفعلية الطيب؛ فإن الطيب لا يليقُ به إلا الطيب، ولا يُقدَّمُ له إلا الطيب، وقد قال - عزَّ اسمُه -: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[النور: 26]، فهذه سنةُ الله - عز وجل -، لا يليقُ به إلا الطيبُ من الأقوال والأفعال من الخلق،إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[فاطر: 10].
فكانت الطيبات كلها له ومنه وإليه، له مُلكًا ووصفًا، ومنه مجيئُها وابتداؤها، وإليه مصعَدها ومُنتهاها.
ولما أتى بهذا الثناء على الله تعالى التفَت إلى شأن الرسول الذي حصل هذا الخيرُ على يديه فسلَّم عليه أتمَّ سلامٍ مقرونًا بالرحمة والبركة، فيقول المُتشهِّد: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»، والسلامُ اسم الله - عز وجل -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله هو السلام»؛ رواه البخاري. وقال - عز وجل -:هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ[الحشر: 23].
فيكون المعنى: أن الله تعالى يتولَّى رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بالحفظِ والكلاءة والعناية.
والسلام أيضًا بمعنى: التسليم، كما قال - عز وجل -:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56] فهو دعاءٌ وتحية.
ثم يُسلِّمُ المُتشهِّد على نفسه وعلى من معه من المُصلِّين والملائكةِ الحاضرين، وقيل: بل جميعُ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بقوله: «السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وعبادُ الله الصالحون: هم كل عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض من الآدميين والملائكة والجن من الأحياء والأموات، وعبادُ الله: هم الذين تعبَّدوا الله؛ أي: تذلَّلوا له بالطاعة امتثالاً لأمره واجتنابًا لنهيه، وأشرفُ وصفٍ للإنسان أن يكون عبدًا للإنسان لا عبدًا لهواه، فإذا سمِع أمر ربه قال: سمِعنا وأطعنا.
وعبادُ الله الصالحون هم الذين صلُحت سرائرُهم وظواهِرهم بإخلاص العبادة لله ومُتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم ختمَ هذا المقام بعقد الإسلام، وهو: التشهُّد بشهادة الحق والتوحيد: «أشهد أن لا إله إلا الله»، ولا إله إلا الله كلمةُ التوحيد التي بعثَ الله بها جميعَ الرسل، كما قال تعالى:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 25].
ومعناها: لا معبود حقٌّ إلا الله.
ثم يقول المُتشهِّد: «وأشهد أن حمدًا عبده ورسوله»، فرسولُ الله الخاتَم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، بعثَه الله - عز وجل - بمكة أم القرى وأحب البلاد إلى الله، وهاجر إلى المدينة، وتُوفِّي فيها - صلى الله عليه وسلم -.
فهو عبدٌ لله، ليس له في العبادة شرك، وقد أمره الله تعالى أن يقول:لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ[الأنعام: 50]، وقال له في آية أخرى:قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّاوَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ[الجن: 21- 23]،فهو عبدٌ من العباد، لكنه أفضلُهم، ورسولٌ من الرسل، لكنه أشرفُهم.
وهو - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس خشيةً لله وأقومهم تعبُّدًا لله، حتى إنهم كان يقوم مُصلِّيًا حتى تتورَّم قدماه، فيُقال له: لقد غفر الله من ذنبك ما تقدَّم وما تأخَّر، فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»؛ رواه مسلم.
ومعنى: ورسوله؛ أي: مُرسَله، أرسله الله - عز وجل - وجعله واسطةً بينه وبين الخلق في تبليغ شرعه؛ إذ لولا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عرَفنا كيف نعبد الله - عز وجل -، فكان - عليه الصلاة والسلام - رسولاً من الله إلى الخلق، ونِعم الرسول، ونِعم المُرسِل، ونِعم المُرسَل به، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو رسولٌ مُرسلٌ من الله، وهو أفضل الرسل خاتمُهم وإمامُهم، لما جُمِعوا له ليلة المِعراج تقدَّمهم إمامًا مع أنه آخرُهم مبعثًا - عليه الصلاة والسلام -، كما روى ذلك الإمام أحمد.
أيها المسلمون:
هذا ما يقوله المُصلِّي حين يجلسُ في التشهُّد في الركعة الثانية من صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأما الجلوس للتشهُّد الأخير قبل السلام فيأتي بهذا التشهُّد أيضًا، ويزيدُ عليه الصلاةَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول بعد الشهادتين: «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمد وعلى آل محمد، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد».
وفي "الصحيحين" عن كعب بن عُذرة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقُلنا: قد عرفنا كيف نُسلِّم عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم إنك حميدٌ مجيد».
وفي "الصحيحين" أيضًا عن أبي حميدٍ الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله! كيف نُصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته، كما صلَّيتَ على إبراهيم، وبارِك على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته، كما بارَكتَ على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد». وفي رواية عند مسلم: «كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد، والسلام كما قد علِمتم، أو كما قد عُلِّمتم».
ومعنى: صلِّ على محمد؛ قيل: إن الصلاة من الله: الرحمة، وقيل: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما أخرجه البخاري مُعلَّقًا بصيغة الجزم، ولفظُه: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة.
وآل محمد: هم قرابتُه المؤمنون من بني هاشم ومن تفرَّع منهم، وقيل: المقصود: أتباعُه على دينه.
كما صلَّيتَ على آل إبراهيم؛ أي: كما أنك - سبحانك - سبقَ الفضلُ منك على آل إبراهيم فألحِق الفضلَ منك على محمدٍ وآله.
وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمد؛ أي: أنزِل عليه البركة، وهي: كثرةُ الخيرات ودوامُها واستمرارُها، ويشملُ البركةَ في العمل والبركةَ في الأثر.
إنك حميدٌ مجيد: حميدٌ؛ أي: حامدٌ لعباده وأوليائه الذين قاموا بأمره، ومحمودٌ يُحمَد - عز وجل - على ما له من صفاتِ الكمال وجزيلِ الإنعام.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 07-02-2011, 03:31 PM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية العضو

مزاجي:










ابوحاتم غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


ذكر

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

وأما المجيد: فهو ذو المجد، والمجدُ هو العظمةُ وكمال السلطان، فتأمَّل جمالَ هذه التحيات وكمالها وحُسنَها وجمالَها، وتدبَّر معانيها حين تزدلِفُ بها إلى ربك في جلوس التشهُّد وأنت خاشعٌ مُتأدِّب.
فالحمدُ لله الذي هدانا إليها، وأنعمَ بها علينا.
اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادق الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون:
وقد جاءت السنةُ بالترغيب في الدعاء بعد التشهُّد وقبل السلام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود بعد ما علَّمه التشهُّد: «ثم يتخيَّر من الدعاء ما شاء». وفي "الصحيحين": «ثم يتخيَّر من الدعاء أعجبه فيدعو به».
والأفضلُ أن تأتي أولاً بالدعاء الوارد في السنة ثم تدعو بعد ذلك بما تحبُّ من خيرَي الدنيا والآخرة، وقد جاءت السنةُ بأدعيةٍ تُقال في هذا الموضع؛ منها:
ما جاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فرغَ أحدُكم من التشهُّد فليتعوَّذ بالله من أربع: من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنةِ المسيح الدجَّال».
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمُ أصحابَه هذا الدعاء كما يُعلِّمُهم السورةَ من القرآن، ولذلك فإن هذا الدعاء في هذا الموضع مُستحبٌّ استحبابًا شديدًا؛ بل إن من العلماء من قال بوجوبه.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجَّال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من الأمثم والمغرَم». فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذُ من المغرَم؟! فقال: «إن الرجل إذا غرِم حدَّث فكذَب، ووعدَ فأخلَف»؛ متفق عليه.
والمراد بفتنة المحيا: جميعُ الفتن الواقعة في الحياة مما فيها اختبارٌ للمرء في دينه؛ كفتنة المال، وفتنة النساء، وفتنة الأولاد والجاه، وجميع فتن الشُّبُهات والشهوات.
وأما فتنة الممات: فهي سؤال الملَكَين للميت في قبره عن ربه ودينه ونبيِّه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه أُوحِيَ إليَّ أنكم تُفتَنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجَّال»؛ رواه البخاري.
ومن فتنة الممات: ما يحدثُ عند الاحتضار من سوء الخاتمة وإغواء الشيطان للإنسان، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدَكم ليعمَلُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبقُ عليه الكتاب فيعملُ بعمل أهل النار».
وأشد ما يكون الشيطان حِرصًا على إغواء بني آدم في تلك اللحظات، والمعصوم من عصمَه الله.
والمرادُ بفتنة المسيح الدجَّال: ما يحصُل به من الإضلال والإغواء بما معه من الشبهات، وخصَّه بالذكر مع أنه من فتنة المحيا؛ لعِظم فتنته.
والمأثمُ: هو كل قولٍ أو فعلٍ أو نيةٍ يأثَمُ بها الإنسان.
والمغرَم: هو كل ما يغرَمه الإنسان بسبب دَينٍ أو جنايةٍ أو مُعاملةٍ، ونحو ذلك.
ومما ورد من الدعاء أيضًا: «اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرت، وما أسرَرتُ وما أعلَنتُ، وما أسرفتُ، وما أنت أعلمُ به منِّي، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت»؛ أخرجه مسلم.
ومما ورد أيضًا: «اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرِك وحُسن عبادتك». أوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُعاذًا أن يقولَه في دُبر كل صلاة.
ومما ورد من الدعاء: «اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا غفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». أوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا بكرٍ أن يقولَه في الصلاة، كما في "صحيح البخاري".
والأولَى أن يُقال في أحد موضِعَيْ إجابة ادعاء في الصلاة، وهما: السجود، أو بعد التشهُّد وقبل السلام.
وبعد ذلك يدعو المسلم بما شاء من خيرَي الدنيا والآخرة.
اللهم فقِّهنا في الدين، واجعلنا من أتباع سيد المرسلين.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة.
اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواء الدين، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه الخير للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد، وكن لهم جميعًا مُوفِّقًا مُسدِّدًا لكل خير وصلاح.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، واحفظ ديارهم، وأرغِد عيشَهم، واجعل كل قضاءٍ قضيتَه لهم خيرًا.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 07-09-2011, 12:04 AM   رقم المشاركة : 6

 

خطبة الجمعة من المسجد الحرام 7/8 /1432هـ
تزكية النفوس وإصلاح القلوب
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "تزكية النفوس وإصلاح القلوب"، والتي تحدَّث فيها عن تزكية النفوس وإصلاح القلوب، والطرق التي ينبغي على كل مسلمٍ سلوكها لتحصيل ذلك، مُستشهِدًا في ذلك بالآيات والأحاديث والأقوال والآثار عن السلف والعلماء.

الخطبة الأولى
الحمد لله العلي الأعلى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوَّى وقدَّر فهدى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله نبي الرحمة والهُدى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار النُّجَباء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والنشور والجزا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -؛ واذكروا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس: 34- 37].
عباد الله:
تزكيةُ النفوس وتقويمُها، وإصلاحُ القلوب وتطهيرُها أملٌ سعى إليه العُقلاء في كل الثقافات وفي كل الحضارات منذ أقدم العصور، فسلكوا إلى بلوغه مسالك شتَّى، وشرعوا لأنفسهم مناهجَ وطرائقَ قِددًا، وحسِبوا أن في أخذهم أنفسهم بها إدراكَ المُنى، وبلوغَ الآمال في الحَظوة بالحياة الطيبة والعيش الهانئ السعيد.
فمن تعذيبٍ للجسد بأمورٍ وأعمالٍ مُضنِية أسمَوها: رياضات ومُجاهدات، إلى إغراقٍ في الشهوات وانهماكٍ في طلب اللذَّات بإسرافٍ على النفس لا حدَّ يحُدُّه، إلى عُكوفٍ على مناهجَ فلسفية وتأملاتٍ قائمةٍ على شطَحاتٍ وخيالات لا سند لها من واقعٍ، ولا ظهيرَ لها من عقلٍ، إلى غير ذلك من نزَعاتٍ وطرائقَ لا يجدُ فيها اللبيبُ ضالَّتَه، ولا يبلغُ منها بُغيتَه.
غير أن كل من أُوتِي حظًّا من الإنصاف، ونصيبًا من حُسن النظر والبصر بالأمور لا يجدُ حرجًا في الإقرار بأن السعادة الحقَّة التي تطيبُ بها الدنيا، وتطمئنُّ بها القلوب وتزكُو النفوس هي تلك التي يُبيِّنُها ويكشِفُ عن حقيقتها الكتابُ الحكيم والسنةُ الشريفة بأوضح عبارةٍ وأدقِّها وأجمعها في الدلالة على المقصود.
عباد الله:
لقد أرسل الله رسلَه وأنزل كتبَه ليُرشِد الناس إلى سُبُل تزكية أنفسهم وإصلاح قلوبهم، وليُبيِّن لهم أن ذلك الأمر لن يتحقَّق إلا حين يُؤدُّون حقَّ الله عليهم في إخلاص العبودية له؛ إذ هي الغايةُ من خلقه - سبحانه - لهم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات: 56- 58].
وقد جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيانُ الطريق إلى هذه التزكية التي جعل الله فلاحَ المرء مرهونًا بها، وجعل الخيبةَ والخُسران مرهونًا بضدِّها، وهو: التدسِية؛ أي: تخبيثُ وتلويثُ النفس وإفسادُها بالخطايا، فقال - سبحانه -: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[الشمس: 7- 10]، وقال - عزَّ اسمه -: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[الأعلى: 14، 15]، وقال - سبحانه - في خطاب نبيِّه موسى - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - حين أرسله إلى فرعون: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى[النازعات: 17- 19].
وإن هذا الكتاب المبارَك الذي جعله الله روحًا تحيا به القلوب، ونورًا تنجابُ به الظلمات: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الشورى: 52]، إن هذا الكتاب ليُصرِّحُ أن أساس التزكيةِ في الإسلام وروحها وعمادَها ومحورَها توحيدُ الله تعالى.
وحقيقتُه - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أن يشهدَ العبدُ انفرادَ الربِّ - تبارك وتعالى - بالخلق والحكم، وأنه ما شاء كان وما لم يشَأ لم يكن، وأنه لا تتحرَّك ذرَّةٌ إلا بإذنه، وأن الخلقَ مقهورون تحت قبضَته، وأنه ما من قلبٍ إلا وهو بين إصبعين من أصابعه إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاء أن يُزيغَه أزاغَه، فالقلوب بيده وهو مُقلِّبها ومُصرِّفها كيف شاء وكيف أراد، وأنه هو الذي آتَى نفوس المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكَّاها، وألهمَ نفوسَ الفُجَّار فجورَها وأشقاها، من يهدِ الله فهو المُهتَد، ومن يُضلِل فلا هادي له، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويُضِلُّ من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضُه وعطاؤه وما فضلُ الكريم بممنون، وهذا عدلُه وقضاؤه لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء: 23] ...
وفي هذا المشهد يتحقَّقُ للعبد مقامُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة: 5] علمًا وحالاً؛ فيثبُت قدمُ العبد في توحيد الربوبية، ثم يرقى منه صاعدًا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقَّن أن الضرَّ والنفع والعطاءَ والمنعَ والهُدى والضلال والسعادةَ والشقاء؛ كل ذلك بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يُقلِّبُ القلوب ويُصرِّفها كيف يشاء، وأنه لا مُوفَّق إلا من وفَّقه وأعانَه، ولا مخذولَ إلا من خذَلَه وأهانَه وتخلَّى عنه، وأن أصحَّ القلوب وأسلمَها وأقومَها وأرقَّها وأصفاها وأشدَّها وأليَنها: من اتخذَه وحده إلهًا ومعبودًا، فكان أحبَّ إليه من كل ما سواه، وأخوفَ عنده من كل ما سواه، وأرجَى له من كل ما سواه؛ فتتقدَّمُ محبتُه في قلبه جميعَ المحابِّ، فتنساقُ المحابُّ تبعًا لها كما ينساقُ الجيشُ تبعًا للسلطان، ويتقدَّمُ خوفًه في قلبه جميعَ المخوفات فتنساقُ المخاوفُ كلها تبعًا لخوفه، ويتقدَّمُ رجاؤه في قلبه جميعَ الرجاء، فينساقُ كل رجاءٍ تبعًا لرجائه.
فهذا علامةُ توحيد الألوهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه هو: توحيد الربوبية ...
والمقصود: أن العبد يحصلُ له في هذا المشهد من مُطالعَة الجنايات والذنوب وجريانِها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم وأنه لا عاصمَ من غضبه وأسباب سخَطه إلا هُو، ولا سبيلَ إلى طاعته إلا بمعُونته، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقِه؛ فمواردُ الأمور كلها منه، ومصادرُها إليه، وأزِمَّةُ التوفيقِ جميعُها بيديه، فلا مُستعانَ للعباد إلا به، ولا مُتَّكَل إلا عليه، كما قال شعيب خطيب الأنبياء: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[هود: 88]". اهـ.
وإن أثر التوحيد في التزكية - بل في حياة المسلم - ليَبدو جليًّا في توحيد الهدف والغاية واتفاق العلم والعمل؛ حتى يكون فهمُ المسلم وعقيدتُه وعلمُه وعملُه وقصدُه واتجاهاتُ قلبه ونشاطُه منتظمًا في سلكٍ واحد، مُتوافقٍ مُؤتلِف، لا تعارُض فيه ولا تضارُب، ويرتفعُ عن كاهل الإنسان ذلك الضيقُ المُمِضُّ الذي يستشعِرُه حين تتعارضُ في نفسه الأهداف، وتتناقضُ الأعمال.
ومما يُزكِّي النفوس أيضًا: تجديدُ الإيمان فيها على الدوام؛ إذ الإيمانُ يخلَقُ كما تخلَقُ الثياب، ولذا كان صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذُ أحدُهم بيد الآخر فيقول: "تعالَ نُؤمن ساعة"، فيجلِسان فيذكُران الله تعالى.
وفي ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وطاعته والازدلاف إليه أعظمُ ما يُجدِّدُ الإيمانَ في نفس المؤمن الذي يعلَمُ أن الإيمان يزيدُ بالطاعة وينقُص بالمعصية، فيعمل على زيادة إيمانه بصدق الالتجاء إلى الله تعالى الذي تكون أظهرُ ثِماره المُباركة تزكيةُ النفوس كما جاء في الدعاء النبوي الكريم: «اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها».
ومما يُزكِّي النفسَ ويُصلِحُ القلب: دوامُ تذكُّر نعم الله التي أنعمَ بها على عباده؛ فإن إحصاءها خارجٌ عن مقدور البشر، كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[النحل: 18]، فإن هذا التذكُّر لهذه النعم يُورِثُ الذاكِر لها كمالَ تعلُّقٍ، وتمامَ توجُّهٍ إليه، وخضوعًا وتذلُّلاً له - سبحانه -؛ فإن كل ما وهبَه من حياةٍ وصحةٍ ومالٍ وولدٍ وجاهٍ وغيرها إنما هو منَّةٌ منه، وفضلٌ وإنعامٌ أنعمَ به كيف ومتى شاء، ولو شاء لسلَبَ ذلك منه متى شاء؛ فإنه مالكُ الملك كله، بيده الخيرُ يُؤتيه من يشاء ويصرِفُه عمن يشاء.
ومعرفةُ ذلك ودوامُ تذكُّره باعثٌ على معرفة العبد بعجزه وضعفه وافتقاره إلى ربه في كل شؤونه، غير أن تذكُّر النعم لا بد من اقترانه بالعمل الذي يرضاه الله ويُحبُّه ويُثيبُ عليه يوم القيامة، وحقيقتُه: فعلُ الخيرات، وتركُ المنكرات على هُدًى من الله، ومتابعةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع العنايةِ الخاصةِ بالفرائضِ التي افترضَها الله على عباده؛ إذ هي أحبُّ ما يتقرَّبُ به العبدُ إلى ربه، كما جاء في الحديث: «إن الله تعالى قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذنَّه»؛ أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ومما يُزكِّي النفسَ أيضًا: أعمالُ القلوب؛ فإن القلبَ ملكُ الجوارح، تصلُح بصلاحه وتفسُد بفساده، كما جاء في الحديث: «ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلَحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسَدت فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -.
ومن أهمها وأعظمها: نيةُ المرء ومقصودُه من كل عملٍ يعمله؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى؛ فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه لدُنيا يُصيبُها، أو امرأةٍ ينكِحُها فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
فاتقوا الله - عباد الله -، واتخذوا من كتاب ربكم وسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - خيرَ منهجٍ لتزكية النفوس وإصلاح القلوب، ابتغاءَ رضوان الله، واقتفاءً لأثر الصفوة من عباد الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ[الزمر: 18].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 07-09-2011, 12:07 AM   رقم المشاركة : 7

 

الخطبة الثانية
الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعَّالِ لما يُريد، أحمده - سبحانه - يخلقُ ما يشاء ويفعلُ ما يُريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صاحب الخُلق الراشد والنهجِ السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن النقص والتقصير والخطأ لا ينفكُّ عنه إنسان، ولا يسلمُ منه إلا من عصمَه الله، ولذا جاء الأمرُ بالتوبة للناس جميعًا بقوله - سبحانه -: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31].
والتوبة - يا عباد الله - من أعظم أسباب التزكية للنفس والإصلاح للقلب؛ فإن عبودية التوبة - كما قال ابن القيم - رحمه الله - من أحبِّ العبوديات إلى الله وأكرمها عليه، فإنه - سبحانه - يحبُّ التوابين، ولو لم تكن التوبةُ أحبَّ الأشياء إليه لما ابتَلَى بالذنبِ أكرمَ الخلق عليه، فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يُوجِبُ وقوعَ محبوبه من التوبة، وزيادة محبته لعبده.
فإن للتوبة عنده - سبحانه - منزلةً ليست لغيرها من الطاعات، ولهذا يفرحُ - سبحانه - بتوبة عبده حين يتوبُ إليه أعظمَ فرحٍ يُقدَّر، كما مثَّله النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرَح الواجِد لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرض الدويَّة المُهلِكة، بعدما فقدَها وأيِسَ من أسباب الحياة، ولم يجِئ هذا الفرح في شيءٍ من الطاعات سوى التوبة.
ومعلومٌ أن لهذا الفرح تأثيرًا عظيمًا في حال التائب وقلبه، ومزيدُه لا يُعبَّر عنه، وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد؛ فإن العبد ينالُ بالتوبة درجةَ المحبوبية، فيصيرَ حبيبًا لله، فإن الله يحبُّ التوابين، ويحبُّ العبدَ المُفتَّن التواب، ويُوضِّحُه: أن عبودية التوبة فيها من الذل والانكسار والخضوع والتملُّق لله والتذلُّل لله ما هو أحبُّ إليه من كثيرٍ من الأعمال الظاهرة وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة؛ فإن الذل والانكسار روح العبودية ومخُّها ولبُّها، يُوضِّحه: أن حصول مراتب الذل والانكسار للتائب أكملُ منها لغيره، فإنه قد شاركَ من لم يُذنِب في ذل الفقر والعبودية والمحبة، وامتاز عنه بانكسار قلبه.
ولأجل هذا فإن أقربَ ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجد؛ لأنه مقامُ ذلٍّ وانكسار بين يدي ربه، ويُوضِّحُه: أن الذنبَ قد يكون أنفعَ للعبد إذا اقترنَت به التوبة من كثيرٍ من الطاعات، وهذا معنى قول بعض السلف: "قد يعملُ العبدُ الذنبَ فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعةَ فيدخل بها النار". قالوا: وكيف ذلك؟ قال: "يعمل الذنبَ فلا يزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعدَ وإن مشى ذكر ذنبَه، فيُحدِثُ له انكسارًا وتوبةً واستغفارًا وندمًا، فيكون ذلك سببَ نجاته، ويعمل الحسنة فلا تزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعدَ وإن مشى، كلما ذكرَها أورثَته عُجبًا وكِبرًا ومنَّةً، فتكون سببَ هلاكه.
فيكون الذنبُ مُوجِبًا لترتُّب طاعاتٍ وحسناتٍ ومعاملاتٍ قلبية؛ من خوف الله، والحياء منه، والإطراقِ بين يديه، مُنكِّسًا رأسه خجِلاً باكيًا نادمًا مُستقيلاً ربَّه، وكل واحدٍ من هذه الآثار أنفعُ للعبد من طاعةٍ تُوجِبُ له صولةً وكبرًا وازدراءً بالناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.
ولا ريبَ أن هذا المُذنِبَ خيرٌ عند الله وأقربُ إلى النجاة والفوز من هذا المُعجَبِ بطاعته، الصائلِ بها، المانِّ بها وبحاله على الله - عز وجل - وعباده، وإن قال بلسانه خلافَ ذلك فالله شهيدٌ على ما في قلبه، ويكادُ يُعادِي الخلقَ إذا لم يُعظِّموه ويرفعوه ويخضَعوا له، ويجدُ في قلبه بُغضةً لمن لم يفعل به ذلك، ولو فتَّش نفسَه حقَّ التفتيش لرأى فيها ذلك كامنًا". اهـ.
هذا؛ ويجبُ التنبُّه - يا عباد الله - إلى ما في تفسير كثيرٍ من الناس للتوبة من قصورٍ ونقصٍ عن فهم المعنى المُراد؛ فإن كثيرًا من الناس - كما قال ابن القيم - رحمه الله -: "إنما يُفسِّر التوبةَ بالعزم على ألا يُعاوِدَ الذنبَ، وبالإقلاع عنه في الحال، وبالندم عليه في الماضي، وإن كان في حقِّ آدمي فلا بد من أمرٍ رابعٍ هو التحلُّل منه، وهذا الذي ذكروه بعشُ مُسمَّى التوبة؛ بل شطرُها، وإلا فالتوبةُ في كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما تتضمَّن ذلك تتضمَّن أيضًا: العزمَ على فعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبًا حتى يُوجَد منه العزمُ الجازمُ على فعل المأمور والإتيان به.
فإن حقيقة التوبة: الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يُحبُّ وترك ما يكره، فهي رجوعٌ من مكروهٍ إلى محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزءُ مُسمَّاها، والرجوعُ عن المكروه هو الجزءُ الآخر، ولهذا علَّق - سبحانه - الفلاحَ المُطلقَ على فعل المأمور وترك المحظور بها فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31]؛ فكل تائبٍ مُفلِح، ولا يكون مُفلحًا إلا من فعل ما أُمِر به، وترك ما نُهِي عنه، وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[الحجرات: 11]، وتاركُ المأمور ظالم، كما أن فاعلَ المحظور ظالم، وزوالُ اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة من الأمرين معًا؛ أي: من ترك المأمور ومن فعل المحظور".
فاتقوا الله - عباد الله -، وتوبوا إلى الله ابتغاءَ رضوان الله، وتأسِّيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل: «يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوبُ في اليوم إليه مائةَ مرة»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه".
وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله: محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه؛ حيث قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطغاة والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم التناد.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعَ سخطك.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 08-06-2011, 11:31 PM   رقم المشاركة : 8

 


تقوى الله بصيام رمضان

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 5/8/1432هـ بعنوان: " تقوى الله بصيام رمضان"، والتي تحدَّث فيها عن شهر رمضان وما فيه من عِظات وعِبر، وذكر أبرزَ الأعمال التي يملأُ بها المسلمُ فراغَه ووقته في هذا الشهر المبارك، وأشار إلى أهمية الالتفات إلى إخواننا المنكوبين والعطف عليهم.


الخطبة الأولى


الحمد لله، الحمد لله الذي أفاضَ علينا من خيره ولم يزَل يُفيض، يدُه سحَّاء الليل والنهار، لا تُعجِزها نفقةٌ ولا تغيض، له المحامدُ والمكارم فلا يُحيطُ بحمده نثرٌ ولا قَريض، أحمده تعالى أشكره، وأُثني عليه وأستغفره، تفضَّل علينا بسيد الشهور، ويسَّر لنا فيه ما نحوزُ به عظيمَ الأجور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والنشور.
أما بعد:
فالوصيةُ المبذولةُ الكبرى هي الوصيةُ بالتقوى؛ بها تكفيرُ الذنوب، والنجاةُ من الخُطوب، ومعرفةُ الحق حين التباسِ الدُّروب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الأنفال: 29].
ترفَّعوا عن هذه الدنيا كما زهِد فيها الصالحون، وأعِدُّوا الزادَ لنُقلةٍ لا بد لها أن تكون، واعتبِروا بما تدور به الأيامُ والسنون، وتنبَّهوا فالغفلةُ قد تناهَت، والفتنُ عاصفةٌ قد تدانَت، ورحِم الله من تداركَ نفسَه، فشتَّان بين من عصَى اللهَ وخالفَ أمره وبين من قطع عمره في معاملة ربه وذكره، ولزِمَ الوقوف ببابه، ومرَّغ خدَّه على أعتابِه، فيا خجلةَ الخطَّائين، ويا ندامةَ المُفرِّطين.
أيها المسلمون:
شهرُكم المُعظَّم قد حلَّ، وفرصتُكم في التزوُّد حانَت، والعبدُ في هذا الشهر إما مُوفَّقٌ أو مخذول، أما وقد مضى من شهرنا ليالي، فستمرُّ أيامه سِراعًا، وتمضِي تِباعًا، وسيكون من شأن المُوفَّقين تحصيلُ وافِر الأجور، والسعادة في الدنيا وفي يوم النُّشور.
وسيبكي أقوامٌ أسًى وندمًا على ضياعِ الليالي وفواتِ الأوقات، ولاتَ ساعة ندمٍ ولا بكاء، فاستبِقوا الخيرات، وتدارَكوا الأيام بالباقيات الصالحات، وقد صحَّت الأخبارُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان - أن «من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قامَ ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه».
وصحَّ عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رغِم أنفُ امرئٍ أدركه رمضان فلم يُغفَر له».
فكم رغِمت أنوفٌ ألهَتها شهواتُها والأهواء، ويا أيها الراكبون خلف سراب الدنيا قد حبسَت الأشغالُ أنفاسَهم، ويا أيها اللاهِثون وراء متابعة الأخبار، الباحثون عن كل تفاصيل الأنباء وإشاعاتها، وإلى اللاهين بالمسلسلات والقنوات السادرين في غفلة المُوبِقات، قد أعشَت الشاشاتُ أبصارَهم؛ إنها فرصتُكم لتتوقَّفوا قليلاً، وإنه شهرُكم لتهدأ فيه الأنفاس، ويطمئنَّ القلبُ، وتؤوبَ الروحُ إلى باريها، تبحثُ عن السعادة في جنَبات المسجد، ومن خلال آي القرآن، وتأنسُ بالجلوس للأسرة والأولاد.
ليكن شأنُكم التقلُّل من أعراض الدنيا، والإحسانَ إلى الأقربين، وإدامةَ ذكر الله، وتحقيقَ التقوى التي شرعَ الله الصيامَ لأجلها: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183].
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه فليقل: إني امرؤٌ صائم»؛ رواه البخاري ومسلم.
فهذا توجيهٌ لما يجبُ أن يكون عليه الصائم من كمال النفس، وطِيب الروح، وتأثير التقوى؛ لأن رمضان يصِل النفوس بالله فيُشرِقُ عليها من لدُنه النور حتى تذوقَ حلاوةَ الإيمان، ومن ذاقَ حلاوةَ الإيمان لم يعرفِ البغضاء ولا الشر ولا العُدوان.
وإذا تحقَّقت التقوى في القلوب فإنه تمحُو الغشَّ من نفوس أهلها محوًا، ويملؤها خوفُ الله ورجاؤه فتعِفُّ نفوسهم عن الحرام، وتغضُّ أبصارهم عن المحارم، وتقِف ألسنتُهم عن الكذب؛ لأنها جرَت بذكر الله واستغفاره، وهانَت عليهم الدنيا حين أرادوا اللهَ والدار الآخرة، فغدَا الناسُ آمنين أن يغشَّهم تاجر، أو يعتدِي عليهم فاجِر.
أيها المؤمنون:
الصومُ الحقُّ يسوقُ المؤمنَ إلى تقوى الله سوقًا، ويحدُوه إلى العمل الصالح، والسعي والمسارعة إلى الحسنات تدارُكًا للزمن الفاضل، ومُبادرةً قبل الفوات؛ بَيدَ أن المُشاهَد في الحال أن رمضان لا يعدُو عند الكثيرين أن يكون توقُّفًا عن الطعام والشراب فحسب من غير زيادة عمل، ولا مزيد ورع، والله تعالى يقول: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
فإن لم يزدَد إيمانُك، وتكثُر أعمالُك، وينتهي عصيانُك، فراجِع نفسَك لئلا تكون من المُفرِّطين.
وإذا آمنَ الإنسانُ بالله العظيم، وأيقنَ باليوم الآخر والحساب والجزاء دفعَه ذلك إلى استرضاء ربه والاستعداد للقائه والاستقامة على صراطه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183]، بدأ بالإيمان وختمَ بالتقوى.
ومن الضلال أن يهبِط الإنسانُ بحقيقة الدين، فيجعلُ الإسلامَ كلمةً لا تكاليفَ لها، وأمانيَّ لا عمل معها، فلا يقوم إلى واجب، ولا ينتهي عن محرم، فيكون من الذين اتخذوا دينَهم لهوًا ولعبًا وغرَّتهم الحياةُ الدنيا.
وما من آيةٍ في كتاب الله ذكرت الإيمانَ مجردًا؛ بل عطَفَت عليه عملَ الصالحات أو تقوى الله أو الإسلامَ له؛ بحيث أصبحت صلةُ العمل بالإيمان آصرةٌ لا فَكاك عنها، وكثيرًا ما يُشار إلى الإسلام وحقيقته الشاملة بمظاهر عمليةٍ محدودة، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ[البلد: 11- 16].
بل إن العلامة التي ينصِبُها القرآنُ دليلاً على فراغ النفس من العقيدة، وخراب القلب من الإيمان هي في النُّكوص عن القيام ببعض الأعمال الصالحة، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[الماعون: 1- 3].
يتقرَّر هذا - أيها المسلمون - في مشهد الضعف العام والتوانِي عن الأعمال، وهناك أناسٌ مزَّقَت المعاصي صِلَتهم بالله شرَّ مُمزَّق، وظلَّت أهواؤهم تجنحُ بهم بعيدًا عن الله حتى نسوا اللهَ أتمَّ نسيان، ولم يعرِفوا قدرَ رمضان.
وإنكم - أيها المسلمون - تعرفون تاريخَ أممٍ هلَكت بسوء عملها، وتعرفون أن الله نقم على قوم لوط لارتكابهم الفاحشة، وعلى قوم شُعيب لبخسِهم المكيال والميزان، وقد عرفتُم مصائرَ أولئك الفاسقين؛ فهل أمتُنا وحدها هي التي تريد أن ترتكب السيئات دون حذرٍ أو وجَل، إن الإسلام ليس بِدعًا من الشرائع السابقة فيُوجِبُ الإيمان دون العمل؛ بل إن القرآن الكريم ليقُصُّ علينا عِبَر السابقين لنتَّعِظ منها، ثم لنسمَع قولَ الله بعد ذلك: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[يونس: 13، 14]، هكذا نُمتَحن، وتُراقَب تصرُّفاتنا، ويُكلِّفُنا الله بالإيمان والعمل جميعًا، ثم ينظر وفاءَنا بما حُمِّلنا من أعباء.
وقد خاطَبَ الله بني آدم بهذه الحقيقة الجليَّة، وأفهَمهم أن نجاتَهم في الصلاح والتقوى لا في النفاق والدعوى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[الأعراف: 35، 36].
فرمضان شهرٌ يُثمِر التقوى والعملَ الصالح لا مجرَّد الإمساك عن الأكل والشرب، و«من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ أن يدَع طعامَه وشرابَه»، ومن كان صادقًا فليجعل رمضان شهرَ عبادةٍ وخشوعٍ وتوبةٍ وإنابةٍ، يلتزِم فيه الأدب، ويترفَع عن الدنايا والرِّيَب، ويستحضِر العبودية بصيامه، ويعمُر وقتَه بالقُربات، ويستزيدُ من الطاعات، ما بين تلاوةٍ للقرآن، وتدبُّر لآياته، أو صدقةٍ وصلة، وإحسانٍ وبرٍّ، وذكرٍ لله تعالى بأنواع الذكر مع الخشوع والسكينة.
ويمضِي النهارُ كلُّه على ذلك، فإذا كان الأصيلُ ودنا الغروب تجلَّى رمضان على الكون بوجهه، فهشَّت له وجوهُ الناس، وهتفَت باسمه الشِّفاه، وانظر إلى رمضان وقد سكَّن الدنيا ساعة الإفطار، وأراحَ أهلَها من التكالُب على الدنيا والازدحام على الشهوات، وضمَّ الرجلَ إلى أهله، وجمعَ الأسرةَ على أطيب مائدةٍ وأجمل مجلس، وأنفع مدرسة.
ثم يتلو ذلك قيامُ الليل وتلاوة القرآن والدعاء والتضرُّع والإنابة والاستغفار، فيا باغِي الخير أقبِل، ويا باغِي الشر أقصِر.
تقبَّل الله منا ومنكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون[البقرة: 183- 186].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 08-06-2011, 11:32 PM   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون:
في كل عامٍ نترقَّب هذا الشهر لنستريحَ من وعثاء الدنيا وصخَبها، ولتستروِح قلوبُنا وتبتلَّ نفوسُنا وقد ألحفَها جفافُ السنين، وأرهقَها عصفُ الحياة، يعود شهرُ الخير لتتصافحَ الأيادي المُتباعِدة، وتتصلَ الحِبالُ المقطوعة، وتنتهي حكاياتٌ من الشِّقاق غصَّت بها أروِقةُ المحاكم، وشقِيَت بها دوائرُ الأسر والأحياء والمجتمعات، ويؤذِّن حادي الصفح أن حيَّ على الصفاء، فتأتلِف القلوبُ المُتباينة وتجلو الأُخوَّة الإسلامية بأعظم رابطة، فتبدو الأُخوَّة في أكمل صُورها.
يعد شهرُ رمضان لتعودَ معه الذكريات الجميلات، ويفتحُ أبوابَ الفأل في حياة الأمة وقد غصَّت من الضياع والمُشكلات، وفي القلب غُصَّةٌ من الجراحِ الداميات، والنفوس المُزهقَات، ومن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم.
تتعلَّق فيه القلوبُ بشأن الدعاء، وتُعلِنه في كل ليلةٍ جهارًا شعيرةً من شعائر هذا الشهر العظيم، ويُسِرُّ به عبادُ الله في سجَداتهم وصلواتهم وهم يؤمنون أن الغيبَ بيد الله، وأن الأمر كلَّه بيده، وهو على كل شيءٍ قدير، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ[الأنعام: 18]، ويكون مشهدُ الدعاء من أبلغِ مشاهد هذا الشهر وأكثرها تأثيرًا، وقد قال - تبارك في اسمه - في ثنايا آيات الصيام: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[غافر: 60]، ولا غالبَ في هذه الأزمات إلا الله، فهو المُستعان وإليه المُلتجَأ وبه المُعتصَم، ففرُّوا إلى الله، وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[الحج: 78]، واصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[آل عمران: 200].
أيها المسلمون:
يعودُ شهر الصيام ويذكُر المسلمُ لجُوعه به جوعةَ إخوانه، فيقتطعُ من ماله دراهِم، ومنن طعامه لُقيماتٍ يُشارِك بها الجوعَى والمحرومين، ويُنمِّي بها فضيلةَ الإحسان إلى عبيد الله، ويشكر المُنعِم المُتفضِّل - سبحانه -، وأنت ترى الجوعَ يضربُ بعضَ الناس بقسوة، وما أرضُ الصومال عنا ببعيد.
فاستبِقوا الخيرات - أيها المؤمنون -، وتبوَّؤوا من الجنة الدرجات، فاليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، ومن خافَ يوم الحساب فليُطعِم جوعَة، ويسُدَّ خلَّة، وفي صفات أهل الجنة: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا[الإنسان: 8- 12]، وفي الأمن من يوم الفزع الأكبر يقول الحقُّ - سبحانه -: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[البقرة: 274].
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه الخير للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، واحفظ دينَهم وأعراضَهم وديارهم وأموالهم.
اللهم كن للمظلومين والمُضطهدين والأُسارى والمنكوبين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم انص المُرابِطين في أكناف بيت المقدس، اللهم اجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم إنا نسألك العفوَ والعافيةَ والمُعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم وفِّقنا للصالحات، وكفِّر عنا السيئات، وتقبَّل صلاتَنا وصيامَنا ودعاءنا، وصالحَ أعمالنا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:31 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir