يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > الساحات العامة > الساحة العامة

الساحة العامة مخصصة للنقاش الهادف والبناء والمواضيع العامه والمنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-04-2011, 10:45 AM   رقم المشاركة : 1
ريع اللصوص ، لعلي الطنطاوي رحمه الله


 

بسم الله الرحمن الرحيم


تمنيت لو أن اللصوص والمفسدين في الأرض اجتمعوا في مكان محصور، إذَنْ لهان الوصول إليهم وإصلاحهم أو القضاء عليهم. ولو اجتمع البعوض كله في موضع واحد لقضي على البعوض؛ لأن نجاته في تفرقه واختفائه، وأنه يضرب ويهرب ويضر ويفر فلا يوصل إليه.
وشرٌّ من الحشرات والبعوض وجراثيم الأمراض قوم بيغن وشامير، واجتماعهم في فلسطين من بشائر القضاء عليهم، وأن نرى تأويل قوله تعالى فيهم، وقوله الحق: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء : 4 ، 5]
والأولى التي بعث الله عليهم عباده المؤمنين به المخلصين له هي التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، الذين جاسوا خلال الديار التي حسبوها يوماً ديارهم (في المدينة)، ثم أُجلوا عنها وعن جزيرة العرب فلن يعودوا بعون الله إليها.
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء : 6]؛ وهذا ما نراه الآن، حين اجتمع في أيدي اليهود –على قلتهم- أمضَى السلاح، وناصرهم أقوى الدول، وجعلهم الله أكثر نفيراً في الحرب. ولكن الله يمهد بذلك للمسلمين - إن عادوا إلى دينهم - ليسوؤوا وجوههم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة.
وسنرى تأويل هذا عياناً ونرى تحقيق ما خبَّر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبئ اليهودي من وراء الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم، هذا يهودي خلفي فاقتله)؛ أي أننا سنقف أمامهم في المعركة التي يكون الظفر فيها لنا عليهم، فكيف نظفر بهم وهم متفرقون في البلدان مندسون بين الشعوب؟ وهل يكون القتال إلا بين جماعتين ظاهرتين؟ فاجتماعهم في فلسطين وقيام دولتهم فيها تصديق لوعد الله ورسوله لنا.
ولا تعجبوا من نطق الشجر والحجر. ألم يعلمنا الله كيف ننطق الأسطوانة وشريط التسجيل والرائي (التلفزيون)؟ ألم ينطق لنا الجماد؟ فلماذا تعجبون ولا تكادون تصدقون إن سمعتم أن الشجر والحجر ينطقان؟
وهذا وعد من الله لنا إن عدنا إلى ديننا وجعلنا معركة فلسطين معركة إسلامية، لا معركة استرداد الأرض فقط، فكل شعب تسلب أرضه يحارب لاسترداد أرضه، ولا معركة قومية عربية، لأن لغيرنا قوميات، فإن اعتمدنا على القومية وحدها صرنا نحن وهم سواء ووكلنا الله – كما وكلهم – إلى أنفسنا، وإن تخلَّى الله عنا ووكلنا إلى أنفسنا ضعنا.
إن معهم وعد بلفور، وهذا وعد من رب بلفور الذي خلقهم وخلق بلفور، وسيقفون بين يدي رب العالمين يوم لا ينفع المال ولا السلاح، يوم تبرز الجحيم لمن يرى، فمن ينقذهم يومئذ منها؟
وهذا، ولا تقولوا لي: قد خرجت عن الموضوع؛ فإن موضوعي اليوم هو الكلام عن اللصوص، أثاره في نفسي وقوفي في المكان الذي كان يسمَّى يومئذ (ريع اللصوص). وأكبر لصوص العصر وأعظمهم جرماً وأشدهم إثماً اليهود الذين هم اليوم في فلسطين.
وإذا كان من يسرق متاعاً من الدار يكون من المجرمين الفجار، فكيف بمن يسرق الدار كلها؟ وكيف بالذي يُعينه على جريمته، ويكون معه على صاحب البيت؟ ألا يكون مجرماً مثله؟ فكيف بمن يسرق قُطراً كاملاً، يأخذه من أهله، يحتله بسلاح البغي والعدوان، ثم إذا قام من أصحابه من يطالب بحقه فيه أحالوه إلى المحكمة بتهمة مقاومة الاحتلال؟ أرأيتم أجرأ على الحق من هذا؟ أرأيتم من هو أصفق وجهاً وأوقح نفساً من اللص الذي ينكر عليك أن تطالب بحقك؟
وإذا جاء من يزعج المحتل بكى وشكا، وقال: إنه يريد أن يكون آمناً، وهذا يذهب أمنه ويفسد عليه حياته!
ولو أنني حصرت ذهني لجمعت مما عرفت من أخبار اللصوص كتاباً صغيراً، ولو أن أحد المؤلفين يضع كتاباً في طبقاتهم وأخبارهم لجاء منه أثر أدبي تاريخي، ولا تعجبوا، فإن أجدادنا ألفوا في سير العلماء والدعاة والمصلحين والعقلاء والمجانين واللصوص والمجرمين، ونحن نزعم أننا نعيش في عصر النور فلا نفعل عشر ما فعلوا.
ولعل أدنى طبقاتهم وأيسرها (لو أن في السرقة يسيراً!) هو الذي يسرق عن حاجة، يسرق ليعيش. وشرٌّ منه الذي يسرق طمعاً واستكثاراً من المال بالحرام، والذي يسرق متستراً بجاهه أو منزلته أو ثقة الناس به، والمحتال والمزور، والذي يأكل مال الأرملة واليتيم، وينسى أن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً. والذي يستهين بسرقة أموال الدولة، ابتداء من صحيفة الورق الصقيل يكتب في وسطها رقم هاتف أو عنوان صديق، ومن استعمال سيارة الدولة في خاصة شأنه وشأن أسرته، وانتهاء بالذي يسرق أموال المناقصات والتعهدات. وهذا كله من (الغلول) الذي توعد الله فاعله وقال عنه: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران : 161] فمن أين له يوم القيامة مثل ما غله وسرقه ليأتي به؟
والذي يسرق وقت العمل؛ يكلف بأن يجيء الساعة الثامنة فيجيء التاسعة، وأن يخرج في الثانية فيخرج في الواحدة، ويمضي باسمه على دفتر الدوام ثم ينسل فيغيب ساعة أو بعض ساعة. والذي يسرق أوقات المراجعين وكرامتهم، فتكون القضية محتاجة إلى خمس دقائق فيقول لصاحبها: تعالَ غداً، يحسب أنه إن قعد وراء المكتب والمراجع واقف أمامه أن ذلك سيدوم له، ثم يدعي أنه مؤمن، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
والتلميذ الذي يسرق الجواب في الامتحان. إنه حين يسرق بعينه من ورقة جاره أكبر ذنباً من الذي يسرق بيده من جيبه؛ لأن سرقة المال يزول أثرها بردِّ المال، ومن سرق الجواب ونال الدرجة زوراً، ثم أخذ بعدها الشهادة زوراً، ثم نال المنصب زوراً، يستمر أثر جريمته دهراً، وربما صار بشهادته معلماً وهو غير عالم، فنشأ على يديه الآثمتين جماعة من الجهلاء، فيكون كحامل جرثومة المرض يعدي من يتصل به، ومن أعداه ذهب فأعدى سواه، فسرى المرض في جسد الأمة.
أما السرقات الأدبية فلها حديث قديم جدًّا طويل جدًّا، كتبت فيه في غير هذا الموضع، وقد ظهر الآن لون منها ما عرفه الأولون هو سرقة المطبوعات. وقد تجرَّعت منه المرَّ وذقت منه الصَّابَ والعلقم. آخذ كتابي المطبوع بإذني وعلمي والكتاب المسروق، فلا أميز أنا واحداً من واحد؛ لأن الورق هو الورق والحرف هو الحرف والحبر هو الحبر! لكني إن لم أستطع أن أميز فإن في الوجود من يميز الصالح من الفاسد، ومن يكافئ على الحسن، ويعاقب على السيئ، هو الله الذي سيقف بين يديه الظالم والمظلوم. وربما أحسن إليَّ هذا الذي سرق كتبي؛ لأنني آخذ منه حقي يوم يُلغى التعامل بالريال وبالدولار وباليِنِّ وبالمارك، ولا يبقى إلا التعامل بالحسنات، فمن كان له حق أخذ من حسنات من عليه الحق، أو ألقي عليه من سيئاته.
ومن السرقات ما لا يعوض. كان في متحف دمشق مجموعة من الدنانير الأموية بقيت بعد هذا الزمان الطويل وقلَّ أمثالها، سرقها مرة لص فأذابها وجعلها سبيكة فأضاع قيمتها التاريخية، وإن حفظ كتلتها الذهبية؛ كالذي سرق دفتري في رحلة الحجاز، وقد حدثتكم خبره، ودفتراً آخر ضخماً كتبت فيه بخطي مباحث علم النفس والفلسفة لما كنا ندرسها سنة 1929 (1348هـ)، وكان عزيزاً عليَّ؛ لأن فيه فصلاً من تاريخ حياتي، ولأن فيه قطعة من نفسي، لست أدري مَن سرقه من بيتي. وما سرقه لصٌّ محترف تسلَّق الجدار أو كسر الأقفال، ولكن سرقه واحد ممن أدخلته أنا داري، لا يعلم إلا الله وحده من هو.
ومن اللصوص الذين يستعيرون الكتب ولا يردونها، لذلك قررت قراراً لا رجعة فيه أن لا أعير أحداً كتاباً مهما كان السبب:

ألا يا مستعير الكتب دعني



فإن إعارتي للكتب عار


فمحبوبي من الدنيا كتابي



وهل أبصرت محبوباً يعار؟




ومن اللصوص الذين لا يؤبه لهم الذين يسرقون وقتك؛ فيأتي من يزورك على غير ميعاد، يهبط عليك كما تهبط المصيبة، وينزل بك كموت الفجأة. ولطالما عطَّل عليَّ مثل هؤلاء مقالة كنت أعدها، أو درساً كنت أحضره. لذلك لا أستقبل الآن أحداً أبداً بلا موعد، لا كبراً مني ولكن حفاظاً على وقتي. وإذا كانت سرقة المال ذنباً، فسرقة الوقت الذي يأتي بالمال أكبر؛ الوقت الذي تنال به المال والعلم، ويكون سبباً في دخوله الجنة أو في دخولك النار.
على أن هذا كله يعدُّ في مجتمعاتنا من الشواذِّ، والأصل في الناس الاستقامة والخير...
وبعد، فإني سأورد عليكم طرفتين من طرف اللصوص فيهما إن شاء الله متعة:
في دمشق مسجد كبير اسمه (جامع التوبة)، وهو جامع مبارك فيه أنس وجمال، سمِّي بجامع التوبة؛ لأنه كان خاناً ترتكب فيه أنواع المعاصي، فاشتراه أحد الملوك في القرن السابع الهجري وهدمه وبناه مسجداً. وكان فيه - من نحو سبعين سنة- شيخ مربٍّ عالم عامل اسمه الشيخ سليم المَسْوَتي، وكان أهل الحي يثقون به، ويرجعون إليه في أمور دينهم وأمور دنياهم. وكان عند هذا الشيخ تلميذ صالح، وكان مضرب المثل في فقره وفي إبائه وعزة نفسه، وكان يسكن في غرفة في المسجد. مرَّ عليه يومان لم يأكل فيهما شيئاً، وليس عنده ما يَطعمه، ولا ما يشتري به طعاماً، فلما جاء اليوم الثالث أحس كأنه مشرف على الموت، وفكَّر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حد الاضطرار الذي يجوز له أكل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة، فآثر أن يسرق ما يقيم صلبه.
وهذه القصة واقعة، أعرف أشخاصها، وأعرف تفصيلها، وأروي ما فعل الرجل، لا أحكم على فعله بأنه خير أو شر أو أنه جائز أو ممنوع. وكان المسجد في حيٍّ من الأحياء القديمة، والبيوت فيها متلاصقة والسطوح متصلة، يستطيع المرء أن ينتقل من أول الحي إلى آخره مشياً على السطوح. فصعد إلى سطح المسجد، وانتقل منه إلى الدار التي تليه، فلمح فيه نساء فغضَّ من بصره وابتعد، ونظر فرأى إلى جنبها داراً خالية، وشمَّ رائحة الطبخ تصعد منها، فأحس مِن جوعه لما شمَّها كأنها مغناطيس يجذبه إليها. وكانت الدور من طبقة واحدة، فقفز قفزتين من السطح إلى الشرفة فصار في الدار، وأسرع إلى المطبخ فكشف غطاء القدر، فرأى فيها باذنجاناً محشواً، فأخذ واحدة ولم يبال من شدة جوعه بسخونتها، وعض منها عضة، فما كاد يبتلعها حتى ارتد إليه عقله ودينه، وقال لنفسه: أعوذ بالله، أنا طالب علم مقيم في المسجد، ثم أقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟
وكبر عليه ما فعل، فندم واستغفر وردَّ الباذنجانة، وعاد من حيث جاء، فنزل إلى المسجد وقعد في حلقة الشيخ، وهو لا يكاد – من شدة الجوع - يفهم ما يسمع. فلما انقضى الدرس وانصرف الناس (وأؤكد لكم أن القصة واقعة) جاءت امرأة مستترة (ولم يكن في تلك الأيام امرأة غير مستترة) فكلَّمت الشيخ بكلام لم يسمعه، فتلفَّت الشيخ حوله فلم يرَ غيره، فدعاه وقال له: هل أنت متزوج؟ قال: لا. قال: هل تريد الزواج؟ فسكت، فقال له الشيخ: قل، هل تريد الزواج؟ قال: يا سيدي، ما عندي ثمن رغيف آكله فلماذا أتزوج؟
قال الشيخ: إن هذه المرأة خبَّرتني أن زوجها توفي، وأنها غريبة عن هذا البلد، ليس لها فيه ولا في الدنيا إلا عمٌّ عجوز فقير، وقد جاءت به معها (وأشار إليه قاعداً في ركن الحلقة) وقد ورثت دار زوجها ومعاشه، وهي تحبُّ أن تجد رجلاً يتزوجها على سنة الله ورسوله؛ لئلا تبقى منفردة فيطمع فيها الأشرار وأولاد الحرام، فهل تريد أن تتزوج بها؟ قال: نعم. وسألها الشيخ: هل تقبلين به زوجاً؟ قالت: نعم.
فدعا بعمِّها، ودعا بشاهدين، وعقد العقد، ودفع المهر عن التلميذ، وقال له: خذ بيد زوجتك.
فأخذ بيدها، أو أخذت هي بيده، فقادته إلى بيتها، فلما دخلته كشفت عن وجهها فرأى شباباً وجمالاً، ورأى البيت هو البيت الذي نزله. وسألته: هل تأكل؟ قال: نعم.
فكشفت غطاء القدر فرأت الباذنجانة، فقالت: عجباً! من دخل الدار فعضَّها؟
فبكى الرجل وقصَّ عليها الخبر، فقالت له: هذه ثمرة الأمانة، عففت عن الباذنجانة الحرام فأعطاك الله الدار كلها وصاحبتها بالحلال.
أما القصة الأخرى فلعل الطرافة فيها أكثر من المنفعة منها، وهي واقعة أعرف أشخاصها وظروفها، هي أن شابًّا فيه تقًى وفيه غفلة طلب العلم، حتى إذا أصاب منه حظًّا قال الشيخ له ولرفقائه: لا تكونوا عالة على الناس، فإن العالم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خير، فليذهب كل واحد منكم وليشتغل بالصنعة التي كان أبوه يشتغل بها، وليتقِ الله فيها.
وذهب الشاب إلى أمه فقال لها: ما هي الصنعة التي كان أبي يشتغل بها؟ فاضطربت المرأة وقالت: أبوك قد ذهب إلى رحمة الله، فما لك وللصنعة التي كان يشتغل بها؟ فألحَّ عليها وهي تتملص منه، حتى إذا اضطرها إلى الكلام أخبرته- وهي كارهة- أن أباه كان لصًّا.
فقال لها: إن الشيخ أمرنا أن يشتغل كلٌّ بصنعة أبيه ويتقي الله فيها.
قالت الأم: ويحك! وهل في السرقة تقوى؟
وكان في الولد كما قلت غفلة، فقال لها: هكذا قال الشيخ.
ثم ذهب فسأل وتسقَّط الأخبار حتى عرف كيف يسرق اللصوص، فأعدَّ عُدَّة السرقة، وصلَّى العشاء، وانتظر حتى نام الناس، وخرج ليشتغل بصنعة أبيه كمال قال الشيخ. فبدأ بدار جاره، ثم ذكر أن الشيخ قد أوصاه بالتقوى، وليس من التقوى إيذاء الجار، فتخطَّى هذه الدار. ومر بأخرى فقال لنفسه: هذه دار أيتام، والله حذَّر من أكل مال اليتيم، وما زال يمشي حتى وصل إلى دار تاجر غني ليس له إلا بنت واحدة، ويعلم الناس أن عنده الأموال التي تزيد عن حاجته.
فقال: هاهنا. وعالج الباب بالمفاتيح التي أعدها ففتح ودخل، فوجد داراً واسعة وغرفاً كثيرة، فجال فيها حتى اهتدى إلى مكان المال، وفتح الصندوق فوجد من الذهب والفضة والنقد شيئاً كثيراً، فهمَّ بأخذه، ثم قال: لا، لقد أمرنا الشيخ بالتقوى، ولعل هذا التاجر لم يؤد زكاة أمواله، لنخرج الزكاة أولاً.
وأخذ الدفاتر وأشعل فانوساً صغيراً جاء به معه، وراح يراجع الدفاتر ويحسب، وكان ماهراً في الحساب خبيراً بإمساك الدفاتر، فأحصى الأموال وحسب زكاتها فنحَّى مقدار الزكاة جانباً، واستغرق في الحساب حتى مضت ساعات، فنظر فإذا هو الفجر. فقال: تقوى الله تقضي بالصلاة أولاً.
وخرج إلى صحن الدار، فتوضأ من البركة وأقام الصلاة، فسمع رب البيت فنظر فرأى عجباً، فانوساً مضيئاً، ورأى صندوق أمواله مفتوحاً ورجلاً يقيم الصلاة. فقالت له امرأته: ما هذا؟ قال: والله لا أدري! ونزل إليه فقال: ويلك من أنت وما هذا؟ قال اللص: الصلاة أولاً ثم الكلام، فتوضأْ ثم تقدَّمْ فصلِّ بنا، فإن الإمامة لصاحب الدار.
فخاف صاحب الدار أن يكون معه سلاح ففعل ما أمره به، والله أعلم كيف صلَّى، فلما قضيت الصلاة قال له: خبِّرني ما أنت وما شأنك؟ قال: لص. قال: وماذا تصنع بدفاتري؟ قال: أحسب الزكاة التي لم تخرجها من ست سنين، وقد حسبتها وفرزتها لتضعها في مصارفها. فكاد الرجل يُجنُّ من العجب، وقال له: ويلك، ما خبرك؟ هل أنت مجنون؟ فخبَّره خبره كله. فلمَّا سمعه التاجر، ورأى جمال صورته وضبط حسابه ذهب إلى امرأته فكلَّمها، ثم رجع إليه فقال له: ما رأيك لو زوَّجتك بنتي، وجعلتك كاتباً وحاسباً عندي، وأسكنتك أنت وأُمَّك في داري، ثم جعلتك شريكي؟ قال: أقبل. وأصبح الصباح فدعي بالمأذون وبالشهود وعقد العقد!
وهذه قصة واقعة.
وأما السرقات الأدبية فقد قلت لكم إنني لا أعرض لها الآن، إلا واحدة لها صلة بالعلم والعلماء، وهي سرٌّ لم يرفع عنه الستار إلى الآن. ذلك أن عندنا كتابين متماثلين تماماً في موضوع جديد، لم يؤلف فيه قبلهما ولم يؤلف فيه بعدهما إلا القليل، هما كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي وكتاب (الأحكام السلطانية) للقاضي أبي يعلى. والكتابان متشابهان متطابقان؛ لأن أحدهما منسوخ عن الآخر، فمن هو صاحب الكتاب الأول؟
الماوردي من أفقه فقهاء الشافعية وكان يُلقَّب بأقضى القضاة، وأبو يعلى من أفقه فقهاء الحنابلة، وإذا قيل (القاضي) انصرف اللقب إليه. والاختلاف بينهما أن الماوردي حين يسرد الأحكام يسردها على المذهب الشافعي، وأبو يعلى على مذهب الإمام أحمد. وكانا في عصر واحد، وبلد واحد، وأظنهما كانا قاضيين في محكمة واحدة!
فلعل أحد الأساتذة أو الطلاب الذين يعدون رسائل الشهادات العالية يدرس هذا الموضوع، ويثبت بالأدلة من منهما المؤلف الأول. أما أنا فأميل إلى أنه الماوردي، لأن للماوردي كتاباً آخر قريباً في أسلوبه ونهجه وطريقته من هذا الكتاب، والله أعلم بالصواب.
فصول في الثقافة والأدب لعلي الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد مأمون - (ص 12) بتصرف

 

 
























التوقيع

،



..



   

رد مع اقتباس
قديم 06-04-2011, 12:07 PM   رقم المشاركة : 2

 

الحبيب الغالي د . عبد الله علاف :
استمتعت كثيرا بقراءة هذا الموضوع للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله رحمة الابرار واسكنه فسيح الجنان وجزاه عنا خير الجزاء .
وكتابات الشيخ الطنطاوي فيها المتعة والفائدة ولقد من الله علي بقراءة الكثير من كتبه فلا اكاد انتهي من قراءة كتاب الا وابدأ في الآخر فاجده لا يقل جمالا وروعة عن سابقه .
شكرا لك اخي الكريم وجزاك الله عنا خيرا وتقبل خالص تحياتي وتقديري .

 

 
























التوقيع



سبحانك اللهم وبحمدك عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك .

   

رد مع اقتباس
قديم 06-04-2011, 12:35 PM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
رفيق الدرب is on a distinguished road


 

ما شاء الله عليك يا دكتور عبد الله لقد أفدتنا كثيرا ورحم الله ذلك الرجل ( علي الطنطاوي )
كان يسكن في عمارة مجاورة للحرم وذهبت مرة لأستفتيه في مسألة شخصية وعندما وصلت إلى الباب
ترددت في دق الباب ، ثم خرجت زوجته - على ما أعتقد -وكانت ذاهبة إلى الحرم ، فنظرت إليّ شزرا ،
واكتفيت بتلك النظرة ورجعت من حيث أتيت ، معه حق في أخذ موعد مسبقا فهو عالم مشهور
( ولو يترك الدرعا ترعى ) كما يقول المثل أي فوضى لضاع وقته سدى .
تنظيم الوقت مهم ولا يتحرج شخص من أخذ موعد ولا يغضب إن لم يؤذن له بالدخول بدون موعد
قال تعالى : ( ........ فإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا ذلك أزكى لكم ............ )
نفع الله بما تكتب وبما تنقل وجزاك الله خيرا .

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 06-04-2011, 08:40 PM   رقم المشاركة : 4

 

ما بعد الخمسين


للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله


نظرت في التقويم فوجدت أني أستكمل اليوم (23جمادى الأولى 1379هـ) اثنتين وخمسين سنة قمرية، فوقفت ساعة أنظر فيها في يومي وأمسي، أنظر من أمام لأرى ما هي نهاية المطاف، وأنظر من وراء لأرى ماذا أفدت من هذا المسير.


وقفت كما يقف التاجر في آخر السنة ليجرد دفاتره ويحرر حسابه، وينظر ماذا ربح وماذا خسر. وقفت كما تقف القافلة التي جُنّ أهلوها وأخذهم السُّعَار، فانطلقوا يركضون لا يعرفون من أين جاؤوا ولا إلى أين يذهبون، ولا يهدؤون إلاّ إذا هدّهم التعب فسقطوا نائمين كالقتلى!



وكذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة؛ نستبق كالمجانين ولكن لا ندري علامَ نتسابق، نعمل أبداً من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كل شيء إلا أن نفكر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير!



وجردت دفاتري، أرى ماذا طلبت وماذا أُعطيت.
* * *
طلبت المجد الأدبي وسعيت له سعيه، وأذهبت في المطالعة حِدّة بصري وملأت بها ساعات عمري، وصرّمت الليالي الطِّوال أقرأ وأطالع، حتى لقد قرأت وأنا طالب كتباً من أدباء اليوم مَن لم يفتحها مرة لينظر فيها! وما كان لي أستاذ يبصرني طريقي ويأخذ بيدي، وما كان من أساتذتي مَن هو صاحب أسلوب في الكتابة يأخذني باتّباع أسلوبه، ولا كان فيهم مَن له قدم في الخطابة وطريقة في الإلقاء يسلكني مسلكه ويذهب بي مذهبه( ) . وما يسميه القراء أسلوبي في الكتابة ويدعوه المستمعون طريقتي في الإلقاء شيء مَنَّ الله به عليّ لا أعرفه لنفسي، لا أعرف إلاّ أني أكتب حين أكتب وأتكلم حين أتكلم منطلقاً على سجيتي وطبعي، لا أتعمد في الكتابة إثبات كلمة دون كلمة ولا سلوك طريق دون طريق، ولا أتكلف في الإلقاء رنّةً في صوتي ولا تصنّعاً في مخارج حروفي.



… وكنت أرجو أن أكون خطيباً يهز المنابر وكاتباً تمشي بآثاره البرد ( ) ، وكنت أحسب ذلك غاية المنى وأقصى المطالب، فلما نلته زهدت فيه وذهبت مني حلاوته، ولم أعد أجد فيه ما يُشتهى ويُتمنّى.



وما المجد الأدبي؟ أهو أن يذكرك الناس في كل مكان وأن يتسابقوا إلى قراءة ما تكتب وسماع ما تذيع، وتتوارد عليك كتب الإعجاب وتقام لك حفلات التكريم؟ لقد رأيت ذلك كله، فهل تحبون أن أقول لكم ماذا رأيت فيه؟ رأيت سراباً… سراب خادع، قبض الريح!



وما أقول هذا مقالة أديب يبتغي الإغراب ويستثير الإعجاب، لا والله العظيم (أحلف لكم لتصدقوا) ما أقول إلاّ ما أشعر به. وأنا من ثلاثين سنة أعلو هذه المنابر وأحتل صدور المجلات والصحف، وأنا أكلم الناس في الإذاعة كل أسبوع مرة من سبع عشرة سنة إلى اليوم، ولطالما خطبت في الشام ومصر والعراق والحجاز والهند وأندونيسيا خطباً زلزلت القلوب، وكتبت مقالات كانت أحاديث الناس، ولطالما مرت أيام كان اسمي فيها على كل لسان في بلدي وفي كل بلد عشت فيه أو وصلت إليه مقالاتي، وسمعت تصفيق الإعجاب، وتلقيت خطب الثناء في حفلات التكريم، وقرأت في الكلام عني مقالات ورسائل، ودرَس أدبي ناقدون كبار ودُرّس ما قالوا في المدارس، وتُرجم كثير مما كتبت إلى أوسع لغتين انتشاراً في الدنيا: الإنكليزية والأردية، وإلى الفارسية والفرنسية… فما الذي بقى في يدي من ذلك كله؟ لا شيء. وإن لم يكتب لي الله على بعض هذا بعضَ الثواب أكُنْ قد خرجت صفر اليدين!



إني من سنين معتزل متفرد، تمر عليّ أسابيع وأسابيع لا أزور فيها ولا أزار، ولا أكاد أحدّث أحداً إلاّ حديث العمل في المحكمة أو حديث الأسرة في البيت. فماذا ينفعني وأنا في عزلتي إن كان في مراكش والهند وما بينهما مَن يتحدث عني ويمدحني، وماذا يضرني إن كان فيها من يذمني أو لم يكن فيها كلها مَن سمع باسمي؟



ولقد قرأت في المدح لي ما رفعني إلى مرتبة الخالدين، ومن القدح فيّ ما هبط بي إلى دركة الشياطين، وكُرِّمت تكريماً لا أستحقه وأُهملت حتى لقد دُعي إلى المؤتمرات الأدبية وإلى المجالس الأدبية الرسمية المبتدئون وما دُعيت منها إلى شيء، فألفت الحالين وتعوّدت الأمرين، وصرت لا يزدهيني ثناء ولا يهزّ السبُّ شعرةً واحدة في بدني.


أسقطت المجد الأدبي من الحساب لما رأيت أنه وهم وسراب.

* * *

وطلبت المناصب، ثم نظرت فإذا المناصب تكليف لا تشريف، وإذا هي مشقة وتعب لا لذّة وطرب، وإذا الموظف أسير مقيِّد بقيود الذهب، وإذا الجزع من عقوبة التقصير أكبر من الفرح بحلاوة السلطان، وإذا مرارة العزل أو الإعفاء من الولاية أكبر من حلاوة التولية. ورأيت أني مع ذلك كله قد اشتهيت في عمري وظيفة واحدة، سعيت لها وتحرّقت شوقاً إليها… هي أن أكون معلماً في المدرسة الأولية في قرية حرستا( ) وكان ذلك من أكثر من ثلاثين سنة، فلم أنلها فما اشتهيت بعدها غيرها.


وطلبت المال وحرصت على الغنى، ثم نظرت فوجدت في الناس أغنياء وهم أشقياء وفقراء وهم سعداء.


ووجدتني قد توفي أبي وأنا لا أزال في الثانوية، وترك أسرة كبيرة وديوناً كثيرة، فوفّى الله الدين وربى الولد وما أحوج إلى أحد، وجعل حياتنا وسطاً ما شكونا يوماً عوزاً ولا عجزنا عن الوصول إلى شيء نحتاج إليه، وما وجدنا يوماً تحت أيدينا مالاً مكنوزاً لا ندري ماذا نصنع به، فكان رزقنا والحمد لله كرزق الطير: تغدو خِماصاً وترجع بِطاناً.

فلم أعد أطلب من المال إلاّ ما يقوم به العيش ويقي الوجهَ ذلَّ الحاجة.


وطلبت متعة الجسد وصرّمت ليالي الشباب أفكر فيها وأضعت أيامه في البحث عن مكانها، وكنت في سكرة الفتوة الأولى لا أكاد أفكر إلا فيها ولا أحن إلاّ إليها، أقرأ من القصص ما يتحدث عنها ومن الشعر ما يشير إليها. ثم كبرت سني وزاد علمي، فذهبت السكرة وصحّت الفكرة، فرأيت أن صاحب الشهوة الذي يسلك إليها كل سبيل كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر وكلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، ووجدت أن مَن لا يرويه الحلال يقنع به ويصبر عليه لا يرويه الحرام ولو وصل به إلى نساء الأرض جميعاً.


ثم ولّى الشباب بأحلامه وأوهامه، وفترت الرغبة ومات الطلب، فاسترحت وأرحت.

* * *

وقعدت أرى الناس، أسأل: علامَ يركضون؟ وإلامَ يسعون؟ وما ثَمّ إلاّ السراب!


هل تعرفون السراب؟ إنّ الذي يسلك الصحراء يراه من بعيد كأنّه عينٌ من الماءِ الزّلال تحدّقُ صافية في عينِ الشّمس، فإذا كدّ الرِّكاب وحثّ الصِّحابَ ليبلغه لم يلقَ إلاّ التراب.


هذه هي ملذّات الحياة؛ إنّها لا تلذّ إلاّ من بعيد.


يتمنّى الفقير المال، يحسب أنّه إذا أعطي عشرة آلاف ليرة فقد حيزت له الدّنيا، فإذا أعطيها فصارت في يده لم يجد لها تلك اللّذة التي كان يتصوّرها وطمع في مئة الألف … إنّه يحسّ الفقر بها وهي في يده كما يحسّ الفقر إليها يوم كانت يده خلاءً منها، ولو نال مئة الألف لطلب المليون، ولو كان لابن آدم واديًا من ذهب لابتغى له ثانيًا، ولا يملأ عينَ ابن آدم إلاّ التراب( ).


والشاعر العاشق يملأ الدنيا قصائد تسيل من الرّقة وتفيض بالشّعور، يعلن أنّه لا يريد من الحبيبة إلاّ لذّة النظر ومتعة الحديث، فإذا بلغها لم يجدهما شيئًا وطلب ما وراءهما، ثمّ أراد الزّواج فإذا تمّ له لم يجد فيه ما كان يتخيّل من النعيم، ولذابت صور الخيال تحت شمس الواقع كما يذوب ثلج الشّتاء تحت همس الرّبيع، ولرأى المجنون في ليلى امرأةً كالنساء ما خلق الله النساء من الطين وخلقها (كما كان يُخيّل إليه) من القشطة، ثمّ لَمَلّها وزهد فيها وذهب يجنُّ بغيرها!


ويرى الموظّفُ الصغيرُ الوزيرَ أو الأميرَ ينزل من سيارته فيقف له الجندي وينحني له الناس، فيظن أنّه يجد في الرياسة أو الوزارة مثل ما يتوهّم هو من لذّتها ومتعتها لحرمانه منها، ما يدري أنّ الوزير يتعوّد الوزارة حتّى تصير في عينه كوظيفة الكاتب الصغير في عين صاحبها. أوهام … ولكننا نتعلّق دائمًا بهذه الأوهام!
* * *
وفكرت فيما نلت في هذه الدنيا من لذائذ وما حملت من عناء طالما صبرت النفس على إتيان الطاعة واجتناب المعصية، رأيت الحرام الجميل فكففت النفس عنه على رغبتها فيه، ورأيت الواجب الثقيل حملت فحملت النفس عليه على نفورها منه ، وطالما غلبتني النفس فارتكبت المحرمات وقعدت عن الواجبات، تألمت واستمتعت، فما الذي بقي من هذه المتعة وهذا الألم؟ لا شيء. قد ذهبت المتعة وبقي عقابها وذهب الألم وبقي ثوابه.

ولم أرَ أضلَّ في نفسه ولا أغشَّ للناس ممّن يقول لك: لا تنظر إلاّ إلى الساعة التي أنتَ فيها، فإنَّ ما مضى فاتَ والمؤمّل غيبٌ ولكَ السّاعةُ التي أنتَ فيها


لا والله؛ ما فات ما مضى ولكن كُتب لك أو عليك، أحصاه الله ونسوه. والآتي غيب كالمشاهَد.

وما مَثَل هذا القائل إلاّ كمَثَل راكب سفينة أشرفت على الغرق ولم يبقَ لها إلاّ ساعات، فما أسرع إلى زوارق النجاة إسراع العقلاء ولا ابتغى طوق النجاة كما يبتغيه من فاته الزورق، ولكنه عكف على تحسين غرفته في السفينة الغارقة يزين جدرانها بالصور ويكنس أرضها من الغبار، يقول لنفسه: ما دامت السفينة غارقة على كلّ حال فلِمَ لا أستمتع بساعتي التي أنا فيها؟ يُفسد عمرَه كله بصلاح هذه الساعة، وإذا عرض له العقل يسفّه عملَه فليضرب وجه العقل بكأس الخمر التي تعمي عينيه فلا يبصر ولا يهتدي، وإنّ من الخمر لخمرة المال وخمرة السلطان!


هذا مثال من يجعل هذه الدنيا الفانية أكبر همّه ويزهد في الآخرة الباقية، ولو عقل لزهد في الدنيا. لا يحمل ركوته وعصاه ويسلك البراري وحيدًا، ولا يقيم في زاوية ويمد يده للمحسنين؛ فإن هذا هو زهد الجاهلين، وهو معصية في الدين. إنّ الزهد الحق هو زهد الصحابة والتابعين، الذين عملوا للدنيا واقتنوا الأموال واستمتعوا بالطيّبات الحلال وأظهروا نِعَم الله عليهم، ولكن كانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، وكان ذكر الله أبدًا في نفوسهم وعلى ألسنتهم، وكانت الشريعة نبراسهم وإمامهم، وكانت أيديهم مبسوطةً بالخير، وكانوا لا يفرحون بالغنى حتى يَبطروا ولا يحزنون للفقر حتى ييأسوا، بل كانوا بين غنيٍّ شاكر وفقيرٍ صابر. ومَن يحصل المال وينفقه في الطاعة خيرٌ ممّن لا يحصل ولا ينفق بل يسأل ويأخذ، ومن يتعلّم العلم ويعمل به خيرٌ ممّن يعتزل الناس للعبادة في زاويةٍ أو مغارة، ومن يكون ذا سلطانٍ ومنصب فيقيم العدل ويدفع الظلم خيرٌ ممّن لا سلطان له ولا عدل على يديه …وليست العبادة أن تصفّ الأقدام في المحاريب فقط، ولكن كلّ معروفٍ تسديه إن احتسبته عند الله كان لك عبادة، وكلّ مباحٍ تأتيه إن نويت به وجه الله كان عبادة؛ إذا نويت بالطعام التقوّي على العمل الصالح وبمعاشرة الأهل الاستعفاف والعفاف وبجمع المال من حِلّه القدرة به على الخير، كان كلّ ذلك لك عبادة، وكلّ نعمة تشكر عليها وكلّ مصيبة تصبر لله عليها كانت لك عبادة.


والإنسان مفطورٌ على الطمع، تراه أبدًا كتلميذ المدرسة؛ لّما بلغ فصلاً كان همّه أن يصعد إلى الذي فوقه. ولكن التلميذ يسعى إلى غاية معروفة إذا بلغها وقف عندها، والمرء في الدنيا يسعى إلى شيءٍ لا يبلغه أبدًا؛ لأنه لا يسعى إليه ليقف عنده ويقنع به بل ليجاوزه راكضًا يريد غايةً هي صورةٌ في ذهنه ما لها في الأرض من وجود!


وقد يُعطى المال الوفير والجاه الواسع والصحة والأهل والولد، ثمّ تجده يشكو فراغًا في النّفْس وهمًّا خفيًّا في القلب لا يعرف له سببًا، يحسّ أنّ شيئًا ينقصه ولا يدري ما هو، فما الذي ينقصه فهو يبتغي استكماله؟


لقد أجاب على ذلك رجلٌ واحد؛ رجلٌ بلغ في هذه الدنيا أعلى مرتبة يطمح إليها رجل: مرتبة الحاكم المطلق في ربع الأرض فيما بين فرنسا والصين، وكان له مع هذا السلطان الصحة والعلم والشّرف، هو عمر بن عبد العزيز الذي قال: “إنّ لي نفسًا توّاقة، ما أُعطيت شيئًا إلاّ تاقت إلى ما هو أكبر: تمنّت الإمارة، فلمّا أعطيَتها تاقت إلى الخلافة، فلمّا بلغتها تاقت إلى الجنّة”!


هذا ما تطلبه كلّ نفس؛ إنّها تطلب العودة إلى موطنها الأوّل، وهذا ما تحسّ الرغبة الخفيّة أبدًا فيه والحنين إليه والفراغ الموحِش إن لم تجده.


فهل اقتربتُ من هذه الغاية بعدما سرت إليها على طريق العمر اثنتين وخمسين سنة؟

يا أسفي! لقد مضى أكثر العمر وما ادّخرت من الصالحات، ولقد دنا السّفر وما تزوّدتُ ولا استعددت، ولقد قَرُبَ الحصاد وما حرثت ولا زرعت، وسمعت المواعظ ورأيت العِبَر فما اتّعظت ولا اعتبرت، وآن أوانُ التوبة فأجّلت وسوّفت.

 

 
























التوقيع



سبحانك اللهم وبحمدك عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك .

   

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2011, 02:30 AM   رقم المشاركة : 5

 

الجبل الأشم

والرجل الملهم

عبدالحميد بن حسن

صاحب الأدب المتقن

شكراً للإضافة

وحسن اللطافة

زدنا مما لديك

محبك ومغليك

والله يُرضيك

 

 
























التوقيع

،



..



   

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2011, 10:39 AM   رقم المشاركة : 6

 

وقل اعملوا فسيرى الله عملكم والمؤمنون 0 وليس للانسان الا ما سعى 0 انت تغيب وتاتي بالمفيد بارك الله فيك 0 لقد استجلبت الدعاء لرجل احبه الناس وتعلقو باحاديثه رحمه الله وجزاك عنا وعنه خيرا 00

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2011, 10:41 AM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
إحصائية العضو











رفيق الدرب غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


ذكر

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
رفيق الدرب is on a distinguished road


 

لا عطر بعد عروس جزاكما الله خيرا ( أبو أحمد ، أبو يا سر )
أستمتعت بما قرأت فلكما الشكر ,

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 06-05-2011, 09:20 PM   رقم المشاركة : 8

 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رفيق الدرب مشاهدة المشاركة
ما شاء الله عليك يا دكتور عبد الله لقد أفدتنا كثيرا ورحم الله ذلك الرجل ( علي الطنطاوي )
كان يسكن في عمارة مجاورة للحرم وذهبت مرة لأستفتيه في مسألة شخصية وعندما وصلت إلى الباب
ترددت في دق الباب ، ثم خرجت زوجته - على ما أعتقد -وكانت ذاهبة إلى الحرم ، فنظرت إليّ شزرا ،
واكتفيت بتلك النظرة ورجعت من حيث أتيت ، معه حق في أخذ موعد مسبقا فهو عالم مشهور
( ولو يترك الدرعا ترعى ) كما يقول المثل أي فوضى لضاع وقته سدى .
تنظيم الوقت مهم ولا يتحرج شخص من أخذ موعد ولا يغضب إن لم يؤذن له بالدخول بدون موعد
قال تعالى : ( ........ فإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا ذلك أزكى لكم ............ )
نفع الله بما تكتب وبما تنقل وجزاك الله خيرا .

شكر الله لك
أبا صالح تواصلك
ولا تنسنا من دررك

محبك

 

 
























التوقيع

،



..



   

رد مع اقتباس
قديم 06-07-2011, 09:17 AM   رقم المشاركة : 9

 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نايف بن عوضه مشاهدة المشاركة
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم والمؤمنون 0 وليس للانسان الا ما سعى 0 انت تغيب وتاتي بالمفيد بارك الله فيك 0 لقد استجلبت الدعاء لرجل احبه الناس وتعلقو باحاديثه رحمه الله وجزاك عنا وعنه خيرا 00

أيها الغالي

نايف بن عوضه الرحباني

جزاك الله خيراً

وبارك فيك

وأحسن لنا ولك الختام

 

 
























التوقيع

،



..



   

رد مع اقتباس
قديم 12-25-2011, 05:09 PM   رقم المشاركة : 10

 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رفيق الدرب مشاهدة المشاركة
لا عطر بعد عروس جزاكما الله خيرا ( أبو أحمد ، أبو يا سر )


أستمتعت بما قرأت فلكما الشكر ,
شكر الله لك
أبا صالح تواصلك
ولا تنسنا من دررك

محبك

 

 
























التوقيع

،



..



   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:46 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir