أيهما أفضل:
الترتيل بتدبر مع قلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة؟
إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه
يرى حرصهم على التلاوة بتدبر وتأمل،
وفهم وتذكر،
أكثر من حرصهم على كثرة القراءة وسرعتها،
والإكثار من الختمات، قال تعالى:
[سورة المزمل ]
أي اقرأه بترسل وتمهل؛ لأنه يحصل بذلك التدبر والتفكر،
وتحريك القلوب به.
وهكذا كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم،
كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها،
وكانت قراءته مدًا.
وقال ابن مسعود:
"لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدَّقَل(15)،
وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب،
ولا يكن هم أحدكم آخر السورة".
وقرأ علقمة على ابن مسعود، وكان حسن الصوت،
فقال: رتل فداك أبي وأمي؛ فإنه زين القرآن.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى:
دخلتْ عليَّ امرأة وأنا أقرأ سورة هود،
فقالت: يا عبد الرحمن! هكذا تقرأ سورة هود؟!
والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها.
لكن لا يعني هذا أن المسلم لا يقرأ بسرعة في بعض الأحيان؛
لكي يضبط حفظه، أو يُنهي ورده اليومي،
بل إن القراءة في حد ذاتها ولو كانت سريعة فيها أجر وثواب،
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((من قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة،
والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولمن ألف حرف،
ولام حرف، وميم حرف))(16).
ولهذا قال شعبة:
حدثنا أبو جمرة،
قال: قلت لابن عباس:
إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين،
فقال ابن عباس:
لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل،
فإن كنت لا بد فاعلاً فاقرأ قراءةً تُسمِعُ أُذنيك، ويعِيها قلبُك(17).
وعلى هذا يمكن أن نقول:
إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرًا،
وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا؛
فالأول:
كمن تصدق بجوهرة عظيمة،
أو أوقف أرضًا في مكان مهم ترتفع قيمة العقار فيه،
والثاني :
كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم،
أو أوقف عددًا من الأراضي كثيرة،
لكنها في مكان بعيد، وقيمتها زهيدة (18).
----------
(15) الدقل هو التمر اليابس، ومعناه: أن تقرأونه بسرعة كما تناثر الرطب الرديء اليابس من العذق إذا هُز.
(16) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن، وحسنه، وذكر ابن القيم في الزاد أن الترمذي صححه، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
(17) انظر: زاد المعاد (1/328).
(18) انظر: زاد المعاد (1/328).