الموضوع: نجم هوى
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-14-2009, 11:49 AM   رقم المشاركة : 3

 



بعد رحلة طويلة من الجد والكفاح والعطاءات في أكثر من ميدان
غيب الموت زميلنا ورفيق دربنا المربي الكبير والأستاذ الجليل الدكتور صالح بن زايع الغامدي (أبا عصام)
أستاذ التربية المقارنة بجامعة الملك سعود. وتقاطر حشد كبير من أقاربه ومحبيه وزملائه من كل مكان
ليشاركوا في تشييعه إلى مثواه الأخير واكتظ مسجد الراجحي ومقبرة النسيم بأعداد غفيرة
ممن أتوا ليودعوه وداعاً أبدياً ويدعون له بالمغفرة والرحمة وليعزوا أبنائه عصام وحازم وماهر
وهي أسماء تدل دلالة على طبيعة هذا الرجل ورؤيته للأمور ونوعية الحياة التي يريدها لأبنائه
إنها حياة العصامية والحزم والمهارة في إطار الصلاح وهذا ما حاول أن يؤصله في أبنائه وتلاميذه.
ربما أن البعض قد لا يعرفون أبا عصام رغم أنه قامة سامقة في فضاءات العلم والفكر والأدب ودماثة الأخلاق
وأتصور أن عدم معرفة البعض به تعزى لكونه أثر العمل بهدوء وبإخلاص وبجدية مطلقة
بعيدا عن ضوضاء الإعلام واللهث خلف المناصب الإدارية. لقد فقدناه أخاً، وأستاذاً مميزاً،
وصديقاً ودوداً، لم يعرف عنه أنه أساء إلى أحد أو أخطأ في حق أحد،
أو تخلف عن لقاء اجتماعي مع زملائه. لقد كان كبيرا في سلوكياته وأخلاقه،
وتعاملاته وبشوشاً وصادقاً في كل ما يقول ويفعل. وكان رحمه الله ذا حضور مميز في الاجتماعات الرسمية،
والمحاورات العلمية واللقاءات الاجتماعية، ولا تخفى قدراته اللغوية في النحو والشعر والخطابة على أحد.
أعلم أن شهادتي فيه - يرحمه الله - مجروحة لأنني أحببته حباً صادقاً متبادلاً بيننا لا لشيء
إلا لأنني رأيت فيه خصالاً يفتقدها كثير من الناس ونحن بأمس الحاجة إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى.
ولا يختلف على هذه المسألة اثنان ممن عرفوه أو عملوا معه أو تتلمذوا في مدرسته.
لقد كان - رحمه الله - قدوة ومثالاً يحتذى به لكل من تعامل معه.
تعرفت على أبي عصام عندما بدأت حياتي المهنية كمعيد بقسم التربية
وكان حينها يرحمه الله محاضراً ورافقته في رحلة عمل إلى أبها مع مجموعة من مديري المدارس
كانوا يشاركون في دورة تدريبية آنذاك.
وأبها تختلف اليوم كثيراً عما كانت عليه في تلك السنوات.
استمرت الرحلة قرابة العشرة أيام ولكن ذكرياتها ما زالت راسخة في ذهني كأنها أمس،
وبطبيعة الحال فلقد كان الراحل العزيز هو بطل تلك الذكريات ومهندسا وصانعها.
في آخر اللقاءات التي جمعتني به ذكرني بتلك الرحلة وقال:
(لابد لنا من رحلة أخرى إلى أية بقعة في العالم كي نعيش أياماً سعيدة كما عشناها في أبها منذ سنين طويلة مضت).
شيء مؤسف أن هذه الرحلة لم ولن تتم فما قدر الله لها ذلك،
لقد رحل أبوعصام إلى جوار ربه وخلَّف هذه الأمنية الغالية التي كم تمنيت أن تتحقق
لكن القضاء والقدر سبق فلله ما أعطى ولله ما أخذ. ولله الحمد على كل حال.
أبوعصام شخصية فريدة من نوعه، عصامية في تكوينها، عفوية في تعاملاتها، جادة في نواياها،
ومسؤولة في رؤيتها للعمل والإنجاز. أحب دينه ووطنه وولاة الأمر وأصحابه وزملائه.
وأحب أسرته وأبنائه كثيراً وحرص على تعليمهم وكان له ما أراد من التميز العلمي لهم،
فلقد انشغل في آخر أيامه بأمر تحويل ابنته من تخصص إلى آخر أو من كلية إلى أخرى
وما كان يعلم أن هادم اللذات ومفرق الجماعات كان على الأبواب.
نعم، لقد كان أبوعصام صبوراً ومتفائلاً. لم أره متجهماً أو غاضباً أو متبرماً في أي يوم من الأيام،
إنما رأيته دائما منشرح الصدر، باسماً، فرحاً ودوداً، لطيفاً مستمعاً جيداً، وقليل الحديث إلا فيما نفع،
لقد مر قبل عشر سنوات تقريباً بنوع من الجلطة أفقدته البصر لفترة من الزمن ولكنه لم ييأس ولم يضجر
بل أخذ بالأسباب وجعل التفاؤل ديدنه وتوكل على الله وعافاه الله من مصيبته وظل مبصراً حتى رحيله - يرحمه الله -.
لم تكن الدنيا وبهرجها وزينتها تعني له الشيء الكثير. وكنت أمازحه - رحمه الله - وأقول له:
(تكاد تكون الوحيد من قبيلة غامد الذي لم يكن له في التجارة نصيب وهذه حالة استثنائية)،
ويرد عليّ قائلاً: (خلها على ربك يا أبوسعد أخوك موكل الله ولما لم أنجح في التجارة سرحوني إلى التعليم)
نعم لقد توكل على الله، وأكرمه الله قبل تقاعده بسنة أو سنتين واشترى منزلا يضم اليوم أهله وأبنائه،
حفظهم الله وعظم أجرهم وعوضهم خيراً، وأدام عليهم الصحة والعافية.
لم يولد (أبوعصام) وفي فمه ملعقة من ذهب بل لقد بدأ حياته المهنية بسن مبكرة
وعمل مراسلاً لدى إحدى الأسر الثرية في الحجاز بعد أن أتى من قريته القابعة في قمم جبال الباحة،
لقد كان دائما يذكر لي هذه المسألة ويفتخر بها كجزء من عصاميته.
وواصل في مكة المكرمة تعليمه، درّس في المرحلة الابتدائية وابتعث لنيل الماجستير والدكتوراه،
وعاد ليواصل مع بقية زملائه مسيرة بناء الوطن الذي كان يفاخر به كثيراً ويحبه كثيراً ويتألم لألمه ويفرح بفرحه.
إني أسطر هذه الأبيات وأنت بعيداً عنا يا أبا عصام فكم من العيون والدموع نحتاج كي نبكيك وكم من المداد نحتاك كي نرثيك،
فسر - بإذن الله - هنالك إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأنتم السابقون ونحن اللاحقون
وغفر الله لنا ولكم ولجميع المؤمنين والمؤمنات وجزاكم الله عنا وعن محبيكم وطلابكم خير الجزاء
وألهم أهليكم وأبنائكم وبناتكم وعشيرتكم ومحبيكم الصبر والسلوان
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.



بقلم / د. عبدالعزيز بن عبدالله السنبل - أستاذ التربية بجامعة الملك سعود






ســهـ نجم ـــيل

 

 
























التوقيع


التعديل الأخير تم بواسطة إداري3 ; 06-15-2009 الساعة 11:40 PM. سبب آخر: تثبيت اسم كاتب المقال

   

رد مع اقتباس