يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11-19-2011, 01:25 PM   رقم المشاركة : 1

 

ما بعد الحج



ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 15/12/1432هـ بعنوان: "ما بعد الحج"، والتي تحدَّث فيها عما يعقُب مناسكَ الحج من المُداومة على الطاعات، والمُسارعة إلى فعل الحسنات وترك السيئات، وأشادَ بجهود خادم الحرمين والقائمين على تيسير المناسك للحُجَّاج والمُعتمرين، ونبَّه على ضرورة تعلُّم آداب وأحكام زيارة المسجد النبوي الشريف.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، أحمده - سبحانه - أكمل لنا المناسك وأتمَّ، وأسبغَ على الحَجيج فضلَه المِدارارَ الأعمَّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نسمُو بها إلى أعلى القِمَم، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أزكى من أدَّى المناسِكَ وطافَ بالبيت العتيق وأمَّ، وأبانَ معالمَ الدين ورسَم بأبلغِ عبارةٍ وأوجزِ الكلِم، صلَّى الله عليه وعلى آله الأطهارِ صفوةِ الأُمَم، السالكين النهجَ القويمَ الأَمَم، وأصحابِه الأخيارِ أُسدِ العَرين ولُيُوثِ الأَجَم، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ما قصدَ المسجدَ الحرام حاجٌّ والتزَم، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله! حُجَّاج بيت الله الحرام:
اتقوا الله - تبارك وتعالى - حقَّ التقوى؛ فإنها أنفسُ الذخائِر، والأثرُ الجليلُ لما أدَّيتُم من أعظم الشعائر، فتقوى الله - سبحانه - ضياءُ الضمائر، ونورُ البصائر، وترياقُ السرائر، وخيرُ عاصمٍ من الجرائر، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة: 197].

يريدُ المرءُ أن يُؤتَى مُناهُ ويأبَى اللهُ إلا ما أرادا
يقول المرءُ: فائدتي ومالي وتقوى اللهِ أعظمُ ما استفادا
وفودَ الرحمن! أيها الحُجَّاج الكرام:
منذ أيامٍ قلائل نعِمتم بإكمال مناسكِ الركنِ الخامسِ من أركان الإسلام، وأحدِ مبانيه العِظام، في أجواءٍ إيمانية سعيدةٍ، وأوضاعٍ أمنيَّةٍ فريدة، فاقدُرُوا هذه النعمةَ الكبرى التي يغبِطُكم عليها سائرُ الأمم، واشكروا المولى - سبحانه -؛ حيث أفاضَ عليكم أزكَى المِنَن والنعَم، وغمَرَكم فضلُ الباري بالحجِّ إلى البيت الذي جعله مثابةً وأمنًا للناس، وفي ذلك الأجرُ الجزيلُ بغير قياس، وعلى إثر ذلك ودَّعَت أمتُنا الإسلامية مناسبةَ عيد الأضحى الغرَّاء، وأيامَه العبِقَة الزهراء؛ إذ المقامُ بعدئذٍ مقامُ شكرِ المُنعِم - سبحانه -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم: 7].
فاشكروه تعالى حقَّ شكره، واذكروه - جل وعلا - حقَّ ذكره؛ فقد وقفتُم بأزكى البِطاح ترجُون غفرانَ الذنوب والجُناح، وتأمُلون الفوزَ بالأجر والفلاح، وقد نقعتُم أنفسَكم وأرواحَكم في مُغتسَل المغفرة ونفحاتها، وسحجتُم الآثامَ بشآبيب الرحماتِ وهبَّاتها، تدعون ربَّكم بألسنةٍ طاهرة وقلوبٍ خاشعة ونفوسٍ مُنكسِرةٍ ضارِعة وأعيُنٍ بالعَبَرات سكَّابةٍ دامِعة.
عيونٌ إلى الرحمنِ ترنُو ضراعةً فينهَلُّ فيضٌ من مدامِعِها سكبًا
حجيجٌ كموجِ البحر في زحمةِ التُّقَى يُلبِّيه ربُّ العالمين إذا لبَّى
فعلى صعيدِ عرفاتٍ لهَجتُم إلى الله بالتجاوُز عما كان من السيئات وفات، ووقفتُم - أحبَّتنا الحُجَّاج - موقفَ المُفتقِر المُحتاج، فأحرزتُم غايةَ الحُبور والابتِهاج، ونحرتُم الأضاحِيَ والهدايا بمِنَى، ورميتُم الجمرات للمُنى، وحلَّقَت أرواحُكم في أنداء الصفا بالسعي بين المروة والصفا، وعند الركن والمقام انهلَّت منكم العبَراتُ السِّجام.
وعند الرُّكنِ تنحسِرُ الخطايا مُلملِمَةً جوانِحَها انهِزامًا
فتنشرِحُ الصدورُ بطِيبِ ذكرٍ أماطَ الكربَ عنها والقَتَاما
ومن كان بهذه المثابة؛ فأحرِ به أن يُكرِمَه المولى بعظيمِ الأجر والإنابة، وحقيقٌ به أن يعمُرَ بالبُرُور والقُرُبات أوقاتَه وأزمانَه، وأن يُطلِقَ دومًا للحسنات عِنانَه.
فهنيئًا لكم، ويا بُشراكم بقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة»؛ خرَّجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
الله أكبر؛ لكأنها كلماتٌ من لؤلؤ على بِساطٍ من سُندُس.
معاشر الحَجيج الأكارِم:
وها قد انعطفتُم في حياتِكم إلى عهدٍ جديدٍ، وميلادٍ مباركٍ سعيد، مُشرِقةٍ صفحاتُه، نقيَّةٍ أوقاتُه، سنيَّةٍ ساعاتُه، وها قد انقَضَت المناسِك؛ فماذا بعدُ أيها الناسِك؟!
ألا فالزَموا المُداومَةَ على الأعمال الصالحة والثبات، والاستقامةَ عليها حتى الممات، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
وتزوَّدوا - يا رعاكم الله - من مناهلِ حجِّكم بالتوبة النَّصوح واليقين المتين، والنفسِ الزكيَّة، والسجايا السنيَّة لخوضِ غِمار الحياة بصالح الأعمال وخالصِ النيَّة، وحُسن استثمار هذه الدنيا الدنيَّة.
قيل للحسن البصري - رحمه الله -: ما الحجُّ المبرور؟ قال: "أن تعودَ زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة".
أمةَ الإسلام، حُجَّاج بيت الله الحرام:
ومُقتضى الحجِّ المبرور: التغييرُ إلى مرافِئِ الرُّقِيِّ والحُبُور، وذلك بالاعتصام بحبل الله المتين، والتوادُدِ والاتفاق ونبذِ التنازُع والافتراق، والتواصِي بالصلاحِ ومكارمِ الأخلاق، واجتِنابِ المُوبِقات والمُنكراتِ ودواعِي النفاق.
فطهِّروا ألسنتَكم من الكذبِ والغِيبَة والآثام، ومنكرِ القولِ والشِّتام، وزكُّوا قلوبَكم فإنها محلُّ نظرِ ذي الجلال والإكرام.
فيا حُجَّاج بيت الله كونوا على المنهاجِ روَّادًا عِظامًا
وتلك العُروةُ الوُثقى شِعارٌ فلا ترضَوا لعُروتها انفِصامًا
معاشر المسلمين، والحُجَّاج الميامين:
ولا بُدَّ لهذه المناسبة الكريمة ومناسِكِها العظيمة أن نستلهِمَ منها الآيات والعِبَر، والتذكُّر في صُروفِ الدَّهر وما له من غِيَر؛ فإن هذه الفريضةَ العظيمةَ منبعٌ ثرٌّ للتسامُح والتحاوُر، والتضامُن والتشاوُر، تتجلَّى فيها أسمَى صور الأمة الواحدة التي اجتمعَت على هدفٍ واحد، فلا ينبغي أن يمرَّ موسمٌ إلا وتعلَّمَت الأمةُ من هذا التجمُّع الكبير دروسًا بليغة، وخرجَت بطاقاتٍ فريدة، تُستَمَدُّ من هذه الجُموع المُبارَكة.
وأرضُ الحرمين - حرسَها الله - منحَت العالمَ - بفضل الله - صُور المُسامَحة والتعاوُن، وقِيَم الأمن والأمان، وكم في هذه الفريضة من المشاهد الإسلامية والإنسانية، والصُور الحضارية التي لا تظهر إلا في هذه البِقاع الطاهرة، لتُدرِكَ الأمة أنها بغير الإيمان والعقيدة وبدون الاعتصام بالكتاب والسنة لن ولا ولم تكن شيئًا مذكورًا، وأن عواملَ الخلافِ والفُرقة لن تحمِلَ غيرَ الشتاتِ والضياع.
وإننا باسم الأمة الإسلامية قاطبةً لنُناشِدُ من مهبِطِ الوحي ومنبَعِ الرسالة قادةَ الأمة وشُعوبَها القيامَ بدورهم التأريخي في العمل على بثِّ الأمن والاستقرار في مُجتمعاتهم، ونبذِ العُنفِ والقمعِ والقتلِ والعُدوان، ورفعِ الظلمِ والبغيِ والطغيان، مُدرِكين أن الوعيَ الحَصيفَ هو السبيلُ - بعد الله - لاختيار طريق التوحيد والوَحدة لا التخبُّط والاضطرابِ والفَوضَى.
فالتحدِّيات المُتسارعة، والمُتغيِّراتُ المُتلاحِقة لهذه الأمة تستدعِي منها أن تعِيَ مخاطرَ المُستقبَل فتستشرِفَه بكل ثقةٍ واقتِدار، وها هو الزمانُ يسيرُ بنا سيرًا حثيثًا ولسانُ العِبَر والعِظات يتلُو علينا كلَّ يومٍ حديثًا، عروشٌ زالَت، ودولٌ دالَت، وأخرى انتصَرَت وقامَت، وكذا ذو المَنون تعثامُ الخِيَرة الأعلام والأعِزَّةَ الكرام والأقارِبَ والأرحام، أسكنَهم الله فسيحَ الجِنان، وجزاهم عنا وعن المسلمين أعظمَ الأجر والإحسان. وهكذا الدنيا راحلٌ بعد راحِل، وعِبَرٌ لكل مُتدبِّرٍ عاقل.
فكونوا - يا عباد الله الكرام، ويا حُجَّاج بيته الحرام - من المُشمِّرين للدار الآخرة، الساعين للمنازل العالية الفاخِرة.
أيها الإخوة المؤمنون:
ومن شُكر المُنعِم المُتفضِّل - جل جلاله -: التحدُّث بما حبَى الله بلاد الحرمين الشريفين - حرسَها الله - من شرفِ خدمةِ الحُجَّاج مُحتسِبَةٍ الأجرَ والمثوبةَ من الله - جلَّ في عُلاه -، ومُضيِّها في خدمةِ ضُيوف الرحمن مُستمِدَّةٍ العونَ من المولى - تبارك وتعالى -، فخدمةُ الحُجَّاج والمُعتمِرين، ورعايةُ أمنِهم وطمأنينتهم تقعُ في أعلى مسؤولياتها وقمة اهتماماتها، مُستشعِرةً في ذلك عِظَمَ الأمانة المُلقاةِ على عاتقها.
ومن فضل الله وتوفيقه تحقيقُها النجاحات المُتميِّزة في تقديم منظومةِ الخدماتِ المُتألِّقة في الجوانب كافَّتها، وهنا لا بُدَّ من إزجاء تحيةِ اعتزازٍ وتقدير، ودعاءٍ وتوقير للقائمين على شؤون وفود الرحمن بكل حِذقٍ وتفانٍ أن يجزِيَهم الله - سبحانه - خيرَ الجزاء وأوفاه، وأعظمَه ومُنتهاه.
والدعاءُ موصولٌ للجُنود المجهولين الساهرين على خدمةِ الحَجيجِ وراحتهم على تنوُّع اختصاصاتهم، لا سيَّما في لجنة الحجِّ العُليا والمركزية والأمنية والعلمية والدعوية والصحية، لا حرمَهم الله ثوابَ ما قدَّموا، وأجرَ ما أحسَنوا، كِفاءَ ما أجدَعوا واجتَهدوا لإنجاحِ هذا الموسمِ العظيم باقتِدار، على الرغمِ من المحدودية المكانية والزمانية والظروفِ الإقليمية والمُتغيِّرات الدولية.
وإننا باسم جُموع حُجَّاج بيت الله العتيق لنرفَعُ التهانِيَ مُضمَّخةً مُعطَّرة، والدعواتِ صادقةً مُؤرَّجَة لمقام خادم الحرمين الشريفين ووليّ عهده الأمين - حفظهما الله -، وللأمة الإسلامية جمعاء على ما منَّ به - سبحانه - من نجاحِ موسم حجِّ هذا العام بامتياز، فلله الحمدُ والفضلُ والشُكر على ما أنعمَ وجادَ، ووفَّق للسداد والرشاد، والأمن والاستقرار والإسعاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة: 200- 202].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافةِ المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوَّابين غفورًا.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-19-2011, 01:28 PM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الخطبة الثانية
الحمد لله وليِّ التوفيق والإصابة، أحمده - سبحانه - خصَّ من شاء من عباده بالحجِّ المبرورِ والمغفرة والإنابة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجُو بها من الرحمن دعوةً مُجابة، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله ذو القدرِ العليِّ والذاتِ المُهابَة، خيرُ من درَجَ على ثرَى أمِّ القُرى والمدينةِ طابَة، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ الأطهارِ ذوِي المكارِمِ والنجابَة، وصحبِه الأخيار أُولِي النفوس الأبِيَّةِ المُستطابة، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله - تبارك وتعالى - حقَّ التقوى، واعتصِموا لذلك بالعُروة الوُثقى، واعلًَموا - رحمكم الله - أن المولى - سبحانه - بعثَ فيكم رسولَه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لتُعزِّرُوه وتوقِّروه، فيا بُشرَى من أجابَ دعوتَه ومُنادِيَه، وأفلحَ من امتثلَ أوامِرَه واجتنبَ نواهِيَه.
أيها الحُجَّاج الميامين:
وبعد أن قضيتُم مناسِكَكم، وزعمَ بعضُكم على زيارة مسجدِ المصطفى - عليه الصلاة والسلام -، وشدَّ لذلك المَطايا والرِّحال، هنيئًا لكم الحِلُّ والتَّرْحال، وليكن من بعلمٍ وحُسبان أن الزيارةَ ليست من واجباتِ الحجِّ وأركانه، وليس في تركها انثِلامُه أو نُقصانُه؛ بل الحجُّ - بفضل الله - تامٌّ صحيحٌ، وصاحبُه ذو عملٍ نَجيح، وأجرٍ عميمٍ رَبيح، وما يُذكَر من روايات ارتباطِ الزيارةِ بالحجِّ ضعيفةٌ موضوعة، أو واهيةٌ مصنوعة.
ولكن من زارَ طيبةَ الطيبة قُربةً واحتِسابًا وحُبًّا لتلك المرابِعِ لُبابًا أثابَه الباري أجرًا وثابًا؛ أليست هي مأرِزَ الإيمان، ومُهاجَرَ سيد ولد عدنان - عليه الصلاة والسلام الأتمَّانِ الأكملان -؟!
هذي دُونَكم طيبَةٌ ورُبُوعُها قد بُورِكَت في العالمين رُبوُعًا
هذي المدينةُ قد تألَّقَ فوقَها تاجٌ يُرصَّعُ بالهُدى ترصيعًا
هي مأرِزُ الإيمان في الزمنِ الذي يشكُو بناءُ المكرُماتِ صُدوعًا
فيا أيها الزوَّار الأخيار:
وأنتم تقدُمون مدينةَ المُصطفى المُختار - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام - تذكَّروا وجوبَ اتباعِ سُنَّته واقتِفاء محجَّته والارتِواءَ من سيرته؛ لأن في اتباعه الهُدى والصلاح والفوزَ والفلاح، وفي التمسُّك بسُنَّته السنيَّة وسيرتِه المُشرِقَة البهيَّة الشمسُ الساطِعة، والمِشعَلُ الوضَّاء، والسَّنَى المُتلألِئُ الذي يُبدِّدُ غياهِبَ الانحِرافاتِ العقديَّة، والمُمارَساتِ السلوكية، والنَّعَراتِ الطائفيَّة، ويرتقِي بالأمة إلى ذُرَى القِمَم الاجتماعية والحيَويَّة.
وقد حذَّرَ المولى - سبحانه - من مُخالفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور: 63].
ومُقتضى طاعته ومحبَّته - صلى الله عليه وسلم -: تعلُّم آداب زيارة مسجده الشريف وآداب السلام عليه وعلى صاحبَيْه - رضوانُ الله عليهما -، وآداب الإقامة في مدينته النبوية المُنوَّرة، لا زالت بالبركات مُحاطةً مُسوَّرة.
وختامًا - إخوة الإيمان -:
وأنتم في مهبِط الوحيِ على وداعٍ، ومن منبَع الرسالةِ على فِراقٍ والتِياع، لا نملِكُ إلا اغتِنام الفُرصة عن الضياع، مُردَّدين على الأسماعِ عبرَ الأصداءِ والأصقاع دعاءَ الأُخُوَّة والوداع: نستودِعُ اللهَ دينَكم وأمانتَكم وخواتيمَ أعمالكم، زوَّدكم الله التقوى، وغفرَ ذنوبَكم، ومحا حُوبَكم، وحقَّق آمالَكم وسُؤلَكم، وبلَّغَكم مرادَكم ومأمولَكم، وجعل حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا، وأعادَكم إلى أهلِكم وديارِكم سالمين غانِمين مأجُورين غيرَ مأزورين، فرِحين مُستبشِرين، وعلى الطاعةِ دائبين، وعلى الاستقامةِ دائمين، إنه سميعٌ مُجيب.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خيرِ الورَى الحبيبِ المُجتبَى والرسولِ المُرتَضَى، كما أمركم المولى - جل وعلا -، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا»؛ خرَّجه مسلمٌ من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -.
صلَّى عليك الله ما قرأَ الورَى آيَ الكتابِ وسُورةَ الفُرقانِ
مِنَّا السلامُ عليك ما هبَّ الصَّبَا فوقَ الرُّبَى وشقائقِ النُّعمانِ
اللهم صلِّ على محمدٍ وآلهِ وأزواجِه وذريَّته، كما صلَّيتَ على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمدٍ وآلهِ وأزواجِه وذريَّته، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم عن الأئمة الأربعةِ الخلفاء الراشدين، الأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، والمُسافِرين في برِّك وبحرِك وجوِّك أجمعين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمَّتنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا.
اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفَين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيَته للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحة التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَهم وأعوانَهم إلى ما فيه صلاحُ الإسلام والمسلمين، اللهم اجزِهم خيرَ الجزاءِ وأوفرَه جزاءَ ما قدَّموا ويُقدِّمون لخدمةِ حُجَّاج بيتك الحرام.
اللهم اجعل ذلك في موازين أعمالهم وصفحات حسناتهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة أمور المسلمين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى، واجعلهم لشرعِك مُحكِّمين، ولسنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - مُتَّبعين، ولأوليائك ناصِرين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم احقِن دماءَ المسلمين، اللهم احقِن دماءَ المسلمين، اللهم احقِن دماءَ المسلمين، واحفَظ أمنَهم وإيمانَهم واستقرارَهم في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من المُحتلِّين المُعتدين، اللهم اجعله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين، اللهم عليك بالصهايِنة المُعتدين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبرين يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر لفقيد الأمة الإسلامية سلطان بن عبد العزيز، اللهم اغفر له وارحمه، اللهم ارفَع درجاته في المهديِّين، اللهم ضاعِف حسناته في علِّيِّين، اللهم اخلُفه في عقِبِه في الغابِرين، اللهم اغفر لنا وله ولسائر المسلمين ولموتانا وموتى المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِث قلوبَنا بالإيمان واليقين، وبلادَنا بالخيرات والأمطار والغيثِ العَميم.
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وجميعِ المسلمين الأحياءِ منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-21-2011, 03:00 PM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

ثبات الإسلام واستقراره
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 22/12/1432هـ بعنوان: "ثبات الإسلام واستقراره"، والتي تحدَّث فيها عن دين الإسلام ومدى ثبات مبادئه ورُسوخ معالمه، مُقارنةً بواقع من لم يتمسَّك به ولم ينتهِج مناهجه، وذكَّر في ثنايا خطبته بما أفسدَ دين الإسلام؛ من السحر والكهانة، والغلو والتطرُّف، وغير ذلك.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي أتمَّ على عباده حجَّ بيته الحرام، ويسَّر لهم السعيَ في ربوعٍ درَجَ فيها الأنبياءُ - عليهم السلام -، فتلك عرفاتُ ومِنَى وهذا زمزمُ وذاك المقام، معالمُ للإسلام، ورُسومٌ لأنبياءٍ وأديان غبَرَت بها السنُونُ والأيام، وبقِيَت معالمُ تُذكِّرُ اللاحِقَ بالسابقِ من الأنام، استحضارٌ للأزمِنة، واستِنطاقٌ للأمكِنة بما مرَّ على ثَرَاها من أنبياء، وبما أُنزِلَت على جبالها من سُوَر، وأُرسِيَت عقائد، وشُرِع على سُفُوحها من شرائع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله ختمَ الله به النبوَّات فنِعمَ الخِتام، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أما بعد، أيها المسلمون:
حجَّاج بيت الله الحرام! في هذه الحياة نُظُمٌ ومناهجُ وأفكار، وبناياتٌ سامِقةٌ تراها كأعالي الأشجار، وحين تهبُّ الرياحُ العواصِف وتثورُ الزلازلُ القواصِف تنهارُ الصورُ الزائفة، وتسقُطُ البناياتُ المُشيَّدة وينكشِفُ عيبُها وخلَلُها.
والمُتأمِّلُ اليوم يرى تسارُعًا في انهياراتٍ مُتعدِّدة؛ في المال والاقتصاد، والحكم والسياسة، والأفكار والمناهج، ويرى حيرةً كُبرى لأرباب المال، ودهاقِنة السياسات، ثم يلتفِت فيرى بناءَ الإسلام ثابتًا مُستقرًّا، أصلُه ثابتٌ وفرعُه في السماء.
حين تتأمَّل مبادئ الإسلام في كل الجوانب ترى قِيَمًا راسِخَة البُنيان، عصيَّةً على الذوَبان؛ في العقيدة والفِكر، والعبادة والتشريع، والأخلاقِ والسلوك، صالحةً لكل زمانٍ ومكان، وهو تأمُّلٌ يجبُ على المسلم أن يتذكَّر فيه فضلَ الله عليه، ويستشعِرَ قيمةَ دينه وإنعامَ الله به عليه.
أيها المسلم:
لم يُنعِم اللهُ عليه نعمةً هي أوفَى ولا أمنَّ ولا أسبغَ من كونك مُسلمًا لله مع المسلمين، لا تسجُد لشجرٍ أو حجر، ولا تذِلُّ لحيوانٍ أو جمادٍ أو بشر، ولا تعبدُ غيرَ الله، فاهنأ بإسلامك، وانعَم بإيمانك؛ فقد هداك الله يوم ضلَّ غيرُك، وأرشدَك حين تاهَ سِواك، وأعِد التأمُّل والمراجَعة مُستمسِكًا بأساس دينك وقاعدة إيمانك، عارِفًا فضلَ إسلامك وعاقبةَ توحيدك، مُستبشِرًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمُعاذٍ - رضي الله عنه -: «ما من أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صِدقًا من قلبه إلا حرَّمَه الله على النار»؛ رواه البخاري.
وعنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخل الجنة»؛ رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون:
ولهذا التوحيد معالمُ رسمَها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوضحَ أعلامَها، ولهذه البُشرى شواهِدُ بيَّنها وأرسَى أركانَها، حريٌّ بالمُسلم أن يستمسِكَ بغَرزِها، وأن يحذَرَ التفريق حتى لا يحبَطَ عملُه، أو يضِلَّ سعيُه؛ فكم من تائهٍ وهو لا يدري، وكم من ضالٍّ يظنُّ أنه مُهتدِي؟!
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن معاذًا - رضي الله عنه - قال: بعَثَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أن الله افترضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أن اللهَ افترضَ عليهم صدقةً تُؤخَذُ من أغنيائهم فتُردُّ في فُقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياكَ وكرائم أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حِجابٌ»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
لقد جعلَ أصولَ الإيمان: التوحيدَ، ثم الصلاةَ، ثم الزكاةَ، ثم حِفظَ الحقوق ومبدأ العدل المُطلق.
أيها المسلمون:
لقد كرَّم الله الإنسان، وشرعَ له ما يربَأُ به عن الخُرافات أو التعلُّق بالأوهام، وجعله حُرًّا لا يتعلَّقُ إلا بالله خالِقِه، وجعل التعلُّق بغير الله يُنافِي التوحيدَ اعتقادًا وعملاً؛ فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لعنَ الله من ذبحَ لغير الله، ولعنَ الله من آوَى مُحدِثًا، ولعنَ الله من لعنَ والديْه، ولعنَ الله من غيَّر منارَ الأرض»؛ رواه مسلم.
كما حذَّرَ من النذر لغير الله، وجعله من عمل المُشرِكين؛ قال الله تعالى في كتابه المُبين: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ[الأنعام: 136].
ومن معالم هذا التوحيد: الاستعاذةُ والاستجارةُ بالله وحده دون سِواه؛ قال - سبحانه -: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا[الجن: 6].
ومن محاسن الدين القَويم: أن المسلمَ لا يدعو ولا يرجُو إلا الله، فليس بين المسلم وبين ربِّه وسائط؛ قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً[الأعراف: 55]، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[غافر: 60].
فسمَّى الدعاءَ عبادة، وأمرَ رسولَه بإخلاصه له، فقال: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي[الزمر: 14]، وقال: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[يونس: 106، 107]، وقال - سبحانه - لمن دعا غيرَه: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[العنكبوت: 17]، وقال - سبحانه -: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ[الأحقاف: 5].
بل سمَّى اللهُ دعاءَ غيره شِركًا؛ قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر: 13، 14].
عباد الله:
إن مما أفسدَ الدين وحرفَ التديُّن: الغلوُّ والتنطُّع، والمُبالغةُ بغير علم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنما أهلكَ من كان قبلَكم الغلوُّ في الدين»؛ أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة بإسنادٍ صحيحٍ. ولمُسلمٍ: «هلكَ المُتنطِّعون». قالها ثلاثًا.
والله تعالى يقول: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ[النساء: 171].
ومن الغلوِّ: الغلوُّ في تعظيم الأولياء والصالحين أو تعظيم آثارهم، وقد حذَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، فقال: «لا تُطرُوني كما أطرَت النصارَى ابنَ مريم؛ فإنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ الله ورسولُه»؛ رواه البخاري.
وعن شقيقٍ عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن من شِرارِ الناسِ: من تُدرِكُه الساعةُ وهم أحياء، ومن يتَّخِذُ القبورَ مساجد»؛ رواه الإمامُ أحمد.
عباد الله:
دينُ الإسلام كلُّه حسنٌ، وما نهى اللهُ عن شيءٍ إلا لضرره على الأفراد والمُجتمعات مما يُبطِلُ الإيمانَ ويُوبِقُ الإنسان؛ كالسحر وإتيان الكُهَّان؛ قال الله تعالى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[طه: 69]، وقال: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ[البقرة: 102]، وقال - سبحانه -: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ[البقرة: 102].
وكم تعلَّق بهذه الأوهام أُناسٌ أضاعوا دينَهم ودُنياهم، وانحدَرَت عقولُهم إلى درَكٍ من الخُرافات جعلوها دينًا ومنهجًا. فالحمدُ لله الذي كرَّمَنا بالإسلام.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنِبوا السبعَ المُوبِقات». قالوا: يا رسولَ الله! وما هنَّ؟ قال: «الشركُ بالله، والسحرُ، وقتلُ النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكلُ الربا، وأكلُ مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذفُ المُحصنات الغافلات»؛ رواه البخاري ومسلم.
وعند مسلمٍ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى عرَّافًا فسألَه عن شيءٍ لم تُقبَل له صلاةٌ أربعين ليلة». وعند أبي داود: «من أتى كاهِنًا فصدَّقَه بما يقول فقد برِئَ مما أُنزِل على محمد».
أيها المسلمون:
ومن معالم الدين الحِسان: الارتقاءُ بالمحبة والعواطِف والولاء والتناصُر في وقتٍ سفُلَت بأهل الدنيا مبادئهُم، فأصبحَت المحبَّةُ والمُوالاةُ لأجل الدنيا ومصالحها؛ عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سِواهُما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكرَه أن يعودَ في الكفر كما يكرَهُ أن يُقذَفَ في النار»؛ رواه البخاري ومسلم.

أيها المسلمون:
الدينُ دينُ الله والشرعُ شرعُه، والواجبُ على من بلغَه كلامُ الله وسنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتبَعَ الحقَّ ويطرَحَ ما سِواه، ولا يتركَ القرآنَ والسنةَ لقول أحدٍ مهما كان، واللهُ تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور: 63].
وقد ذمَّ الله الذين أطاعوا أشياخَهم في مُخالفة أمر الله ورسوله، فقال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ[التوبة: 31].
قال عديُّ بن حاتم - رضي الله عنه -: لما سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية، قلتُ: يا رسولَ الله! إنا لسنا نعبُدهم. قال: «أليس يُحرِّمون ما أحلَّ الله فتُحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرَّم الله فتُحِلُّونه؟». فقلتُ: بلى. قال: «فتلك عبادتُهم»؛ أخرجه الإمام أحمد، والترمذي.
اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-21-2011, 03:02 PM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، يُنعِمُ بالحسناتِ ويعفُو عن السيئات، وأشهد أن إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله شهادةً عليها المحيا والممات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أيها المسلمون:
وتوحيدُ الاعتقاد يستتبِعُ توحيدَ العمل، فيجبُ على المسلم أن يُحبَّ ربَّه ويُخلِصَ له ويُعوِّلَ عليه، وأن تكون مشاعرُ نفسه وخلَجَاتُ قلبه مُتَّجِهةً إليه لا تعدُوه إلى سِواه، المسلمُ لا يدعو إلا الله، ولا يعبُد غيرَه، ولا يُطيعُ إلا أمرَه، ولا يُنفِذُ إلا حُكمَه، يُحِلُّ ما أحلَّ، ويُحرِّمُ ما حرَّم، ويقِفُ عند ما حدَّ، ويتحرَّكُ وِفقَ ما طلَب.
المُسلمُ مُنتصِبُ القامةِ أمام كلِّ حيٍّ، فلا يحنِي ظهرَه إلا لله، ومعرفتُه لعظمة الخالق الأحَد ولهيمنَة الله التامَّةِ على الناسِ والكون تجعلُ مشاعِرَ الرغبَة والرهبَة مُستقيمةً في نفسه، فلا تنحرِفُ ولا تضطرب.
ومن أجل ذلك كان امتلاءُ القلب بعقيدة التوحيد أساسًا لخِلال القوة والعِزَّة لا ينفكُّ عنها مُؤمنٌ صادق.
عباد الله، حُجَّاج بيت الله الحرام:
وفي كلِّ خِتامٍ يستحضِرُ المسلمُ أن مِعيارَ القبولِ هو إخلاصُ العاملِ لله، ومُتابعتُه رسول الله، وفضلُ الله واسع، ومن علامة قَبول الحسنةِ الحسنةُ بعدها، وعلامةُ الحجِّ المبرور: أن تعودَ خيرًا مما كنت، ومن طهُرَت صحيفةُ عمله بالغُفران فليحذَر العودَ إلى دنَس الآثام؛ فالنَّكثةُ أشدُّ من الجُرح، وليكن من الخير في ازدياد، فإن ذلك من علامة القبول.
ثم الصلواتُ الزاكياتُ، والتسليماتُ الدائماتُ على أشرفِ خلق الله: محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المرضيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم جازِه بالخيرات والحسنات على خدمة الحرمين الشريفين والعناية بالحُجَّاج والمُعتمِرين، وأتِمَّ عليه الصحة والعافية، اللهم وفِّق وليَّ عهده وسدِّده وأعِنه على ما حُمِّل، واجعله مبارَكًا مُوفَّقًا لكل خيرٍ وصلاح.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وانصُرهم على من ظلَمَهم، اللهم سُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم اقبل من الحُجَّاج حجَّهم، وأجِب دعاءَهم، اللهم اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، وأعِدهم إلى ديارِهم سالمين، اللهم تقبَّل منَّا ومنهم، وثبِّتنا وإياهم على الحق والهُدى، واختِم لنا بخيرٍ يا أرحم الراحمين.
نستغفرُ الله، نستغفرُ الله، نستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيوم ونتوبَ إليه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مُجلِّلاً نافعًا عامًّا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-26-2011, 09:44 PM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

قِصَر الأمل وحُسن العمل
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 29/12/1432 هـ بعنوان: "قِصَر الأمل وحُسن العمل"، والتي تحدَّث فيها عن انصرامِ عامٍ وإقبالٍ عامٍ جديد، وذكَّر بما عمِلَه المرءُ فيما مضى إن كان مُحسِنًا تزوَّد منه، وإن كان غيرَ ذلك فليتُب وليُقبِل على ربِّه، وبيَّن أن الإنسان بلا دينٍ كالبهيمة التي لا تعقل، وحثَّ على ضرورة الإقبال على العمل الصالح والتوبة والاستغفار.

الخطبة الأولى
الحمد لله خلقَ الليلَ والنهارَ، وقدَّرَهما مواقيتَ للأعمال ومقادير للأعمار، لا إله إلا هو جعلَ في مرورِ الأيامِ والليالي عِبَرًا لأهل هذه الدار، أحمده - سبحانه – وأشكره على عظيم آلائه والشكرُ سبيلٌ للمزيد والاستِكثار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة بصدق المُعتقَد وصحةِ الإقرار، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيُّ الأُمِّي العربيُّ الهاشميُّ المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البَرَرَة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، فمن عرفَ الله أعطاه حقَّه، ومن أحبَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وآله وسلم – لزِمَ سنَّته، ومن قرأَ كتابَ الله عمِلَ به، ومن أرادَ الجنةَ عمِلَ لها، ومن خافَ النارَ هربَ منها، ومن أيقنَ بالموت استعدَّ له.
يقول عليُّ - رضي الله عنه -: "اشتدَّ خوفي من اثنين: طولِ الأمل، واتِّباعِ الهوى؛ أما طولُ الأمل فيُنسِي، وأما اتِّباعُ الهوى فيصدُّ عن الحق".
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[الجاثية: 23].
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
ها أنت تُودِّعون عامًا، وتدلِفون لاستِقبال عامٍ آخر، وذلك كلُّه من أعمالكم وأيامكم، عامًا مضى بما أودَعتُموه من عملٍ، فمن أحسنَ فليهنَأ وليحمَد الله وليزدَد، وخيرُ الزاد التقوى، ومن كان غيرَ ذلك فلا يزالُ في الأجل فُسْحة، فليستعتِب، وربُّكم يتوبُ على من تابَ.
اللهم اجعل عامَنا عامَ خيرٍ وبرَكة، وأيامَنا أيامَ أمنٍ وأمان، وسلامةٍ وإسلام، اللهم وفِّقنا فيه لصالحِ العمل، وجنّبنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن، واجمع اللهم كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى والصلاح، وأعِزَّ الإسلام وأهلَه، وأذِلَّ الطغاةَ وأعداء المِلَّة.
أيها الإخوة:
في تقلُّب الأيام وتصرُّم الأعوام فرصةٌ وفُرَص للمُراجَعة والمُحاسَبة، فطُوبَى لمن أخذَ العِبرَة، وفاضَت منه العَبْرة، والحسرةُ لأرباب الغفلة، فلينظُر العاملُ عملَه، وأين المُؤمِّلُ وما أمَّله؟!
يا معشر العباد:
أين الآباء والأجداد؟! وأين المرضى والأصِحَّاء والعُوَّاد؟! أفضَوا إلى ما قدَّموا، الموعدُ يومُ المعاد، والمُلتَقى يومُ التَّنَاد، يوم يُنفَخُ في الصور، ويُنقَر في الناقُور.
يا عبد الله:
السعيدُ من وُعِظَ بغيره، وإذا ذُكِرَ الموتى فعُدَّ نفسكَ منهم، فخُذ من حياتك لموتك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحَّتك لمرضك، ومن غِناك لفقرك، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وكلما قصُر الأمل جادَ العمل.
كم من مُستقبِلٍ يومًا لا يستكمِلُه، وكم من مُؤمِّلٍ لغدٍ لا يُدرِكه، ومن رأى أجلَه ومسيرَه أدرك حقيقةَ الأمل وغرورَه، ومن أنفع أيام المؤمن ما ظنَّ أنه لا يُدرِكُ آخِره.
يا وحيدًا بعد قليلٍ في قبره، يا مُستوحِشًا بعد أُنسٍ حين انقِضاء عُمره، تجمعُ الدنيا على الدنيا لغيرك، وينساكَ من أخذَ كلَّ خيرِك، هلاَّ تزوَّدتَ لمقرِّك.
فبادِروا – رحمكم الله – بالصحةِ سقمَكم، واحفَظوا أمانةَ التكليف لمن ائتَمَنكم، لا شيء أقلُّ من الدنيا، ولا شيء أعزُّ من النفس، فاقنَع بالكَفاف، وصُن نفسَكَ بالعفاف، وقِف مُتدبِّرًا في حالك؛ فالمؤمنُ وقَّاف.
يا عبد الله:
أفضلُ الأعمال: أداءُ ما افترضَ الله، والورعُ عمَّا حرَّم الله، وصدقُ النيَّة فيما عند الله.
واعلَم أن الرضا في طاعة الله؛ فلا تحقِرنَّ من الطاعة شيئًا، والسخَط في معصية الله؛ فلا تستصغِرنَّ من المعاصي شيئًا، وأشرفُ الأوقات ما صُرِف في طاعة الله، ولا تنظُر إلى صِغَر المعصية ولكن انظُر عِظَم من عصيتَ.
والنفسُ إن لم تشغَلها بطاعة الله شغَلَتك بما لا ينفعُ، والقلوبُ كالقُدور تغلي بما فيها، والألسِنةُ مغارِفُها، والذنوبُ مفسَدةُ القلوب، والقويُّ من داومَ على الطاعة، والضعيفُ من غلَبَته محارِم الله.
والعملُ بضاعةُ الأقوياء، والأماني بضاعةُ الضعفاء، والتُّؤدَةُ مُستحسَنةٌ في كل شيء إلا ما كان من أمر الآخرة: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه: 84].
والبركةُ في أكل الحلال، والعملِ الحلال؛ فاللهُ طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا، وخزائنُه لا تنفَد فهو الرزاق ذو القوة المتين، والصدقةُ تدفعُ البلاء، وما نقصَ مالٌ من صدقة، وهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضُعفائكم.
والقناعةُ كنزٌ لا يفنَى، وراحةُ الجسم في قلَّة الطعام، وراحةُ النفس في قلَّة الآثام، وراحةُ القلب في قلَّة الاهتمام، وراحةُ اللسان في قلَّة الكلام، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
والمهزومُ من هزمَته نفسُه، ومن لم يرضَ بالقضاء فليس لحبِّه دواء، والعيشُ مضمون، والرزقُ مقسوم، والهموم لا تدوم.
ومن أرادَ أن تدومَ له السلامةُ والعافيةُ من غير بلاءٍ فما عرفَ التكليف، ولا أدركَ التسليم، والخيرُ كلُّه في الرضا.
فإن استطعتَ – يا عبد الله – أن ترضى وإلا فاصبِر، والرضا يكون بسُكون القلب تحت مجارِي الأحكام.
يقول حاتم الأصمُّ: "نظرتُ في أحوال الخلق؛ فإذا الذي أحببتُ من الناس لم يُعطِني، والذي أبغضتُه لم يأخُذ مني، فقلتُ في نفسي: من أين أُتيتُ؟ فرأيتُ أني أُوتيتُ من قِبَل الحسَد، فطرحتُ الحسدَ، فأحببتُ الناسَ كلَّهم، فكلُّ شيءٍ لم أرضَه لنفسي لم أرضَه لهم".
ومن عرفَ شأنَه حفِظَ لسانَه، وأعرضَ عما لا يعنيه، وكفَّ عن عِرضِ أخيه، ودامَت له سلامتُه، وقلَّت ندامتُه.
والمسلمُ من سلِمَ المسلمون من لسانه ويدِه، والمؤمنُ من أمِنَه الناس، والمهاجِرُ من هجرَ ما حرَّم الله، والمُسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يُسلِمه ولا يخذِله ولا يحقِرُه.
وأقربُ الناس من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم القيامة أحاسِنهم أخلاقًا، وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه، وإن اللهَ ليُعطِي على الرِّفق ما لا يُعطي على العُنف، وصانِعُ المعروف لا يقع، وإن وقعَ وجدَ مُتَّكئًا.
يا عبد الله:
علِّق قلبكَ بربِّك، وخُذ بالأسباب، وليكن زادُك القناعة والصبر والشُكر والأمل مع إحسان العمل، وإحسان الظن، وإحسان النظر.
وليكن زادُك الوقوف عند الحق، وعدمَ تجاوُز الحدِّ، والحرصَ على الورَع؛ طاعةً لله، ونفعًا للنفس، وقيامًا بالمسؤولية، ومن سلكَ ذلك حسُن إيمانُه، واجتمعَ عليه أمرُه، فلم يكن لوقتِه مُضيِّعًا، ولا في غير النافعِ والمُفيد مُشتغِلاً.
ألا فاتقوا الله جميعًا – عباد الله -، ولا تكونوا كأصحاب نفوسٍ قسَت قلوبُها، وغلُظَت أكبادُها، وعظُم عن آيات الله حِجابُها فلا تعتبِر ولا تدَّكِر؛ فإن أقوامًا جاءَتهم آياتُ ربِّهم فكانوا منها يضحَكون، وأراهم ربُّهم آياتٍ كلُّ آيةٍ أكبرُ من أختها فكانوا عنها مُعرضين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[لقمان: 33، 34].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله مُوقِظ القلوبِ بالوعظ والتذكير، أحمده - سبحانه - وأشكره على خيره العَميم وفضلِه الوَفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مُبرَّأةً من الشرك كبيرِه والصغير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن على نهجِهم يسير، وسلَّم التسليم الكثير.
أما بعد:
فالإنسانُ بغير دينٍ ورقةٌ تُقلِّبُها الرياحُ، لا يستقرُّ له حال، ولا تُعرَف له وِجهة، ولا يسكُنُ له قرار: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج: 31].
الإنسانُ بغير دينٍ لا قيمةَ له ولا مكانة، قلِقٌ مُتبرِّم، مُتقلِّبٌ تائِه، لا يعرِفُ حقيقةَ نفسه، ولا حِكمةَ وجوده: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ[الأنعام: 125].
الإنسانُ بغير دينٍ حيوانٌ بهيم، وسبُعٌ ضارٍ، لا تُعلِّمُه ثقافة، ولا يردَعُه وازِع، يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ[محمد: 12]، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف: 179].
والمُجتمع بغير دينٍ مُجتمعُ غابة، وإن بدَرَت فيه بوادِرُ حضارة، أو بدَت فيه أثَارةٌ من علمٍ، الحياةُ فيهم هي من نصيب الأشدِّ الأقوى وليس للأصلحِ والأتقى.
العلومُ المُجرَّدة تدلُّ على الوسائل، ولا تقودُ إلى الغايات، وتُعطِي الأدوات ولا تُعطِي قيمًا وأهدافًا، علمٌ بظاهر الحياة الدنيا وأسبابِها، كما ذكر الله في أقوامٍ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[الروم: 7].
إن في ظاهر الدنيا من يزدادُ ثراؤهم بازدياد عِصيانهم ومُخالفاتهم، ولقد جاء في التنزيل العزيز: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 44، 45].
إن من الخطَّائين من يُؤدَّبُ فيتأدَّب، ويُؤخَذ فيتراجَع، فالحِرمانُ له فِطامٌ عن الذنب، وطريقٌ إلى المثَاب.
ومنهم من تتكاثرُ حولَه الدنيا كما تتكاثَرُ الأمواجُ على الغريق، فلا يزالُ يكرَعُ منها حتى يهلَك.
إن أنواعَ الابتلاء وأنواع الجزاء أوسعُ من علمنا وإدراكِنا.
فاستفتِحوا – رحمكم الله – عامَكم بالعمل الصالح، وأحسِنوا الظنَّ بربِّكم، وأصلِحوا ذاتَ بينكم.
ألا فاتقوا الله – رحمكم الله -، وآمِنوا برسولِه يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحديد: 28]، تُوبوا إلى ربِّكم من المعاصي، واستعِدُّوا ليومٍ يُؤخَذ فيه بالأقدام والنَّواصِي، قدِّموا الباقيةَ على الفانِية في هِمَمٍ عالية لعلكم تلحقون بمن عناهُم الله بقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة: 24].
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه – قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مَّهم الضرُّ وحلَّ بهم الكرب واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكَت دماء، وقُتِل أبرياء، ورُمِّلَت نساء، ويُتِّم أطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين، ويا مُنجِي المؤمنين انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفَع ضُرَّهم.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحق والهُدى كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[الأعراف: 47]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-11-2011, 11:51 PM   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

مفهوم السلام في الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 14/1/1433هـ بعنوان: "مفهوم السلام في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن السلام ومفهومه في الإسلام وكيفية تحقيقه في هذه الأزمان المتأخرة، وبيَّن أننا نعيشُ في عصرٍ بلغ فيه التقدُّم والتطوُّر شأوًا عظيمًا، ومع ذلك لا زال أكثرُ الناس لا يُدرِكون معنى السلام الذي هو الإسلام الحقيقي، ويفهمونه خلافَ معناه، ويضعونه في غير نِصابِه؛ مما أدَّى إلى حدوثِ الكوارثِ العظيمة والفتنِ الجَسيمة التي تمرُّ بها دولُ العالَم.
الخطبة الأولى
الحمد لله الكبيرِ المُتعال، ذي العِزَّة والقوة والجلال، مُرسِلِ البرقَ خوفًا وطمعًا، ومنُشِئِ السحابَ الثِّقال، فالقِ الحبِّ والنَّوَى شديدِ المِحال، له يسجُدُ من في السموات والأرض طوعًا وكَرهًا وظِلالُهم بالغُدُوِّ والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله رفيعُ الخِصال، قدوةٌ في الأقوال والفِعال، صادقٌ مصدوقٌ بالقلبِ والجوارِحِ والمَقال، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى أزواجه أمهات المؤمنين والآل، وعلى أصحابه والتابعين لهم في الخِلال، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم المَآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولَةَ لي ولكم - عباد الله - هي تقوى الله - سبحانه - التي أوصَى بها الأولينَ والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131]، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[العنكبوت: 17].

أيها المسلمون:
إن الله - سبحانه وتعالى - خلقَ هذا الكونَ عُلوِيَّه وسُفلِيَّه، بإنسِهِ وجنِّه، وملائكتِهِ وجمادِه ودوابِّه وطيرِه؛ ليعبُدوه وحده - سبحانه - لا شريكَ له، وليكون الكونُ كلُّه خاضعًا لعظمته، مُوقِنًا بعبوديته لخالقه، كما قال - سبحانه -: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56]، وكما قال - جل وعلا -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ[ص: 27]، وكما قال - سبحانه -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[الدخان: 38، 39].
إذًا لم يخلُق الباري - جل شأنُه - هذا الكونَ بأكملِه عبثًا، وما سخَّره - جل وعلا - لعباده عبَثًا، وما جعل لهم الأرضَ ذَلولاً يمشُونَ في مناكبِها ويأكلون من رزقِه سُدًى، كلا؛ إذ كيف يكون ذلك والخالقُ - جل شأنُه - يقول: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ[الأنبياء: 16- 20].
ومن هنا؛ جاء إنكارُ الباري - سبحانه - وتوبيخُه لمن لم يُدرِك معنى خلقِ الله للسماوات والأرض، ولم يجعل هذا الخلقَ وسيلةً لتحقيقِ عبوديته - سبحانه - دون سِواه، فقال عن أمثال هؤلاء: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ[فصلت: 9] إلى أن قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[فصلت: 11].
فيا لله العجَب! كيف يستكبِرُ من في الأرضِ عن عبوديته - سبحانه - والسماءُ التي تُظِلُّهم والأرضُ التي تُقِلُّهم طائعتان للباري - جل شأنُه -، هذا ما قاله - سبحانه وتعالى - عن سماواته وأرضِهِ.
وأما الطيرُ في السماء؛ فقد قال الله عنه: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ[النور: 41]، وما عدا ذلك من دوابٍّ وجمادٍ وشجرٍ وحجرٍ؛ فقد قال الله عنه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراء: 44]؛ أي: أنتم أيها الإنسُ والجِنُّ لا تفقَهون عبوديَّتَهم لله وتسبيحَهم له.
فأين عقلُك - أيها الإنسان -، وأين قلبُك - أيها الإنسان -، وأين تفضيلُه لك على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلاً؟!
ألا قُتِل الإنسانُ ما أكفَرَه؛ نعم، قُتِل الإنسانُ ما أكفَرَه، يخلُقُه ربُّه ثم هو يخضَعُ لغيره، ويرزُقُه ربُّه فيشكُرُ غيرَه، فضَّلَه ربُّه بالعقل والحِكمة والآدميَّة، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا[الإسراء: 89]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ[البقرة: 243]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[الأعراف: 187]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ[هود: 17].
ومن العجبِ الذي لا ينقَضي، والدهشةِ التي لا تتوقَّف: أن يكون من يملِكُ الوسيلةَ الكاملةَ للعبودية أقلَّ في خُضوعه لله من سائر مخلوقاتِهِ دوابًّا وجمادات، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ[الحج: 18].
فتأمَّلوا - يا رعاكم الله - أن الله - سبحانه - لم يستثنِ مما ذكرَ إلا البشرَ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ[البقرة: 253]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[يوسف: 103].
عباد الله:
إننا نعيشُ في زمنٍ بلغَ شأوًا رفيعًا في الحياة المادية، والنظريات الفلسفية، والثورةِ التِّقَنِيَّة، والترسانةِ العسكرية المُتشبِّعة بروحِ الأنانية والعُدوانية، وإرادة العُلُوِّ في الأرض وإهلاكِ الحرثِ والنَّسْل، والله لا يُحبُّ الفساد، لكنَّ هذه الحضارة لم تستطِع إشباعَ الروحِ بالرحمةِ والطمأنينة والحكمةِ والعدلِ والإيثار، ولا أدلَّ على تلكم النَّزعة من إفرازِ هذه الحضارة: السِّباقَ المحمُوم نحو التسلُّح على حسابِ الاحتياجات البشرية للأخلاق والطعام والشراب والمعيشة بأضعافٍ مُضاعَفة.
حتى جَثَا على سياسة العالَم الثالُوثُ الخانِق، وهو: الخِواءُ الرُّوحيُّ، والتزييفُ التاريخيُّ للحقائق، والقهرُ العسكريُّ، ومن ثمَّ خُلِقَت أسلحةُ الدمارِ الشاملِ، فدُعَّت إلى شعوبِ العالَم دعًّا، والتي صوَّرَت السلامَ حُمقًا، والرحمةَ عجزًا، والعدلَ استِكانَة، وجعلَت مفهومَ الغباء فيمن يُحاوِلُ أن ينالَ حقَّه باسم العدالة أو الرحمة، وجعلَت مفهومَ الغِبطَة في الضعيفِ المهزولِ الجاثِي على رُكبَتَيْه الذي يسبِقُ مدمَعُه مِدفعَه؛ بحيثُ أصبحَ لا يُوجَد مفهومُ العدل إلا حيث يُوجَد الجَور، ولا يُوجَد مفهومُ السلام إلا حيثُ تُوجَد الحرب، حتى تشرَّبَ العالَم اليومَ ألوانًا من الاعتِداءات السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ بحيث إن الأمانَ لدى كثيرٍ من المُجتمعات أصبحَ كسرابٍ بقِيعةٍ يحسبُه الظَّمْآنُ ماءً.
والسرُّ الكامِنُ في ذلكم كلِّه: هو تهميشُ السلام؛ نعم، السلامُ الذي هو الطُّمأنينةُ والسكينةُ والاستقرارُ، السلامُ الذي يُقرِّرُ العبوديةَ للحَكَم العدل، ويُؤمِنُ به ربًّا خالقًا رازِقًا لا معبودَ سِواه، السلامُ الذي شرَعَه الله الملكُ القدُّوسُ السلام، السلامُ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيْهِ ولا من خلفِه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، السلامُ من ربِّ السلام، السلامُ من ربِّ البشر إلى البشر، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[النساء: 125].
إنه مهما عمِلَ البشرُ من جهود، ومهما بذَلوا من علومٍ ومعارِف، ومهما استعمَلوا فيها من وسائل، فلن يبلُغوا مِثقالَ ذرَّةٍ من علمِ الله؛ لأن الله يقول: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا[طه: 110]، ويقول - سبحانه -: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ[البقرة: 255]، فمال البشرية إذًا لا ترجُوا لله وقارًا، وقد خلقَهم أطوارًا؟! لن يُصلِحُ الناسَ مثلُ السلام الذي جاء من عند الله.
ألا إنه لا يُعرفُ في التاريخ مبدأٌ أو دينٌ أو فِكرٌ أرأَف ولا أرحَم ولا أعدَلُ من دين الإسلام، ولا أدلَّ على ذلكم من اتفاقِ أهلِ الإسلام أنه لا يجوزُ في حال الحربِ مع العدوِّ أن يُقتلَ شيخٌ كبيرٌ، ولا طفلٌ صغير، ولا امرأةٌ، ولا أن تُقطَعَ شجرةٌ؛ فأيُّ سلامٍ أعظمُ من هذا السلام؟!
ولكنَّ الأسف كل الأسف أن يُدرِكَ بعضُ المسلمين هذا كلَّه ثم هم يُهروِلون نحوَ شِعاراتٍ برَّاقة، وفلسفاتٍ ما أنزلَ اللهُ بها من سُلطان يُفسِّرون بها السلامَ على غير وجهِهِ.
وإن مما لا شكَّ فيه أنه كلما قلَّت الصحوةُ السليمة والنَّظرةُ الثاقبة لدى المسلمين تُجاه المعنى الحقيقية للسلام كلما ازدادوا ولَهًا إلى سرابِ السلام الزائِف، فالتَفتوا إلى لونه وتجاهَلوا طعمَه، نظَروا إلى دمعةِ المُخادِع ولم ينظرُوا إلى مِدفعِه، علِموا أن الحيَّة لا تبتسِمُ وهي تلدَغ، وخفِيَ عليهم من يلدغُ وهو يبتسِم.
وقد أحسنَ أبو حاتم البُستيُّ - رحمه الله - حينما ضربَ مثلاً عن أحد شيوخه أن صيَّادًا كان يصطادُ العصافيرَ في يومِ ريحٍ، قال: جعلَت الرياحُ تُدخِلُ في عينَيْه الغُبار فتذرِفان، فكلما صادَ عصفورًا كسرَ جناحَه وألقاه في ناموسَة، فقال رجلٌ لصاحبِه: ما أرقَّه عليهم، ألا ترى دموعَ عينيْه! قال الآخر: لا تنظُر إلى دموعِ عينيْه، ولكن انظُر إلى عملِ يديْه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[البقرة: 208، 209].
إنه لا بُدَّ لكلِّ فردٍ أن يتحرَّر من الأنانية واللامسؤولية، وأن يقطَعَ قيودَ وأغلالَ السلبيَّة واللامُبالاة؛ ليكون لبِنَةً صالحةً في بناء بُرج السلام الشامِخ الذي ما خابَ من بَناه ولا ندِمَ من اتخَذَه دارًا؛ لأن معرفةَ الله الحقَّة والإيمانَ بما جاء من عنده - سبحانه - هي السبيلُ الوحيد للفرزِ بين السلام الحقِّ والسلامِ الزائفِ؛ لأن السلامَ في الإسلام هو العدلُ والصدقُ والأمانةُ والرحمةُ، وأما السلامُ بالمفهومِ الزائف فإنه مبنيٌّ على المصلحةِ الذاتية والقوةِ الكابِحة ومبدأ الهيمَنَة للأقوى، أو على المبدأ الجاهليِّ الذي يجعلُ الظلمَ من شِيَم النفوس، ومن يكنْ ذا عِفَّةٍ فلِعلَّةٍ لا يظلِم.
ولقد صدقَ الله - جل وعلا - في عُلاه: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا[الكهف: 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتِنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه الداعِي إلى رِضوانِه، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وأزواجِه وأصحابِه وإخوانِه.
أما بعد، فيا أيها الناس:
إننا حينما نتحدَّثُ عن السلام الذي هو الإسلام، ونرى أنه هو المُنقِذُ للبشرية من ظُلمات التِّيه والانحِراف العقَدي والأخلاقيِّ والفِكريِّ والعسكري، إننا حينما نتحدَّثُ عن ذلكم فإننا لا نعنِي أن السلامَ يقتضي الدُّونيَّة أو الخُنوع أو الاستِكانة، كلا؛ فإن أمةً لم تركَع إلا لخالقِها لا يُمكِنُ أن تخضَعَ لغيره البَتَّة، وإن أمةً لا تعرفُ إلا الله فلن يغلِبَها من لا يعرفُ الله، غيرَ أن الإسلامَ هو السلامُ الحقيقيُّ بكلِّ ما تعنيه الكلمةُ من معنًى، فالله - جل وعلا - هو السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ[الحشر: 23].
وقد وردَ ذكرُ السلامِ في القرآن مُتصرِّفًا أربعًا وأربعين مرَّةً، في حين أن لفظَ الحرب لم يرِد في الكتاب الحكيم إلا ستَّ مراتٍ، والمسلمون يقولون كلَّ يومٍ وليلة لفظَ السلام عشر مراتٍ؛ وذلك اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرَف من صلاته؛ حيث كان يقول: «أستغفرُ الله. أستغفرُ الله. أستغفرُ الله. اللهم أنت السلامُ، ومنك السلامُ، تبارَكتَ ذا الجلالِ والإكرامِ»؛ رواه مسلم.
فالسلامُ دينُ الله في الأرض، وتحيَّةُ المسلمين فيها السلام؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أفشُوا السلامَ بينكم»؛ رواه مسلم.
وفي ميدان الحربِ والقتالِ إذا بذلَ العدوُّ كلمةَ السلام وجبَ الكفُّ عنه واعتبارُه مُسلمًا مُتمتِّعًا بالسلام؛ عملاً بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[النساء: 94].
وإذا كان هذا كلُّه في الحياةِ الدنيا فإن الجنةَ في الدار الآخرة هي السلام: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس: 25]، وتحيَّة المؤمنين يوم يلقَون ربَّهم: سلامٌ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا[الأحزاب: 44]، والملائكةُ حينما يدخلون على أهل الجنة يُلقون عليهم السلام: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[الرعد: 23، 24].
أما حياةُ المؤمنين في الجنة فقد وصفَها الله بقوله: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا[الواقعة: 25، 26].
بارك الله ولكم في القرآن والسنة، واعلموا - رحمكم الله - أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة : 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-19-2011, 12:28 AM   رقم المشاركة : 7

 

فضل كلمة التوحيد: لا إله إلا الله
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 21/1/1433هـ بعنوان: "فضل كلمة التوحيد: لا إله إلا الله"، والتي تحدَّث فيها عن فضل كلمة التوحيد، وأن الله - سبحانه - فضَّلَ المسلمين بها على غيرهم من الأمم، وذكر ما يجبُ عليهم تجاهَ ربِّهم شُكرًا لهذه النعمة وحِفاظًا عليها، وشدَّد على ضرورة التمسُّك بالكتاب والسنة لضمانِ النصر والتمكين في الدنيا، والفوز بجنات النعيم في الآخرة.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدك ربي ونستعينُك ونستغفرُك ونتوبُ إليك، ونُثنِي عليك الخيرَ كُلَّه ثناءً كثيرًا طيبًا مديدًا، مِلءَ الآفاق مُبارَكًا مزيدًا.
لك الحمدُ اللهم يا خيرَ ناصرِ
لدينِ الهُدى ما لاحَ نجمٌ لناظِرِ
لك الحمدُ ما هبَّ النسيمُ من الصَّبَا
على نِعَمٍ لم يُحصِها عدُّ حاصِرِ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا بربوبيته وألوهيته وتوحيدًا، وتعظيمًا لجلاله - سبحانه - وتفريدًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أزكى من دعا للتوحيدِ اعتقادًا وعملاً فريدًا، صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين البالغين بالحقِّ رُكنًا شديدًا، وعِزًّا مشيدًا، وصحبِهِ الباذِلين لكلمةِ الإخلاص طارِفًا وتليدًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ممن رجا وعدًا واتَّقَى وعيدًا، وسلِّم ربَّنا تسليمًا عديدًا إلى يوم الدين سرمدًا مزيدًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن رُمتُم من التآخي ائتلافًا، ومن التمكينِ والعِزِّ ازدِلافًا، ومن ثوابِ الرحمنِ جناتٍ ألفافًا؛ فعليكم بتقوى الله قولاً وعملاً واعترافًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
عليك بتقوى اللهِ سرًّا وجهرةً
ففيها جميعُ الخيرِ حقًّا تأكَّدَا
لتُجزَى من اللهِ الكريمِ بفضلِهِ
مُبوَّأ صدقٍ في الجِنانِ مُخلَّدًا

أيها المسلمون:
في عصرنا الراهِن المُدلهِمِّ بالتقلُّبات الفكريةِ، والتحدياتِ السياسية والمُجتمعية، والمُؤثِّرات الثقافيةِ والمعلوماتية، وعلى مشارِفِ عامٍ هجريٍّ مُبارَكٍ جديدٍ لا يكتمِلُ استشرافُ المُستقبَل ورسمُ آفاقِهِ واستنطاقُ أندائهِ وأعماقهِ إلا في ضوءِ نعمةٍ جُلَّى قد كمُلَت فضائلُها وتمَّت، وكثُرت دلائلُها وجمَّت، وأذهبَت الغياهِبَ عن الدنيا وجلَّت، وهزَّت فيالِقَ الإلحاد والوثنيَّةِ وفلَّت؛ إنها أعظمُ كلمةٍ قِيلَت في هذا الوجود، وسُطِّرَت رمزًا للخُلود، وأجلُّ عبارةٍ لهَجَت بها الألسُن في الأصقاع، وأزكَى مقولةٍ شُنِّفَت بها الأسماعُ.
هي النعمةُ المُسداة، والمِنَّةُ المُهداة، هي أكبرُ نعمةٍ يمنُّ الله - تبارك وتعالى - بها على من يشاءُ من عباده، إنها - يا رعاكم الله -: كلمةُ التوحيد: (لا إله إلا الله)، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[محمد: 19]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 25].
معاشر المسلمين:
ولئن كان هذا أمرًا متفقًا عليه عند أهل القبلةِ تقريرًا، وسطَّرَته أقلامُهم تحريرًا، وتأصَّلَ في قلوبهم استشعارًا وتذكيرًا؛ فإن فِئامًا من بني الإسلام قد رضُوا باللَّقَب، واكتفَوا بالاسمِ وقنِعوا بالوصفِ، وغفَلوا عن المضمونِ في الجُملة، فتبلَّدَت منهم الحواسُّ، وجفَّت المشاعِر، وأجدَبَت القلوبُ إلا من رحِمَ الله.
ولهذا مهما بلغَ من حُرِمَ هذا الشرفَ العظيمَ في هذه الحياة الدنيا من مراتِب، وهما أُوتِي من جاهٍ ومالٍ وجمالٍ، ومن قوةٍ ودهاءٍ وذكاءٍ إلا أن أمنيَّته يوم القيامة: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا[النبأ: 40].
فنعمةُ (لا إله إلا الله) لا تُقدَّرُ بثمن، وكلُّنا في حبِّها مُرتَهَن؛ في الحديثِ الصحيحِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن موسى - عليه السلام - قال: يا ربِّ علِّمني شيئًا أذكُركَ وأعدوك به. قال: يا موسى! قُل: لا إله إلا الله. قال موسى: يا ربِّ! كلُّ عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى! لو أن السماوات السبعِ وعامِرهنَّ غيري، والأرضِين السبعَ في كِفَّة، ولا إله إلا الله في كِفَّة مالَت بهنَّ لا إله إلا الله»؛ أخرجه الحاكم، وابنُ حبَّان، وصحَّحه.
الله أكبر! إنه لو وقفَ المسلمون عند مُقتضى كلمةِ الإخلاصِ وأحكامها، وبديعِ مضامينها ومرامِيها؛ لما رأينا الظلمَ والاعتداء من الطُّغاة على الأبرياء، ولما تناهَشَ عِزَّتَنا الأعداءُ الألِدَّاءُ.
إخوة الإيمان:
إن هذا الدين القيم هو النعمةُ العُظمى، والمِنَّةُ الكبرى، وبه يمتازُ المؤمنُ عن غيره من أهلِ المِلَل الذين يشترِكون معه في نعمةِ الوجود والعقلِ والرزقِ وغيرها، إلا أن المسلمَ ينفرِدُ - بكلِّ شرفٍ واعتِزازٍ - بنعمةِ الإسلام، بنعمةِ (لا إله إلا الله)؛ فهي نعمةٌ تستوجِبُ منَّا أن نُمرِّغَ وجوهَنا وجِباهَنا وأنُوفَنا شُكرًا لله ربِّ العالمين.
إذا نزلَ الإسلامُ ساحةَ معشرٍ
تبدَّلَ فيه عُسرُه أبدًا يُسرًا
هو الأمنُ والإيمانُ والنعمةُ التي
بها تسعَدُ الأجيالُ في شأنِها طُرًّا
فمن لم يحيَ بها في هذه الحياة فهو الميتُ حقًّا؛ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام: 122]، ومن لم يستأنِس بها فهو المُستوحِشُ يقينًا؛ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[الزمر: 22].
أليس الله - تبارك وتعالى - هو الذي خلَقَنا فسوَّانا، وأوجدَنا وأحيانا، وبإحسانِهِ ربَّانا، ومتى دعوناهُ أجابَنا ولبَّانا، ومن كل كربٍ وضيقٍ نجَّانا؟ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[النمل: 62].
فيا أحبَّتنا المكروبين المرثُوئين في كل مكانٍ! ألِظُّوا بالدعاء، واستَغيثوا بربِّ الأرضِ والسماءِ أن يُنجِيَكم من كل باغٍ ظَلوم، ومُستبدٍّ غَشوم.
يا مَن بذَرت الكيدَ في أرضِ النَّدَى
مهلاً فلن تجنِي سوَى البغضاءِ
لن يُقنِعَ الناسَ الكذُوبُ بقولِهِ
ولو ارتقَى لمنازلِ الشُّرَفاءِ
ومن أعظم معاني هذا الدين وأسمى مبادئه؛ بل أروع حقائقه وأجمل دقائقه التي هي جوهرُه ولُبُّه، وعِمادُه وطُمْبُه: إظهارُ الانكِسار والافتِقار والحاجةِ لله الواحدِ القهَّار.
أمةَ العقيدة:
الفائزون بكلمة التوحيد هم طُلاَّبُها، والعاجِزون من أعياهم التحقُّقُ بها واكتِسابُها، فهُرِعوا إلى التِّقانات والفضائيات، ولوَّثوا سَلسالَ التوحيد بالشركيَّات والخُرافات، ووَبيلِ المُعتقَدات؛ فليست كلمةُ التوحيد مُجرَّد لفظةٍ تُقال، أو عبارةٍ تُردَّدُ على الألسُن، وإن كان مُجرَّدُ التلفُّظ بها عاصمًا للدمِ والمالِ والعِرْضِ، ولكن هي بمثابةِ الدمِ للبَدَن، والهواءِ للأحياء، والماءِ للنبات، فإذا ما استقرَّت في السُّويْداء وحُقَّت، وانداحَت في الروحِ وترقَّت، إلا وأعلَنها صاحبُها مُدوِّيَةً: ألا معبودَ بحقٍّ يستحقُّ أن تُصرَف له العبادة إلا اللهُ الواحدُ الأحدُ الصمدُ، لا إله إلا الله.
فتُصبِحُ أقوالُه وأعمالُه، ذَهابُه وإيابُه لله رب العالمين لا شريكَ له؛ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
وأن يُفردَ الله - جل وعلا - في رُبوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وطاعته والتحاكُم إلى شريعته، ولقد تجسَّدَت هذه الروح في أكمَل عبادِ الله وأحبِّهم إليه وأكرمِهم عليه وصفوتِه من خلقِه: أنبيائه ورُسُله - عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم -.
هذا نبيُّنا وحبيبُنا وقدوتُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يستقبِلُ القبلةَ يوم بدرٍ، ثم يمُدُّ يديه فيهتِفُ بربِّه: «اللهم أنجِز لي ما وعَدتَني، اللهم آتِني ما وعدتَني، اللهم إن تهلِك هذه العُصابة من أهل الإسلام فلن تُعبَد في الأرض». فما زال يهتِفُ بربِّه حتى أتاه أبو بكرٍ - رضي الله عنه - والتزَمَه من ورائه، وقال: يا نبيَّ الله! كفاكَ مُناشَدَتَك ربَّك، فإنه سيُنجِزُ لك ما وعدَك، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ[الأنفال: 9].
معاشِر الأحِبَّة:
المُتأمِّلُ في هذا الحديثِ الشريفِ يجِدُ فيه صورةً حيَّةً ناطِقةً بالذلِّ والخُضوعِ، والتضرُّع والانطِراح، والافتِقار والالتِجاءِ إلى اللهِ الواحدِ الأحدِ من أفضل خلقِ الله - عليه أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم -.
ورسَمتَ للتوحيدِ أكملَ صورةٍ
نفَضَت عن الأذهانِ كلَّ غُبارِ
فرجَاؤُنا ودُعاؤُنا ويقينُنا
وولاؤُنا للواحدِ القهَّارِ
وفي ظِلالِ تلك الضَّرَعات الوارِفة في معارجِ التوحيدِ الخالِصِ بين يدي الله - عز وجل - من جميعِ أنبياءِ الله ورُسُله: نوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى وأيوب ويونس وزكريا ومحمدٍ - عليهم الصلاة والسلام -، يرتسِمُ أثرُ العقيدة وتحقيقُها لخيْرَي الدنيا والآخرة.
أمةَ التوحيد والسنة:
ومع ما لكلمة التوحيدِ من مكانةٍ جُلَّى؛ فإن الحِفاظَ عليها وتحقيقَ شُروطها ومُقتضياتها لاسيَّما في مجال التطبيقِ وميادين العملِ، وساحاتِ المواقفِ والابتلاءات يُعدُّ المقصدَ الأعظمَ في الحياة كلِّها؛ إذ أعظمُ مقاصدِ الشريعةِ الغرَّاء: حِفظُ الدين وجودًا وعدمًا، وحِراسةُ العقيدةِ من كلِّ ضُروبِ المُخالَفاتِ، لاسيَّما في عصرٍ طغَت فيه الصراعاتُ العقدية، والنَّعَراتُ الطائفيَّة، والخِلافاتُ المذهبيَّةُ.
وامتدَّ فُسطاطُ اللَّوثات، وانتشرَ رُواقُ المُحدَثات، واختلطَ فيها سَخينُ المَدامِعِ بدويِّ المدافعِ، ونالَ المُتمسِّكون بعقيدتهم الصحيحة وسنةِ نبيِّهم - عليه الصلاة والسلام -، ومنهجِ سلَفهم الصالح ما نالَهم؛ فإن العاقبةَ الحميدَةَ - بإذن الله - لهم.
فصبرًا صبرًا أهلَ التوحيد والسنة، صبرًا صبرًا أهلَ التوحيد والسنةِ في كل مكانٍ، ويا بُشراكُم؛ فهذه راياتُ النصر تلُوحُ، وبشائرُه تغدُو وترُوح، وشواهِدُه المُشرِقة المُتمثِّلةُ في مهدِ الرسالة، ومنبَعُ العقيدة والأصالَة، وموئِلُ السنة: المملكةُ العربيةُ السعودية أُنموذجًا مُتألِّقًا، وسَلسالاً مُتأنِّقًا في إيمانها وعقيدتها وأمانها ورخائها واستقرارها، كلُّ ذلك بفضل اللهِ، ثم بفضلِ صحةِ المُعتقَد، وسلامةِ المنهَج، وتحقيقِ العدلِ، ونزاهَةِ واستِقلالِ القضاء، وتطبيقِ الشريعةِ بيُسرِها وسماحتِها، ووسطيَّتها واعتدالِها.
ولن يبُوءَ المُزايِدون عليها وعلى عقيدتها ومنهجِها وقضائِها ووُلاتِها وعلمائِها، المُتوسِّعون بنشر أباطيلهم، المُصدِّرون لأضاليلهم، المُتنمِّرون في بيانات السُّوءِ والفتنةِ من قراصِنةِ العقيدة، وسَماسِرةِ الأفكارِ والتصوُّرات، ومُعولِمةِ الثقافات والتِّقانات إلا بالبَوارِ والتَّبَار.
أمةَ الإسلام:
ومع ما تعيشُهُ أمتُنا الإسلاميةُ من الواقعِ المريرِ في بِقاعٍ عزيزةٍ علينا مما أقضَّ مضاجِعَ المؤمنين الصادقين؛ فإننا نشعُرُ مُتفائلين أن لهيبَ التمحيصِ لا بُدَّ أن يُضِيءَ طريقَنا إلى العامِ الهجريِّ الجديدِ، مُستيقنين أن كلمةَ التوحيدِ عُدَّتُنا مطلعَ كل عامٍ جديدٍ، وأنها المثابَة التي لا مندُوحةَ لأمةٍ من أن تفِيءَ إلى معاقدِ شُموخِها وسُطوعِها، وعِزَّتها ولُموعها، لتحقيقِ أملِنا المنشود، وسُؤدَدنا المفقود، وما ذلك على اللهِ بعزيزٍ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور: 55].
لا إله إلا الله.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنةِ، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والحِكمةِ، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المُسلمين من كل ذنبٍ خطيئةٍ، فاستِغفروه وتوبوا إليه، إن ربِّي لغفورٌ رحيمٌ.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-27-2011, 12:12 AM   رقم المشاركة : 8

 

قِصَر الأمل وحُسن العمل
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 29/2/1433هـ بعنوان: "قِصَر الأمل وحُسن العمل"، والتي تحدَّث فيها عن انصرامِ عامٍ وإقبالٍ عامٍ جديد، وذكَّر بما عمِلَه المرءُ فيما مضى إن كان مُحسِنًا تزوَّد منه، وإن كان غيرَ ذلك فليتُب وليُقبِل على ربِّه، وبيَّن أن الإنسان بلا دينٍ كالبهيمة التي لا تعقل، وحثَّ على ضرورة الإقبال على العمل الصالح والتوبة والاستغفار.

الخطبة الأولى
الحمد لله خلقَ الليلَ والنهارَ، وقدَّرَهما مواقيتَ للأعمال ومقادير للأعمار، لا إله إلا هو جعلَ في مرورِ الأيامِ والليالي عِبَرًا لأهل هذه الدار، أحمده - سبحانه – وأشكره على عظيم آلائه والشكرُ سبيلٌ للمزيد والاستِكثار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة بصدق المُعتقَد وصحةِ الإقرار، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيُّ الأُمِّي العربيُّ الهاشميُّ المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البَرَرَة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، فمن عرفَ الله أعطاه حقَّه، ومن أحبَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وآله وسلم – لزِمَ سنَّته، ومن قرأَ كتابَ الله عمِلَ به، ومن أرادَ الجنةَ عمِلَ لها، ومن خافَ النارَ هربَ منها، ومن أيقنَ بالموت استعدَّ له.
يقول عليُّ - رضي الله عنه -: "اشتدَّ خوفي من اثنين: طولِ الأمل، واتِّباعِ الهوى؛ أما طولُ الأمل فيُنسِي، وأما اتِّباعُ الهوى فيصدُّ عن الحق".
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[الجاثية: 23].
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
ها أنت تُودِّعون عامًا، وتدلِفون لاستِقبال عامٍ آخر، وذلك كلُّه من أعمالكم وأيامكم، عامًا مضى بما أودَعتُموه من عملٍ، فمن أحسنَ فليهنَأ وليحمَد الله وليزدَد، وخيرُ الزاد التقوى، ومن كان غيرَ ذلك فلا يزالُ في الأجل فُسْحة، فليستعتِب، وربُّكم يتوبُ على من تابَ.
اللهم اجعل عامَنا عامَ خيرٍ وبرَكة، وأيامَنا أيامَ أمنٍ وأمان، وسلامةٍ وإسلام، اللهم وفِّقنا فيه لصالحِ العمل، وجنّبنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن، واجمع اللهم كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى والصلاح، وأعِزَّ الإسلام وأهلَه، وأذِلَّ الطغاةَ وأعداء المِلَّة.
أيها الإخوة:
في تقلُّب الأيام وتصرُّم الأعوام فرصةٌ وفُرَص للمُراجَعة والمُحاسَبة، فطُوبَى لمن أخذَ العِبرَة، وفاضَت منه العَبْرة، والحسرةُ لأرباب الغفلة، فلينظُر العاملُ عملَه، وأين المُؤمِّلُ وما أمَّله؟!
يا معشر العباد:
أين الآباء والأجداد؟! وأين المرضى والأصِحَّاء والعُوَّاد؟! أفضَوا إلى ما قدَّموا، الموعدُ يومُ المعاد، والمُلتَقى يومُ التَّنَاد، يوم يُنفَخُ في الصور، ويُنقَر في الناقُور.
يا عبد الله:
السعيدُ من وُعِظَ بغيره، وإذا ذُكِرَ الموتى فعُدَّ نفسكَ منهم، فخُذ من حياتك لموتك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحَّتك لمرضك، ومن غِناك لفقرك، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وكلما قصُر الأمل جادَ العمل.
كم من مُستقبِلٍ يومًا لا يستكمِلُه، وكم من مُؤمِّلٍ لغدٍ لا يُدرِكه، ومن رأى أجلَه ومسيرَه أدرك حقيقةَ الأمل وغرورَه، ومن أنفع أيام المؤمن ما ظنَّ أنه لا يُدرِكُ آخِره.
يا وحيدًا بعد قليلٍ في قبره، يا مُستوحِشًا بعد أُنسٍ حين انقِضاء عُمره، تجمعُ الدنيا على الدنيا لغيرك، وينساكَ من أخذَ كلَّ خيرِك، هلاَّ تزوَّدتَ لمقرِّك.
فبادِروا – رحمكم الله – بالصحةِ سقمَكم، واحفَظوا أمانةَ التكليف لمن ائتَمَنكم، لا شيء أقلُّ من الدنيا، ولا شيء أعزُّ من النفس، فاقنَع بالكَفاف، وصُن نفسَكَ بالعفاف، وقِف مُتدبِّرًا في حالك؛ فالمؤمنُ وقَّاف.
يا عبد الله:
أفضلُ الأعمال: أداءُ ما افترضَ الله، والورعُ عمَّا حرَّم الله، وصدقُ النيَّة فيما عند الله.
واعلَم أن الرضا في طاعة الله؛ فلا تحقِرنَّ من الطاعة شيئًا، والسخَط في معصية الله؛ فلا تستصغِرنَّ من المعاصي شيئًا، وأشرفُ الأوقات ما صُرِف في طاعة الله، ولا تنظُر إلى صِغَر المعصية ولكن انظُر عِظَم من عصيتَ.
والنفسُ إن لم تشغَلها بطاعة الله شغَلَتك بما لا ينفعُ، والقلوبُ كالقُدور تغلي بما فيها، والألسِنةُ مغارِفُها، والذنوبُ مفسَدةُ القلوب، والقويُّ من داومَ على الطاعة، والضعيفُ من غلَبَته محارِم الله.
والعملُ بضاعةُ الأقوياء، والأماني بضاعةُ الضعفاء، والتُّؤدَةُ مُستحسَنةٌ في كل شيء إلا ما كان من أمر الآخرة: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه: 84].
والبركةُ في أكل الحلال، والعملِ الحلال؛ فاللهُ طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا، وخزائنُه لا تنفَد فهو الرزاق ذو القوة المتين، والصدقةُ تدفعُ البلاء، وما نقصَ مالٌ من صدقة، وهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضُعفائكم.
والقناعةُ كنزٌ لا يفنَى، وراحةُ الجسم في قلَّة الطعام، وراحةُ النفس في قلَّة الآثام، وراحةُ القلب في قلَّة الاهتمام، وراحةُ اللسان في قلَّة الكلام، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
والمهزومُ من هزمَته نفسُه، ومن لم يرضَ بالقضاء فليس لحبِّه دواء، والعيشُ مضمون، والرزقُ مقسوم، والهموم لا تدوم.
ومن أرادَ أن تدومَ له السلامةُ والعافيةُ من غير بلاءٍ فما عرفَ التكليف، ولا أدركَ التسليم، والخيرُ كلُّه في الرضا.
فإن استطعتَ – يا عبد الله – أن ترضى وإلا فاصبِر، والرضا يكون بسُكون القلب تحت مجارِي الأحكام.
يقول حاتم الأصمُّ: "نظرتُ في أحوال الخلق؛ فإذا الذي أحببتُ من الناس لم يُعطِني، والذي أبغضتُه لم يأخُذ مني، فقلتُ في نفسي: من أين أُتيتُ؟ فرأيتُ أني أُوتيتُ من قِبَل الحسَد، فطرحتُ الحسدَ، فأحببتُ الناسَ كلَّهم، فكلُّ شيءٍ لم أرضَه لنفسي لم أرضَه لهم".
ومن عرفَ شأنَه حفِظَ لسانَه، وأعرضَ عما لا يعنيه، وكفَّ عن عِرضِ أخيه، ودامَت له سلامتُه، وقلَّت ندامتُه.
والمسلمُ من سلِمَ المسلمون من لسانه ويدِه، والمؤمنُ من أمِنَه الناس، والمهاجِرُ من هجرَ ما حرَّم الله، والمُسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يُسلِمه ولا يخذِله ولا يحقِرُه.
وأقربُ الناس من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم القيامة أحاسِنهم أخلاقًا، وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه، وإن اللهَ ليُعطِي على الرِّفق ما لا يُعطي على العُنف، وصانِعُ المعروف لا يقع، وإن وقعَ وجدَ مُتَّكئًا.
يا عبد الله:
علِّق قلبكَ بربِّك، وخُذ بالأسباب، وليكن زادُك القناعة والصبر والشُكر والأمل مع إحسان العمل، وإحسان الظن، وإحسان النظر.
وليكن زادُك الوقوف عند الحق، وعدمَ تجاوُز الحدِّ، والحرصَ على الورَع؛ طاعةً لله، ونفعًا للنفس، وقيامًا بالمسؤولية، ومن سلكَ ذلك حسُن إيمانُه، واجتمعَ عليه أمرُه، فلم يكن لوقتِه مُضيِّعًا، ولا في غير النافعِ والمُفيد مُشتغِلاً.
ألا فاتقوا الله جميعًا – عباد الله -، ولا تكونوا كأصحاب نفوسٍ قسَت قلوبُها، وغلُظَت أكبادُها، وعظُم عن آيات الله حِجابُها فلا تعتبِر ولا تدَّكِر؛ فإن أقوامًا جاءَتهم آياتُ ربِّهم فكانوا منها يضحَكون، وأراهم ربُّهم آياتٍ كلُّ آيةٍ أكبرُ من أختها فكانوا عنها مُعرضين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[لقمان: 33، 34].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-27-2011, 12:13 AM   رقم المشاركة : 9

 

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله مُوقِظ القلوبِ بالوعظ والتذكير، أحمده - سبحانه - وأشكره على خيره العَميم وفضلِه الوَفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مُبرَّأةً من الشرك كبيرِه والصغير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن على نهجِهم يسير، وسلَّم التسليم الكثير.
أما بعد:
فالإنسانُ بغير دينٍ ورقةٌ تُقلِّبُها الرياحُ، لا يستقرُّ له حال، ولا تُعرَف له وِجهة، ولا يسكُنُ له قرار: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج: 31].
الإنسانُ بغير دينٍ لا قيمةَ له ولا مكانة، قلِقٌ مُتبرِّم، مُتقلِّبٌ تائِه، لا يعرِفُ حقيقةَ نفسه، ولا حِكمةَ وجوده: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ[الأنعام: 125].
الإنسانُ بغير دينٍ حيوانٌ بهيم، وسبُعٌ ضارٍ، لا تُعلِّمُه ثقافة، ولا يردَعُه وازِع، يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ[محمد: 12]، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف: 179].
والمُجتمع بغير دينٍ مُجتمعُ غابة، وإن بدَرَت فيه بوادِرُ حضارة، أو بدَت فيه أثَارةٌ من علمٍ، الحياةُ فيهم هي من نصيب الأشدِّ الأقوى وليس للأصلحِ والأتقى.
العلومُ المُجرَّدة تدلُّ على الوسائل، ولا تقودُ إلى الغايات، وتُعطِي الأدوات ولا تُعطِي قيمًا وأهدافًا، علمٌ بظاهر الحياة الدنيا وأسبابِها، كما ذكر الله في أقوامٍ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[الروم: 7].
إن في ظاهر الدنيا من يزدادُ ثراؤهم بازدياد عِصيانهم ومُخالفاتهم، ولقد جاء في التنزيل العزيز: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 44، 45].
إن من الخطَّائين من يُؤدَّبُ فيتأدَّب، ويُؤخَذ فيتراجَع، فالحِرمانُ له فِطامٌ عن الذنب، وطريقٌ إلى المثَاب.
ومنهم من تتكاثرُ حولَه الدنيا كما تتكاثَرُ الأمواجُ على الغريق، فلا يزالُ يكرَعُ منها حتى يهلَك.
إن أنواعَ الابتلاء وأنواع الجزاء أوسعُ من علمنا وإدراكِنا.
فاستفتِحوا – رحمكم الله – عامَكم بالعمل الصالح، وأحسِنوا الظنَّ بربِّكم، وأصلِحوا ذاتَ بينكم.
ألا فاتقوا الله – رحمكم الله -، وآمِنوا برسولِه يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحديد: 28]، تُوبوا إلى ربِّكم من المعاصي، واستعِدُّوا ليومٍ يُؤخَذ فيه بالأقدام والنَّواصِي، قدِّموا الباقيةَ على الفانِية في هِمَمٍ عالية لعلكم تلحقون بمن عناهُم الله بقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة: 24].
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه – قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مَّهم الضرُّ وحلَّ بهم الكرب واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكَت دماء، وقُتِل أبرياء، ورُمِّلَت نساء، ويُتِّم أطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين، ويا مُنجِي المؤمنين انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفَع ضُرَّهم.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحق والهُدى كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[الأعراف: 47]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 01-09-2012, 11:50 PM   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

خطر الجهر بالمعاصي والذنوب
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 12/2/1433هـ بعنوان: "خطر الجهر بالمعاصي والذنوب"، والتي تحدَّث فيها عن خطر الجهر بالمعاصي وفضح المُسلمين وعدم سترهم، وبيَّن متى يُذاع فيها أمرُ العاصِي ومتى لا يُذاع، وشدَّد على ضرورة رفع أمره إلى وليِّ الأمر في حال مُجاهرته وتشهيره بالمُسلمين.

الخطبة الأولى
الحمد لله، آوى إلى من إلى لُطفه أوَى، وداوَى بإنعامه من يئِسَ من إسقامه الدوا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حرَّم العدوان والبغيَ والأذى، وأمرَ بالسِّتر والزكاءِ والحيا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله من اتبعَه كان على الخير والهُدى، ومن عصاه كان في الغوايةِ والرَّدَى، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه معادِن التقوى وينبوع الصَّبَا، صلاةً تبقَى، وسلامًا يَترَى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
بالتقوى تحلُّ الخيرات، وتنزلُ البركات، وتندفعُ الشرور والآفات، وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر: 61].
أيها المسلمون:
يتصوَّن المؤمنُ عن كل فعلٍ تعود عليه فيه سُبَّة، ويعلَقُ به منه عارٌ، وتلحَقُه به دنيَّةٌ ومعاذَة، ورُبَّ سخطةٍ جلَبَت فضيحةً لا تُطفَأُ نارُها، ولا يخمُدُ أُوارُها.
وموتُ الفتى لم يُعطَ يومًا خسيفةً
أعفُّ وأغنى في الأنامِ وأكرمُ
والعبدُ يسمُو ويهفو، والله يمحو ويعفو، والعبدُ يُذنِبُ ويفجُر، والله يغفِرُ ويستُر، والله حليمٌ حيِيٌّ ستِّير.
وهو الحيِّيُّ فليس يفضَحُ عبدَه
عند التجاهُر منه من عصيانِ
لكنه يُلقي عليه سِترَه
فهو الستِّيرُ وصاحبُ الغُفرانِ
وكيف يُتصوَّرُ الأمرُ لو كانت الخلَوات بين الخلقِ بادية، والغدَرات على الناسِ غير خافية؛ فعن قبيصةَ بن عقبة قال: بلغ داودَ الطائيَّ أنه ذُكِر عند بعضِ الأمراء فأثنى عليه، فقال: "إنما نتبلَّغ بستره بين خلقه، ولو يعلمُ الناسُ بعضَ ما نحن فيه ما ذلَّ لنا لسانٌ أن نُذكَر بخيرٍ أبدًا".
فلله الحمدُ على سِتره الجميل وبرِّه الجزيل.
أيها المسلمون:
ومن شعثَه الهوى، وضعُف عن المُجاهدة، ولم يزَع النفسَ عن الجهل فليستتِر بسترِ الله تعالى، ولا يُجاهِر بمعصيته، ولا يُعلِن بفُجوره، ويلزَمُه مع ذلك التوبةُ والإنابةُ والندمُ على ما صنَع، والإقلاع عما فعل.
أخرج مالكٌ مُرسلاً، والحاكمُ، والبيهقيُّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أصابَ شيئًا من هذه القاذورات فليستتِر بسترِ الله تعالى؛ فإنه من يُبدِ لنا صفحتَه نُقِم عليه كتابَ الله تعالى».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلُّ أُمتي مُعافًى إلا المُجاهِرين، وإن من المُجاهَرة أن يعملَ الرجلُ بالليل عملاً ثم يُصبِحُ وقد ستَرَه الله، فيقول: يا فلان! عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد باتَ يستُره ربُّه، ويُصبِحُ يكشِفُ سترَ الله عليه»؛ متفق عليه.
فيا عجبًا ممن يُفاخِرُ بفواحِشِه وجرائمِه وقبائحِه، يقُصُّها على أقرانه، ويُزيِّنُها لأصحابه، نعوذُ بالله من الضلالة والجهالة والغواية.
أيها المسلمون:
ومن الناسِ من تهفُو نفسُه إلى معرفةِ الخفايا والأسرار، وتتبُّع الحوادِث والأخبار، فالحذَرَ الحذَرَ! فإن طالبَ الوديعةِ خائن، وخاطبَ السرِّ عدوّ، ومُتتبِّع الأخبار غادِر.
ونبيُّنا وسيدُنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إني لم أُومَر أن أنقُبَ عن قلوبِ الناس ولا أشُقَّ بطونَهم»؛ متفق عليه.
أيها المسلمون:
ودينُكم دينُ السترِ والتزكيةِ والنصيحة، لا دينُ الهتكِ والفضحِ وإشاعةِ الرذيلة، فأظهِروا المحاسِن والممادِح، واستُروا المساوئَ والقبائِح، وأشهِروا الخيرَ والنصائح، وغطُّوا العيوبَ والفضائِح.
ومن علِمَ من مسلمٍ قُصورًا أو فُجورًا فلا يُظهِر للناس زلَّته، ولا يُشهِر بين الخلق هفوتَه، ولا يكشِف سترَه، ولا يقصِد فضيحتَه؛ بل يُخفِي عيوبَه، ويستُر هناتِه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يستُر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا سترَه الله يوم القيامة»؛ أخرجه مسلم.
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن سترَ مُسلمًا سترَه الله يوم القيامة»؛ متفق عليه.
قال ابن حجر: "معنى قوله: «سترَ مُسلمًا» أي: رآه على قبيحٍ فلم يُظهِره للناس، وليس في هذا ما يقتضي تركَ الإنكار عليه فيما بينه وبينه".
أيها المسلمون:
ومن تتبَع عورات المُسلمين والمُسلمات، والتمسَ معايِبَهم ومساوِئَهم وأظهرَها وأشهرَها بقصدِ فضحِهم، والإساءَة إليهم، وتشويه سُمعتهم، والحطِّ من قدرهم؛ فقد ارتكَبَ فعلاً مُحرَّمًا، وأمرًا مُجرَّمًا، لا يقدُم عليه إلا خسيسُ الطبع، ووضيعُ القدر، وساقطُ المنزلة.
فعن نافعٍ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: صعِد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبَرَ، فنادى بصوتٍ رفيعٍ فقال: «يا معشرَ من أسلمَ بلسانه ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبه! لا تُؤذُوا المُسلمين، ولا تُعيِّروهم، ولا تتَّبِعوا عوراتِهم؛ فإن من تتبَّع عورةَ أخيه المُسلم تتبَّع الله عورتَه، ومن يتَّبِع الله عورتَه يفضَحه ولو في جوفِ رحلِه»؛ أخرجه الترمذي.
لا تلتمِس من مساوِي الناسِ ما ستَروا
فيكشِفُ اللهُ سترًا من مساوِيكا
واذكُر محاسنَ ما فيهم إذا ذُكِروا
ولا تعِب أحدًا منهم بما فيكَا
ولما دفعَ هزَّان بن يزيد الأسلميُّ - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا ليعترِف بالزنا، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «واللهِ يا هزَّان لو كنتَ سترتَه بثوبِك كان خيرًا مما صنعتَ به»؛ أخرجه مالكٌ، وأحمد، وأبو داود، والحاكم.
وكم يسوؤُنا ما وقعَ فيه بعضُ الأبرار، ونحَى نحوه بعضُ الأشرار من إذاعة الأسرار، وإشاعة الخفايا والأخبار، وتتبُّع الزلاَّت والهفَوات، ونشر المعايِب والسَّقَطات، والتعيير والتشهير عبر المجالسِ والمجامِع والمُنتديات والجوّالات والمواقع والصفحات والقنوات ووسائل الاتصالات، حتى صارَت الفضائحُ والقبائحُ تُزفُّ للناسِ زفًّا؛ فهذه فضيحةُ فلان بن فلان، وهذه هفوةُ فلان بن فلان.
أيُّ حالٍ هذه؟! حُرمةُ المُسلِم تُنتَهك، وسرُّه يُذاع، وذنبُه يُشاع، وعِرضُه يُباع، مرتعٌ وخيم، وعملٌ ذميم، عمَّ وطمَّ، ولم يقتصِد أذاه على المفضوحِ وحده؛ بل ربما تعدَّاه إلى أسرته، وعشيرته، وقبيلته، وبلده ومُجتمعه، وربما أُخِذ البريءُ بجريرةِ المُجرِم، والنقيُّ بخطيئةِ العاصِي.
بل صارت تلك الأفعال سببًا للطعن في أهل الإسلام، وتشويه سُمعتهم، والنَّيل من عقيدتهم ودينهم وبلادهم، وتصغيرها وتحقيرها بين الأمم.
فاتقوا الله - أيها المسلمون -، وأظهِروا محاسِنَكم، أظهِروا قِيَمكم، أظهِروا شِيَمكم، وانشُروا برَّكم وخيرَكم وإحسانكم، وكفُّوا عن هذه المسلِك المُردية، والأفعال الشائِنة.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والبيِّنات والعِظات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:03 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir