يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-21-2011, 11:32 PM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 


تابع خطبة المسجد الحرام - 17 جمادى الثانية 1432 - السعادة في الإعتصام بالكتاب والسنة - عبد الرحمن السديس

الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمٍ أثنَت بها الجوارِحُ والسرائر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً لهَجَت بها الألسُن والضمائرُ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أزكى الأوائل والأواخر، من اقتفى هديَه حازَ المآثِر والمفاخِر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وذريَّته النجومِ الزواهِر، وصحابته البالغين أسمى البشائر، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، والزَموا دينَ الحق وما له من زكِيِّ الشعائر تفوزوا بخير الجزاء وعظيم الذخائر، وتُهدَوا إلى أسنَى الدلائل والبصائر.
معاشر المسلمين:
وفي خِضَمِّ هاتيك الأمواج وزخارِها الثَّجَّاج، واستشرافًا لآفاق مُستقبلٍ أزهرٍ أغرّ؛ لزِمَ المجتمعات والأمم أن يُعيدَا صياغةَ أذهان الجيل من الشباب والفَتَيات، وتنمية الوعي الإسلامي الصحيح لديهم، في تواكُبٍ لأحداث العصر ومُتطلَّباته، وتطوُّراته وتحدياته، واستنهاضِهم للاعتزاز بالهديَيْن الشريفين: كتابِ الله وسنةِ نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ تحقيقًا لوحدة الأمة، وترسيخًا لأُخُوَّة الإسلام.
كُن في أمورك كلِّها مُتمسِّكًا بالوحي لا بزخارِفِ الهَذَيَانِ
واتبَعْ كتابَ الله والسننَ التي جاءت عن المبعوثِ بالفُرقانِ
أيها الإخوة الأحبة في الله:
وإن من منارات الاهتداء عند الفتن: تعظيم النصوص الشرعية، ولزوم الثوابت المرعيَّة، والاعتصام بالجماعة، والحذر من كل من يُريد إذكاء الفتن، وتفاقُم الأوضاع، وتأجيج الفُرقة والنزاع والشِّقاق والصِّراع، والتجاوُز على مُكتسَبات الأوطان، ومُقدَّرات الشعوب والبُلدان، والسعي في الأرض بالفساد، وعدم الانسياق المحموم والإغراق والسَّعار المذموم إزاء ما تبُثُّه القنواتُ الفضائية والشبكات المعلوماتية مما يبعثُ على التهييج والإثارة، في غيابٍ لصوت العقل والحكمة والنظر للمصالح العُليا، واعتبار المآلات، وألا تُنزَّل النصوص الشرعية في الفتن والملاحِم وأشراط الساعة على الوقائع والنوازِل المُعاصِرة بعينها.
كما ينبغي الإقبال على العبادة، والتزامُ الطاعة؛ فقد ورد عند مسلم وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «العبادةُ في الهَرْج كهجرةٍ إليَّ».
والإكثارُ من التوبة والاستغفار والإنابة والدعاء والضراعة، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42، 43].
تمسَّك بحبل الله واتبعِ الهُدى ولا تكُ بدعيًّا لعلك تُفلِحُ
ودِن بكتابِ الله والسننِ التي أتت عن رسول الله تنجُو وتربحُ
حفظَ الله أمتنا الإسلامية من شُرور الفتن كلِّها ما ظهر منها وما بطَن، وأدام علينا نعمةَ الأمن والإيمان والاستقرار والرخاء، إنه وليُّ التوفيق والسداد والرجاء.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خير الورَى، كما أمركم بذلك - جل وعلا -، فقال - عزَّ من قائلٍ كريمًا -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
وقد قال - عليه الصلاة والسلام - فيما أخرجه مسلمٌ في "صحيحه": «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلواتُ الله مع تسليمه ما جرى له في البحر فُلكٌ سَبْحُ
أبدًا تُهدَى إلى الخير الورَى من له في كُتْب الرحمن مَدحُ
أحمدُ والآلُ والصحبُ ومَنْ لهم يقفُو على الإثر وينحُو

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 01-06-2012, 01:24 AM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
عضو جديد
 
إحصائية العضو

مزاجي:










ابو سعد غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي
 



ذكر

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابو سعد is on a distinguished road


 

جزاك الله الف خير

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 01-06-2012, 09:46 PM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

حال عباد الله المتقين
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 5/2/1433هـ بعنوان: "حال عباد الله المتقين"، والتي تحدَّث فيها عن أحوال عباد الله المُتقين في الدنيا من طاعة ربهم، واجتنابِ ما نهاهم عنه، وما أعدَّه الله لهم يوم القيامةِ من النعيمِ المُقيمِ جزاءَ استِجابتهم لأوامِره وانتِهائهم عن نواهيه.
الخطبة الأولى
الحمد لله يصطفِي من عباده من يشاء، أحمده - سبحانه - حمدًا يُكافِئُ الآلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الصفاتُ العُلَى والحُسنى من الأسماءِ، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله سيدُ الرُّسُل وخاتمُ الأنبياء، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الأئمةِ البَرَرة الأتقياء، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم البعثِ والنُشور والجزاء.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه، فأعِدُّوا لذلك اليوم عُدَّتَه، وخُذوا له أُهبَتَه.
أيها المسلمون:
إن للمتقين من كمالِ السعيِ إلى بُلوغِ رِضوانِ الله ما لا نظيرَ له، وإن لهم في سبيلِ الفوزِ بالنعيمِ المُقيمِ في الجنةِ دارِ كرامتِهِ ونُزُلِ أوليائه مسالِك يسلُكُونها، وطرائِق يتفرَّدون بها، وهِممًا يسمُون بها ويفوقون غيرَها، وتبعثُهم على دوامِ المُسارَعةِ إلى المغفرةِ من ربِّهم، والحَظوةِ برِضوانِه، ودخولِ روضاتِ جنَّاته.
وكيف لا يكون لهم هذا الحالُ، وهم مع إيمانهم بالله ورُسُله وأدائِهم حقَّه - سبحانه -؛ بفعلِ ما أمرَهم به، وتركِ ما نهاهُم عنه، والاستقامةِ على ذلك، والاستِمساكِ به يسمَعون نداءَ ربِّهم الرحيمَ الذي يدعوهم فيه إلى ما يُحيِيهم، وما يعلُو به قدرُهم، ويعظُمُ به شأنُهم، ويحسُنُ به مآبُهم، وتطيبُ به عنده عُقباهم ببيانِه لهم أسبابَ مغفرتِهِ ودخول جنَّته، وبحثِّه - سبحانه - لهم على المُبادَرة إليها، والعملِ بها في غير توانٍ ولا تردُّدٍ ولا إبطاءٍ؛ ليُحسِنوا بذلك إلى أنفسهم، ويُحسِنوا إلى غيرهم من عبادِ الله بجُملةٍ من الصفاتِ الجميلة، والفِعالِ الجليلة التي جاءَت مُبيَّنةً أوضحَ بيان في قولِ الرحيمِ الرحمنِ - عزَّ اسمُه -: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[آل عمران: 133- 136].
إنه إحسانٌ إلى النفسِ وإلى الخلقِ لا حُدودَ له، إحسانٌ يتجلَّى في بذلِ المالِ في وجوهِ الخيرِ في كل الأحايين، لا فرقَ في ذلك بين حالِ المُنفِقِ في الرخاءِ وحالِهِ في الشِّدَّة؛ فهو ماضٍ في بذلِهِ، مُقيمٌ على جُوده وسخائِه؛ لأنه مُوقِنٌ بحُسنِ الإخلافِ من ربِّه القائلِ - عزَّ شأنُه -: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[سبأ: 39]، والقائل: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ[البقرة: 272].
ومُتأسٍّ بهذا النبيِّ الكريمِ - عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم - الذي قال يومًا لأبي ذرٍّ الغِفاريِّ - رضي الله عنه -: «هل ترى أُحُدًا؟». قال: نعم، قال: «ما أُحبُّ أن أُحُدًا لي ذهبًا يأتي عليَّ ليلةٌ أو ثلاثٌ عندي منه دِينار إلا دينارًا أرصُدُه لدَيْنٍ، إلا أن أقولَ به في عبادِ الله هكذا وهكذا وهكذا - عن يمينه وشمالِه، ومن أمامه ومن خلفِه» يعني: في الإنفاق.
وأن يفعلُوا ذلك رغبةً في أن يشملَه دعاءَ الملَك الوارِدِ في الحديثِ الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يومٍ يُصبِحُ العبادُ فيه إلا ملَكَان ينزِلان، فيقولُ أحدُهما: اللهم أعطِ مُنفِقًا خلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ مُمسِكًا تلَفًا».
وهو إحسانٌ يتجلَّى أيضًا في صفةٍ تُصوِّرُ السخاءَ والكرمَ النفسيَّ في أجملِ صورةٍ؛ تلك هي: كظمُ الغيظِ حين تبدُرُ بوادِرُ الإساءة، والترقِّي من ذلك إلى مُقابلتها بالعفوِ عن المُسيءِ، والصفحِ والتغاضِي عما بدَرَ منه؛ رغبةً في نَيلِ الجزاء الضافي والأجرِ الكريم الذي أخبرَ به نبيُّ الرحمةِ - صلوات الله وسلامه عليه - بقوله: «من كظَمَ غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنفِذَه دعاهُ الله - عز وجل - على رُؤوس الخلائِقِ يوم القيامة حتى يُخيِّرَه من أيِّ الحُورِ شاءَ»؛ أخرجه الإمامُ أحمد في "مُسنده"، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في "سننهم" بإسنادٍ حسنٍ من حديثِ سهلِ بن مُعاذٍ، عن أبيه - رضي الله عنه -.
وبقولِنا يكونُ شأنُ من زلَّت به القدَمُ فظلَمَ نفسَه بإتيانِ ما حرَّم الله عليه أو تركِ ما أوجبَ عليه أن يذكُرَ عظمَة ربِّه الذي عصاهُ، وآلاءَه التي تفضَّلَ بها عليه، وشديدَ عذابِهِ وأليمَ عقابِه لمن لم يرْجُ له وقارًا فبارَزَه بالعِصيان.
فيحمِلُه هذا التذكُّرُ على المُبادَرَة إلى التوبةِ النَّصُوحِ بالإقلاعِ عمَّا تلوَّثَ بأرجاسِه، وبالنَّدَم على ما كان، وبالعزمِ على عدمِ العودة إليه - إلى ذلك الذنبِ -، وبردِّ الحقوقِ إلى أهلها؛ لأنه يعلمُ أنه لا يغفِرُ الذنوبَ غيرُه - سبحانه -، ولا يقبَلُ العثَرات سِواه، وأنه كريمٌ لا يُعاجِلُ بالعقوبة، كثيرُ السترِ للخطايا والقَبول للتوبةِ التي جعلَ بابَها مفتوحًا للتائبين حتى تطلُع الشمسُ من مغربِها.
وهذا شأنُ المُتقين، وسبيلُ المُخبتين، وطريقُ من خشِيَ الرحمنَ بالغيبِ، ذلك هو الذي أعقبَهم عند ربِّهم مغفرةَ الذنوبِ بالسترِ الجَميل، وبرفعِ المُؤاخَذة والإكرامِ بإدخالِهم الجنةَ دارَ السلام خالدين فيها، ونِعمَت الجنةُ وروضاتُها ونعيمُها، ثوابًا للعامِلين المُخلِصين لله في أعمالهم، المُبتغين بها وجهَه - سبحانه -، والمُتابعين فيها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، والمُهتدين بهديِه، والمُستنِّين بسُنَّته.
وما أجدرَ كلَّ عاقلٍ حريصٍ على حيازةِ الخيرِ لنفسِهِ، وعلى صيانتِها من التردِّي في وحدةِ الباطلِ في كلِّ صُورهِ المُفضِيَةِ إلى التَّبابِ، المُورِثةِ للخُسرانِ المُبين في الدنيا ويوم يقومُ الناسُ لربِّ العالمين، ما أجدَرَه أن ينهَجَ هذا النهجَ، ويسيرَ هذا السيرَ، ويمضِيَ على هذا الطريقِ.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وخيرُ خلقِ الله أجمعين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحابتهِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن من أظهرِ صفاتِ المُتقين التي نالُوا بها الدرجاتِ العُلَى عند الربِّ الكريمِ: دوامَ استِحضارِهم عظمَةَ خالقِهم - سبحانه - وعظيمَ حقِّه عليهم، ذلك الاستِحضار الذي أورثَهم استِحياءً منه، وهيبةً له، ومحبَّةً وشوقًا إلى لقائِه، ذلك الشوقُ الذي أعقبَهم كمالَ حِرصٍ على العملِ بطاعتهِ، والنُّفرةِ من معصيتِهِ، والتزوُّد بخيرِ زادٍ يصحَبُهم في سيرِهم إليه - سبحانه -، إنه زادُ التقوى الذي أمرَهم به - عز وجل - بقوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[البقرة: 197].
ولا عجبَ أن يكون المُتزوِّدون بهذا الزادِ خيرَ الناسِ وأفضلَ الخلقِ بعد النبيين، وأجلَهم قدرًا، وأنبَهَهم ذِكرًا، وأحراهُم بنَيْلِ كلِّ خيرٍ عاجلٍ أو آجلٍ، وأجدَرَهم بالسعادةِ والرِّيادةِ، وأحظاهم بمحبَّةِ الله والناسِ أجمعين.
فاتقوا الله - عباد الله -، واعمَلوا على التخلُّق بصفاتِ المُتقين، وانتهاجِ نهجِهم، وسُلُوكِ سبيلِهم؛ تكونوا من المُفلِحين الفائزين بمغفرةٍ من ربِّكم وجنَّةٍ عرضُها السماوات والأرضُ.
واذكروا على الدوامِ أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على خيرِ الأنامِ، فقال - في أصدقِ الحديثِ وأحسنِ الكلامِ -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.
اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد، يا من إليه المرجِعُ يوم المعاد. اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم احفَظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفَظهم من الفِتَن، وقِهِم شرَّ الفِتَن ما ظهَرَ منها وما بطَنَ.
اللهم احفَظ المسلمين في سُوريا وفي مصر وفي اليمن وفي ليبيا وفي كل أمصارهم ودِيارِهم، وقِهِم شرَّ الفِتَن، اللهم قِهِم شرَّ الفِتَن واحقِن دماءَهم، اللهم قِهِم شرَّ الفِتَن واحقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح ذاتَ بينهم، وألِّف بين قلوبِهم يا رب العالمين، وكُن لهم، اللهم كُن لهم، وارحَم ضعفَهم، واجبُر كسرَهم، وارحم موتاهم، اللهم ارحَم موتاهم، واشفِ جرحاهم، اللهم ارحَم موتاهم، واشفِ جرحاهم، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفِتَن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفِتَن ما ظهَر منها وما بطَنَ.
اللهم احفَظ هذه الديارَ السعودية من كل سوءٍ، واجعلها أمنًا ورخاءً واستِقرارًا ومثوًى للمُسلمين أجمعين إلى يوم الدين يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وآلهِ وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 06:52 PM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

القرآن .. يا أمة الإسلام

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 15 رمضان 1433هـ بعنوان: "القرآن .. يا أمة الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن ضرورة اهتمام الأمة الإسلامية بالقرآن الكريم تلاوةً وتدبُّرًا لا سيَّما في شهر رمضان المبارك شهر القرآن؛ إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهِد فيه ما لا يجتهِد في غيره.

الخطبة الأولى
الحمد لله الحليم الرحيم، ذي المنة والفضل العميم، له الحمدُ - سبحانه - حتى يرضى، وله الحمد إذا رضيِ، وله الحمد بعد الرضا، وله الحمد على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، وخليلُه وخِيرتُه من خلقه، خيرُ من صلى الله وصام، وأفضلُ من تلا كتابَ ربه وقام، بلَّغ الرسالةَ، ونصحَ الأمَّة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى من سار على طريقهم واتبع هُداهم إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - بوصية الله للأولين والآخرين في مُحكَم التنزيل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131].
أيها المسلمون:
هذه هو شهر البركات والرحمات الذي تتجلَّى فيه النفوسُ الصافية، وتصعدُ فيه الهِمَم النديَّة إلى معالي الإيمان والمعرفة بالله - سبحانه -. شهرٌ تضيقُ فيه منافذُ الشياطين، فتصفُو عبادةُ المرءِ لربه، ويلَذُّ الأُنسُ بكتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت: 42].
إنه شهر القرآن الكريم، شهرُ الانكسار والمُناجاة، شهرُ التدبُّر والاعتبار والخشية؛ لأن المرءَ بلا قرآن كالحياة بلا ماءٍ ولا هواءٍ، وهو بمثابة الروح للحياة، والنور للهداية. خيرُ جليسٍ لا يُملُّ حديثُه، وتَردادُه يزدادُ به المرءُ تجمُّلًا وبهاءً.
هو الكتابُ الذي من قام يقرأه كأنما خاطبَ الرحمن بالكلِم، قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[المائدة: 15، 16].
دخل أبو جهلٍ على الوليد بن المُغيرة يُحرِّضه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما جاء به من القرآن، فقال أبو جهلٍ للوليد: قُل فيه قولًا يبلغُ قومَك أنك كارهٌ له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكُم رجلٌ أعلمُ بالأشعار مني، ولا أعلمُ برجَزه ولا بقصيدته مني، ولا بأشعار الجنِّ، واللهِ ما يُشبِه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقولِه الذي يقول حلاوةً، وإن عليه لطلاوةً، وإنه لمُثمِرٌ أعلاه، مُغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو وما يُعلَى، وإنه ليحطِمُ ما تحته.
نعم - عباد الله -؛ هذا هو القرآن الذي أدهشَ العقول، وأبكَى العيون، وأخذ بالألباب والأفئدة، وطأطأت له رؤوسُ الكُفر، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[المائدة: 83].
أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلقَ في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عُكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسِلَت عليهم الشُّهُب، فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء. قال: ما حالَ بينكم وبين خبر السماء إلا شيءٌ حدث، فاضرِبوا مشارقَ الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث؟
فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حالَ بينهم وبين خبر السماء. قال: فانطلق الذين توجَّهوا نحو تِهامة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنخلة وهو عامِدٌ إلى سوق عُكاظ وهو يُصلِّي بأصحابه صلاةَ الفجر، فلما سمِعوا القرآنَ تسمَّعوا له، فقالوا: هذا الذي حالَ بينكم وبين خبر السماء.
فهُنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا[الجن: 1، 2].
هذا هو حالُ الناس مع كتاب ربهم - إنسِهم وجنِّهم، مُؤمنهم وكافِرهم -، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا[الإسراء: 9].
إنه ليس شيءٌ أنفعَ للعبد في معاشه ومعاده وأقربَ إلى نجاته وسادته في الدارَين من تلاوة كتاب ربِّه آناء الليل وأطراف النهار، وتدبُّره وإطالة النظر فيه، وجمعِ الفِكر على معاني آياته؛ فإن ذلكم يُطلِعُ العبدَ على جوامع الخير والشر وعلى حال أهلها، ويُريه صورةَ الدنيا في قلبه، ويُحضِرُه بين الأمم السالفة، ويُريه أيام الله فيهم والمَثُلات التي حلَّت بهم أو قريبًا من دارهم.
فيرى المُتدبِّرُ غرقَ قوم نوح، ويعِي أثرَ صاعقة عادٍ وثمود، ويعرفُ غرقَ فرعون وسف هامان، ويستوعِبُ ماهيَّة طريق الشر وعاقبة أهله، وماهيَّة طريق الخير ومآل أهله، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[الكهف: 49].
لقد جعل الله هذا الكتابَ فُرقانًا بين الحق والباطل، من طلبَ الهُدى منه أعزَّه الله، ومن ابتغَى الهُدى من غيره أذلَّه الله.
لقِيَ عمرُ الفاروق - رضي الله عنه - نافعَ بن عبد الحارث بعُسفان - وكان عمرُ يستعملُه على مكة -، فقال: من استعملتَ على أهل الوادي؟ فقال: ابنَ أبزى. قال: ومن ابنُ أبزى؟ قال: مولًى من موالينا. قال عُمر: فاستخلفتَ عليهم مولًى؟! قال: إنه قارئٌ لكتاب الله - عز وجل -، وإنه عالمٌ بالفرائض. قال عُمر: أما إن نبيَّكم قد قال: «إن الله يرفعُ بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين»؛ رواه مسلم.
إنه النورُ الذي لا تُطفَأُ مصابيحُه، والمنهاجُ الذي لا يضِلُّ ناهِجُه، هو معدِنُ الإيمان، وينبوعُ العلم، ومائدةُ العُلماء، وربيعُ القلوب، ودستورُ الحياة برُمَّتها، والشفاءُ الذي ليس بعده داء، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ[فصلت: 44].
كتابٌ محفوظٌ بحفظ الله له، لا يُغيِّره تحريفُ المُحرِّفين، ولا تأويلُ المُبطِلين، ولا عِنادُ النكِصين، يعلُو ولا يُعلَى عليه، ويودُّ أهلُ الباطل لو غسَلوا آياته وأحكامَه بماء البحر ليُمحَى أثره عن الوجود، ولكن الله غالبٌ على أمره، وهو القائلُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر: 9].
قال يحيى بنُ أكثَم: كان للمأمون - وهو أميرٌ إذ ذاك - مجلسُ نظر، فدخل في جُملة الناس رجلٌ يهودي. قال: "فتكلَّم فأسن الكلام والعبارة. قال: "فلما أن تقوَّضَ المجلس دعاه المأمون، فقال له: إسرائيليٌّ؟ قال: نعم. قال له: أسلِم حتى أفعل بك وأصنع. ووعده فانصرف.
فلما كان بعد سنةٍ جاء مُسلِمًا فدعاه المأمون وقال: ألستَ صاحبَنا بالأمس؟ قال: بلى. قال: فما سببُ إسلام؟ قال: انصرفتُ من حضرتك فأحببتُ أن أمتحِنَ هذه الأديان، وأنا مع ما تراني حسنُ الخط، فعمدتُ إلى التوراة فكتبتُ ثلاثَ نُسخٍ فزِدتُّ فيها ونقصتُ، وأدخلتُها الكنيسة، فاشتُرِيَت مني. وعمدتُ إلى الإنجيل فكتبتُ ثلاثَ نُسخٍ فزِدتُ فيها ونقصتُ، وأدخلتُها البَيعة، فشتُرِيَت مني. وعمدتُ إلى القرآن فعملتُ ثلاثَ نُسخٍ وزِدتُ فيها ونقصتُ، وأدخلُها إلى الورَّاقين، فتصفَّحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رمَوا بها فلم يشتَروها. فعلِمتُ أن هذا كتابٌ محفوظ، فكان سببَ إسلامي.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت: 41، 42].
هذا هو كتابُ الله الكريم الذي نزل ب الروح الأمين؛ فما نحن صانِعون فيه؟! أيكون رائِدَنا ودستورَنا في حلِّنا وترحالنا، وغضبنا ورضانا، ومنشطنا ومكرهنا؟! أم أنه سيكون ضيفًا على الرفوف لا يلحقُه البرُّ إلا في رمضان؟!
أنعتصِمُ به ونعَضُّ على أنواره بالنواجِذ أم نكون كالعِيسِ في البيداء يقتُلها الظمَأ والماءُ فوق ظهورها محمول؟! أم تكون أسماعُنا كالأقماع فتدخل الآياتُ مع اليُمنى وتخرجُ مع اليُسرى.
أخرج مسلم في "صحيحه" أن الله قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بعثتُك لأبتليك وأبتلِي بك، وأنزلتُ عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرأه نائمًا ويقظان».
قال الحسن البصري - رحمه الله -: "إن هذا القرآن قد قرأه عبيدٌ وصبيان لا علمَ لهم بتأويله، وما تدبُّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأتُ القرآن كلَّه فما أسقطتُ منه حرفًا، وقد والله أسقطَه كلَّه، ما يُرى له في خُلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأُ السورةَ في نفسٍ واحدٍ، والله ما هؤلاء بالقُرَّاء ولا بالعلماء ولا الحكماء ولا الورِعة".
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وأرُوا اللهَ من أنفسكم في هذا الشهر المبارك قُربًا من كتابه تلاوةً وتدبُّرًا وعملًا وهدايةً، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ[فاطر: 32].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفرُ الله إنه كان غفَّارًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واغتنموا هذا الشهرَ المبارك في تلاوة كتابه وتدبُّر آياته، والنَّهل من عِبَره وعِظاته؛ إذ فيه نبأُ من قبلَنا، وخبرُ ما بعدنا، وفصلُ ما بيننا، فطُوبَى لمن تدبَّرض كتابَ ربه حقَّ تدبُّره، وهنيئًا لمن تقشعِرُّ منه جلودُهم وتلينُ جلودُهم وقلوبُهم إلى ذكر الله، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ق: 37].
ولعل أمة الإسلام في هذا الشهر المبارك تعيشُ صورًا جديدةً من التدبُّر والتأمُّل مع كتاب ربها بعد هذه الأحداث المُتسارعة والزوابع المُدلهِمَّة لتقول بلسان حالِها: ما أشبَه الليلة بالبارحة، واليوم بالأمس، وها هو التاريخُ يُعيدُ نفسَه.
نعم، إن لسانَ حالها يقول: لقد كنا نظنُّ أن فرعون وقارون وهامان والنمرود وذا النواس شخوصٌ طواها التاريخ، فلن تتكرَّر على مر الزمان، وإذا بأمة الإسلام تُشاهِدُ أكثرَ من فرعون يعيشُ بين ظهرانيهم ممن يستبيحُ الأرواح والأعراضَ، ممن علا في الأرض وجعل أهلَها شِيعًا يستضعِفُ طائفةً منهم يُذبِّحُ أبناءَهم ويستحيِي نساءَهم.
نعم، لقد قرأنا جرائمَ فرعون الأول فظنَّنا أنها قصصٌ لن يكون لها ضَريب، لقد شاهَدنا ثم شاهَدنا بأم أعيننا ممن هم من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، شاهَدنا منهم القتلَ والتشريدَ، وشاهَدت جموعُ المسلمين الظلمَ والاضطهادَ واستباحةَ الأعراض، ورأينا من يئِدُ الناسَ وهم أحياء، ورأينا من يُنشَرون بالمناشِير ومن يُحرَقون بالنيران، وكأنَّ مشاهد قوم فرعون وأصحاب الأخدود والجاهلية الجهلاء تقعُ أمام ناظِرنا، بعد أن كانت أخبارًا تُتلَى وتُسمَع.
وإن كان فرعون الأول قد قال لقومه: ما علِمتُ لكم من إلهٍ غيري، فإننا قد رأينا وسمِعنا ضريبَ قول فرعون، فامتُحِن الناسُ في تأليه طواغيتهم، وأكرهوا الناسَ على السجود لصورهم، ودمَّروا البلادَ والعبادَ انتقامًا وظلمًا وعدوانًا ليكون مثلُ هؤلاء الحاكمَ بأمره. وكأنه وأمثالُه يُجدِّدون مقولةَ فرعون الأول: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[غافر: 29]، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[النمل: 76، 77].
إن كل مسلم غيُور له قلبٌ ينبِض وعينٌ تطرِف لا يتجاهلُ ما يُلاقيه إخوانُنا المسلمون في ميانمار وما فعله عدوُّهم بهم من التنكيل والتقتيل، ولا ما يُصيبُ إخوانَنا في بلاد الشام في سوريا الخلافة والأمجاد من صنوف البطش والجَور والطغيان، ولن تبرحَ جموعُ المسلمين حتى ترفع أكُفَّ الضراعة للواحد القهَّار أن ينصرهم على عدوِّهم عاجلًا غير آجِل.
ونسأل الله - جل وعلا - أن يكون هذا المُؤتمر الذي دعا إليه خادمُ الحرمين الشريفين - وفقه الله - لبِنةً صالحةً في استنهاض هِمَم المُسلمين للوقوف جنبًا إلى جنبٍ في نُصرة قضايا المسلمين، إنه - سبحانه - خيرُ مسؤول.
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[الأعراف: 127- 129].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56]، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصر إخواننا المسلمين في ميانمار وفي سوريا وفي يرها من بلاد المسلمين، اللهم انصرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل مواسِمض الخيرات لنا مربَحًا ومغنَمًا، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقًا وسُلَّمًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 07:00 PM   رقم المشاركة : 5

 

مؤتمر القمة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 22 رمضان 1433هـ بعنوان: "مؤتمر القمة"، والتي تحدَّث فيها عن جماعة المسلمين مُمثَّلة في دعوة خادم الحرمين حكام العرب والمسلمين لعقد مؤتمر لمناقشة قضايا المسلمين المُعاصِرة، وأشادَ بهذا المؤتمر، ووجَّه نصائحَه للحكام بوضع قضايا المسلمين في كل مكانٍ نُصبَ أعينهم، والخروج بحلولٍ شافيةٍ لها، ولم يُهمِل التذكير بهذه الأيام الفاضلة أيام العشر من رمضان وما فيها من نفحاتٍ وخيراتٍ، وما ينبغي على المسلمين اغتنامه فيها.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الملك المعبود، ذي الفضل والكرم والجُود، أحمده - سبحانه - وأشكره على جزيل إنعامه وفضله الممدود، والشاكر بالمزيد موعود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تُسبِّح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ومخلوقاتُه على ربوبيته وألوهيته شهود، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله صاحب المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله المُوفين بالعهود، وأصحابه في نُصرة الحق هم الأسود، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى اليوم الموعود، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، ألا تطمعون في اللحاق بالصالحين؟ ألا تتسابقون في الخيرات مع المُتسابقين؟ كم بين الساعي والقاعد والراغب والزاهد؟ السابقون السابقون شغلَهم حبُّ مولاهم عن ملذَّات دنياهم، والمُتنافِسون المُتنافِسون دموعُهم على وجناتهم تتدفَّق، يشتاقون إلى الحبيب، والحبيبُ إليهم أشوق، ما أبهى منظرهم في ظُلمات الدُّجَى ونورُهم قد أشرق، تعرفهم بسيماهم وللصدق نورَق.
يا عبد الله:
لا يجعلُ الله عبدًا أسرع إليه كعبدٍ أبطأ عنه، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الحديد: 21].
أيها المسلمون الصائمون القائمون:
تقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم، وأعظمَ أجرَكم ومثوبتكم، وأحسن جزاءَكم.
في خواتيم هذا الشهر المبارك، وفي عشره الأخيرة يحسُن النظرُ في دروس الشهر وعِبَره:
شهر رمضان شهر القرآن والفرقان، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[البقرة: 185]، قرآن وفرقان يملأُ العقولَ حكمة، والقلوبَ طهارة، والنفوسَ إشراقًا وبهجة.
شهر رمضان شهر الفرقان بين الحق والباطل، فُرقان بدرٍ المعركة الكبرى، بدر الانتصارات، وفُرقان الفتح فتح مكة، ذلكم الفتح الذي علَت به كلمةُ الدين، ومنه انطلقَت فتوحاتُ المُسلمين.
بقوة الحق والفُرقان استوثَقَت عُرى دولة الإسلام، وامتدَّ سلطانُه العادلُ، وساس الأممَ بعقيدة التوحيد وشريعة الصلاح والإصلاح.
معاشر المسلمين:
والأمة الإسلامية على مُفترق طُرقٍ، تخفقُ قلوبُها شغفًا بما يُداوي جراحَها، ويرفعُ مآسِيَها، ويسرُّ صديقَها، ويدحَرُ عدوَّها.
إنها أمام ظروفٍ ومُتغيِّراتٍ ومُستجداتٍ فيها الفرص الحقيقية لبناء سياساتٍ عربيةٍ إسلاميةٍ تملأُ الفراغَ الذي تعيشُه هذه الأمة بسبب استقطاباتٍ مُهلِكة، واصطفافاتٍ مُدمِّرة، وتشرذُماتٍ قاتلة.
في هذه الظروف والبواعث والمُستجدات تأتي بلاد الحرمين - المملكة العربية السعودية - والتي تعوَّد قادتُها أن يتصدَّوا لكوارث الأمة والعمل مع الأشقَّاء لمُعالجتها شعورًا بالواجب، ونهوضًا بالمسؤولية.
معاشر المسلمين:
الدعوةُ إلى وحدة المسلمين وتضامُنهم والتحاوُر والمُشاورة فيما بينهم هي إحدى رواسِخ هذه الدولة وثوابتها؛ فمُؤسسُ هذه الدولة: الملكُ عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - رحمه الله - حالما فرغَ من توحيد هذا الكِيان العظيم أولُ عملٍ إسلاميٍّ قام به دعوتُه إلى أول مؤتمر إسلامي عام خمسٍ وأربعين وثلاثمائةٍ وألفٍ (1345 هـ) هنا في مكة المكرمة.
ثم تعاقبَ على ذلك أبناؤُه: الملكُ سعود، وفيصل رائدُ التصامُن الإسلامي، وخالدٌ، وفهدٌ - رحمهم الله -، تعاقَبوا على احتضان مؤتمراتٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ يشهدُ لها التاريخُ وتشهَد لها الأجيال.
وقد سارَ على هذا السَّنَن: خادمُ الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله ووفقه وأعانه - في رغبةٍ صادقةٍ، وعملٍ جادٍّ من هذه القيادة الصالحة لتحذير هذه الأمة بقياداتها وزعمائها من محاولات الاستقطابات الإقليمية والدولية، ومن أجل اعتماد مسار التضامُن والوحدة.
لقد دعا قبل ذلك - حفظه الله - إلى قمتين: إحداهما: إسلامية، والأخرى: عربية من أجل هذه الأغراض النبيلة الكبرى.
وله تطلُّعاته؛ فهو يتطلَّع إلى أمةٍ إسلاميةٍ مُوحَّدة، ويتطلَّع إلى حكمٍ مسلمٍ رشيدٍ يقضي على الظلم والقهر، ويتطلَّع إلى تنميةٍ مسلمةٍ شاملةٍ تقضي على العَوز والفقر، ويتطلَّع إلى انتشار وسطية سمحة تُمثِّل سماحة الإسلام، ويتطلَّع إلى تِقنيَّة مُسلمة مُتقدمة.
هذا الملك الصالح قبل الحوار اهتمامه المُنقطع النظير، فله في ذلك سجلٌّ ناصع، ومُبادراتٌ لا تُنكر لدحض مقولة: صدام الحضارات.
وقد سجَّل مقولته: إننا صوتُ تعايُش وحوارٍ عاقلٍ وعادلٍ، صوتُ حكمةٍ وموعظةٍ وجِدالٍ بالتي هي أحسن.
وها هو - حفظه الله وسدَّده - يُوجِّه دعوتَه لإخوانه وأشقائه قيادات العالم الإسلامي وزعمائه لمُؤتمرٍ استثنائيٍّ يجتمعُ فيه فضلُ الزمان، وشرفُ المكان، ومكانةُ الداعي؛ في شهر رمضان المبارك، وفي عشره الأخيرة، وفي أرجى أيامه ولياليه، وبجوار الكعبة المُشرفة وزمزم والحَطيم.
إنه اجتماعٌ استثنائيٌّ بكل المقاييس، مشاعر تترقَّبُها الأمةُ وتأملُ أن يكون المُأتمِرون في درجاتٍ عُليا من الباعث الإيماني، والصفاء الذهني، والصدق الوجداني، في جوار بيت الله، وفي شهر رمضان المُبارك المُعظم.
نعم، إنه من المُؤمَّل أن يكون في هذا التأطير الزمانيِّ والمكانيِّ مزيدٌ من استشعار هذه القيادات الكريمة لعِظم المسؤولية أمام ربها، ثم أمام شعوبها.
وإن هذا الحضور الكريم والتجاوُب المشكور لهذه الدعوة دليلٌ ظاهرٌ إن شاء الله بأن في أعماق الأمة رغبةً حقيقيةً في التغيير نحو الأفضل، وعزمًا صادقًا - بإذن الله - على الإصلاح المنشود، وتحقيق أهداف هذا المُؤتمر العظيم.
معاشر القادة والزعماء:
ينبغي أن ينتهِج المؤتمر الكريم حوارًا راقيًا شفَّافًا يُعيدُ للأمة حيويتها، ويُزيلُ الحواجز المُفتعلة، يجبُ لنجاح القمة أن تتغلَّب القِيَم الأصيلة، والمصالح الكُبرى، والوقوف مع كل مطلبٍ عادلٍ تفعيلً لقُدرات الأمة، وتوحيدًا لطاقاتها في تضامُن حقيقي، وإرادةٍ حازمةٍ جادَّة للنهوض بالأمة، وعزمٍ صادقٍ لا يَلين لمواجهة التحديات.
حذارِ ثم حذارِ - حفظكم الله - أن تقِف المطامِع الصغرى والمصالح الضيقة أمام المصالح الكبرى وآمال الأمة وثقتها.
أيها المُؤتمِرون الكرام:
إن أولَى الأولويات: تعزيزُ التضامُن الإسلاميِّ، والسيرُ الجادُّ نحو تحقيق الوحدة الكُبرى، وحدةً تُنقِذُ الأمةَ من هذا التشرذُم والاضطراب والتقطيع والاستقطاب.
إن شعوبَكم تنتظر منكم مواقف حازِمة ضد الحملات التي يتعرَّض لها الإسلام ونبيُّ الإسلام - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وكتابُ الإسلام كتابُ الله العزيز، لا بُدَّ من مواقف حازمة ضدَّ كل من يضع الإسلام في دائرة التطرُّف ودائرة الإرهاب، ويجعلُ أهلَ الإسلام يدفعون ثمنَ ذلك غاليًا من أنفسهم وكرامتهم واقتصادهم وسياستهم وعلاقاتهم.
وإن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وإن العدلَ بيِّن، وإن الظلمَ بيِّن.
أيها القادة:
وإن الفتنة التي ذرَّ قرنُها، والأفعى التي أطلَّت برأسها هي هذه الطائفية المذهبية المقيتة التي يُحاول من يُحاول من أعداء الأمة ممن لا يُريد لها خيرًا، ولا يُريد لها قيامًا يُحاول أن يُرسِّخها، وأن يُتنامَى دورُها السلبيُّ، إنها - والله - تُنبِتُ الشِّقاق والتناحُر والخصومة والأحقاد، وهي - والله - المدخلُ العريضُ للتنافُس الدولي لتحقيق مصالحهم الخاصة ومطامعهم على حسابِ تقسيم المُقسَّم، وتوسيع الخلافات، وبثِّ روح الانكفاء على الاصطفافات الضيقة.
الطائفية هي العائقُ الصلبُ والسدُّ العظيمُ أمام تحقيق كل هدفٍ إسلاميٍّ نبيلٍ، وأعظمُها الوحدةُ الإسلاميةُ المنشودة، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات: 10].
أيها القادة والزعماء:
وقضيةُ المسلمين الكُبرى ومُشكلتُهم الأوليى: فلسطين، ثم فلسطين، ثم فلسطين، فلسطين السَّليبة، فلسطين الأقصى، أولى القبلتين وثالثُ الحرمين الشريفين لا يزالُ تحت الاحتلال، ولا يزالُ العدو المُحتَلّ يُقطِّع الأراضي ويعبَثُ بالمُقدَّرات؛ بل يعبَثُ بالاتفاقيات، ويُحاصِرُ غزة، ويسرِقُ الضفة، ويسعى ومن معه بما أُوتوا من قوةٍ ليجعلوا هذه القضيةَ الكُبرى في مُؤخرة الاهتمام أو المُهم من القضايا.
أيها المُؤتمِرون المُعظَّمون:
في ديار الإسلام مذابِح جماية تُنظَّم، يذهبُ كل يومٍ ضحيتها رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ كلهم أبرياء عُزَّل، مُسالِمون، في سوريا الجريحة، وفي الروهينجا في ميانمار في بورما، يقوم بذلك كله طغاةٌ مُتجبِّرون مُجرمون، ما نقَموا منهم إلا أن لهم حقوقًا مشروعةً، ومُطالباتٍ عادلةٍ في العدل والإصلاح والعيش الكريم.
لا بُدَّ من وقفاتٍ حازمةٍ لحمايةِ هؤلاء المظلومين ورفع الظلم عنهم وتمكينهم من نيل حقهم المشروع في الحياة الآمِنة الكريمة والأخذ على يد الظالم.
وثمة قضايا أساسية هي الطريق لتحقيق الودة المنشودة يجبُ النظرُ فيها ويكون الاعتماد بعد الله في بحثها والنظر فيها على جهود دولنا الإسلامية ومواردها ورجالاتها وكفاءاتها في وضع الخطط ورصد الموارد للمشاريع المُشتركة الاقتصادية والصناعية والعسكرية، وإصلاح التعليم، وتحقيق الريادة العلمية والتقنية في أقطار المسلمين، مع ما ينبغي مُلاحظته من حفظ حقوق الناس، والحريات العامة، وحقوق الأقليات، وما يتطلَّبه ذلك من ضبطِ مسار الإعلام حتى لا يزيدَ من مناخات التوتُّر، وزرع الشكوك، وافتعال التافُر، وتقليل مواطن الالتقاء مما يُراكِمُ الأخطاءَ في حق أوطاننا ومُستقبل شعوبِنا وتربُّص أعدائنا.

معاشر الزعماء الأكارم:
هذه مطالبُ مشروعة، وتطلُّعاتٌ مُحِقَّة، وآمالٌ ليس تحقيقُها بعد توفيق الله وعونه بعزيزٍ، وما هي على هِمَم الصادقين المُخلِصين ببعيدٍ.
إن اجتماعكم المُبارك - حفظكم الله - فرصةٌ تاريخية يجب استغلالها وعدم تفويتها، فأرُوا اللهَ في هذا الشهر الكريم من أنفسكم خيرًا، وجِدُّوا وشمِّروا وانطلقوا على بركة الله في مسيرة التضامُن الإسلاميِّ في دعوةٍ إلى دينكم والتزام أحكامه، وإحياء روح الأُخُوَّة الإيمانية، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 103]، من أجل أن يعود الدمُ المُسلمُ غاليًا، وتنطلقُ مشاريعُ التكامُل الإسلاميِّ في البناء والتنمية، وحتى تتحقَّق الاستقلالية الإسلامية المنشودة.
وثِقوا بوعد الله - عزَّ شأنه - في قوله - سبحانه -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور: 55]، وبقوله - عزَّ شأنه -: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[الحج: 40، 41]، وبقوله - جل وعلا -: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال: 46].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله حمدًا يليقُ بجلاله وعظيم سُلطانه، والشكرُ له على سابغ إنعامه وجميل إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُوصِلُ إلى جنته ورضوانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه جاهدَ في الله حق جهاده حتى أقام الدين على أركانه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون:
شهر رمضان المُبارك موعدٌ معلومٌ يظهر فيه جماعة المسلمين واجتماعُهم، إنه تذكيرٌ وحدة الهدف، ووحدة الشعور، ووحدة الضمير، ووحدة المصير، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183]، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ[البقرة: 185].
المسلمون كلُّهم ينتظمِون في هذا الشهر الكريم على نمطٍ واحدٍ من المعيشة، الغنيِّ والفقير، والذكر والأنثى، والشريف والوضيع، كلُّهم صائمٌ لربه، مُستغفِرٌ لذنبه، مُمسِكٌ عن المُفطِرات في موعدٍ واحدٍ بدءًا وانتهاءً، مُتساوون في الجوع والحِرمان، وإذا أردتم استشعار مظهر الوحدة في هذه الشعيرة العظيمة فارجِعوا البصرَ ثم ارجِعوا البصرَ على هذه الجموع المُكتظَّة في حرم الله وحرم رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -، لتروا مئات الألوف من المسلمين والمُسلمات والصائمين والصائمات والقائمين والقائمين وقد اجتَمعت في هذه الرحاب الطاهرة بأجناسها وألوانها لتعيشَ أجواءَ الأمن والإيمانِ والبذل والعطاء والخير والنماء.
هذه الرحاب المُباركة تحتضن الإسلام ودعوته، مهوَى أفئدة المسلمين أجمعين، تلتقي هذه الجُموع في رِحابها، وتلتقي معها آمالها، وتتجِه إليها قلوبُها وأجسادُها، وتُولِّي نحوَها في القبلةِ وجوهَها.
معاشر الأحِبَّة:
هذا هو شهرُ الصوم، وهذه شذَراتٌ من دروسه وعِبَره، وق بدأت خِيامُه تتقوَّض، فاستدرِكوا في خواتيمه، وأحسِنوا في توديعه، وجِدُّوا وشمِّروا فيما بقِيَ من أيامه؛ كيف وما بقِي منه هو أفضلُ أيلامه ولياليه، فكونوا لربكم ائعين، ومع إخوانكم بررةً مُحسنين، والأُسوةُ في ذلك نبيُّكم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان أجودَ ما يكون في رمضان، وكان إذا دخلَت العشرُ أيقظَ أهلَه، وأحيا ليلَه، وجدَّ وشدَّ المِئزَر.
فأرُوا للهَ من أنفسكم خيرًا؛ فإن الشقي فيه من حُرِم رحمة الله، فمن كان مُجِدًّا فليُكثِر، ومن كان مُقصِّرًا فليُقصِر، ومن شاغَل فليُبادِر بالتوبة النَّصُوح، وليعظُم رجاءَه بربِّه؛ فأبوابُ التوبة مُشرَعة.
وبعد:
وأنتم في حال التوديع وأخذ العِبرة اتقوا اللهَ ربكم - رحمكم الله -، وتذكَّروا أحوالَ الأكباد الجائعة، والنساء العارية، والنساء المُترمِّلة، والأطفال الضائعة.
استشعِروا حالَ إخوانكم من ذوِي المسربة والنكبات والمُهجَّرين والمُشرَّدين، وتفاعَلوا مع ذوي الضعفِ والحاجةِ والمساكين، وكونوا ممن وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان: 7- 9].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا وفي بورما، اللهم واجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم يِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، اللهم اجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافية.
اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، وعليك اللهم بالطغاة الظلمة فإنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، الله فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وصيامَنا، وقيامَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201]، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 07:08 PM   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

كلمة في ختام الشهر الفضيل
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 29 رمضان 1433هبعنوان: "كلمة في ختام الشهر الفضيل"، والتي تحدَّث فيها عن ختام شهر رمضان المبارك وما ينبغي على كل مسلمٍ التأمُّل في حاله وماذا يكون بعده، وحثَّ على الثبات على الطاعات بعد شهر الرحمات حتى يُقبَل عملُ العبدِ، وأشادَ بمُؤتمر التضامُن الإسلامي وتوصياته.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونُثنِي عليه الخيرَ كلَّه، أحمدُه - سبحانه - ترادفَت نعماؤه وتوالَت نعمُه وآلاؤه.
لك الحمدُ اللهم حمدًا مُخلَّدًا
على نعمٍ لم تُحصَ عدًّا فتنفَدا
ونسألُه التوفيقَ للشكر إنه
يكونُ لنعماءِ الإلهِ مُقيِّدًا
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستبصِر بها الفتنَ الصحماء، ونرقَى بها في ذُرَى المجد القَعساء، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله جاء بالحق اللألاء، وشمس الهُدى العَلياء، صلَّى الله عليه صلاةً وارِفَة الأفياء، وعلى آله الأتقياء الكُرماء، وصحابتهِ الغُرِّ بدورِ السماء، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا اللهَ حق تقاته، وابتغوا من فضله ومرضاته، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 102، 103].
فمن تدرَّع بالتقوى استنار بها
وباتَ في بهجة الأعمال جَذلانًا
فسِر أمامك دربُ الخير مُزدهِرٌ
شُجونُه امتلأت روحًا وريحانًا
في عقابيل الأيام والشهور، وبين علاجيم الأزمان والدهور، تلتمس وجِدَّتها، وإن لله في أيام الدهر لنفحات، تتنزَّل فيها الرحمات والبركات، ومنذ أيام قليلة كنا نستطلِعُ مُحيَّاه بقلبٍ ولهان، وبعد ساعاتٍ وربما سُويعاتٍ نُودِّعه وعند الله نحتسِبه ونستودِعه، وقد فاز فيه من فازَ من أهل الصلاح، وخابَ وخسِر فيه أهلُ الغفلة والجُناح.
رمضانُ ما لكَ تلفِظُ الأنفاسا
أوَلم تكن في أُفقنا نبراسًا
لُطفًا رُويدَك بالقلوب فقد سمَت
واستأنَسَت بجلالك استئناسًا
إخوة الإيمان:
ما أسرع مرور الليالي والأيام، وكرَّ الشهور والأعوام، فها هو شهر الصيام قد قُوِّضَت خيامُه، وتصرَّمَت أيامه، وأزِفَ رحيلُه ولم يبقَ إلا قليلُه، وتلك سنةُ الله في كونه؛ أيامٌ سيَّارة، وأشهرٌ دوَّارة، وأعوامٌ كرَّارة، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[فاطر: 43].
لقد مرَّ كلمحة برقٍ أو غمضة عينٍ، شمرجَ القلوبَ ببركاته، وأينعَ صرادِحَه برحماته، كم ذَرَفَت فيه العيونُ الدوامِع، ووِجلَت فيه القلوبُ الخواشِع، ورُفِعت فيه الأكُفُّ الضارِعة، ووُطِّئَت فيه الحوباءُ التالِعة.
ترحَّل الشهرُ والهفاه وانصرَما
واختصَّ بالفوز بالجناتِ من خدَما
فطُوبَى لمن كانت التقوى بضاعتَه
في شهره وبحبل اللهِ مُعتصِمًا
ها نحن نتضوَّع أريجَ ليالِيَه الزاهِرة الغامِرة، أنِسَت القلوبُ بجنب الرحيم الغفار، ولهجَت الألسُنُ بالدعاء والحمد والاستغفار، فيا من أعتقَه مولاه من النار! إياك ثم إياك أن تعود إلى رقِّ الأوزار، ويا من استجبتَ لربك في شهر الصيام! استجِب له في سائر الأيام؛ فربُّ رمضان هو ربُّ شوال وهو ربُّ أشهر العام.
أمة الإسلام:
ونحن نودِّعُ شهر الصيام والقيام، لا تزالُ مآسِي أمتنا تذرِفُ، وجراحاتُها تنزِف، وجسدُهامُثخنٌ بالجراح، وأبناؤُها يُعانون في كثيرٍ من الوِهاد والبِطاح، تُراقُ فيهم الدماء، وتتقطَّع منهم الأشلاء في صلَفٍ ورعونة، وصُدارةٍ مأفونة.
أما جاءكم أنباءُ الصامدين في الأقصى وفلسطين، والمرزوئين في سوريا الشام الحزين؟! أما علِمتم حالَ إخوانكم في بُورما وأراكان؟! لقد عمِل الطغاةُ الظالمون بالمسلمين هناك قتلًا وتشريدًا، فأراقوا الدماء، ونثَروا الأشلاء على مسارِح اليَهماء، وقتَّلوا الأبرياء، ويتَّموا الأبناء، وانتهَكوا أعراضَ النساء، وسط صمتٍ عالميٍّ، وتجاهُلٍ دوليٍّ.
هناك لا يُسمَع إلا شغشغةُ الطِّعان، وهيقعَة الصوارم في الأبدان، وضعضعة الأركان، وتقويض المساجد وعامر البُنيان، وإلى الله الملجأ والمُشتكى، وهو وحده المُستعان وعليه .
ونِعم العُدَّة المذخورة الصبرُ
وقلنا غدًا أو بعده ينجلِي الأمرُ
فكان غدًا عُمرًا ولو مُدَّ حبلُه
فقد ينطوِي في جوفِ هذا الغدِ الدهرُ
إخوة الإسلام:
وفي حوالك الكروب والضوائق، وتحت وطأة الأرزاء والعوائق تشرئِبُّ طُلى أهل الإيمان إلى إشراقات الانفراج، وبشائر الخير والتفاؤُل والانبلاج، وفي هذه الآونة العصيبة، والحِقبة التأريخية اللهيبة، ومن هذه البِقاع الطاهرة ليلةٍ من ليالي العشر الزاهِرة أُثلِجَت صدورُ المؤمنين، وقرَّت أعينُ الغَيورين بمُؤتمرٍ استثنائيٍّ تأريخي، هو مُؤتمر التضامُن الإسلامي الذي دعا إليه خادمُ الحرمين الشريفين - حفظه الله وأدام توفيقه - عملًا بقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 103]، وبقوله - سبحانه -: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 92]، وبقوله - جل جلاله -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات: 10].
واستبصارًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمثَل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى».
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "عليكم بالجماعة؛ فإن الله لن يجمع أمةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على ضلالةٍ".
وقد تألَّق - بحمد الله - مُؤتمرُ قادة، وتأنَّق بموضوعاته الجسيمة وتوصياته العظيمة؛ فلله درُّهم وقد أشرقَ جمعُهم، وتلألأت بالمحبة صفوفُهم في هذه الرحابِ المُباركة والأيام العابِقة، وفي ليلةٍ غرَّاء من هذا الشهر المُبارك اعتصَموا بحبل الله أجمعين، واتَّحدوا على الخير أكتَعين، فحازوا شرفَ الزمان والمكان، وطاعةَ الواحد الديَّان، قُدوةً لشعوبهم وأبناء أوطانهم في الوحدة والائتلاف، والتآزُر والإيلاف، والاعتصام ونبذ الاختلاف.
لقد جاء هذا المُؤتمرُ المُوفَّقُ في أوانه، وما بدَرَ عنه من توصياتٍ جاءت لتُبدِّد غياهِب الغُمَّة التي أظلَّت الأمة، فتُفيق من تهوينها الذي طال أمَدُه، وتغويرها الذي اسبطَرَّ عمَدُه، وتعودُ الأمةُ الإسلاميةُ إلى سابق مجدها ورفعتها، وتسترِدُّ سامِق عزِّها ومكانتها.
سدَّد الله خُطاهم، وبارَكهم ورعاهم، ووفَّقهم لما فيه صلاحُ الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد، وجزى الله خادمَ الحرمين الشريفين على جهوده المُباركة في جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، وليهنَأ - وفَّقه الله - ولتهنَأ الأمةُ جميعًا بهذا الإنجاز والنجاح والامتياز.
ألا فالزَموا - أيها المسلمون - طاعةَ ربكم وطاعةَ رسولكم - صلى الله عليه وسلم -، ثم طاعةَ أولي الأمر في صالح الأمور في الغَيبة والحضور، وشُدُّوا من أزرِهم، وعزِّزوا أمرَهم، ولا تُنصِتوا للأبواق الناعِقة وأصحاب الأفكار الهدّامة النافِقة الذين يسعَون في الأرض فسادًا، ويحسبون السرابَ ماءً بِقيعة بعد كدَر الصنيعة، لعلهم يفطِمون نفسَهم عن مراضع الفِتَن ومراتِع الأَفَن.
فما الشِّقاقُ بناةُ المجد مبدؤكم
ولا النِّزاعُ ولا الإحجامُ عن قِيَمِ
فسارِعوا سدَّ ثغر الخُلف واعتصِموا
لو اعتصَمنا بحبل الله لم نُضَمِ
معاشر الصائمين الميامين:
وحينما تفيَّأت هذه الأمةُ ذه الأجواءَ الروحانيةَ العبِقة فإنها - بحمد الله - على الطاعة والتقوى في هذه الأيام أكثر من أي زمانٍ، فبهما تُستدفَعُ الخُطوب وتُكشَف الكُروب، ويُصلِحُ حالَنا علامُ الغيوب.
فلنستمسِك بالكتاب والسنة، ولنتأسَّ بسلَفنا الصالح قادة الحقِّ وسادة الخلقِ الذين أسَّسوا المجدَ الراسِخ، والمحتِدَ الباذِخ، وأتَوا على الباطل فضعضَعوا أركانَه، وقوَّضوا بُنيانَه في توحيدٍ خالصٍ، ومُعتقَدٍ سليمٍ، ومنهجٍ وخُلُقٍ قويم، ووحدةٍ مُتكاملة، ووسطيةٍ شاملة، وحوارٍ هادفٍ، فتن الطائفية ومسالك الغلو والجفاء.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، ولا تركنوا إلى الدنيا وقد ذُقتُم حلاوةَ الطاعة؛ فمن ركنَ إليها عكَلَته وأهلكَته، ومن أمِنَ لها كان كمن يستعيذُ من الفخِّ بالخاتل، يستعينُ على الحياة بالقاتل، ويُضارِبُ بلا ربحٍ، وفي بَهيمِ الليلِ يبحَثُ عن صُبحٍ.
هي ذي أفاعي الغدر تنفُثُ سُمَّها
أفلا نُحطِّمُ نابَها المهزولَ
لو سادَ حُكمُ الله فينا لم تهُن
في القدس قبلةُ مصطفانا الأولَى
فاللهَ اللهَ في الثبات على صراط الله المستقيم، والتمسُّك بحبل الله المتين، والله يقولُ الحق وهو يهدِي السبيلَ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد: 7].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المُرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي رحيمٌ ودودٌ.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي تتمُّ الصالحات بنعمته، وتعظمُ الخيراتُ بمنَّته، وأُصلِّي وأُسلِّم على الداعي لملَّته وسنَّته، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابِهِ وأزواجه وعِترته.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حق التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
شهرِكم أعمالًا عظيمةً تسدُّ الخلل وتجبُر التقصيرَ، فندبَكم إلى الاستغفار والشكر والتكبير، كما شرعَ لكم زكاةَ الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرَّفَث وطُعمةً للمساكين، وهي صاعٌ من طعامٍ كما في حديث أبي سعيدٍ وابن عمر - رضي الله عنهما -، أو من غالبِ قُوت البلد، والأفضلُ أن يُخرِجَها قبل صلاة العيد، ويجوزُ إخراجها قبل العيدِ بيومٍ أو يومين.
أيها الإخوة في الله:
إن الثباتَ على الطاعة والتقوى لمن علامات قبول العمل، يقول الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا قول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[المائدة: 27]".
ولما سُئِل بشرٌ الحافي عن أناسٍ يتعبَّدون في رمضان ويجتهِدون، فإذا انسلخَ رمضانُ تركوا، قال: "بئس القومُ لا يعرِفون اللهَ إلا في رمضان".
فكونوا - عباد الله - ربانيين لا رمضانيين. قال الحسن البصري - رحمه الله -: "لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت، وقرأ قولَه تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99]".
وما المرءُ إلا حيثُ يجعلُ نفسَه
فكُن طالبًا في الناس أعلى المراتِب
ألا وإن من التحدُّث بنِعَم الله ما نعِم به الصائمون والمُعتمِرون من أجواءٍ إيمانيةٍ آمنة، ومنظومة خدماتٍ مُتوفِّرة، وأعمالٍ مذكورة، وجهودٍ مشكورة، لم تكن لتحصُل لولا توفيقُ الله - جل جلاله - ثم ما منَّ به - سبحانه - على الحرمين الشريفين ورُوَّادهما من الولاية المُسلِمة المُخلِصة التي بذَلَت وتبذُلُ كلَّ ما من شأنه تسهيلُ أمور العُمَّار والزوَّار.
جعله الله خالصًا لوجهه الكريم، وزادَها خيرًا وهُدًى وتوفيقًا بمنِّه وكرمه.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على سيد الأنام، وقدوة أهل الإسلام، وأفضل من صلَّى وصامَ وتهجَّد وقام، خيرِ الخلق إمام الحق، كما أمرَكم المولَى - جل في عُلاه -، فقال تعالى قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
ونُهدي صلاةَ الله خالِقِنا على نبيٍّ
عظيمِ القدر للرُّسلِ خاتَمِ
صلاةً وتسليمًا يدومان ما سرَى
نسيمُ الصبا وانهلَّ صوبَ الغمائمِ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم انصر به دينَك، وأعلِ به كلمتَك، واجمع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، وأسبِغ عليه لباسَ الصحة والعافية، واجزِه خيرَ الجزاء على ما قدَّم للإسلام والمسلمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين.
اللهم وفِّق قادةَ المسلمين، اللهم وفِّق جميع قادة المسلمين، اللهم اجعلهم لشرعِك مُحكِّمين، ولسنةِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - مُتَّبعين، ولأوليائِك ناصرين.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من اليهود المُعتدين، والصهاينة المُحتلِّين، اللهم اجله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم فرِّج عن إخواننا في سوريا، اللهم عجِّل بنصر إخواننا في سوريا، اللهم عجِّل بنصر إخواننا في سوريا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم يا ناصر المظلومي، ويا مُجيبَ دعوة المُضطرين.
اللهم كن لإخواننا في بُورما وفي كل مكانٍ يا حي يا قيوم.
اللهم اختِم لنا شهر رمضان برضوانك والعتق من يرانك، واعِده علينا أعوامًا عديدة، وأزمِنةً مديدة ونحن في خيرٍ وصحَّةٍ وحياةٍ سعيدة.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم ارزقنا الاستقامة على الأعمال الصالحة ما حيِينا، اللهم ارزقنا الاستقامة على الأعمال الصالحة بعد رمضان يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام.
اللهم اختِم لنا بخيرٍ، اللهم اختِم لنا بخيرٍ، اللهم اختِم لنا بخيرٍ، والعتقِ من النار، والعتقِ من النار، والعتقِ من النار، يا عزيزُ يا غفارُ.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا وجميع المُسلمين الأحياءِ منهم والميِّتين برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
سُبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عمَّا يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 07:17 PM   رقم المشاركة : 7

 

عبادات يسيرة بأجور كبيرة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 6 شوال 1433هـ بعنوان: "عبادات يسيرة بأجور كبيرة"، والتي تحدَّث فيها عن الإكثار من النوافل بعد شهر رمضان؛ من الصيام، والقيام، وقراءة القرآن، وغير ذلك، وذكرَ العديدَ من الأحاديث الدالَّة على عِظَم أجور الكثير من العبادات اليسيرة؛ كالذكر، والوضوء، والصلاة، وإماطة الأذى عن الطريق، وما إلى ذلك.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله مُعيد المواسم والأعياد، ومُيسِّر طرق الخير ليستكثِر العبدُ من الخير ويزداد، فالحمدُ لله على ما شرَع، والشكرُ له على ما وفَّق، والفضلُ له على ما هدى، إليه المرجعُ وإليه المعاد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شركاء له ولا أنداد، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله وخيرُ العباد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أُولِي الهُدى والرشاد، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم التناد.
أما بعد:
فالتقوى - أيها المسلمون - التقوى؛ وصيةُ الأنبياء، وحليةُ الأولياء، وخيرُ عُدَّةٍ ليوم اللقاء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].
أيها المسلمون:
لم يزَل في ثيابنا عبَقٌ من شَذَى شهرنا لم يخِف، ولم يزَل في نفوسِنا طراوةٌ من تراتيل القرآن لم تجِف، ولم تزَل عيونُنا ندِيَّةً على وداعِ رمضان، ومن ذا يلومُها أن تجِف، وما ذاك إلا لما افتقدناه من لذَّة الطاعات، وحلاوة القُرُبات المُقرِّبات، وما جافانا عنه مركبُ الزمان من العبادات الجالِيَة لصدى النفوس ورانِ القلوبِ.
ولو صابرَ الإنسانُ نفسَه، وغالبَ هواه، وواصلَ نوافل العبادات التي اعتادَها في شهر رمضان؛ من صيامٍ، وقيام ليلٍ، وقراءةٍ للقرآن، وصدقةٍ، وخيرٍ لانقلَبَت حياتُه إلى موسمٍ للخير دائم، وتقلَّبَت نفسُه في رياضٍ من القُرُبات مُتصل، وتمثَّل قولَ الله - عز وجل -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 162].
أيها المسلمون:
الأرضُ ميراثُ الله لعباده يختارون منازِلَهم من الجنةِ بقدرِ حرثِهم للآخرة، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ[الزمر: 74]، والمؤمنُ الحقُّ سائرٌ إلى ربه يسعى ويحفِد، لا ينِي حتى يكون مُنتهاه الجنة، ولا يقِفُ حتى يُدرِكَه الموتُ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
ولئن انقضَى شهرُ رمضان - وهو شهرُ مُضاعفَة الأجور - فإن اللهَ تعالى هو ربُّ كل الشهور، وفي الحياة آفاقٌ واسعةٌ للعمل الصالح، وأجورٌ تُضاعَفُ هي - واللهِ - المتجَرُ الرابح، وفي شرع الله وهديِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - فِجاجٌ تُوصِلُ إلى الله، ودُروبٌ تُؤدِّي وتهدِي لمرضاته، وأعمالٌ تستجلِبُ مراضِيَ الله ورحماته، ويُكافِئُ عليها بجنَّته. ولكن أين المُشمِّرون؟!
قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبِي فقال: «كُن في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابِرُ سبيلٍ». وكان ابنُ عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظِر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظِر المساء، وخُذ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"؛ رواه البخاري.
وقد دلَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أعمالٍ يسيرة، ورتَّب عليها أجورًا كثيرة، وفتحَ لنا أبوابًا واسعةً من الأعمال الصالحة نتزوَّدُ بها ليوم الحِساب، وندَّخِرُها عند لقاء الله ربِّ الأرباب، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء: 19].
عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُصبِحُ على كل سُلامَى من أحدِكم صدقةٌ؛ فكلُّ تسبيحةٍ صدقة، وكلُّ تحميدةٍ صدقة، وكلُّ تهليلةٍ صدقة، وكلُّ تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، ويُجزِئُ من ذلك: ركعتان يركعهُما من الضُّحَى»؛ رواه مسلم.
والسُّلامَى: هي المِفصَلُ.
وعنه - رضي الله عنه - أن ناسًا قالوا: يا رسول الله! ذهبَ أهلُ الدُّثور بالأجور، يُصلُّون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصُوم، ويتصدَّقون بفُضول أموالِهم. قال: «أولَيسَ قد جعلَ الله لكم ما تصدَّقون به؟ إن بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، وفي بُضعِ أحدِكم صدقة». قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: «أرأيتُم لو وضعَها في حرامٍ أكان عليه وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعَها في الحلال كان له أجرٌ»؛ رواه مسلم.
وقد يبلغُ المؤمنُ أعلى المنازِل بعملٍ يسيرٍ لا يظنُّ أن يبلُغَ به ما بلغَ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّبُ في الجنةِ في شجرةٍ قطَعَها من ظهر الطريق كانت تُؤذِي المُسلمين»؛ رواه مسلم.
وفي روايةٍ له: «مرَّ رجلٌ بغُصنِ شجرةٍ على ظهر طريقٍ، فقال: واللهِ لأُنحِّيَنَّ هذا عن المُسلمين لا يُؤذِيهم، فأُدخِلَ الجنة». وفي روايةٍ لهما: «بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجدَ غُصنَ شوكٍ على الطريق فأخَّره فشكرَ الله له فغفرَ له».
أيها المسلمون:
وكلمةٌ يسيرةٌ قد يستجلِبُ العبدُ بها رضا ربِّه الكريم، ويشكُرُ فضلَه العَميم؛ عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ ليرضَى عن العبدِ أن يأكُل الأكلَةَ فيحمَده عليها، أو يشرَبَ الشربَةَ فيحمَده عليها»؛ رواه مسلم.
أما الوُضوءُ والصلاةُ، وهي المُتكرِّرة في اليوم عدَّة مراتٍ، فاستمِع إلى ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضَّأ العبدُ المُسلمُ - أو المؤمنُ - فغسلَ وجهه خرجَ من وجهه كلُّ خطيئةٍ نظرَ إليها بعينه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ يدَيه خرجَ من يدَيه كلُّ خطيئةٍ كان بطَشَتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ رجلَيْه خرجَت كل خطيئةٍ مشَتْها رِجلاه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء - حتى يخرُج نقيًّا من الذنوب»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدلُّكم على ما يمحُو الله به الخطايا ويرفعُ به الدرجات؟». قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغُ الوضوء على المَكارِه، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكُم الرِّباط»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمعةُ إلى الجُمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبَت الكبائرُ»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفِّ الأولِ ثم لم يجِدوا إلا أن يستهِموا عليه لاستهَموا عليه، ولو يعلَمون ما في التهجير لاستبَقوا إليه، ولو يعلَمون ما في العتَمة والصبحِ لأتَوهُما ولو حَبوًا»؛ متفق عليه.
والتهجيرُ: التبكيرُ إلى الصلاةِ.
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - ويُقال: أبو عبد الرحمن - ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عن ثوبان - قال: سمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عليك بكثرة السُّجود؛ فإنك لن تسجُد لله سجدةً إلا رفعَك الله بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً»؛ رواه مسلم.
وذِكرُ الله تعالى عنوانُ الفلاح، وشارةُ التوفيق والصلاح؛ عن عبد الله بن بُسْرٍ - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن شرائِعَ الإسلام قد كثُرَت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به. قال: «لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذِكرِ الله»؛ رواه الترمذي.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عند مليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذهبِ والفضة، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضرِبوا أعناقَكم؟». قالوا: بلى. قال: «ذِكرُ الله تعالى»؛ رواه الترمذي، وقال الحاكمُ: إسنادُه صحيحٌ.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لزِم الاستغفارَ جعلَ الله له من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل همٍّ فرَجًا، ورزَقَه من حيثُ لا يحتسِب»؛ رواه أبو داود.
وعن شدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيدُ الاستغفار أن يقولَ العبدُ: اللهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلَقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتِك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفِر لي؛ فإنه لا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنت. من قالَها في النهار مُوقِنًا بها فمات من يومه قبل أن يُمسِي فهو من أهل الجنة، ومن قالَها من الليل وهو مُوقِنٌ بها فمات قبل أن يُصبِح فهو من أهل الجنة»؛ رواه البخاري.
وفي الإحسان إلى الخلق؛ لا تتردَّد في معروفٍ، ولا تحتقِر خيرًا تُقدِّمه مهما قلَّ؛ يقول عديُّ بن حاتمٍ - رضي الله عنه -: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اتَّقُوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ لهما عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه ترجُمان، فينظُر أيمنَ منه فلا يرَى إلا ما قدَّم، وينظُر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظُر بين يدَيه فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهه، فاتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجِد فبكلمةٍ طيبةٍ».
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على كل مسلمٍ صدقة». قال: أرأيت إن لم يجِد؟ قال: «يعملُ بيديه، فينفعُ نفسَه ويتصدَّق». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجةِ الملهوف». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يأمرُ بالمعروف أو الخيرِ». قال: أرأيتَ إن لم يفعل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنها صدقةٌ»؛ متفق عليه.
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمينُ، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله:
والعملُ الصالحُ المُعظَّمُ أجرُه، والسابِغُ ثوابُه يكتنِفُ المجتمعَ المُسلِمَ بكل علاقاته من الوالدَيْن، والزوجةِ، والأقاربِ، والجيران؛ عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! من أحقُّ الناسِ بحُسن صحابَتي؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أبوك»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ: يا رسول الله! من أحقُّ الناس بحُسن الصُّحبَةِ؟ قال: «أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثمُّ أباك، ثم أدناك أدناك».
وقولُه: «ثُمَّ أباك» أي: ثم بِرَّ أباك. وفي روايةٍ: «ثُمَّ أبوك».
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحبَّ أن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسَأَ له في أثَره فليصِل رحِمَه»؛ متفق عليه.
ومعنى «يُنسَأ له في أثَره»؛ أي: يُؤخَّر له في أجلِه وعُمره.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
وعن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيُورِّثُه»؛ متفق عليه.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليُكرِم ضيفَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليصِل رحِمَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليقُل خيرًا أو ليصمُت»؛ متفق عليه.
وفي السِّترِ على الناس قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يستُر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستَرَه الله يوم القيامة»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ الجنة. قال: «تقوى الله وحُسن الخُلُق». وسُئِل عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ النار. فقال: «الفمُ والفرْجُ»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ صحيحٌ".


أيها المسلمون:
يا مَن أكرمَه الله بصيام شهر رمضان! إن من السُّنة أن تصُومَ ستَّة أيامٍ من شهر شوال؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صامَ رمضان وأتبَعَه ستًّا من شوال كان كصيامِ الدهرِ»؛ رواه مسلم.
ويصِحُّ أن تصُومَها مُتَّصلةً أو مُتفرِّقةً.
فاستكثِروا من الصالحات، وأديموا الطاعات، وحاذِروا السيئات، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا[النحل: 92]، ومن أعتقَه ربُّه من النار فلا يرجِعنَّ إلى المعاصي، فيعُود إلى رقِّ الذنبِ وإلى الإسار.
ثم صلُّوا وسلِّموا على النبي المُجتَبى، والرسول المُرتضَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، وجازِه بالخير على نُصرة قضايا المُسلمين، وسعيِه لتوحيد صفِّهم وجمع كلمتِهم، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم عاجلاً غيرَ آجلٍ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، وارحمهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم انتصِر للمظلومين في بُورما، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم، وكُن لهم يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ دينَك، وأظهِر أولياءَك، وأخزِ أعداءَك، في عافيةٍ لأمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم تقبَّل صيامَنا، وقيامَنا، ودعاءَنا، وصالحَ أعمالنا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 07:22 PM   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

عبادات يسيرة بأجور كبيرة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 13 رمضان 1433هـ بعنوان: "عبادات يسيرة بأجور كبيرة"، والتي تحدَّث فيها عن الإكثار من النوافل بعد شهر رمضان؛ من الصيام، والقيام، وقراءة القرآن، وغير ذلك، وذكرَ العديدَ من الأحاديث الدالَّة على عِظَم أجور الكثير من العبادات اليسيرة؛ كالذكر، والوضوء، والصلاة، وإماطة الأذى عن الطريق، وما إلى ذلك.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله مُعيد المواسم والأعياد، ومُيسِّر طرق الخير ليستكثِر العبدُ من الخير ويزداد، فالحمدُ لله على ما شرَع، والشكرُ له على ما وفَّق، والفضلُ له على ما هدى، إليه المرجعُ وإليه المعاد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شركاء له ولا أنداد، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله وخيرُ العباد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أُولِي الهُدى والرشاد، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم التناد.
أما بعد:
فالتقوى - أيها المسلمون - التقوى؛ وصيةُ الأنبياء، وحليةُ الأولياء، وخيرُ عُدَّةٍ ليوم اللقاء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].
أيها المسلمون:
لم يزَل في ثيابنا عبَقٌ من شَذَى شهرنا لم يخِف، ولم يزَل في نفوسِنا طراوةٌ من تراتيل القرآن لم تجِف، ولم تزَل عيونُنا ندِيَّةً على وداعِ رمضان، ومن ذا يلومُها أن تجِف، وما ذاك إلا لما افتقدناه من لذَّة الطاعات، وحلاوة القُرُبات المُقرِّبات، وما جافانا عنه مركبُ الزمان من العبادات الجالِيَة لصدى النفوس ورانِ القلوبِ.
ولو صابرَ الإنسانُ نفسَه، وغالبَ هواه، وواصلَ نوافل العبادات التي اعتادَها في شهر رمضان؛ من صيامٍ، وقيام ليلٍ، وقراءةٍ للقرآن، وصدقةٍ، وخيرٍ لانقلَبَت حياتُه إلى موسمٍ للخير دائم، وتقلَّبَت نفسُه في رياضٍ من القُرُبات مُتصل، وتمثَّل قولَ الله - عز وجل -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 162].
أيها المسلمون:
الأرضُ ميراثُ الله لعباده يختارون منازِلَهم من الجنةِ بقدرِ حرثِهم للآخرة، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ[الزمر: 74]، والمؤمنُ الحقُّ سائرٌ إلى ربه يسعى ويحفِد، لا ينِي حتى يكون مُنتهاه الجنة، ولا يقِفُ حتى يُدرِكَه الموتُ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
ولئن انقضَى شهرُ رمضان - وهو شهرُ مُضاعفَة الأجور - فإن اللهَ تعالى هو ربُّ كل الشهور، وفي الحياة آفاقٌ واسعةٌ للعمل الصالح، وأجورٌ تُضاعَفُ هي - واللهِ - المتجَرُ الرابح، وفي شرع الله وهديِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - فِجاجٌ تُوصِلُ إلى الله، ودُروبٌ تُؤدِّي وتهدِي لمرضاته، وأعمالٌ تستجلِبُ مراضِيَ الله ورحماته، ويُكافِئُ عليها بجنَّته. ولكن أين المُشمِّرون؟!
قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبِي فقال: «كُن في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابِرُ سبيلٍ». وكان ابنُ عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظِر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظِر المساء، وخُذ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"؛ رواه البخاري.
وقد دلَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أعمالٍ يسيرة، ورتَّب عليها أجورًا كثيرة، وفتحَ لنا أبوابًا واسعةً من الأعمال الصالحة نتزوَّدُ بها ليوم الحِساب، وندَّخِرُها عند لقاء الله ربِّ الأرباب، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء: 19].
عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُصبِحُ على كل سُلامَى من أحدِكم صدقةٌ؛ فكلُّ تسبيحةٍ صدقة، وكلُّ تحميدةٍ صدقة، وكلُّ تهليلةٍ صدقة، وكلُّ تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، ويُجزِئُ من ذلك: ركعتان يركعهُما من الضُّحَى»؛ رواه مسلم.
والسُّلامَى: هي المِفصَلُ.
وعنه - رضي الله عنه - أن ناسًا قالوا: يا رسول الله! ذهبَ أهلُ الدُّثور بالأجور، يُصلُّون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصُوم، ويتصدَّقون بفُضول أموالِهم. قال: «أولَيسَ قد جعلَ الله لكم ما تصدَّقون به؟ إن بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، وفي بُضعِ أحدِكم صدقة». قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: «أرأيتُم لو وضعَها في حرامٍ أكان عليه وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعَها في الحلال كان له أجرٌ»؛ رواه مسلم.
وقد يبلغُ المؤمنُ أعلى المنازِل بعملٍ يسيرٍ لا يظنُّ أن يبلُغَ به ما بلغَ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّبُ في الجنةِ في شجرةٍ قطَعَها من ظهر الطريق كانت تُؤذِي المُسلمين»؛ رواه مسلم.
وفي روايةٍ له: «مرَّ رجلٌ بغُصنِ شجرةٍ على ظهر طريقٍ، فقال: واللهِ لأُنحِّيَنَّ هذا عن المُسلمين لا يُؤذِيهم، فأُدخِلَ الجنة». وفي روايةٍ لهما: «بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجدَ غُصنَ شوكٍ على الطريق فأخَّره فشكرَ الله له فغفرَ له».
أيها المسلمون:
وكلمةٌ يسيرةٌ قد يستجلِبُ العبدُ بها رضا ربِّه الكريم، ويشكُرُ فضلَه العَميم؛ عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ ليرضَى عن العبدِ أن يأكُل الأكلَةَ فيحمَده عليها، أو يشرَبَ الشربَةَ فيحمَده عليها»؛ رواه مسلم.
أما الوُضوءُ والصلاةُ، وهي المُتكرِّرة في اليوم عدَّة مراتٍ، فاستمِع إلى ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضَّأ العبدُ المُسلمُ - أو المؤمنُ - فغسلَ وجهه خرجَ من وجهه كلُّ خطيئةٍ نظرَ إليها بعينه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ يدَيه خرجَ من يدَيه كلُّ خطيئةٍ كان بطَشَتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ رجلَيْه خرجَت كل خطيئةٍ مشَتْها رِجلاه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء - حتى يخرُج نقيًّا من الذنوب»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدلُّكم على ما يمحُو الله به الخطايا ويرفعُ به الدرجات؟». قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغُ الوضوء على المَكارِه، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكُم الرِّباط»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمعةُ إلى الجُمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبَت الكبائرُ»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفِّ الأولِ ثم لم يجِدوا إلا أن يستهِموا عليه لاستهَموا عليه، ولو يعلَمون ما في التهجير لاستبَقوا إليه، ولو يعلَمون ما في العتَمة والصبحِ لأتَوهُما ولو حَبوًا»؛ متفق عليه.
والتهجيرُ: التبكيرُ إلى الصلاةِ.
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - ويُقال: أبو عبد الرحمن - ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عن ثوبان - قال: سمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عليك بكثرة السُّجود؛ فإنك لن تسجُد لله سجدةً إلا رفعَك الله بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً»؛ رواه مسلم.
وذِكرُ الله تعالى عنوانُ الفلاح، وشارةُ التوفيق والصلاح؛ عن عبد الله بن بُسْرٍ - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن شرائِعَ الإسلام قد كثُرَت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به. قال: «لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذِكرِ الله»؛ رواه الترمذي.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عند مليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذهبِ والفضة، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضرِبوا أعناقَكم؟». قالوا: بلى. قال: «ذِكرُ الله تعالى»؛ رواه الترمذي، وقال الحاكمُ: إسنادُه صحيحٌ.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لزِم الاستغفارَ جعلَ الله له من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل همٍّ فرَجًا، ورزَقَه من حيثُ لا يحتسِب»؛ رواه أبو داود.
وعن شدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيدُ الاستغفار أن يقولَ العبدُ: اللهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلَقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتِك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفِر لي؛ فإنه لا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنت. من قالَها في النهار مُوقِنًا بها فمات من يومه قبل أن يُمسِي فهو من أهل الجنة، ومن قالَها من الليل وهو مُوقِنٌ بها فمات قبل أن يُصبِح فهو من أهل الجنة»؛ رواه البخاري.
وفي الإحسان إلى الخلق؛ لا تتردَّد في معروفٍ، ولا تحتقِر خيرًا تُقدِّمه مهما قلَّ؛ يقول عديُّ بن حاتمٍ - رضي الله عنه -: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اتَّقُوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ لهما عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه ترجُمان، فينظُر أيمنَ منه فلا يرَى إلا ما قدَّم، وينظُر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظُر بين يدَيه فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهه، فاتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجِد فبكلمةٍ طيبةٍ».
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على كل مسلمٍ صدقة». قال: أرأيت إن لم يجِد؟ قال: «يعملُ بيديه، فينفعُ نفسَه ويتصدَّق». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجةِ الملهوف». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يأمرُ بالمعروف أو الخيرِ». قال: أرأيتَ إن لم يفعل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنها صدقةٌ»؛ متفق عليه.
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمينُ، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله:
والعملُ الصالحُ المُعظَّمُ أجرُه، والسابِغُ ثوابُه يكتنِفُ المجتمعَ المُسلِمَ بكل علاقاته من الوالدَيْن، والزوجةِ، والأقاربِ، والجيران؛ عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! من أحقُّ الناسِ بحُسن صحابَتي؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أبوك»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ: يا رسول الله! من أحقُّ الناس بحُسن الصُّحبَةِ؟ قال: «أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثمُّ أباك، ثم أدناك أدناك».
وقولُه: «ثُمَّ أباك» أي: ثم بِرَّ أباك. وفي روايةٍ: «ثُمَّ أبوك».
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحبَّ أن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسَأَ له في أثَره فليصِل رحِمَه»؛ متفق عليه.
ومعنى «يُنسَأ له في أثَره»؛ أي: يُؤخَّر له في أجلِه وعُمره.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
وعن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيُورِّثُه»؛ متفق عليه.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليُكرِم ضيفَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليصِل رحِمَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليقُل خيرًا أو ليصمُت»؛ متفق عليه.
وفي السِّترِ على الناس قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يستُر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستَرَه الله يوم القيامة»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ الجنة. قال: «تقوى الله وحُسن الخُلُق». وسُئِل عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ النار. فقال: «الفمُ والفرْجُ»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ صحيحٌ".


أيها المسلمون:
يا مَن أكرمَه الله بصيام شهر رمضان! إن من السُّنة أن تصُومَ ستَّة أيامٍ من شهر شوال؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صامَ رمضان وأتبَعَه ستًّا من شوال كان كصيامِ الدهرِ»؛ رواه مسلم.
ويصِحُّ أن تصُومَها مُتَّصلةً أو مُتفرِّقةً.
فاستكثِروا من الصالحات، وأديموا الطاعات، وحاذِروا السيئات، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا[النحل: 92]، ومن أعتقَه ربُّه من النار فلا يرجِعنَّ إلى المعاصي، فيعُود إلى رقِّ الذنبِ وإلى الإسار.
ثم صلُّوا وسلِّموا على النبي المُجتَبى، والرسول المُرتضَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، وجازِه بالخير على نُصرة قضايا المُسلمين، وسعيِه لتوحيد صفِّهم وجمع كلمتِهم، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم عاجلاً غيرَ آجلٍ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، وارحمهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم انتصِر للمظلومين في بُورما، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم، وكُن لهم يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ دينَك، وأظهِر أولياءَك، وأخزِ أعداءَك، في عافيةٍ لأمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم تقبَّل صيامَنا، وقيامَنا، ودعاءَنا، وصالحَ أعمالنا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 07:30 PM   رقم المشاركة : 9

 

احرص على ما ينفعك
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 13 شوال 1433هـ بعنوان: "احرص على ما ينفعك"، والتي تحدَّث فيها عن أصلَين عظيمَين جامِعين لكل أسباب التوفيق ومجامع الخير، وهما: الحرصُ على ما ينفع، والاستعانةُ بالله على طاعته والكفِّ عن معصيته.

الخطبة الأولى
الحمد لله الهادي لمن استهداه، الكافي لمن تولاَّه، أحمده - سبحانه - يُبلّغُنا رضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ربَّ سواه، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله وأمينُه على وحيِه ومُصطفاه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرَه واتبع هُداه.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[البقرة: 281].
أيها المسلمون:
أصلان عظيمان جامِعان لكل أسباب التوفيق ومجامِع الخير، تضمَّنتهما وصيةٌ نبويةٌ عظيمةٌ، جاءت في الحديث الذي أخرجه مسلمٌ في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِص على ما ينفعك، واستعِن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا لم يُصِبني كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتحُ عمل الشيطان».
عباد الله:
إن الحرصَ على ما ينفع، والاستعانةَ بالله بالثقة فيه، والاعتماد عليه، والتوكُّل واللُّجوء إليه، هما بمنزلة طريقين من وُفِّق إلى السير فيهما كان هو المُوفَّق إلى بلوغ ما يُؤمِّل، والسلامة مما يرهَب، وذلك بإدراك كلِّ خيرٍ في العاجِلة والآجِلة.
وأعلى ذلك وأشرفُه وأعظمُه: الحَظوة برضوان الله، والنظرُ إلى وجهه الكريم في جنات النعيم، وتلك هي الزيادة التي وعدَ الله بها الذين أحسَنوا العملَ وأخلَصوا القصدَ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[يونس: 26].
فقد جمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بين هذين الأصلَين العظيمين أبلغ جمعٍ وأدلَّه على المقصود، حين أمرَ بالحرصِ على الأسباب، وبالاستعانة بالمُسبِّب - سبحانه -، ونهى عن العجز إما بالتقصير في طلب الأسباب وعدم الحرصِ عليها، وإما بالتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها.
والدينُ كلُّه - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "تحت هذه الكلمات النبوية".
فالحرصُ على ما ينفع أصلُ كل ما يكون به فلاحُه وسعادتُه في دُنياه وأُخراه، والاستعانة بالله تعالى بالثقة فيه - سبحانه -، والالتجاء إليه، والاعتماد عليه أصلُ القبول، وسبيلُ الثواب، وطريقُ الهداية إلى صراط الله المُستقيم، فإذا حرِصَ المرءُ على ما ينفعه، ولا أنفع له في دُنياه من عبادة ربه التي هي غايةُ خلقه، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56].
والعبادةُ هي فعلُ كل ما يُحبُّه الله، وترك ما ينهى عنه مُبتغيًا بذلك وجهَه، مُتابعًا فيه رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، كما تكون صلاةً، وصيامًا، وحجًّا، وزكاةً، تكون كذلك شُكرًا، وصبرًا، ورضًا، وشوقًا إلى الله، ودُعاءً، وتذلُّلاً، وتضرُّعًا، وإخباتًا، وإنابةً، وخشوعًا له وحده - سبحانه -.
وتكون أيضًا أكلاً للحلال الطيب واجتنابًا للحرام الخبيث، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وبرًّا بالوالدين، وحُسنَ خُلق، وتوقيرًا للكبير، ورحمةً بالصغير والمسكين، وصدقًا في الحديث، وأداءً للأمانة، ووفاءً بالعهد، واجتنابًا للربا، وسائر ما حرَّم الله، وغضًّا للبصر، وحفظًا للفَرج، وصيانةً للعمر من ضياعه في الفُضول من المُخالطة والنظر والكلام والأكل والنوم.
وحجابًا للمرأة، وعفَّةً وعفافًا، ودعوةً إلى الله على بصيرةٍ، وجهادًا في سبيله، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
وإذا استعان بالله وتركَ عبادة ما سِواه، وفي الطليعة من ذلك: عبادةُ الشيطان الذي هو رأسُ الطواغيت الذي قال الله في التحذير من عبادته: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[يس: 60]، وعبادتُه هي طاعتُه فيما يأمرُ به من الكفر بالله والشرك به.
فإذا فعلَ ذلك فقد أخذَ بمجامع أسباب التوفيق، وحظِيَ بيُمن هذه الوصية النبوية، وكان له من حُسن التأسِّي وكمال الاقتداء بسيد الأنام - عليه أفضل الصلاة وأتم السلام -، وصدق الاتباع لهديِه ما يكونُ عونًا له على بلوغ الحياة الطيبة في الدنيا، والظَّفَر بالجزاء الضافِي الكريم الذي أعدَّه الله بالجنة للمتقين المُوفَّقين إلى الخيرات في الأيام الخالية.
فاتقوا الله - عباد الله -، واستَجيبوا لهذا التوجيه النبوي الذي تضمَّنته هذه الوصيةُ العظيمة، فاحرِصوا على ما ينفعُكم في دينكم ودُنياكم، واستعينوا بالله في كل أموركم، واجتنِبوا القُعودَ عما لا يصِحُّ القعود عنه؛ من خيرٍ تُرضونَ به ربَّكم، وتعلُو به درجاتُكم، وتبلُغون به ما ترجون في دُنياكم وأُخراكم.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
ليس للإنسان أن يدَع السعيَ فيما ينفعه الله به مُتَّكلاً على القدر؛ بل يفعل ما أمرَه الله ورسولُه به، فقد أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المُسلمَ أن يحرِص على ما ينفعه، والذي ينفعه - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "يحتاج إلى مُنازعة شياطين الإنس والجن، ودفع ما قُدِّر من الشر بما قدَّره الله من الخير".
وعليه مع ذلك أن يستعين بالله؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن يكون عملُه خالصًا لله، فإن الله لا يقبلُ من العمل إلا ما أُريدَ به وجهُه، وهذه حقيقةُ قولِك: إِيَّاكَ نَعْبُدُ[الفاتحة: 5]، والذي قبلَه حقيقةُ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
فعليه أن يعبُد الله بفعل المأمور وترك المحظور، وأن يكون مُستعينًا بالله على ذلك، وفي عبادة الله وطاعته فيما أمر إزالةُ ما قُدِّر من الشر بما قُدِّر من الخير، ودفعُ ما يُريدُه الشيطان ويسعَى فيه من الشر قبل أن يصِل بما يدفعُه الله به من الخير، قال الله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ[البقرة: 251].
فاتقوا الله - عباد الله -، واجعلوا من الحرصِ ما ينفعُكم، والاستعانة بالله على ذلك ديدنَكم وسبيلَكم تبلغُوا مرضاةَ ربِّكم، وتكونوا عنده من الفائزين المُفلِحين.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم النبيين ورسول رب العالمين؛ فقد أُمرتُم بذلك في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم احفظ إخواننا المسلمين في سوريا وبورما وفلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم كن لهم، واجبُر كسرهم، وارحم ضعفَهم، وأطعِم جائعَهم، واكسُ عاريَهم، وكن لهم بمنِّك يا رب العالمين، وأيِّدهم بتأييدك، اللهم أيِّدهم بتأييدك، اللهم أيِّدهم بتأييدك، وانصُرهم بنصرك يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-05-2013, 11:14 AM   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

النصيحة وفضل قبولها
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "النصيحة وفضل قبولها"، والتي تحدَّث فيها عن النصيحة وبيان فضائل ومآثر قبولها، وأن ذلك دليل الرَّشَد، وذكر الأدلة من القرآن وبعض الآثار على مآلات الرافِضين للنُّصح والإرشاد وذمِّهم، وحذَّر من ذكر الأدلة من الكتاب والسنة مع التأويل الفاسِد.

الخطبة الأولى
الحمد لله بارئِ النَّسَم، ومُحيِي الرَّمَم، ومُجزِلِ القِسَم، أحمدُه حمدًا يُوافِي ما تزايَدَ من النِّعَم، وأشكرُه على ما أولَى من الفضلِ والكرَم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تعصِمُ من الزَّيغِ وتدفعُ النِّقَم، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ رحمةً للعالمين من عُربٍ وعجَم، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تبقَى وسلامًا يَتْرَى إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
قبولُ النصيحة دليلُ الرَّشَد، والرجوعُ إلى الحق فضيلةٌ، وراجِحُ العقل كاملُ النُّهَى إذا وقعَ فيما يشينُه فوُعِظَ وزُجِرَ؛ أقصرَ وانتهَى وارتدعَ وانثنَى، وأسرعَ إلى الإجابة وأظهرَ التوبةَ والإنابةَ.
والمُستولِغُ لا يُبالي ذمًّا ولا عارًا، ولا يخافُ لومًا ولا عَذلاً، لا يردعُه توبيخ، ولا يقبَعُه تأنيب، ولا ينفعُه تعنيف. لا يُصغِي لناصحٍ، ولا يلتفِتُ إلى موعظةٍ، تراه على غيِّه مُصِرًّا، وفي ضَلالته مُستمرًّا،
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ[البقرة: 206]، أخذَته الحميَّةُ والغضبُ، ولم يُقابِل النصيحةَ إلا بالصُّدوف والصُّدود، والتعالِي والتعامِي.
يقول عبدُ الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "كفَى بالمرء إثمًا أن يقول له أخوه: اتَّقِ الله. فيقولُ: عليك بنفسِك، مثلُك يُوصِيني!".
وردُّ النصيحة واحتِقارُ الناصِح والتعالِي على التذكِرة دأبُ السُّفهاء والمُتكبِّرين، وصفةُ الفُجَّار والمُنافقين، قال الله تعالى: وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ[الصافات: 13]، ويقول تعالى مُخبِرًا عن جواب قومِ هودٍ - عليه السلام - له بعدما حذَّرهم وأنذرَهم، ورغَّبَهم ورهَّبَهم، وبيَّن لهم الحقَّ ووضَّحَه، قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ[الشعراء: 136]؛ أي: لن نرجِع عما نحن فيه.
وقال نبيُّ الله صالحُ - عليه السلام - لقومِه بعد هلاكِهم تقريعًا وتوبيخًا، وهم يسمَعون ذلك: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ[الأعراف: 79].
أيها المسلمون:
ومن عرفَ الحقَّ وجبَ عليه الخضوع له والرجوعُ إليه، والرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادِي في الباطلِ، وقبولُ الحقِّ والنصيحة لا يحُطُّ من رُتبَة المنصوحِ، ولا ينقُص من قدرِه، ولا يغُضُّ من مكانته ورِياستِه؛ بل يُوجِبُ ذلك له من جلالة القدر، وسامِي المنزلة، وحُسن الثَّناء، وعلوِّ الذِّكر ما لا يكونُ في تصميمِه على الباطِل.
ومن أصرَّ على باطلِه، واستثقلَ كلامَ ناصحِه؛ ازدُرِي عقلُه، وحُقِّرَ شانُه، وصُغِّر مكانُه.
قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: "ما نصحتُ أحدًا فقبِلَ مني إلا هِبتُه واعتقدتُّ مودَّتَه، ولا ردَّ أحدٌ عليَّ النصحَ إلا سقطَ من عيني، ورفضتُه".

أيها المسلمون:
لماذا تميلُ النفوس إلى من يتملَّق ويُجامِل ولا ينصحُ، مع أن صنيعَه الغشُّ والخِداعُ والمُطاوَعة فيما يضُرُّ؟! وتفِرُّ من الناصِح المُشفِق مع أن نُصحَه صدرَ عن رحمةٍ ورأفةٍ وإحسانٍ وغيرةٍ على المنصُوح.
فطوبَى لمن أطاعَ ناصحًا يهدِيه، واجتنَبَ غاويًا يُردِيه، وشقِيَ من استخفَّ بعِظَة المُشفِق الناصِح، وتعالَى عن تذكِرة الأمينِ الصالحِ، وتمادَى في غوايتِه، ولجَّ في عمايتِه، جاريًا على عاداته القبيحة، وماضِيًا في أخلاقِه الرَّذِيلة.
ويقِظُ القلب، وافِرُ الفِطنة، فهِمُ العقل يعِي الموعظةَ، وتنفعُه الذِّكرَى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى[الأعلى: 10، 11].
أيها المسلمون:
ومن الطوامِّ العِظام: أن يُذكَّر المنصوحُ بدليلٍ من كتاب الله أو سُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيُصِرَّ على باطلِه، ويدفعُ الدليلَ الصحيحَ بالمُجادلَة والمُراوَغة والتأويل الفاسِد.
قال الشعبيُّ - رحمه الله -: "إنما هلكتُم حين تركتُم الآثار - يعني: الأحاديث الصحيحة -"؛ أخرجه البيهقي.
والحقُّ أبلجُ لا لبسَ فيه، ولكنَّ الهوَى يُعمِي ويُصِمُّ، ويُردِي ويُغوِي.
فاتقوا الله - أيها المسلمون -، واخضَعوا للحقِّ، واقبَلوا نُصحَ الأمين، ولا تكونوا ممن لا يُحبُّون الناصِحين.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآيات والبيِّنات والعِظات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.


الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
الوالِدان أعظمُ النَّصَحة شفقةً، وأشدُّهم غيرةً، وأقربُهم رحمةً وحُبًّا ووُدًّا، وأكثرُهم للنصيحةِ بذلاً، ولا أشقَى من ولدٍ يصُمُّ أُذنَيْه عن نصيحةِ والدَيْه، ويُسلِمُ قيادَه لأصحاب السُّوءِ وأهلِ الفُجور والشُّرور والفحشاء والمُنكَر، يقودُونه لكل رذيلة، ويُوقِعُونَه في كل هاويةٍ. ولا يفعلُ ذلك إلا عاقٌّ مرذولٌ، وفاجِرٌ مخذولٌ.
ولا أسعدَ من ولدٍ أصغَى لإرشاد والدَيْه وأنصتَ لنُصحِهما، وأسرعَ إلى إنفاذِ أمرِهما، وأين المهاوِي من المراقِي؟! وأين الظُّلمة من الإشراقِ؟!
أيها المسلمون:
ابذُلوا النصيحةَ واقبَلُوها، فلا سعادةَ إلا في بذلِها، ولا فوزَ إلا في قبُولِها؛ فعن أبي رُقيَّة تميم بن أوسٍ الدَّاريِّ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدينُ النصيحةُ». قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المُسلمين وعامَّتهم»؛ أخرجه مسلم.
وصلُّوا وسلِّموا على خيرِ الورَى؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنَّة المُتَّبعة: أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وجُودِك وإحسانِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصُر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصُر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصُر المسلمين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، وألبِسه ثوبَ الصحة والعافِية يا كريم، اللهم واحفَظ وليَّ عهده وإخوانَه، وانفع بهم العبادَ والبلاد يا رب العالمين.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة أمور المسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سُنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم ادفَع عنا الغلا والوبا والرِّبا والزِّنا والزلازِلَ والمِحَن، اللهم ادفَع عنا الغلا والوبا والرِّبا والزِّنا والزلازِلَ والمِحَن، وسُوءَ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن، عن بلدنا هذا خاصَّةً وعن سائر بلاد المُسلمين عامَّةً يا رب العالمين.
اللهم إن لنا إخوانًا في العقيدة والدين، اللهم إن لنا إخوانًا في الشام تسلَّط عليهم أعداءُ المِلَّة والسُّنَّة فدمَّروا بيوتَهم، وقتلُوا رجالَهم ونساءَهم وأطفالَهم، وانتهَكوا أعراضَهم، اللهم عجِّل بهلاكِهم وهزيمتِهم يا قوي يا عزيز يا رب العالمين، اللهم أنزِل عليهم عذابَك ورِجزَك وسخَطَك إلهَ الحق يا رب العالمين.
اللهم أنت ملاذُنا، اللهم انقطَع الرجاءُ إلا منك، وخابَت الظُّنونُ إلا فيك، وضعُفَ الاعتمادُ إلا عليك، أنت ملاذُنا، أنت ملاذُنا وأنت عِياذُنا وعليك اتِّكالُنا، اللهم انصُر أهلَنا في الشام عاجلاً غيرَ آجِل، اللهم انصُر أهلَنا في الشام عاجلاً غيرَ آجِل، اللهم عليك بأهل الخُرافة الذين تسلَّطوا على أهلِنا يا رب العالمين يا قوي يا عزيز.
اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجس يهود، اللهم عليك باليهود الغاصِبين، والصهايِنة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على من عادانا يا رب العالمين.
اللهم وفِّق أبناءَنا الطلابَ وبناتِنا الطالِبات في اختِباراتهم الدراسية، اللهم اكتُب لهم التوفيقَ والنجاحَ والسعادةَ والصلاحَ يا رب العالمين، اللهم اكتُب لهم التوفيقَ والنجاحَ والسعادةَ والصلاحَ يا رب العالمين، واعصِمهم من مُضِلاَّت الفتن يا كريم.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:51 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir