عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2008, 12:14 AM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road

دمعه على اطلال (ذي عين)


 

عندما تعبر شمس تشرين إلى البحر بعد عصر كل يوم، تصوّب أشعتها الفضيّة إلى (ذي عين) تاركة جبال السروات تتلفّع بضباب كثيف، تشتعل تحته قرى غامد وزهران بالحب والوفاء، مثل خيمة بيضاء، استظل العشاق بها أول النهار، وطاب لهم النوم على سريرها السندسيّ الأخضر بعد الغروب.
وما علمت أن أهل قرية يؤمنون بعالم الجنّ إيمان أهل (ذي عين) رغم اختلاف رواياتهم العجيبة عن مخلوقات تحدّثوا عن أحوالها الغريبة بإسهاب، وشاهدوها رؤى العين، وصار لهم فيها مذهب يعرفه أهل القرى المجاورة.
ولقد سعدت بهذه اللطائف النادرة من صديق قديم كنت أحرص على زيارته بها، ملبياً دعواته المتكررة في المناسبات والأعياد، ونعمت بهذه الغرائب المتواترة في أحاديث القوم، ولكنني ما كنت أحملها محمل الجد.
انقضت عدّة سنوات لم تنمح لوحة (ذي عين) بجدرانها العالية، وشرفاتها المعلّقة، ودروبها الملتوية، وسلالهما الحجرية التي تربط البيوت المتعدّدة الطبقات بمداخل القرية.
ولطالما كنت أصفها لأقراني بأنّها قلعة رعاة كانوا يعتصمون بها من غارات اللصوص في الليالي الشديدة الظلام، ويستبردون بلذيذ مائها، المتدفق بغزارة مع ماشيتهم العطشى بعد طول عناء خلال تجوالهم في تهامة الملتهبة على مدار العام، فلقد كانت كما وصفت شديدة الالتصاق في خيالي، وكان كلّ شيء متصل بحادثة غريبة رويت على مسمعي راسخاً في ذاكرة زادها سن الصبا توقّداً.
وكيف ينسى الصبي لون الستائر الزاهية التي كانت تكلّل النوافذ الخشبيّة، وأضواء السرج التي تشعّ من شقوق الحجرات، ومشاعل الرعاة، و أصواتهم المميّزة، وثغاء الماعز، ورائحة جرار الحليب مختلطة بعبق البخور اليماني الذي كان يهدر قسماً كبيراً من ميزانيّة القرية، وتشغل أدواته حيّزاً هامّاً في صدر كل منزل.
انقضت سنوات الصبا الجميل، أحالني الدهر بعدها رجلا مترهّلا كثير العيال، يحمل على كتفيه همّ السنين، وتنطبع على تقاطيع وجهه صور المعاناة، ولكنّه يحمل بين جنبيه قلبا مفعما بالحنان، نابضا بحب الإله والناس.
عدت أبحث عن أترابي، وأصدقاء طفولتي ، وأنى أجد مثل سالم صدقاً، وصفاءً، ووفاءً، ومثل أهله وأبناء قريته كرماً، وطيب عشرة.
وصلت (ذي عين) وأنا أظنّ أنّي مقبل على قرية تمتلئ حيويةً ونشاطاً، وتنعم بالسعادة وهي تغفو حالمة على صدر السروات الغربي الشديد الانحدار، ووسط استغراب رفاق الرحلة الذين تابعوا سيرهم نزل عبد الرحمن ـ وهو الاسم الذي أطلقه علي أبو سالم ـ يحث الخطى بحثا عن منزل صديقه القديم.
كان كلّ شيء في القرية ساكناً موحشاً ، والشرفات خالية من الستائر والزهور، وبدت الدروب مغطّاة بالتراب، والأدراج الحجريّة مهشّمة بشكل يدعو للقلق، وتدلّت الأعشاب من شقوق الجدران، وتساقطت معظم خشبات السقوف الترابيّة، وتكسّرت عتبات البوّابات الحجريّة، والكوى التي كانت تعشعش الحمائم فيها بسلام، وتناثرت الأرحية خارج الأفنية.
وافتقد هذه المرّة جمرات البخور الملتهبة في صفائح النحاس، وهي تطلق سحب دخانها الكثيف الطيّب الرائحة، ممزوجا بدخان مواقد الطهي والشواء.
ويستدير عبد الرحمن في التفاتة خاطفة حول الأطلال الموحشة، وقد عصفت بها الأيام، وأحالتها مرتعا للحشرات والهوام، متنقّلاً بين أحيائها الخالية، ومستودعاتها الخاوية، ثم ينعطف نحو الجهة اليمانيّة المنخفضة، متوغلا بين صفّين من أشجار الطلح البريّة يشكّلان ممراً مسقوفاً يفضي إلى درج متهدّم، تسبح درجاته الدنيا في ماء غزير، سريع الجريان، في إخدود يزداد عمقا باتجاه أرض ضحلة، موحلة، شديدة الاتساع، تضج بنقيق الضفادع، وتغريد العصافير التي أطفأت حرارة حوصلتها الملتهبة بقطرات سائغة قبل حلول الظلام.
ويلمح خلف المستنقع المعشب بقايا أشجار الموز الباسقة، وقد انحنت بحنان على أقراطها، انحناءة امرأة حجازيّة على رضيعها.
ويسأل عبد الرحمن نفسه في دهشة واستغراب عن حقيقة هذه القرية التي لا يضاء فيها قنديل، ولا يوقد بها تنّور، ولا تملأ صبية جرّتها من النبع الوحيد قبل المغيب، ولا يتناجى في عشيّاتها المقمرة عاشقان.
هل أصاب أهلها العقوق ؟!
أم هل أصابتها الجنّ بمكروه ؟!
أم أنّه زلزال لم يبق من أهلها باقية ؟!
وتأتي سحابة باردة من الجبال الشرقيّة العالية، تتبعها موجات أخرى من الضباب الكثيف، تسرع في عودة عبد الرحمن مبكّراً من حيث أتى قبل حلول الظلام والضباب معاً، فيعود أدراجه دون أن يرتشف فنجاناً واحداً من قشر البن اليماني الذي كانت أم سالم تعدّه فور وصوله، لتقدّمه ساخناً في وعائها النحاسي البرّاق، بكل تواضع وترحيب، مع قليل من التمر واللوز الجاف، أو يشرب كأساً مترعة من حليب الماعز المحلّى بعسل الطلح اللذيذ بعد صلاة كل فجر في ضيافة الأسرة.
كان الرجل الأوّل الذي التقى به عجوزاً تسعينياً زاده الجبل صلابةً، وقوّة حجّة في صوت جهوري واضح النبرات، أجاب عن السؤال الذي يجول في خاطر محدّثة دون مقدمات قائلا:
يا بني، لقد بهرتهم أنوار المدن، فسقطوا على أبوابها كالفراشات، وخطفهم بريق الذهب، وغرقوا في زحام الشوارع، وأزقّة المدن الشرقيّة التي رحلوا إليها أفرادا وجماعات.
ونظر عبد الرحمن إلى وجه العجوز، وقد امتلأت عيناه بالدموع، وهو يقول: إنه الذهب الأسود يا ولدي …
نعم … إنه الذهب الأسود …

قصة قصيرة بقلم (محمد علي شاهين)

http://www.alghoraba.com/adab/15_dam3a.htm

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس