" الاختيارُ صِناعةُ العَقْلِ "
ابن الجَوزي
القراءةُ من المصادر الكبرى التي تُنمِّي عقل الإنسان و تبني فِكْرَه ،
وغيابُها عن حياة الإنسان خللٌ في تحقيق التنمية و البناء ،
و بقدرِ قوة العلاقة بين الإنسان و قراءته تكون قوة البناء ،
و القراءةُ كغيرها من أفعالِ الناسِ تحتاجُ إلى قانونٍ يَضْبِطُها و نظام يحكُمها حتى لا تميلَ نحوَ العِوَجِ ،
و لكنَّ القوانين ليست إلا معالمُ عامة تُرَشِّد الإنسان و تُبَصِّرُه ،
و ليست تفصيليةً دقيقةً في كلِّ جزئياتِ حياته ، فكان التوظيفُ للقوانين يفتقرُ إلى حكمةٍ و فِطنة ،
و إلى رؤيةٍ خفيَّةٍ إلى كيفية استغلالِ و توظيف القانون أو النظام ، فالقواعدُ مراصِد المقاصِد ، و الحِكْمةُ حِنكةُ العقلِ ،
و هنا يظهرُ الذوقُ العقلي البشري في اغتنام القانونِ في بناءِ الكيان العقلي .
إعمالُ الذوق في القراءةِ يعني لنا أن نقِفَ على مقاصد القراءة ، فحين نعيشُ في جوِّ المقصد من القراءةِ نُتقِنُ توظيفَ قانونها ،
و هذا الشيءُ غفلَ عنه الكثيرُ من القُراءِ ، فكانت القراءةُ غايةً لذاتها ، و صنعةً قائمة بنظامها ،
و هذا يجعل القراءةَ شَكلاً ، مهما كان ظهورها ، فالذوقُ يُحقِّقُ المقصَد ،
و القانون يُحقِّقُ الصَّنعةَ ، و بينهما فرْقٌ .
إذا ، فالقراءةُ نوعان :
الأول : قراءةٌ صِناعيَّة ، و تعني أنَّ الاشتغالَ بها يكون في إجالةِ النظرِ ، و تقليبِ البصرِ ، في الحروفِ و الكلماتِ ،
و هذه ستُخرجُ لنا كمَّاً كبيراً يُتقنُ جرْدَ العددِ من الكتبِ و الصفحاتِ و الحروفِ ، و ربما أخرجت قليلاً ممن يُتقنُ اقتناصَ الجواهر المقروءة .
الثاني : قراءةٌ ذَوقية ، و تعني الاشتغال بها يكون في القلْبِ و الروحِ للمقروءِ ، لا في الجسَدِ و الشكْلِ ،
لأنَّ الأذواقَ لا تشتغلُ بالأشكالِ و إنما في المعاني الخفيَّة ، هذه القراءة يُتقِنُ أصحابُها ، على قِلَّتهم ،
اصطيادَ الطائرِ من المعاني في جوِّ سماءِ الكتابِ ، لتركيز الباطنِ منهم على الجوهرِ المختفي في صَدَفِ الحرفِ ،
و ربما لم يكونوا ذوي كثرةٍ في القراءةِ ، و لكنهم ذوو ذوقٍ و فَنٍّ ،
و هذا ما يُحتاجُ إليه في زمن الانتهاضِ ،
فنحن في زمنِ الطائراتِ من العبارات لنكوِّن منها كتاباً منشوراً نقرأه على الناسِ على علمٍ .
إذا عرفنا هذا الشيء عرفنا حلاً لمُشكلةِ قِلَّة القراءة في المجتمع العربي ، حيثُ التقييم على الكَمِّ المقروءِ ،
و أغفلَ الكثيرون الكيفَ ، و في المقارَنة بيننا و بين الغرْبِ القاريءِ النَّهمِ نجدُ أن الغربَّ جمعاً كمَّاً و كيفاً ،
فمن الكيفِ كوَّنوا الكَمَّ ، و لم يُكوِّنوا الكيفَ مِن الكَمِّ ، و عرفنا ، أيضاً ،
خطأ المقولة اللا مقبولة في عقلٍ حصيفٍ " أمة إقرأ لا تقرأ " لأنها كانت نتيجةً لإحصاءٍ كَمِّيٍّ ،
و الكَمُّ يتفاوَتُ في كثيرٍ من المقروءات ،
و لو كانتْ كَيْفاً لعرفنا أن أمَّةَ إقرأ آتَتْ ثِماراً مِن نتاجِ قِراءاتٍ مُختزَنةٍ ، فلم يكن المقروءُ واحداً بل كثيراً ،
و الكيفُ هو محلُّ الإحصاءِ العقلي البِنيوي النهضوي ،
و العددُ سَنًدٌ و مَددٌ ، إذنْ ، فالقراءةُ بذَوقٍ جوهرٌ ،
و الأذواقُ مُربحات الأسواق .
عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق
تحياتي
...........