يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11-26-2011, 09:44 PM   رقم المشاركة : 1

 

قِصَر الأمل وحُسن العمل
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 29/12/1432 هـ بعنوان: "قِصَر الأمل وحُسن العمل"، والتي تحدَّث فيها عن انصرامِ عامٍ وإقبالٍ عامٍ جديد، وذكَّر بما عمِلَه المرءُ فيما مضى إن كان مُحسِنًا تزوَّد منه، وإن كان غيرَ ذلك فليتُب وليُقبِل على ربِّه، وبيَّن أن الإنسان بلا دينٍ كالبهيمة التي لا تعقل، وحثَّ على ضرورة الإقبال على العمل الصالح والتوبة والاستغفار.

الخطبة الأولى
الحمد لله خلقَ الليلَ والنهارَ، وقدَّرَهما مواقيتَ للأعمال ومقادير للأعمار، لا إله إلا هو جعلَ في مرورِ الأيامِ والليالي عِبَرًا لأهل هذه الدار، أحمده - سبحانه – وأشكره على عظيم آلائه والشكرُ سبيلٌ للمزيد والاستِكثار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة بصدق المُعتقَد وصحةِ الإقرار، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيُّ الأُمِّي العربيُّ الهاشميُّ المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البَرَرَة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، فمن عرفَ الله أعطاه حقَّه، ومن أحبَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وآله وسلم – لزِمَ سنَّته، ومن قرأَ كتابَ الله عمِلَ به، ومن أرادَ الجنةَ عمِلَ لها، ومن خافَ النارَ هربَ منها، ومن أيقنَ بالموت استعدَّ له.
يقول عليُّ - رضي الله عنه -: "اشتدَّ خوفي من اثنين: طولِ الأمل، واتِّباعِ الهوى؛ أما طولُ الأمل فيُنسِي، وأما اتِّباعُ الهوى فيصدُّ عن الحق".
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[الجاثية: 23].
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
ها أنت تُودِّعون عامًا، وتدلِفون لاستِقبال عامٍ آخر، وذلك كلُّه من أعمالكم وأيامكم، عامًا مضى بما أودَعتُموه من عملٍ، فمن أحسنَ فليهنَأ وليحمَد الله وليزدَد، وخيرُ الزاد التقوى، ومن كان غيرَ ذلك فلا يزالُ في الأجل فُسْحة، فليستعتِب، وربُّكم يتوبُ على من تابَ.
اللهم اجعل عامَنا عامَ خيرٍ وبرَكة، وأيامَنا أيامَ أمنٍ وأمان، وسلامةٍ وإسلام، اللهم وفِّقنا فيه لصالحِ العمل، وجنّبنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن، واجمع اللهم كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى والصلاح، وأعِزَّ الإسلام وأهلَه، وأذِلَّ الطغاةَ وأعداء المِلَّة.
أيها الإخوة:
في تقلُّب الأيام وتصرُّم الأعوام فرصةٌ وفُرَص للمُراجَعة والمُحاسَبة، فطُوبَى لمن أخذَ العِبرَة، وفاضَت منه العَبْرة، والحسرةُ لأرباب الغفلة، فلينظُر العاملُ عملَه، وأين المُؤمِّلُ وما أمَّله؟!
يا معشر العباد:
أين الآباء والأجداد؟! وأين المرضى والأصِحَّاء والعُوَّاد؟! أفضَوا إلى ما قدَّموا، الموعدُ يومُ المعاد، والمُلتَقى يومُ التَّنَاد، يوم يُنفَخُ في الصور، ويُنقَر في الناقُور.
يا عبد الله:
السعيدُ من وُعِظَ بغيره، وإذا ذُكِرَ الموتى فعُدَّ نفسكَ منهم، فخُذ من حياتك لموتك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحَّتك لمرضك، ومن غِناك لفقرك، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وكلما قصُر الأمل جادَ العمل.
كم من مُستقبِلٍ يومًا لا يستكمِلُه، وكم من مُؤمِّلٍ لغدٍ لا يُدرِكه، ومن رأى أجلَه ومسيرَه أدرك حقيقةَ الأمل وغرورَه، ومن أنفع أيام المؤمن ما ظنَّ أنه لا يُدرِكُ آخِره.
يا وحيدًا بعد قليلٍ في قبره، يا مُستوحِشًا بعد أُنسٍ حين انقِضاء عُمره، تجمعُ الدنيا على الدنيا لغيرك، وينساكَ من أخذَ كلَّ خيرِك، هلاَّ تزوَّدتَ لمقرِّك.
فبادِروا – رحمكم الله – بالصحةِ سقمَكم، واحفَظوا أمانةَ التكليف لمن ائتَمَنكم، لا شيء أقلُّ من الدنيا، ولا شيء أعزُّ من النفس، فاقنَع بالكَفاف، وصُن نفسَكَ بالعفاف، وقِف مُتدبِّرًا في حالك؛ فالمؤمنُ وقَّاف.
يا عبد الله:
أفضلُ الأعمال: أداءُ ما افترضَ الله، والورعُ عمَّا حرَّم الله، وصدقُ النيَّة فيما عند الله.
واعلَم أن الرضا في طاعة الله؛ فلا تحقِرنَّ من الطاعة شيئًا، والسخَط في معصية الله؛ فلا تستصغِرنَّ من المعاصي شيئًا، وأشرفُ الأوقات ما صُرِف في طاعة الله، ولا تنظُر إلى صِغَر المعصية ولكن انظُر عِظَم من عصيتَ.
والنفسُ إن لم تشغَلها بطاعة الله شغَلَتك بما لا ينفعُ، والقلوبُ كالقُدور تغلي بما فيها، والألسِنةُ مغارِفُها، والذنوبُ مفسَدةُ القلوب، والقويُّ من داومَ على الطاعة، والضعيفُ من غلَبَته محارِم الله.
والعملُ بضاعةُ الأقوياء، والأماني بضاعةُ الضعفاء، والتُّؤدَةُ مُستحسَنةٌ في كل شيء إلا ما كان من أمر الآخرة: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه: 84].
والبركةُ في أكل الحلال، والعملِ الحلال؛ فاللهُ طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا، وخزائنُه لا تنفَد فهو الرزاق ذو القوة المتين، والصدقةُ تدفعُ البلاء، وما نقصَ مالٌ من صدقة، وهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضُعفائكم.
والقناعةُ كنزٌ لا يفنَى، وراحةُ الجسم في قلَّة الطعام، وراحةُ النفس في قلَّة الآثام، وراحةُ القلب في قلَّة الاهتمام، وراحةُ اللسان في قلَّة الكلام، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
والمهزومُ من هزمَته نفسُه، ومن لم يرضَ بالقضاء فليس لحبِّه دواء، والعيشُ مضمون، والرزقُ مقسوم، والهموم لا تدوم.
ومن أرادَ أن تدومَ له السلامةُ والعافيةُ من غير بلاءٍ فما عرفَ التكليف، ولا أدركَ التسليم، والخيرُ كلُّه في الرضا.
فإن استطعتَ – يا عبد الله – أن ترضى وإلا فاصبِر، والرضا يكون بسُكون القلب تحت مجارِي الأحكام.
يقول حاتم الأصمُّ: "نظرتُ في أحوال الخلق؛ فإذا الذي أحببتُ من الناس لم يُعطِني، والذي أبغضتُه لم يأخُذ مني، فقلتُ في نفسي: من أين أُتيتُ؟ فرأيتُ أني أُوتيتُ من قِبَل الحسَد، فطرحتُ الحسدَ، فأحببتُ الناسَ كلَّهم، فكلُّ شيءٍ لم أرضَه لنفسي لم أرضَه لهم".
ومن عرفَ شأنَه حفِظَ لسانَه، وأعرضَ عما لا يعنيه، وكفَّ عن عِرضِ أخيه، ودامَت له سلامتُه، وقلَّت ندامتُه.
والمسلمُ من سلِمَ المسلمون من لسانه ويدِه، والمؤمنُ من أمِنَه الناس، والمهاجِرُ من هجرَ ما حرَّم الله، والمُسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يُسلِمه ولا يخذِله ولا يحقِرُه.
وأقربُ الناس من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم القيامة أحاسِنهم أخلاقًا، وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه، وإن اللهَ ليُعطِي على الرِّفق ما لا يُعطي على العُنف، وصانِعُ المعروف لا يقع، وإن وقعَ وجدَ مُتَّكئًا.
يا عبد الله:
علِّق قلبكَ بربِّك، وخُذ بالأسباب، وليكن زادُك القناعة والصبر والشُكر والأمل مع إحسان العمل، وإحسان الظن، وإحسان النظر.
وليكن زادُك الوقوف عند الحق، وعدمَ تجاوُز الحدِّ، والحرصَ على الورَع؛ طاعةً لله، ونفعًا للنفس، وقيامًا بالمسؤولية، ومن سلكَ ذلك حسُن إيمانُه، واجتمعَ عليه أمرُه، فلم يكن لوقتِه مُضيِّعًا، ولا في غير النافعِ والمُفيد مُشتغِلاً.
ألا فاتقوا الله جميعًا – عباد الله -، ولا تكونوا كأصحاب نفوسٍ قسَت قلوبُها، وغلُظَت أكبادُها، وعظُم عن آيات الله حِجابُها فلا تعتبِر ولا تدَّكِر؛ فإن أقوامًا جاءَتهم آياتُ ربِّهم فكانوا منها يضحَكون، وأراهم ربُّهم آياتٍ كلُّ آيةٍ أكبرُ من أختها فكانوا عنها مُعرضين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[لقمان: 33، 34].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله مُوقِظ القلوبِ بالوعظ والتذكير، أحمده - سبحانه - وأشكره على خيره العَميم وفضلِه الوَفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مُبرَّأةً من الشرك كبيرِه والصغير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن على نهجِهم يسير، وسلَّم التسليم الكثير.
أما بعد:
فالإنسانُ بغير دينٍ ورقةٌ تُقلِّبُها الرياحُ، لا يستقرُّ له حال، ولا تُعرَف له وِجهة، ولا يسكُنُ له قرار: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج: 31].
الإنسانُ بغير دينٍ لا قيمةَ له ولا مكانة، قلِقٌ مُتبرِّم، مُتقلِّبٌ تائِه، لا يعرِفُ حقيقةَ نفسه، ولا حِكمةَ وجوده: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ[الأنعام: 125].
الإنسانُ بغير دينٍ حيوانٌ بهيم، وسبُعٌ ضارٍ، لا تُعلِّمُه ثقافة، ولا يردَعُه وازِع، يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ[محمد: 12]، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف: 179].
والمُجتمع بغير دينٍ مُجتمعُ غابة، وإن بدَرَت فيه بوادِرُ حضارة، أو بدَت فيه أثَارةٌ من علمٍ، الحياةُ فيهم هي من نصيب الأشدِّ الأقوى وليس للأصلحِ والأتقى.
العلومُ المُجرَّدة تدلُّ على الوسائل، ولا تقودُ إلى الغايات، وتُعطِي الأدوات ولا تُعطِي قيمًا وأهدافًا، علمٌ بظاهر الحياة الدنيا وأسبابِها، كما ذكر الله في أقوامٍ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[الروم: 7].
إن في ظاهر الدنيا من يزدادُ ثراؤهم بازدياد عِصيانهم ومُخالفاتهم، ولقد جاء في التنزيل العزيز: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 44، 45].
إن من الخطَّائين من يُؤدَّبُ فيتأدَّب، ويُؤخَذ فيتراجَع، فالحِرمانُ له فِطامٌ عن الذنب، وطريقٌ إلى المثَاب.
ومنهم من تتكاثرُ حولَه الدنيا كما تتكاثَرُ الأمواجُ على الغريق، فلا يزالُ يكرَعُ منها حتى يهلَك.
إن أنواعَ الابتلاء وأنواع الجزاء أوسعُ من علمنا وإدراكِنا.
فاستفتِحوا – رحمكم الله – عامَكم بالعمل الصالح، وأحسِنوا الظنَّ بربِّكم، وأصلِحوا ذاتَ بينكم.
ألا فاتقوا الله – رحمكم الله -، وآمِنوا برسولِه يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحديد: 28]، تُوبوا إلى ربِّكم من المعاصي، واستعِدُّوا ليومٍ يُؤخَذ فيه بالأقدام والنَّواصِي، قدِّموا الباقيةَ على الفانِية في هِمَمٍ عالية لعلكم تلحقون بمن عناهُم الله بقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة: 24].
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه – قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مَّهم الضرُّ وحلَّ بهم الكرب واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكَت دماء، وقُتِل أبرياء، ورُمِّلَت نساء، ويُتِّم أطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين، ويا مُنجِي المؤمنين انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفَع ضُرَّهم.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحق والهُدى كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[الأعراف: 47]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-11-2011, 11:51 PM   رقم المشاركة : 2

 

مفهوم السلام في الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 14/1/1433هـ بعنوان: "مفهوم السلام في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن السلام ومفهومه في الإسلام وكيفية تحقيقه في هذه الأزمان المتأخرة، وبيَّن أننا نعيشُ في عصرٍ بلغ فيه التقدُّم والتطوُّر شأوًا عظيمًا، ومع ذلك لا زال أكثرُ الناس لا يُدرِكون معنى السلام الذي هو الإسلام الحقيقي، ويفهمونه خلافَ معناه، ويضعونه في غير نِصابِه؛ مما أدَّى إلى حدوثِ الكوارثِ العظيمة والفتنِ الجَسيمة التي تمرُّ بها دولُ العالَم.
الخطبة الأولى
الحمد لله الكبيرِ المُتعال، ذي العِزَّة والقوة والجلال، مُرسِلِ البرقَ خوفًا وطمعًا، ومنُشِئِ السحابَ الثِّقال، فالقِ الحبِّ والنَّوَى شديدِ المِحال، له يسجُدُ من في السموات والأرض طوعًا وكَرهًا وظِلالُهم بالغُدُوِّ والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله رفيعُ الخِصال، قدوةٌ في الأقوال والفِعال، صادقٌ مصدوقٌ بالقلبِ والجوارِحِ والمَقال، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى أزواجه أمهات المؤمنين والآل، وعلى أصحابه والتابعين لهم في الخِلال، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم المَآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولَةَ لي ولكم - عباد الله - هي تقوى الله - سبحانه - التي أوصَى بها الأولينَ والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131]، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[العنكبوت: 17].

أيها المسلمون:
إن الله - سبحانه وتعالى - خلقَ هذا الكونَ عُلوِيَّه وسُفلِيَّه، بإنسِهِ وجنِّه، وملائكتِهِ وجمادِه ودوابِّه وطيرِه؛ ليعبُدوه وحده - سبحانه - لا شريكَ له، وليكون الكونُ كلُّه خاضعًا لعظمته، مُوقِنًا بعبوديته لخالقه، كما قال - سبحانه -: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56]، وكما قال - جل وعلا -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ[ص: 27]، وكما قال - سبحانه -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[الدخان: 38، 39].
إذًا لم يخلُق الباري - جل شأنُه - هذا الكونَ بأكملِه عبثًا، وما سخَّره - جل وعلا - لعباده عبَثًا، وما جعل لهم الأرضَ ذَلولاً يمشُونَ في مناكبِها ويأكلون من رزقِه سُدًى، كلا؛ إذ كيف يكون ذلك والخالقُ - جل شأنُه - يقول: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ[الأنبياء: 16- 20].
ومن هنا؛ جاء إنكارُ الباري - سبحانه - وتوبيخُه لمن لم يُدرِك معنى خلقِ الله للسماوات والأرض، ولم يجعل هذا الخلقَ وسيلةً لتحقيقِ عبوديته - سبحانه - دون سِواه، فقال عن أمثال هؤلاء: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ[فصلت: 9] إلى أن قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[فصلت: 11].
فيا لله العجَب! كيف يستكبِرُ من في الأرضِ عن عبوديته - سبحانه - والسماءُ التي تُظِلُّهم والأرضُ التي تُقِلُّهم طائعتان للباري - جل شأنُه -، هذا ما قاله - سبحانه وتعالى - عن سماواته وأرضِهِ.
وأما الطيرُ في السماء؛ فقد قال الله عنه: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ[النور: 41]، وما عدا ذلك من دوابٍّ وجمادٍ وشجرٍ وحجرٍ؛ فقد قال الله عنه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراء: 44]؛ أي: أنتم أيها الإنسُ والجِنُّ لا تفقَهون عبوديَّتَهم لله وتسبيحَهم له.
فأين عقلُك - أيها الإنسان -، وأين قلبُك - أيها الإنسان -، وأين تفضيلُه لك على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلاً؟!
ألا قُتِل الإنسانُ ما أكفَرَه؛ نعم، قُتِل الإنسانُ ما أكفَرَه، يخلُقُه ربُّه ثم هو يخضَعُ لغيره، ويرزُقُه ربُّه فيشكُرُ غيرَه، فضَّلَه ربُّه بالعقل والحِكمة والآدميَّة، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا[الإسراء: 89]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ[البقرة: 243]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[الأعراف: 187]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ[هود: 17].
ومن العجبِ الذي لا ينقَضي، والدهشةِ التي لا تتوقَّف: أن يكون من يملِكُ الوسيلةَ الكاملةَ للعبودية أقلَّ في خُضوعه لله من سائر مخلوقاتِهِ دوابًّا وجمادات، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ[الحج: 18].
فتأمَّلوا - يا رعاكم الله - أن الله - سبحانه - لم يستثنِ مما ذكرَ إلا البشرَ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ[البقرة: 253]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[يوسف: 103].
عباد الله:
إننا نعيشُ في زمنٍ بلغَ شأوًا رفيعًا في الحياة المادية، والنظريات الفلسفية، والثورةِ التِّقَنِيَّة، والترسانةِ العسكرية المُتشبِّعة بروحِ الأنانية والعُدوانية، وإرادة العُلُوِّ في الأرض وإهلاكِ الحرثِ والنَّسْل، والله لا يُحبُّ الفساد، لكنَّ هذه الحضارة لم تستطِع إشباعَ الروحِ بالرحمةِ والطمأنينة والحكمةِ والعدلِ والإيثار، ولا أدلَّ على تلكم النَّزعة من إفرازِ هذه الحضارة: السِّباقَ المحمُوم نحو التسلُّح على حسابِ الاحتياجات البشرية للأخلاق والطعام والشراب والمعيشة بأضعافٍ مُضاعَفة.
حتى جَثَا على سياسة العالَم الثالُوثُ الخانِق، وهو: الخِواءُ الرُّوحيُّ، والتزييفُ التاريخيُّ للحقائق، والقهرُ العسكريُّ، ومن ثمَّ خُلِقَت أسلحةُ الدمارِ الشاملِ، فدُعَّت إلى شعوبِ العالَم دعًّا، والتي صوَّرَت السلامَ حُمقًا، والرحمةَ عجزًا، والعدلَ استِكانَة، وجعلَت مفهومَ الغباء فيمن يُحاوِلُ أن ينالَ حقَّه باسم العدالة أو الرحمة، وجعلَت مفهومَ الغِبطَة في الضعيفِ المهزولِ الجاثِي على رُكبَتَيْه الذي يسبِقُ مدمَعُه مِدفعَه؛ بحيثُ أصبحَ لا يُوجَد مفهومُ العدل إلا حيث يُوجَد الجَور، ولا يُوجَد مفهومُ السلام إلا حيثُ تُوجَد الحرب، حتى تشرَّبَ العالَم اليومَ ألوانًا من الاعتِداءات السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ بحيث إن الأمانَ لدى كثيرٍ من المُجتمعات أصبحَ كسرابٍ بقِيعةٍ يحسبُه الظَّمْآنُ ماءً.
والسرُّ الكامِنُ في ذلكم كلِّه: هو تهميشُ السلام؛ نعم، السلامُ الذي هو الطُّمأنينةُ والسكينةُ والاستقرارُ، السلامُ الذي يُقرِّرُ العبوديةَ للحَكَم العدل، ويُؤمِنُ به ربًّا خالقًا رازِقًا لا معبودَ سِواه، السلامُ الذي شرَعَه الله الملكُ القدُّوسُ السلام، السلامُ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيْهِ ولا من خلفِه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، السلامُ من ربِّ السلام، السلامُ من ربِّ البشر إلى البشر، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[النساء: 125].
إنه مهما عمِلَ البشرُ من جهود، ومهما بذَلوا من علومٍ ومعارِف، ومهما استعمَلوا فيها من وسائل، فلن يبلُغوا مِثقالَ ذرَّةٍ من علمِ الله؛ لأن الله يقول: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا[طه: 110]، ويقول - سبحانه -: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ[البقرة: 255]، فمال البشرية إذًا لا ترجُوا لله وقارًا، وقد خلقَهم أطوارًا؟! لن يُصلِحُ الناسَ مثلُ السلام الذي جاء من عند الله.
ألا إنه لا يُعرفُ في التاريخ مبدأٌ أو دينٌ أو فِكرٌ أرأَف ولا أرحَم ولا أعدَلُ من دين الإسلام، ولا أدلَّ على ذلكم من اتفاقِ أهلِ الإسلام أنه لا يجوزُ في حال الحربِ مع العدوِّ أن يُقتلَ شيخٌ كبيرٌ، ولا طفلٌ صغير، ولا امرأةٌ، ولا أن تُقطَعَ شجرةٌ؛ فأيُّ سلامٍ أعظمُ من هذا السلام؟!
ولكنَّ الأسف كل الأسف أن يُدرِكَ بعضُ المسلمين هذا كلَّه ثم هم يُهروِلون نحوَ شِعاراتٍ برَّاقة، وفلسفاتٍ ما أنزلَ اللهُ بها من سُلطان يُفسِّرون بها السلامَ على غير وجهِهِ.
وإن مما لا شكَّ فيه أنه كلما قلَّت الصحوةُ السليمة والنَّظرةُ الثاقبة لدى المسلمين تُجاه المعنى الحقيقية للسلام كلما ازدادوا ولَهًا إلى سرابِ السلام الزائِف، فالتَفتوا إلى لونه وتجاهَلوا طعمَه، نظَروا إلى دمعةِ المُخادِع ولم ينظرُوا إلى مِدفعِه، علِموا أن الحيَّة لا تبتسِمُ وهي تلدَغ، وخفِيَ عليهم من يلدغُ وهو يبتسِم.
وقد أحسنَ أبو حاتم البُستيُّ - رحمه الله - حينما ضربَ مثلاً عن أحد شيوخه أن صيَّادًا كان يصطادُ العصافيرَ في يومِ ريحٍ، قال: جعلَت الرياحُ تُدخِلُ في عينَيْه الغُبار فتذرِفان، فكلما صادَ عصفورًا كسرَ جناحَه وألقاه في ناموسَة، فقال رجلٌ لصاحبِه: ما أرقَّه عليهم، ألا ترى دموعَ عينيْه! قال الآخر: لا تنظُر إلى دموعِ عينيْه، ولكن انظُر إلى عملِ يديْه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[البقرة: 208، 209].
إنه لا بُدَّ لكلِّ فردٍ أن يتحرَّر من الأنانية واللامسؤولية، وأن يقطَعَ قيودَ وأغلالَ السلبيَّة واللامُبالاة؛ ليكون لبِنَةً صالحةً في بناء بُرج السلام الشامِخ الذي ما خابَ من بَناه ولا ندِمَ من اتخَذَه دارًا؛ لأن معرفةَ الله الحقَّة والإيمانَ بما جاء من عنده - سبحانه - هي السبيلُ الوحيد للفرزِ بين السلام الحقِّ والسلامِ الزائفِ؛ لأن السلامَ في الإسلام هو العدلُ والصدقُ والأمانةُ والرحمةُ، وأما السلامُ بالمفهومِ الزائف فإنه مبنيٌّ على المصلحةِ الذاتية والقوةِ الكابِحة ومبدأ الهيمَنَة للأقوى، أو على المبدأ الجاهليِّ الذي يجعلُ الظلمَ من شِيَم النفوس، ومن يكنْ ذا عِفَّةٍ فلِعلَّةٍ لا يظلِم.
ولقد صدقَ الله - جل وعلا - في عُلاه: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا[الكهف: 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتِنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه الداعِي إلى رِضوانِه، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وأزواجِه وأصحابِه وإخوانِه.
أما بعد، فيا أيها الناس:
إننا حينما نتحدَّثُ عن السلام الذي هو الإسلام، ونرى أنه هو المُنقِذُ للبشرية من ظُلمات التِّيه والانحِراف العقَدي والأخلاقيِّ والفِكريِّ والعسكري، إننا حينما نتحدَّثُ عن ذلكم فإننا لا نعنِي أن السلامَ يقتضي الدُّونيَّة أو الخُنوع أو الاستِكانة، كلا؛ فإن أمةً لم تركَع إلا لخالقِها لا يُمكِنُ أن تخضَعَ لغيره البَتَّة، وإن أمةً لا تعرفُ إلا الله فلن يغلِبَها من لا يعرفُ الله، غيرَ أن الإسلامَ هو السلامُ الحقيقيُّ بكلِّ ما تعنيه الكلمةُ من معنًى، فالله - جل وعلا - هو السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ[الحشر: 23].
وقد وردَ ذكرُ السلامِ في القرآن مُتصرِّفًا أربعًا وأربعين مرَّةً، في حين أن لفظَ الحرب لم يرِد في الكتاب الحكيم إلا ستَّ مراتٍ، والمسلمون يقولون كلَّ يومٍ وليلة لفظَ السلام عشر مراتٍ؛ وذلك اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرَف من صلاته؛ حيث كان يقول: «أستغفرُ الله. أستغفرُ الله. أستغفرُ الله. اللهم أنت السلامُ، ومنك السلامُ، تبارَكتَ ذا الجلالِ والإكرامِ»؛ رواه مسلم.
فالسلامُ دينُ الله في الأرض، وتحيَّةُ المسلمين فيها السلام؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أفشُوا السلامَ بينكم»؛ رواه مسلم.
وفي ميدان الحربِ والقتالِ إذا بذلَ العدوُّ كلمةَ السلام وجبَ الكفُّ عنه واعتبارُه مُسلمًا مُتمتِّعًا بالسلام؛ عملاً بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[النساء: 94].
وإذا كان هذا كلُّه في الحياةِ الدنيا فإن الجنةَ في الدار الآخرة هي السلام: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس: 25]، وتحيَّة المؤمنين يوم يلقَون ربَّهم: سلامٌ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا[الأحزاب: 44]، والملائكةُ حينما يدخلون على أهل الجنة يُلقون عليهم السلام: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[الرعد: 23، 24].
أما حياةُ المؤمنين في الجنة فقد وصفَها الله بقوله: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا[الواقعة: 25، 26].
بارك الله ولكم في القرآن والسنة، واعلموا - رحمكم الله - أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة : 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-19-2011, 12:28 AM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

فضل كلمة التوحيد: لا إله إلا الله
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 21/1/1433هـ بعنوان: "فضل كلمة التوحيد: لا إله إلا الله"، والتي تحدَّث فيها عن فضل كلمة التوحيد، وأن الله - سبحانه - فضَّلَ المسلمين بها على غيرهم من الأمم، وذكر ما يجبُ عليهم تجاهَ ربِّهم شُكرًا لهذه النعمة وحِفاظًا عليها، وشدَّد على ضرورة التمسُّك بالكتاب والسنة لضمانِ النصر والتمكين في الدنيا، والفوز بجنات النعيم في الآخرة.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدك ربي ونستعينُك ونستغفرُك ونتوبُ إليك، ونُثنِي عليك الخيرَ كُلَّه ثناءً كثيرًا طيبًا مديدًا، مِلءَ الآفاق مُبارَكًا مزيدًا.
لك الحمدُ اللهم يا خيرَ ناصرِ
لدينِ الهُدى ما لاحَ نجمٌ لناظِرِ
لك الحمدُ ما هبَّ النسيمُ من الصَّبَا
على نِعَمٍ لم يُحصِها عدُّ حاصِرِ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا بربوبيته وألوهيته وتوحيدًا، وتعظيمًا لجلاله - سبحانه - وتفريدًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أزكى من دعا للتوحيدِ اعتقادًا وعملاً فريدًا، صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين البالغين بالحقِّ رُكنًا شديدًا، وعِزًّا مشيدًا، وصحبِهِ الباذِلين لكلمةِ الإخلاص طارِفًا وتليدًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ممن رجا وعدًا واتَّقَى وعيدًا، وسلِّم ربَّنا تسليمًا عديدًا إلى يوم الدين سرمدًا مزيدًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن رُمتُم من التآخي ائتلافًا، ومن التمكينِ والعِزِّ ازدِلافًا، ومن ثوابِ الرحمنِ جناتٍ ألفافًا؛ فعليكم بتقوى الله قولاً وعملاً واعترافًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
عليك بتقوى اللهِ سرًّا وجهرةً
ففيها جميعُ الخيرِ حقًّا تأكَّدَا
لتُجزَى من اللهِ الكريمِ بفضلِهِ
مُبوَّأ صدقٍ في الجِنانِ مُخلَّدًا

أيها المسلمون:
في عصرنا الراهِن المُدلهِمِّ بالتقلُّبات الفكريةِ، والتحدياتِ السياسية والمُجتمعية، والمُؤثِّرات الثقافيةِ والمعلوماتية، وعلى مشارِفِ عامٍ هجريٍّ مُبارَكٍ جديدٍ لا يكتمِلُ استشرافُ المُستقبَل ورسمُ آفاقِهِ واستنطاقُ أندائهِ وأعماقهِ إلا في ضوءِ نعمةٍ جُلَّى قد كمُلَت فضائلُها وتمَّت، وكثُرت دلائلُها وجمَّت، وأذهبَت الغياهِبَ عن الدنيا وجلَّت، وهزَّت فيالِقَ الإلحاد والوثنيَّةِ وفلَّت؛ إنها أعظمُ كلمةٍ قِيلَت في هذا الوجود، وسُطِّرَت رمزًا للخُلود، وأجلُّ عبارةٍ لهَجَت بها الألسُن في الأصقاع، وأزكَى مقولةٍ شُنِّفَت بها الأسماعُ.
هي النعمةُ المُسداة، والمِنَّةُ المُهداة، هي أكبرُ نعمةٍ يمنُّ الله - تبارك وتعالى - بها على من يشاءُ من عباده، إنها - يا رعاكم الله -: كلمةُ التوحيد: (لا إله إلا الله)، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[محمد: 19]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 25].
معاشر المسلمين:
ولئن كان هذا أمرًا متفقًا عليه عند أهل القبلةِ تقريرًا، وسطَّرَته أقلامُهم تحريرًا، وتأصَّلَ في قلوبهم استشعارًا وتذكيرًا؛ فإن فِئامًا من بني الإسلام قد رضُوا باللَّقَب، واكتفَوا بالاسمِ وقنِعوا بالوصفِ، وغفَلوا عن المضمونِ في الجُملة، فتبلَّدَت منهم الحواسُّ، وجفَّت المشاعِر، وأجدَبَت القلوبُ إلا من رحِمَ الله.
ولهذا مهما بلغَ من حُرِمَ هذا الشرفَ العظيمَ في هذه الحياة الدنيا من مراتِب، وهما أُوتِي من جاهٍ ومالٍ وجمالٍ، ومن قوةٍ ودهاءٍ وذكاءٍ إلا أن أمنيَّته يوم القيامة: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا[النبأ: 40].
فنعمةُ (لا إله إلا الله) لا تُقدَّرُ بثمن، وكلُّنا في حبِّها مُرتَهَن؛ في الحديثِ الصحيحِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن موسى - عليه السلام - قال: يا ربِّ علِّمني شيئًا أذكُركَ وأعدوك به. قال: يا موسى! قُل: لا إله إلا الله. قال موسى: يا ربِّ! كلُّ عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى! لو أن السماوات السبعِ وعامِرهنَّ غيري، والأرضِين السبعَ في كِفَّة، ولا إله إلا الله في كِفَّة مالَت بهنَّ لا إله إلا الله»؛ أخرجه الحاكم، وابنُ حبَّان، وصحَّحه.
الله أكبر! إنه لو وقفَ المسلمون عند مُقتضى كلمةِ الإخلاصِ وأحكامها، وبديعِ مضامينها ومرامِيها؛ لما رأينا الظلمَ والاعتداء من الطُّغاة على الأبرياء، ولما تناهَشَ عِزَّتَنا الأعداءُ الألِدَّاءُ.
إخوة الإيمان:
إن هذا الدين القيم هو النعمةُ العُظمى، والمِنَّةُ الكبرى، وبه يمتازُ المؤمنُ عن غيره من أهلِ المِلَل الذين يشترِكون معه في نعمةِ الوجود والعقلِ والرزقِ وغيرها، إلا أن المسلمَ ينفرِدُ - بكلِّ شرفٍ واعتِزازٍ - بنعمةِ الإسلام، بنعمةِ (لا إله إلا الله)؛ فهي نعمةٌ تستوجِبُ منَّا أن نُمرِّغَ وجوهَنا وجِباهَنا وأنُوفَنا شُكرًا لله ربِّ العالمين.
إذا نزلَ الإسلامُ ساحةَ معشرٍ
تبدَّلَ فيه عُسرُه أبدًا يُسرًا
هو الأمنُ والإيمانُ والنعمةُ التي
بها تسعَدُ الأجيالُ في شأنِها طُرًّا
فمن لم يحيَ بها في هذه الحياة فهو الميتُ حقًّا؛ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام: 122]، ومن لم يستأنِس بها فهو المُستوحِشُ يقينًا؛ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[الزمر: 22].
أليس الله - تبارك وتعالى - هو الذي خلَقَنا فسوَّانا، وأوجدَنا وأحيانا، وبإحسانِهِ ربَّانا، ومتى دعوناهُ أجابَنا ولبَّانا، ومن كل كربٍ وضيقٍ نجَّانا؟ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[النمل: 62].
فيا أحبَّتنا المكروبين المرثُوئين في كل مكانٍ! ألِظُّوا بالدعاء، واستَغيثوا بربِّ الأرضِ والسماءِ أن يُنجِيَكم من كل باغٍ ظَلوم، ومُستبدٍّ غَشوم.
يا مَن بذَرت الكيدَ في أرضِ النَّدَى
مهلاً فلن تجنِي سوَى البغضاءِ
لن يُقنِعَ الناسَ الكذُوبُ بقولِهِ
ولو ارتقَى لمنازلِ الشُّرَفاءِ
ومن أعظم معاني هذا الدين وأسمى مبادئه؛ بل أروع حقائقه وأجمل دقائقه التي هي جوهرُه ولُبُّه، وعِمادُه وطُمْبُه: إظهارُ الانكِسار والافتِقار والحاجةِ لله الواحدِ القهَّار.
أمةَ العقيدة:
الفائزون بكلمة التوحيد هم طُلاَّبُها، والعاجِزون من أعياهم التحقُّقُ بها واكتِسابُها، فهُرِعوا إلى التِّقانات والفضائيات، ولوَّثوا سَلسالَ التوحيد بالشركيَّات والخُرافات، ووَبيلِ المُعتقَدات؛ فليست كلمةُ التوحيد مُجرَّد لفظةٍ تُقال، أو عبارةٍ تُردَّدُ على الألسُن، وإن كان مُجرَّدُ التلفُّظ بها عاصمًا للدمِ والمالِ والعِرْضِ، ولكن هي بمثابةِ الدمِ للبَدَن، والهواءِ للأحياء، والماءِ للنبات، فإذا ما استقرَّت في السُّويْداء وحُقَّت، وانداحَت في الروحِ وترقَّت، إلا وأعلَنها صاحبُها مُدوِّيَةً: ألا معبودَ بحقٍّ يستحقُّ أن تُصرَف له العبادة إلا اللهُ الواحدُ الأحدُ الصمدُ، لا إله إلا الله.
فتُصبِحُ أقوالُه وأعمالُه، ذَهابُه وإيابُه لله رب العالمين لا شريكَ له؛ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
وأن يُفردَ الله - جل وعلا - في رُبوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وطاعته والتحاكُم إلى شريعته، ولقد تجسَّدَت هذه الروح في أكمَل عبادِ الله وأحبِّهم إليه وأكرمِهم عليه وصفوتِه من خلقِه: أنبيائه ورُسُله - عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم -.
هذا نبيُّنا وحبيبُنا وقدوتُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يستقبِلُ القبلةَ يوم بدرٍ، ثم يمُدُّ يديه فيهتِفُ بربِّه: «اللهم أنجِز لي ما وعَدتَني، اللهم آتِني ما وعدتَني، اللهم إن تهلِك هذه العُصابة من أهل الإسلام فلن تُعبَد في الأرض». فما زال يهتِفُ بربِّه حتى أتاه أبو بكرٍ - رضي الله عنه - والتزَمَه من ورائه، وقال: يا نبيَّ الله! كفاكَ مُناشَدَتَك ربَّك، فإنه سيُنجِزُ لك ما وعدَك، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ[الأنفال: 9].
معاشِر الأحِبَّة:
المُتأمِّلُ في هذا الحديثِ الشريفِ يجِدُ فيه صورةً حيَّةً ناطِقةً بالذلِّ والخُضوعِ، والتضرُّع والانطِراح، والافتِقار والالتِجاءِ إلى اللهِ الواحدِ الأحدِ من أفضل خلقِ الله - عليه أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم -.
ورسَمتَ للتوحيدِ أكملَ صورةٍ
نفَضَت عن الأذهانِ كلَّ غُبارِ
فرجَاؤُنا ودُعاؤُنا ويقينُنا
وولاؤُنا للواحدِ القهَّارِ
وفي ظِلالِ تلك الضَّرَعات الوارِفة في معارجِ التوحيدِ الخالِصِ بين يدي الله - عز وجل - من جميعِ أنبياءِ الله ورُسُله: نوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى وأيوب ويونس وزكريا ومحمدٍ - عليهم الصلاة والسلام -، يرتسِمُ أثرُ العقيدة وتحقيقُها لخيْرَي الدنيا والآخرة.
أمةَ التوحيد والسنة:
ومع ما لكلمة التوحيدِ من مكانةٍ جُلَّى؛ فإن الحِفاظَ عليها وتحقيقَ شُروطها ومُقتضياتها لاسيَّما في مجال التطبيقِ وميادين العملِ، وساحاتِ المواقفِ والابتلاءات يُعدُّ المقصدَ الأعظمَ في الحياة كلِّها؛ إذ أعظمُ مقاصدِ الشريعةِ الغرَّاء: حِفظُ الدين وجودًا وعدمًا، وحِراسةُ العقيدةِ من كلِّ ضُروبِ المُخالَفاتِ، لاسيَّما في عصرٍ طغَت فيه الصراعاتُ العقدية، والنَّعَراتُ الطائفيَّة، والخِلافاتُ المذهبيَّةُ.
وامتدَّ فُسطاطُ اللَّوثات، وانتشرَ رُواقُ المُحدَثات، واختلطَ فيها سَخينُ المَدامِعِ بدويِّ المدافعِ، ونالَ المُتمسِّكون بعقيدتهم الصحيحة وسنةِ نبيِّهم - عليه الصلاة والسلام -، ومنهجِ سلَفهم الصالح ما نالَهم؛ فإن العاقبةَ الحميدَةَ - بإذن الله - لهم.
فصبرًا صبرًا أهلَ التوحيد والسنة، صبرًا صبرًا أهلَ التوحيد والسنةِ في كل مكانٍ، ويا بُشراكُم؛ فهذه راياتُ النصر تلُوحُ، وبشائرُه تغدُو وترُوح، وشواهِدُه المُشرِقة المُتمثِّلةُ في مهدِ الرسالة، ومنبَعُ العقيدة والأصالَة، وموئِلُ السنة: المملكةُ العربيةُ السعودية أُنموذجًا مُتألِّقًا، وسَلسالاً مُتأنِّقًا في إيمانها وعقيدتها وأمانها ورخائها واستقرارها، كلُّ ذلك بفضل اللهِ، ثم بفضلِ صحةِ المُعتقَد، وسلامةِ المنهَج، وتحقيقِ العدلِ، ونزاهَةِ واستِقلالِ القضاء، وتطبيقِ الشريعةِ بيُسرِها وسماحتِها، ووسطيَّتها واعتدالِها.
ولن يبُوءَ المُزايِدون عليها وعلى عقيدتها ومنهجِها وقضائِها ووُلاتِها وعلمائِها، المُتوسِّعون بنشر أباطيلهم، المُصدِّرون لأضاليلهم، المُتنمِّرون في بيانات السُّوءِ والفتنةِ من قراصِنةِ العقيدة، وسَماسِرةِ الأفكارِ والتصوُّرات، ومُعولِمةِ الثقافات والتِّقانات إلا بالبَوارِ والتَّبَار.
أمةَ الإسلام:
ومع ما تعيشُهُ أمتُنا الإسلاميةُ من الواقعِ المريرِ في بِقاعٍ عزيزةٍ علينا مما أقضَّ مضاجِعَ المؤمنين الصادقين؛ فإننا نشعُرُ مُتفائلين أن لهيبَ التمحيصِ لا بُدَّ أن يُضِيءَ طريقَنا إلى العامِ الهجريِّ الجديدِ، مُستيقنين أن كلمةَ التوحيدِ عُدَّتُنا مطلعَ كل عامٍ جديدٍ، وأنها المثابَة التي لا مندُوحةَ لأمةٍ من أن تفِيءَ إلى معاقدِ شُموخِها وسُطوعِها، وعِزَّتها ولُموعها، لتحقيقِ أملِنا المنشود، وسُؤدَدنا المفقود، وما ذلك على اللهِ بعزيزٍ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور: 55].
لا إله إلا الله.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنةِ، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والحِكمةِ، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المُسلمين من كل ذنبٍ خطيئةٍ، فاستِغفروه وتوبوا إليه، إن ربِّي لغفورٌ رحيمٌ.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-19-2011, 12:29 AM   رقم المشاركة : 4

 

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا لم يزَل فيَّاحًا، ابتغاءً لمرضاتِهِ واستِمناحًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أشرقَ نورُها وضَّاحًا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أخلصَ الدينَ لله دعوةً وإصلاحًا، اللهم فصلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلهِ وصحبِه الأُلَى نشَروا التوحيدَ غُدُوًّا ورواحًا، فعمَّ البسيطةَ هِضابًا وبِطاحًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله في السرِّ والعلَن، واحمَدوه على ما شرعَ لكم من التوحيدِ وسنَّ، واحذَروا شوبَه بما ظهرَ من البدعِ وما بطَن، واعلمُوا أن أصدقَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ.
أمة التوحيد والسنة:
إن المُتأمِّل البصير الذي يرومُ عِزَّةَ أمته هو من يستنطِقُ الحادِثات المُستجِدَّات في ضوءِ أصولها الكُلِّيات تجاوُزًا للتحديات، وتخلُّصًا من الصِّراعات، وإننا لنُعيذُ أمتنا - وهي تُكابِدُ من المِحَن ما تُكابِد - أن يتفاقَمَ بلاؤُها من ذاتِها أكثرَ من عُداتِها.
وفي هذه الآونةِ خُصوصًا تعظمُ الأمانة وتجِلُّ المسؤولية المُناطةُ بأهل العقيدة، وحملَة الشريعة، ورجال العلم والدعوةِ والإصلاح، السائرين على المنهجِ الربانيِّ الوضَّاح، وكذا القادةُ والساسةُ أن ينتشِلوا المُجتمعات والأجيال من أوهاقِ الافتِئاتِ على العقيدة، والمُزايَدة على مرامِيها البَلْجاءِ العَتيدة، وأن يتَّخِذوا من التوحيد والسنة أطيبَ سَقْيِ وغِراسٍ، وخيرَ مِنهاجٍ ونِبراس، لإصلاحِ أحوالِ الأمة، وتوثيقِ اتحادها، ودحرِ الأرزاءِ عنها، وتحقيقِ أجلِّ مُرادها، ولن يكون ذلك إلا بالاعتصامِ بالكتابِ والسنةِ؛ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 103].
بني الإسلامِ قد حانَ اعتصامٌ
بحبلِ اللهِ نهجًا والتِزامًا
لنرفعَ رايةَ الإسلامِ عدلاً
ونحمِي حوزةَ المجدِ اعتِزامًا
إذ ذاك؛ يأبَى الله - سبحانه - تحقيقًا لوعده إلا أن يُتِمَّ نورَه بكشفِ الغُمَّة ونصرِ الأمة، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام: 82].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على أزكَى البريَّةِ قدرًا، المبعوثِ في الدياجِي بدرًا، من أعلى رايةَ التوحيدِ والسنةِ نهيًا وأمرًا؛ فقد قال - جلَّ في عُلاه - قولاً كريمًا، ولم يزَل سميعًا عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
مُحمدٍ المُختارِ والآلِ بعدَهُ
وأصحابِهِ الغُرِّ الكرامِ الأكابرِ
مدَى الدهرِ والأزمانِ ما قالَ قائلٌ
لك الحمدُ اللهمَّ يا خيرَ ناصرِ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيدِ الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبِهِ الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُلِ الشرك والمشركين، ودمِّر الطُّغاةَ والمُفسِدين وسائرَ أعداء الدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم وفِّقنا لكل خيرٍ يا رب العالمين، اللهم أيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا.
اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفَين إلى ما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وخُذ بنواصيهم للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقهم وإخوانَهم وأعوانَهم إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه خيرُ البلاد والعبادِ يا رب العالمين.
اللهم احفَظ على هذه البلاد عقيدَتها وقيادتَها وأمنَها واستقرارَها ورخاءَها يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم رُدَ عنا كيدَ الكائدين، وعُدوان المُعتدين، ومكرَ الماكرين، وحسَد الحاسِدين، اللهم واكفِنا شُرورَهم بما شِئتَ يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في عقيدتهم واتباعهم لسنة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، المُتمسِّكين بمنهجِ سلَفهم الصالح، اللهم كُن لهم في كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم احقِن دماءَ المُسلمين، اللهم احقِن دماءَ المُسلمين، اللهم احقِن دماءَ المُسلمين، وأصلِح أحوالَهم في كل مكانٍ.
اللهم احفَظ على إخواننا في يمننا وفي شامِنا وفي كل مكان أمنَهم واستقرارَهم يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين والمُسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-27-2011, 12:12 AM   رقم المشاركة : 5

 

قِصَر الأمل وحُسن العمل
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 29/2/1433هـ بعنوان: "قِصَر الأمل وحُسن العمل"، والتي تحدَّث فيها عن انصرامِ عامٍ وإقبالٍ عامٍ جديد، وذكَّر بما عمِلَه المرءُ فيما مضى إن كان مُحسِنًا تزوَّد منه، وإن كان غيرَ ذلك فليتُب وليُقبِل على ربِّه، وبيَّن أن الإنسان بلا دينٍ كالبهيمة التي لا تعقل، وحثَّ على ضرورة الإقبال على العمل الصالح والتوبة والاستغفار.

الخطبة الأولى
الحمد لله خلقَ الليلَ والنهارَ، وقدَّرَهما مواقيتَ للأعمال ومقادير للأعمار، لا إله إلا هو جعلَ في مرورِ الأيامِ والليالي عِبَرًا لأهل هذه الدار، أحمده - سبحانه – وأشكره على عظيم آلائه والشكرُ سبيلٌ للمزيد والاستِكثار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة بصدق المُعتقَد وصحةِ الإقرار، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيُّ الأُمِّي العربيُّ الهاشميُّ المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البَرَرَة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، فمن عرفَ الله أعطاه حقَّه، ومن أحبَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وآله وسلم – لزِمَ سنَّته، ومن قرأَ كتابَ الله عمِلَ به، ومن أرادَ الجنةَ عمِلَ لها، ومن خافَ النارَ هربَ منها، ومن أيقنَ بالموت استعدَّ له.
يقول عليُّ - رضي الله عنه -: "اشتدَّ خوفي من اثنين: طولِ الأمل، واتِّباعِ الهوى؛ أما طولُ الأمل فيُنسِي، وأما اتِّباعُ الهوى فيصدُّ عن الحق".
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[الجاثية: 23].
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
ها أنت تُودِّعون عامًا، وتدلِفون لاستِقبال عامٍ آخر، وذلك كلُّه من أعمالكم وأيامكم، عامًا مضى بما أودَعتُموه من عملٍ، فمن أحسنَ فليهنَأ وليحمَد الله وليزدَد، وخيرُ الزاد التقوى، ومن كان غيرَ ذلك فلا يزالُ في الأجل فُسْحة، فليستعتِب، وربُّكم يتوبُ على من تابَ.
اللهم اجعل عامَنا عامَ خيرٍ وبرَكة، وأيامَنا أيامَ أمنٍ وأمان، وسلامةٍ وإسلام، اللهم وفِّقنا فيه لصالحِ العمل، وجنّبنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن، واجمع اللهم كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى والصلاح، وأعِزَّ الإسلام وأهلَه، وأذِلَّ الطغاةَ وأعداء المِلَّة.
أيها الإخوة:
في تقلُّب الأيام وتصرُّم الأعوام فرصةٌ وفُرَص للمُراجَعة والمُحاسَبة، فطُوبَى لمن أخذَ العِبرَة، وفاضَت منه العَبْرة، والحسرةُ لأرباب الغفلة، فلينظُر العاملُ عملَه، وأين المُؤمِّلُ وما أمَّله؟!
يا معشر العباد:
أين الآباء والأجداد؟! وأين المرضى والأصِحَّاء والعُوَّاد؟! أفضَوا إلى ما قدَّموا، الموعدُ يومُ المعاد، والمُلتَقى يومُ التَّنَاد، يوم يُنفَخُ في الصور، ويُنقَر في الناقُور.
يا عبد الله:
السعيدُ من وُعِظَ بغيره، وإذا ذُكِرَ الموتى فعُدَّ نفسكَ منهم، فخُذ من حياتك لموتك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحَّتك لمرضك، ومن غِناك لفقرك، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وكلما قصُر الأمل جادَ العمل.
كم من مُستقبِلٍ يومًا لا يستكمِلُه، وكم من مُؤمِّلٍ لغدٍ لا يُدرِكه، ومن رأى أجلَه ومسيرَه أدرك حقيقةَ الأمل وغرورَه، ومن أنفع أيام المؤمن ما ظنَّ أنه لا يُدرِكُ آخِره.
يا وحيدًا بعد قليلٍ في قبره، يا مُستوحِشًا بعد أُنسٍ حين انقِضاء عُمره، تجمعُ الدنيا على الدنيا لغيرك، وينساكَ من أخذَ كلَّ خيرِك، هلاَّ تزوَّدتَ لمقرِّك.
فبادِروا – رحمكم الله – بالصحةِ سقمَكم، واحفَظوا أمانةَ التكليف لمن ائتَمَنكم، لا شيء أقلُّ من الدنيا، ولا شيء أعزُّ من النفس، فاقنَع بالكَفاف، وصُن نفسَكَ بالعفاف، وقِف مُتدبِّرًا في حالك؛ فالمؤمنُ وقَّاف.
يا عبد الله:
أفضلُ الأعمال: أداءُ ما افترضَ الله، والورعُ عمَّا حرَّم الله، وصدقُ النيَّة فيما عند الله.
واعلَم أن الرضا في طاعة الله؛ فلا تحقِرنَّ من الطاعة شيئًا، والسخَط في معصية الله؛ فلا تستصغِرنَّ من المعاصي شيئًا، وأشرفُ الأوقات ما صُرِف في طاعة الله، ولا تنظُر إلى صِغَر المعصية ولكن انظُر عِظَم من عصيتَ.
والنفسُ إن لم تشغَلها بطاعة الله شغَلَتك بما لا ينفعُ، والقلوبُ كالقُدور تغلي بما فيها، والألسِنةُ مغارِفُها، والذنوبُ مفسَدةُ القلوب، والقويُّ من داومَ على الطاعة، والضعيفُ من غلَبَته محارِم الله.
والعملُ بضاعةُ الأقوياء، والأماني بضاعةُ الضعفاء، والتُّؤدَةُ مُستحسَنةٌ في كل شيء إلا ما كان من أمر الآخرة: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه: 84].
والبركةُ في أكل الحلال، والعملِ الحلال؛ فاللهُ طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا، وخزائنُه لا تنفَد فهو الرزاق ذو القوة المتين، والصدقةُ تدفعُ البلاء، وما نقصَ مالٌ من صدقة، وهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضُعفائكم.
والقناعةُ كنزٌ لا يفنَى، وراحةُ الجسم في قلَّة الطعام، وراحةُ النفس في قلَّة الآثام، وراحةُ القلب في قلَّة الاهتمام، وراحةُ اللسان في قلَّة الكلام، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
والمهزومُ من هزمَته نفسُه، ومن لم يرضَ بالقضاء فليس لحبِّه دواء، والعيشُ مضمون، والرزقُ مقسوم، والهموم لا تدوم.
ومن أرادَ أن تدومَ له السلامةُ والعافيةُ من غير بلاءٍ فما عرفَ التكليف، ولا أدركَ التسليم، والخيرُ كلُّه في الرضا.
فإن استطعتَ – يا عبد الله – أن ترضى وإلا فاصبِر، والرضا يكون بسُكون القلب تحت مجارِي الأحكام.
يقول حاتم الأصمُّ: "نظرتُ في أحوال الخلق؛ فإذا الذي أحببتُ من الناس لم يُعطِني، والذي أبغضتُه لم يأخُذ مني، فقلتُ في نفسي: من أين أُتيتُ؟ فرأيتُ أني أُوتيتُ من قِبَل الحسَد، فطرحتُ الحسدَ، فأحببتُ الناسَ كلَّهم، فكلُّ شيءٍ لم أرضَه لنفسي لم أرضَه لهم".
ومن عرفَ شأنَه حفِظَ لسانَه، وأعرضَ عما لا يعنيه، وكفَّ عن عِرضِ أخيه، ودامَت له سلامتُه، وقلَّت ندامتُه.
والمسلمُ من سلِمَ المسلمون من لسانه ويدِه، والمؤمنُ من أمِنَه الناس، والمهاجِرُ من هجرَ ما حرَّم الله، والمُسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يُسلِمه ولا يخذِله ولا يحقِرُه.
وأقربُ الناس من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم القيامة أحاسِنهم أخلاقًا، وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه، وإن اللهَ ليُعطِي على الرِّفق ما لا يُعطي على العُنف، وصانِعُ المعروف لا يقع، وإن وقعَ وجدَ مُتَّكئًا.
يا عبد الله:
علِّق قلبكَ بربِّك، وخُذ بالأسباب، وليكن زادُك القناعة والصبر والشُكر والأمل مع إحسان العمل، وإحسان الظن، وإحسان النظر.
وليكن زادُك الوقوف عند الحق، وعدمَ تجاوُز الحدِّ، والحرصَ على الورَع؛ طاعةً لله، ونفعًا للنفس، وقيامًا بالمسؤولية، ومن سلكَ ذلك حسُن إيمانُه، واجتمعَ عليه أمرُه، فلم يكن لوقتِه مُضيِّعًا، ولا في غير النافعِ والمُفيد مُشتغِلاً.
ألا فاتقوا الله جميعًا – عباد الله -، ولا تكونوا كأصحاب نفوسٍ قسَت قلوبُها، وغلُظَت أكبادُها، وعظُم عن آيات الله حِجابُها فلا تعتبِر ولا تدَّكِر؛ فإن أقوامًا جاءَتهم آياتُ ربِّهم فكانوا منها يضحَكون، وأراهم ربُّهم آياتٍ كلُّ آيةٍ أكبرُ من أختها فكانوا عنها مُعرضين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[لقمان: 33، 34].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-27-2011, 12:13 AM   رقم المشاركة : 6

 

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله مُوقِظ القلوبِ بالوعظ والتذكير، أحمده - سبحانه - وأشكره على خيره العَميم وفضلِه الوَفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مُبرَّأةً من الشرك كبيرِه والصغير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن على نهجِهم يسير، وسلَّم التسليم الكثير.
أما بعد:
فالإنسانُ بغير دينٍ ورقةٌ تُقلِّبُها الرياحُ، لا يستقرُّ له حال، ولا تُعرَف له وِجهة، ولا يسكُنُ له قرار: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج: 31].
الإنسانُ بغير دينٍ لا قيمةَ له ولا مكانة، قلِقٌ مُتبرِّم، مُتقلِّبٌ تائِه، لا يعرِفُ حقيقةَ نفسه، ولا حِكمةَ وجوده: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ[الأنعام: 125].
الإنسانُ بغير دينٍ حيوانٌ بهيم، وسبُعٌ ضارٍ، لا تُعلِّمُه ثقافة، ولا يردَعُه وازِع، يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ[محمد: 12]، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف: 179].
والمُجتمع بغير دينٍ مُجتمعُ غابة، وإن بدَرَت فيه بوادِرُ حضارة، أو بدَت فيه أثَارةٌ من علمٍ، الحياةُ فيهم هي من نصيب الأشدِّ الأقوى وليس للأصلحِ والأتقى.
العلومُ المُجرَّدة تدلُّ على الوسائل، ولا تقودُ إلى الغايات، وتُعطِي الأدوات ولا تُعطِي قيمًا وأهدافًا، علمٌ بظاهر الحياة الدنيا وأسبابِها، كما ذكر الله في أقوامٍ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[الروم: 7].
إن في ظاهر الدنيا من يزدادُ ثراؤهم بازدياد عِصيانهم ومُخالفاتهم، ولقد جاء في التنزيل العزيز: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 44، 45].
إن من الخطَّائين من يُؤدَّبُ فيتأدَّب، ويُؤخَذ فيتراجَع، فالحِرمانُ له فِطامٌ عن الذنب، وطريقٌ إلى المثَاب.
ومنهم من تتكاثرُ حولَه الدنيا كما تتكاثَرُ الأمواجُ على الغريق، فلا يزالُ يكرَعُ منها حتى يهلَك.
إن أنواعَ الابتلاء وأنواع الجزاء أوسعُ من علمنا وإدراكِنا.
فاستفتِحوا – رحمكم الله – عامَكم بالعمل الصالح، وأحسِنوا الظنَّ بربِّكم، وأصلِحوا ذاتَ بينكم.
ألا فاتقوا الله – رحمكم الله -، وآمِنوا برسولِه يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحديد: 28]، تُوبوا إلى ربِّكم من المعاصي، واستعِدُّوا ليومٍ يُؤخَذ فيه بالأقدام والنَّواصِي، قدِّموا الباقيةَ على الفانِية في هِمَمٍ عالية لعلكم تلحقون بمن عناهُم الله بقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة: 24].
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه – قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مَّهم الضرُّ وحلَّ بهم الكرب واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكَت دماء، وقُتِل أبرياء، ورُمِّلَت نساء، ويُتِّم أطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين، ويا مُنجِي المؤمنين انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفَع ضُرَّهم.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحق والهُدى كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[الأعراف: 47]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 01-09-2012, 11:50 PM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية العضو

مزاجي:










ابوحاتم غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


ذكر

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

خطر الجهر بالمعاصي والذنوب
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 12/2/1433هـ بعنوان: "خطر الجهر بالمعاصي والذنوب"، والتي تحدَّث فيها عن خطر الجهر بالمعاصي وفضح المُسلمين وعدم سترهم، وبيَّن متى يُذاع فيها أمرُ العاصِي ومتى لا يُذاع، وشدَّد على ضرورة رفع أمره إلى وليِّ الأمر في حال مُجاهرته وتشهيره بالمُسلمين.

الخطبة الأولى
الحمد لله، آوى إلى من إلى لُطفه أوَى، وداوَى بإنعامه من يئِسَ من إسقامه الدوا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حرَّم العدوان والبغيَ والأذى، وأمرَ بالسِّتر والزكاءِ والحيا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله من اتبعَه كان على الخير والهُدى، ومن عصاه كان في الغوايةِ والرَّدَى، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه معادِن التقوى وينبوع الصَّبَا، صلاةً تبقَى، وسلامًا يَترَى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
بالتقوى تحلُّ الخيرات، وتنزلُ البركات، وتندفعُ الشرور والآفات، وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر: 61].
أيها المسلمون:
يتصوَّن المؤمنُ عن كل فعلٍ تعود عليه فيه سُبَّة، ويعلَقُ به منه عارٌ، وتلحَقُه به دنيَّةٌ ومعاذَة، ورُبَّ سخطةٍ جلَبَت فضيحةً لا تُطفَأُ نارُها، ولا يخمُدُ أُوارُها.
وموتُ الفتى لم يُعطَ يومًا خسيفةً
أعفُّ وأغنى في الأنامِ وأكرمُ
والعبدُ يسمُو ويهفو، والله يمحو ويعفو، والعبدُ يُذنِبُ ويفجُر، والله يغفِرُ ويستُر، والله حليمٌ حيِيٌّ ستِّير.
وهو الحيِّيُّ فليس يفضَحُ عبدَه
عند التجاهُر منه من عصيانِ
لكنه يُلقي عليه سِترَه
فهو الستِّيرُ وصاحبُ الغُفرانِ
وكيف يُتصوَّرُ الأمرُ لو كانت الخلَوات بين الخلقِ بادية، والغدَرات على الناسِ غير خافية؛ فعن قبيصةَ بن عقبة قال: بلغ داودَ الطائيَّ أنه ذُكِر عند بعضِ الأمراء فأثنى عليه، فقال: "إنما نتبلَّغ بستره بين خلقه، ولو يعلمُ الناسُ بعضَ ما نحن فيه ما ذلَّ لنا لسانٌ أن نُذكَر بخيرٍ أبدًا".
فلله الحمدُ على سِتره الجميل وبرِّه الجزيل.
أيها المسلمون:
ومن شعثَه الهوى، وضعُف عن المُجاهدة، ولم يزَع النفسَ عن الجهل فليستتِر بسترِ الله تعالى، ولا يُجاهِر بمعصيته، ولا يُعلِن بفُجوره، ويلزَمُه مع ذلك التوبةُ والإنابةُ والندمُ على ما صنَع، والإقلاع عما فعل.
أخرج مالكٌ مُرسلاً، والحاكمُ، والبيهقيُّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أصابَ شيئًا من هذه القاذورات فليستتِر بسترِ الله تعالى؛ فإنه من يُبدِ لنا صفحتَه نُقِم عليه كتابَ الله تعالى».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلُّ أُمتي مُعافًى إلا المُجاهِرين، وإن من المُجاهَرة أن يعملَ الرجلُ بالليل عملاً ثم يُصبِحُ وقد ستَرَه الله، فيقول: يا فلان! عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد باتَ يستُره ربُّه، ويُصبِحُ يكشِفُ سترَ الله عليه»؛ متفق عليه.
فيا عجبًا ممن يُفاخِرُ بفواحِشِه وجرائمِه وقبائحِه، يقُصُّها على أقرانه، ويُزيِّنُها لأصحابه، نعوذُ بالله من الضلالة والجهالة والغواية.
أيها المسلمون:
ومن الناسِ من تهفُو نفسُه إلى معرفةِ الخفايا والأسرار، وتتبُّع الحوادِث والأخبار، فالحذَرَ الحذَرَ! فإن طالبَ الوديعةِ خائن، وخاطبَ السرِّ عدوّ، ومُتتبِّع الأخبار غادِر.
ونبيُّنا وسيدُنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إني لم أُومَر أن أنقُبَ عن قلوبِ الناس ولا أشُقَّ بطونَهم»؛ متفق عليه.
أيها المسلمون:
ودينُكم دينُ السترِ والتزكيةِ والنصيحة، لا دينُ الهتكِ والفضحِ وإشاعةِ الرذيلة، فأظهِروا المحاسِن والممادِح، واستُروا المساوئَ والقبائِح، وأشهِروا الخيرَ والنصائح، وغطُّوا العيوبَ والفضائِح.
ومن علِمَ من مسلمٍ قُصورًا أو فُجورًا فلا يُظهِر للناس زلَّته، ولا يُشهِر بين الخلق هفوتَه، ولا يكشِف سترَه، ولا يقصِد فضيحتَه؛ بل يُخفِي عيوبَه، ويستُر هناتِه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يستُر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا سترَه الله يوم القيامة»؛ أخرجه مسلم.
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن سترَ مُسلمًا سترَه الله يوم القيامة»؛ متفق عليه.
قال ابن حجر: "معنى قوله: «سترَ مُسلمًا» أي: رآه على قبيحٍ فلم يُظهِره للناس، وليس في هذا ما يقتضي تركَ الإنكار عليه فيما بينه وبينه".
أيها المسلمون:
ومن تتبَع عورات المُسلمين والمُسلمات، والتمسَ معايِبَهم ومساوِئَهم وأظهرَها وأشهرَها بقصدِ فضحِهم، والإساءَة إليهم، وتشويه سُمعتهم، والحطِّ من قدرهم؛ فقد ارتكَبَ فعلاً مُحرَّمًا، وأمرًا مُجرَّمًا، لا يقدُم عليه إلا خسيسُ الطبع، ووضيعُ القدر، وساقطُ المنزلة.
فعن نافعٍ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: صعِد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبَرَ، فنادى بصوتٍ رفيعٍ فقال: «يا معشرَ من أسلمَ بلسانه ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبه! لا تُؤذُوا المُسلمين، ولا تُعيِّروهم، ولا تتَّبِعوا عوراتِهم؛ فإن من تتبَّع عورةَ أخيه المُسلم تتبَّع الله عورتَه، ومن يتَّبِع الله عورتَه يفضَحه ولو في جوفِ رحلِه»؛ أخرجه الترمذي.
لا تلتمِس من مساوِي الناسِ ما ستَروا
فيكشِفُ اللهُ سترًا من مساوِيكا
واذكُر محاسنَ ما فيهم إذا ذُكِروا
ولا تعِب أحدًا منهم بما فيكَا
ولما دفعَ هزَّان بن يزيد الأسلميُّ - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا ليعترِف بالزنا، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «واللهِ يا هزَّان لو كنتَ سترتَه بثوبِك كان خيرًا مما صنعتَ به»؛ أخرجه مالكٌ، وأحمد، وأبو داود، والحاكم.
وكم يسوؤُنا ما وقعَ فيه بعضُ الأبرار، ونحَى نحوه بعضُ الأشرار من إذاعة الأسرار، وإشاعة الخفايا والأخبار، وتتبُّع الزلاَّت والهفَوات، ونشر المعايِب والسَّقَطات، والتعيير والتشهير عبر المجالسِ والمجامِع والمُنتديات والجوّالات والمواقع والصفحات والقنوات ووسائل الاتصالات، حتى صارَت الفضائحُ والقبائحُ تُزفُّ للناسِ زفًّا؛ فهذه فضيحةُ فلان بن فلان، وهذه هفوةُ فلان بن فلان.
أيُّ حالٍ هذه؟! حُرمةُ المُسلِم تُنتَهك، وسرُّه يُذاع، وذنبُه يُشاع، وعِرضُه يُباع، مرتعٌ وخيم، وعملٌ ذميم، عمَّ وطمَّ، ولم يقتصِد أذاه على المفضوحِ وحده؛ بل ربما تعدَّاه إلى أسرته، وعشيرته، وقبيلته، وبلده ومُجتمعه، وربما أُخِذ البريءُ بجريرةِ المُجرِم، والنقيُّ بخطيئةِ العاصِي.
بل صارت تلك الأفعال سببًا للطعن في أهل الإسلام، وتشويه سُمعتهم، والنَّيل من عقيدتهم ودينهم وبلادهم، وتصغيرها وتحقيرها بين الأمم.
فاتقوا الله - أيها المسلمون -، وأظهِروا محاسِنَكم، أظهِروا قِيَمكم، أظهِروا شِيَمكم، وانشُروا برَّكم وخيرَكم وإحسانكم، وكفُّوا عن هذه المسلِك المُردية، والأفعال الشائِنة.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والبيِّنات والعِظات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 01-09-2012, 11:51 PM   رقم المشاركة : 8

 



الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِهِ، والشكرُ له على توفيقهِ وامتِنانِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لِشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رِضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِيْنَ [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
ومن كان ضررُه مُتعدِّيًا، وفسادُه باديًا، وأذاه ظاهرًا كمن كان داعيةً إلى بدعةٍ أو فتنةٍ، أو مُروِّجًا لرذيلةٍ، أو مُتعاطيًا للسحر والشعوذة والكِهانة، أو كان مُروّجًا للمُخدِّرات والمُسكِرات والمُنبِّهات والمُفتِّرات، أو كان ساعيًا لشقِّ عصا المُسلمين وتفريقِ جماعتهم وزعزعة استقرارهم وأمنهم، أو كان أمينًا على مصالحِ المُسلمين فخانَهم، أو أمينًا على صدقاتٍ أو أوقاف أو أيتامٍ فخانَ الأمانةَ فلا يحِلُّ السَّترُ عليه ووجبَ رفعُ أمره إلى وليِّ الأمر أو نوَّابه لقطعِ فساده وحماية المُسلمين من إفساده، وليس ذلك من الغِيبة المُحرَّمة؛ بل هو من النصيحة الواجبة.
سُئِل الإمامُ أحمد - رحمه الله تعالى -: إذا عُلِم من الرجل الفُجور أيُخبَرُ به الناس؟ قال: "لا؛ بل يُستَر عليه، إلا أن يكون داعيةً" يعني: لفُجُوره.
أيها المسلمون:
إن ثمرةَ الاستِماع الاتِّباع، فكونوا من الذين يستمِعون القولَ فيتَّبِعون أحسنَه.
ثم صلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
صلَّى الله عليه ما حنَّت الدُّجَى
وأطلَعت الأفلاكُ في أُفقها فجرًا
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا وسيدِنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن آلِه الأطهار، وصحابتهِ الأخيار من المُهاجرين والأنصار، وعنَّا معهم بمنِّك وجُودك ورحمتك يا عزيزُ يا غفَّار.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمنَّا في أوطننا، وأصلِح أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقِّ والنصر والتمكين إمامَنا ووليَّ أمرنا.
اللهم من أرادنا أو أراد بلادَنا أو أراد بلادَ المسلمين بسوءٍ اللهم فأشغِله بنفسه، واجعل كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه في تدميره، اللهم اقتُله بسلاحه، وأحرِقه بناره، واكشِف سِرَّه، واهتِك سترَه، وافضَح أمرَه، واكفِنا شرَّه، واجعله عبرةً، يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا في سورية ناصرًا ومُعينًا، اللهم كُن لإخواننا في سورية ناصرًا ومُعينًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم انصُرهم على القتلةِ المُجرمين، اللهم انصُرهم على القتلةِ المُجرمين، والخَونة الظالمين يا رب العالمين.
اللهم عليك بالطغاة المُجرمين، اللهم بدِّد جمعَهم، وفرِّق شملَهم، وخالِف كلمتَهم، اللهم أرسِل عليهم أمرًا من عندك، وجندًا من جُندك يدفعُ شرَّهم، ويقتلِع ضُرَّهم يا رب العالمين.
اللهم انقطعَ الرجاءُ إلا منك، وخابَت الظنونُ إلا فيك، وضعُف الاعتمادُ إلا عليك، اللهم نجِّ إخواننا المُستضعفين في سوريةَ يا رب العالمين، يا كريم يا رحيم، يا كريم يا رحيم، يا كريم يا رحيم نجِّهم من القوم الظالمين يا رب العالمين.
اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجسِ يهود، اللهم انصر إخواننا في فلسطين على اليهود الغاصبين.
اللهم ألِّف بين قلوبِنا، وأصلِح ذات بيننا، واهدِنا سُبُل السلام، وأخرِجنا من الظلمات إلى النور، ونقِّنا من الذنوب والخطايا يا رب العالمين.
اللهم مُنَّ على جميع أوطانِ المسلمين بالأمن والاستقرار يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مريضَنا، اللهم اشفِ مريضَنا، اللهم اشفِ مريضَنا، اللهم عافِ سقيمَنا، اللهم عافِ سقيمَنا، اللهم قوِّ ضعيفَنا، اللهم قوِّ ضعيفَنا، اللهم أغنِ فقيرَنا، اللهم اجبُر كسيرَنا، اللهم ارحم ميِّتَنا، اللهم ارحم ميِّتَنا، اللهم ارحم ميِّتَنا، واجبُر كسيرَنا يا رحيمُ يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2012, 04:58 PM   رقم المشاركة : 9

 

الرؤى والأحلام في ضوء الكتاب والسنة
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الرؤى والأحلام في ضوء الكتاب والسنة"، والتي تحدَّث فيها عن الرؤى والأحلام وأحكامها وأقسامها في ضوء الكتاب والسنة، وبيَّن شطَط ذوي الأهواء الذين يعبِّرون الرُّؤى والأحلام بلا علمٍ ولا حلمٍ، وحذَّر من اتباع سُبُلهم والسير على تأويلاتهم.

الخطبة الأولى
الحمد لله، تفرَّد بالخلق والقضاء تدبيرًا وإحكامًا، أحمدُه - سبحانه - أظهرَ بديعَ آياته في عباده يقظَةً ومنامًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توحيدًا للباري وإعظامًا، شهادةً نرجُو بها عِزًّا للعلياء تسامَى، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله زكَّى الله به أرواحًا وأرشدَ أفهامًا، صلَّى الله عليه أصدقِ البريَّةِ مرائيَ وأحلامًا، وعلى آله الطيبين نفوسًا الراجحين أحلامًا، وصحبِهِ الغُرِّ الميامين الأُلَى تواصَوا بالحق والهُدى بيانًا واعتصامًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرومُ من الجِنان منزلاً عليًّا ومُقامًا، وسلِّم ربَّنا تسليمًا كثيرًا عديدًا مُبارَكًا كريمًا إلى يوم الدين مديدًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله - تبارك وتعالى -، واعلموا أن تقواه - عز وجل - هي السراجُ المُنير في حُلَك الدُّجَى، والمُعتصَمُ الوثيقُ لذوي الحِجَى، والمِعراجُ السنِيُّ عند الضراعة والالتِجا، وبها الظَّفَرُ بالرغائب والرَّجا، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[البقرة: 194].
سرَى أهلُ التُّقَى ليلاً وجَدُّوا
وفازوا بالوُصولِ ولاحَ وعدُ
ولم تلحَق بهم أو تستعِدُّ
ومن لك بالأماني وأنت عبدُ
أيها المسلمون:
لا يرتابُ أهلُ الإيمان أن شريعةَ الإسلام قصدَت إلى حفظِ الدين والسموِّ بالعقول والأفهام، ونأَت بأتباعها عن مسالكِ الأضاليل والأوهام، وإنه بالتدبُّر في دفتر الأكوان يرتدُّ إلينا بصرُ الإعجاز والبُرهان بأعظم حُجَج القُرآن: أن الإنسان هو أكرمُ الجواهر بما أودعَ الباري فيه من آياته البواهِر.
ومن ذلكم: آيةٌ زخِرَت بالعِبَر، وتعلَّق بها جمٌّ غفيرٌ من البشر، وحارَت في دلائلها الفِكَر، عجزَ دون تجليَةِ حقائقها العالِمون، وشطَّ عن حدِّها العارِفون، أبحَروا في أسرارها وخوافيها، فاشتجَرَت مذاهِبُهم دون كُنهها وأنَّى تُوافِيها؛ لأن أقوالهم عطِلةٌ عن البُرهان، فأشبَهَت الهَذَيان.
لكن الحبيبَ - بأبي هو وأمِّي - عليه الصلاة والسلام - قد أوضَحها وجلاَّها، فتدلَّت لنا كالشمسِ في ضُحاها، إنها - يا رعاكم الله -: آيةُ الرُّؤى والأحلام، أوان السُّبات والمنام، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ[الفتح: 27].
وفي بيان معانيها وأقسامها وماهيَّتها ومرامِها يقول - صلى الله عليه وسلم -: «الرُّؤيا ثلاثة: فرُؤيا صالحة بُشرى من الله، ورُؤيا تحزينٌ من الشيطان، ورُؤيا مما يُحدِّثُ به المرءُ نفسَه»؛ رواه البخاري، ومُسلمٌ، واللفظُ له.
أقسامُها ثلاثةٌ عن النبي
أولُها: بُشرى الإلهِ الأقربِ
والثاني: تحزينٌ من الشيطانِ
وثالثٌ من همَّةِ الإيمانِ



إخوة الإسلام:
وتنويهًا بمنزلة الرُّؤيا الشريفة وحالتها المُنيفة؛ فقد بوَّب أئمةُ الحديثِ في الصِّحاح والسنن أبوابًا في الرُّؤى وتعبيرها، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «الرُّؤيا الصالحة جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جُزءًا من النبوَّة»؛ خرَّجه الشيخان.
ويقول - عليه الصلاة والسلام -: «لم يبقَ من النبوَّة إلا المُبشِّرات». قالوا: وما المُبشِرات يا رسول الله؟ قال: «الرُّؤيا الصالحة»؛ رواه البخاري ومسلم.
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه - رضوان الله عليهم -: «من رأى منكم رُؤيا فليقُصَّها أعبُرُها له»؛ رواه مُسلم.
وما ذلك إلا تشوُّفًا منه - عليه الصلاة والسلام - لظهور الإسلام وسُطوعه، واقترابِ عِزَّته ولُموعه، ولكن أصدَق الناسِ رُؤيا أصدقُهم حديثًا، وهم أهلُ الإيمان والصلاح.
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اقتربَ الزمانُ لم تكَد رُؤيا المؤمنِ تكذِب، وأصدقُهم رُؤيا أصدقُهم حديثًا»؛ متفق عليه.
قال الإمام الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وقد يندُرُ خلافُ ذلك".
معاشر المؤمنين:
وفي أعقابِ الزمن ولما بعُدَ كثيرٌ من الناس عن آثار النبوَّة، وفي عصرِنا الصاخِب بالفضائيات، الموَّار بالتِّقانات تصدَّرَ لهذا العلمِ العويصِ الغيبيِّ، والفنِّ اللطيفِ السنِيِّ ثُلَّةٌ من العابِرين، وطرقَ مضائِقَه الكأداء فئةٌ من المُتعالِمين - هداهم ربُّ العالمين -، فعبَروا المرائي على ما يسُرُّ الرائي وفق الحَدس والأهواء دون رَيثٍ أو إبطاء، وكأنَّ أحدهم ابنُ بَجدتها، وطلاَّعُ أنجِدتها، تراه من جزمِه كأنما يعبُر من وحيٍ.
فكم من أضغاثِ الأحلام تُبنَى عليها الخيالات والأوهام، وتطيشُ بسوء تعبيرها رواجِحُ العقول والأفهام، فتهدِمُ الحقائق، وتُفكِّكُ أوثقَ العلائِق، فيُصبِحُ الأوِدَّاء في تعاسةٍ وشقاء، والأزواجُ والآباء في عنَتٍ وعناء.
فسُبحان الله - عباد الله -، فدامةٌ في الاستِعبار وإسفاف، وتمحُّلٌ في التعبير واعتِساف، وإفراطٌ في رشقِ المُغيَّبات وإسراف، دون تنزُّهٍ عن أموال الناس أو استِعفاف.
ربَّاه ربَّاه؛ كم من كريماتٍ أوانِس غدَينَ بسبب تجاسُر وجُرأة العابِرين قعيدَاتِ البيوت عوانِس، ورُبَّ داءٍ أضرُّ منه الدواءُ، وآخرُ رأى في غسَق الأسحار من الرُّؤَى الأجَلْ فجعل منها معقِد الأملْ، وخفَّ إلى وثير التواكُل والتواني، يرصُدُ فجأةَ الثراء وبلوغ الأماني، وتجاهلَ المغرورُ قولَ العزيز الغفور: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الملك: 2].
أمة الإسلام:
وكم همُ الذين أسلَسُوا قِيادَهم لبوارِق الرُّؤَى تبني أمجادَهم وتتولَّى إسعادَهم؟!
وكم همُ الذين زُعزِعَت بيوتُهم الهانئة بالشُّكوك والهواجِس بسببِ تعابير جارِحة؟! وآخرون اغتالَت نفوسَهم المُطمئنَّة الغُمَمُ والوساوِسُ بتفسيراتٍ كالِحة.
ومن الأسَى أن يتوغَّل هذا الوهمُ لدى أقوامٍ اتَّخَذوا المنيَّ مطيَّةً لبعض التكليفاتِ الإلهية، والإرهاصات الربانية، والاستِنباطات الشرعية، والله تعالى يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3].
ومن المُقرَّر عند علماء الإسلام: أن الرُّؤى والأحلام لا تُبنى عليها الأحكام.
يقول الإمام الشاطبيُّ - رحمه الله -: "فإن الظواهِر قد تعيَّن فيها في حُكم الشريعة أمرٌ آخر، فلا يُعتمَدُ فيها على الرُّؤى النومية؛ فمثلُ هذا من الرُّؤى لا مُعتبَر بها في أمرٍ ولا نهيٍ، ولا بِشارةٍ ولا نِذارة؛ لأنها تخرِمُ قاعدةً من قواعد الشريعة، ولو جازَ ذلك لجازَ نقضُ الأحكام بها وإن ترتَّبَت في الظاهر مُوجِباتُها، وهذا غيرُ صحيحٍ بحالٍ".
عباد الرحمن:
أيها العابِرون! حنانَيكم بأنفسكم وبالمُسلمين حنانَيْكم؛ فتأويلُ الرُّؤيا بمنزلة الفتوى من الأهمية والمكانة، وفي التنزيل العزيز: أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ[يوسف: 43]، فسمَّى تعبيرَ الرُّؤى فتوى، وفي ذلك من الخُطورة ما ترتعِدُ من حوله الفرائِصُ.
فلا تُخاضُ غِمارُ الرُّؤَى إلا بفهمٍ وعلمٍ وبصيرةٍ نافِذةٍ وحلمٍ، ولا يعبُرُها إلا حاذِقٌ خفيٌّ، أو ماهرٌ نقيٌّ، أو عالِمٌ تقيٌّ قد علِمَ شُروطَها وضوابِطها، ورُموزَها وروابِطها.
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقُصُّوا الرُّؤيا إلى على عالِمٍ أو ناصحٍ»؛ أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ولا تُؤوِّل ما رأيتَه على
من هو من علمٍ وحلمٍ قد خلا
سُئِل إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -: أيعبُرُ الرُّؤيا كلُّ أحد؟ فقال - رحمه الله -: "أبالنبوة يُلعَب؟!".
ومن أسفٍ؛ أن كثيرًا من الناس قد أسلَسُوا قِيادَهم لبوارِقِ الرُّؤَى تبني أمجادَهم، لا يعبُرُ الرُّؤيا إلا من يُحسِنُها؛ فإن رأى خيرًا أخبرَ به، وإن رأى مكروهًا فليقُل خيرًا أو ليصمُت.
الله أكبر، الله أكبر، ما أحكمَها من عبارة، وما أبلغَها من إشارة!
واكتُم عوارَ الناسِ إن عبَّرتَ
واحذَر من الإعجابِ إن أصبتَ
وغلِّبِ الأرجحَ والأقوى اعتبِر
إذ في المنامِ الخيرُ والشرُّ حضَر
ألا فليُدرِك ذلك الذين ارتبؤوا ثبَجَ الفضائيات بُكرةً وعشيًا، يبتغُون حصدَ الأموال شِبَعًا ورِيًّا، والله - عز وجل - يقول: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ[البقرة: 188].
وقد أتوا شيئًا فريًّا؛ حيث أمطَروا العبادَ بأوهام السرَّاء ومِحَن الضرَّاء التي تؤُزُّ المُسلمَ إلى سيِّئِ التفكير، والتشاؤُم في التدبير.
فكفى استِغفالاً للعوام، وتلاعُبًا بقاصِرات العقول والأفهام، واستِنزافِ الجُيوبِ بتجارة الأوهام؛ فلم يكن من هديِ السلفِ الانتِصابُ لهذا المقام، فضلاً عن الترويجِ له والاتِّجار به عبرَ رسائل الخيالات والأحلام في وسائل وقنوات الإعلام.
وإنك لواجِدٌ في القنوات الفضائية من ذلك ما يتملَّكُك منه العجبُ العُجابُ، وإن تعجَبُوا - يا رعاكم الله - فعجَبٌ هذا التهافُت المذموم والتسابُق المحموم في هذا المجال الموهوم، والله وحده المُستعان.
أيها المُستعبِرون:
توكَّلوا على الله في عزمِكم وجميع الأمور، ولا تصُدَّنكم عن العلياء رُؤى الغرور، فإنها لا تضُرُّ - بإذن العزيز الغفور -؛ لما وردَ في الصحيح المأثور: قوله - عليه الصلاة والسلام -: «إذا رأى أحدُكم ما يكرَه فليتعوَّذ بالله من شرِّها - أي: الرُّؤيا - ومن شرِّ الشيطان، وليتفُل عن يساره ثلاثًا، ولا يُحدِّثْ بها أحدًا، فإنها لا تضُرُّه»؛ رواه البخاري ومسلم.
وبنحوِ هذا الضابط العاصِم يقول الإمام محمد بن سيرين نِحريرُ المُعبِّرين - رحمه الله -: "اتَّقِ الله وأحسِن في اليَقَظة، فإنه لا يضُرُّك ما رأيتَ في النوم".
ولا يقُصُّ ما رأى على أحد
فلا يضُرُّ عن الهادِي ورَد
أمة التوحيد والاتباع:
مصائرُ الخلق بيد الله - عزَّ اسمُه -، وهي أجلُّ وأعظمُ من أن تُرتَهَن في مرائٍ مشوبة، وتأويلاتٍ بالدرهم مثوبة، على مرأى العالَم وسمعه بما يهتِك أدبَ الكتمان والاستِمهال، ويعسُر دونه التحرِّي في التعبير والاستِفصال.
وإن الإعلام الهادفَ المسؤول هو الوثيقُ الإيمانَ برسالته البنَّاءة، عظيمُ المُغالاة بها، الإعلامُ الذي يُزكِّي الأوراحَ ويرتقي بالأمم إلى الكمال الذي لا تُحدُّ آفاقه، وذلك الذي نصبُو إليه من تأصيل مُجتمعاتٍ ذات قوَّةٍ إيمانية ورجاحةٍ عقلية ومناعةٍ فكرية، تتأبَّى عن الانسِياق في الاستِهلاك والشهرة والابتِزاز؛ بل تتوشَّى بالرَّصانة والوشْي والاعتِزاز.
ولتحقيقِ ذلك لا بُدَّ من تنادي حُرَّاس العقيدة، وحُماة المِلَّة، والأخيار والجِلَّة لمحو فوضَى العابِرين والمُستعبِرين ومغبَّاتها، وضجيجِها ومعرَّاتها، وضبطِها في المُؤهَّلين والأكفاء دون الدُّخَلاء الراكِضين شطرَ الشهرة والأضواء الذين رنَّقُوا سلسالَ هذا العلمِ النَّمير بالتغيير والتكدير، مُتجاسِرين على ما استأثَرَ به العزيزُ القديرُ، وأن تُستنفَرَ المُؤسَّساتُ والطاقاتُ للحدِّ من غُلَواء هذا التيَّار الزخَّار حِيالَ رسُوخنا العقديِّ، وتميُّزنا الاجتماعي، وتُراثِنا الثقافيِّ، ورخائنا واستقرارنا الأمنيِّ، وإنقاذ المُجتمعات من مُنزلَقٍ قد يكون عميقًا، ولكنه يُوشِكُ أن يكون على طرَفِ الثُّمام حقيقًا.
ما كلُّ ماءٍ كصدَّاءٍ لوارِدِه
نعَم، نعم ولا كلُّ نبتٍ فهو سَعدانُ
ولكنَّ الحزمَ مِلاكُ الأمور وأساسُها، وضبطُها نِظامُها ونِبراسُها.
وفَّق الله الجميعَ لصالح القول وصالح العمل، وبلَّغنا أزكى الرجاءِ وأسنَى الأمل، إنه - سبحانه - على ذلك قدير، وبالإجابةِ جدير.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ، ونفعَني وإياكم بما فيه من الهُدى والبيان، ورزَقَنا التمسُّك بسنة المُصطفى من ولدِ عدنان، وجنَّبَنا الانسِياقَ خلفَ الأضاليل والأوهام، إنه خيرُ مسؤول، وأكرمُ مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المُسلمين والمُسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستِغفروه وتوبوا إليه واشكُروه، إن ربَّنا لغفورٌ شكورٌ.

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا دائمًا مُتصلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلقَ العبادَ ليبلُوهم أيُّهم أحسنُ عملاً، شهادةً تُبلِّغُ من رِضوان ربِّنا الأمَلا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه هدانا سُبُل الهُدى والخير ذُلُلاً، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آلهِ البالغين ذُرَى الحق لا يبغُون عنها حِولاً، وصحبِه الأُلَى كانوا في التُّقَى أنموذجًا ومثلاً، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعتصِموا بحبله المتين عن الآفات والمُلِمَّات، واحذَروا التشبُّث بأضغاث الأحلام والمنامات؛ ففيه الخُلفُ لهديِ خير البريَّات.
إخوة الإيمان:
لا يخفَى على شريفِ علمِكم أن التهافُت اللهيفَ حِيالَ تعبير الرُّؤَى مع الغلُوِّ فيها والتهويل، والتواكُل عليها والتعويل، والخروجِ بها عن سنَن النبوَّة الوسَط إلى حيِّز الشطَط تأذُّنٌ لرواجِ الأباطيل واستِشراء الأقاويل، والافتِئاتِ على شرع الله دون سِنادٍ أو دليلٍ.
ومن احتبسَ عليها عقلَه وروحَه فعن هدي سيدِ الثَّقَلَيْن - عليه الصلاة والسلام - قد حادَ، ولن يبلُغ شروَى نقيرٍ من المُراد.
فيا أيها الحالِمون الواهِمون! ويا هؤلاء المناميُّون! علامَ اللهاثُ صوبَ العابِرين علامَ، فما كانت الأحلامُ أبدًا وقطُّ وعوضُ لارتِقاء النبوغِ والإبداع، وترادُف النِّعَم والإمراع، أو جلبِ الحظوظ والسعادة، والمنازلِ العليَّة السيَادة.
ولو أن الأسلاف الأخيارَ تكأكَؤوا على هذا المهيَع، وشغَلوا به مُدنهم وبوادِيَهم، ومُجتمعاتهم ونوادِيَهم على ما أنتم عليه لما حقَّقُوا نصرًا، ولما فتَحوا مِصرًا، ولا بلَغوا كمالاً ولا جلالاً؛ فكيف تُريدون نُكوصًا عنهم واختِلالاً، وهم الذين عاصَروا التنزيل، وشهِدوا التأويل؟!
فهل ضعُفَت الهِمَم إلى حدِّ إشغال الأمةِ بالمنامات والحُلوم عن مراقِي السعود في المعارِف والعلوم، غيرَ أن هذه الذِّكرى ليست اتهامًا للأشخاصِ والمقاصِدِ والنيَّات، فعلمُها عند ربِّ البريَّات، ولكنها نِذراةٌ بخُطورة هذه التصرُّفات، واعتِبار الآثار والمآلات.
وإنه نظرًا لتفشِّي هذه الظاهرة، وامتِطاءِ فئامٍ من الناس لصهوَتها وهم ليسُوا من أهلها؛ فإن المُؤمَّل إيجادُ مظلَّةٍ شرعيَّةٍ علميَّةٍ مُعتبَرةٍ تتولَّى الإشرافَ على هذه القضيةِ المُهمَّة، فتمِيزُ الأكفياءَ عن الأدعياء؛ حِفاظًا لبَيضَة الدين، وحِراسةً للمِلَّة والديانة، وسُمُوًّا بعقول أبناء الأمة. والله من وراء القصد، وهو المُوفِّقُ والهادي إلى سواء السبيل.
هذا، واعلَموا - رحمكم الله - أن أحسنَ الكلام وعظًا، وأشرفَه معنًى ولفظًا: كلامُ من أنزلَه تبيانًا وتولاَّه حِفظًا، فقال فيه قولاً كريمًا، من لم يزَل برًّا رحيمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
وقال الحبيبُ المُجتبى والرسولُ المُرتَضى: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فأزكَى صلاةِ الله ما طافَ طائِفٌ
وما نِيطَ بالبيت العتيقِ حَطيمُ
على من هو الماحِي لكلِّ ضلالةٍ
نبيِّ الهُدى بالمؤمنين رحيمُ
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدِ الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين: نبيِّنا وقُدوتنا وحبيبِنا وقُرَّة أعيُننا محمدِ بن عبد الله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، اللهم ارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، ذوي القدرِ العلِيِّ والشرفِ الجلِيِّ، وعن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، وارفع بفضلك كلمةَ الحق والدين.
اللهم اجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وكن له على الحق مُؤيِّدًا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعبادِ، ووفِّق جميعَ ولاة المُسلمين لتحكيم شرعك واتباع سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين.
اللهم انصر إخواننا المُستضعفين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، واحفَظ أموالَهم وأعراضَهم.
اللهم احقِن دماءَ إخواننا المُسلمين في سُورية وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، وفي العراق، وفي كل مكانٍ يا أرحم الراحمين يا رب العالمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم انصر إخواننا المُجاهِدين في سبيلك في كل مكان، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من براثِن المُعتدين المُحتلِّين، اللهم عليك بالصهايِنة المُحتلِّين، وسائر الظلمة والمُفسدين والطُّغاة؛ فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل عليهم بأسكَ الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم شتِّت شملَهم وفرّق جمعَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين، وغنيمةً للمُسلمين يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ، أنزِل علينا الغيثَ، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين الأحياءِ منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2012, 05:02 PM   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

آداب المعاملات بين الزوجين
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "آداب المعاملات بين الزوجين"، والتي تحدَّث فيها عن تماسُك المُجتمع واتصاله ببعضه، وأن لبِنَته الأساسية هي الأُسرة، وأن الزوجين هما رُكنا أيِّ أُسرة، وتوجَّه بالنصائح المهمة لكل زوجٍ وزوجة بضرورة التروِّي وإعادة النظر قبل اللجوء في حل المُشكلات إلى الطلاق، وقد أرشدَ إلى العديد من سُبُل العلاج المُتاحة قبل إيقاع الطلاق.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله دبَّر بحكمته شؤون العباد، وأوضحَ بفضله سبيلَ الرشاد، وقهرَ بحُجَّته أهل العناد، أحمده - سبحانه - وأشكره ونِعمُ ربنا بالشكر تزداد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الأشباه والأنداد، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خصَّه ربُّه بالمقام المحمود والحوض المورود في يوم المعاد، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين الأسياد، وأصحابه البَرَرَة الأمجاد، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم التناد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا مُتطاوِل الآماد.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ[البقرة: 281]، فمن اتَّقى الحسابَ تورَّعَ في الاكتِساب، ومن قنِع باليسير هانَ عليه العسير، والأيامُ تُبلِي الأفعال، وتمحُو الآثار، وتُميتُ الذكرَ.
فاجتهِدوا في فعلٍ لا يَبلى، وذكرٍ لا يُنسَى، وآثارٍ لا تُمحَى؛ من الإيمان والإخلاص، وبذل المعروف، وحبِّ الناس؛ فقد جُبِلَت القلوب على حبِّ من أحسنَ إليها، وبلينِ الكلامِ تدومُ المودَّة، وبحُسن الخُلُق يَطيبُ العيشُ، وبخفضِ الجَناح تستقيمُ الأمور، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت: 34، 35].
أيها المسلمون:
يقول الله - عزَّ شأنُه -: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ[الأنبياء: 89]، الإنسانُ مدنيٌّ بطبعه، اجتماعيٌّ بفِطرته، يعيشُ مع الجماعة، يتأثَّرُ بها، ويُؤثِّرُ فيها، يُقيمُ علاقاته الاجتماعية بدءًا من طفولته المُبكرة مع أمه وأبيه، ثم أفراد أسرته وأقاربه وجيرانه، ليمتدَّ اتصالُه وتفاعُله في دوائر مُتصلة؛ في مدرسته، وسوقه، وعمله، وسائر أنحاء بلده، ومُجتمعه الكبير.
وتماسُك المُجتمع وسلامتُه ونموُّه وانسجامُه يتمُّ بإمداده بأعضاء فاعلين مُنسجِمين، وذلك يبدأُ - بإذن الله - من عتَبَة الأسرة؛ فهي اللَّبِنةُ الأولى في البِنية الاجتماعية، والمرأةُ والرجلُ شقيقان قرينان لهما دورهما المُشترك، والتمازُجُ في الأسرة والمُجتمع، فهما الزوجان والأبَوان والأخ والأخت، يعملان ويكدَحان ويُكافِحان من أجلِ عيشٍ كريمٍ، وحياةٍ سعيدةٍ مُستقرة، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ[البقرة: 35]، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا[طه: 123].
ومن هنا؛ فإن الزواجَ والحياةَ الأسرية هي محلُّ الاهتِمام في ديننا، ومحلُّ العناية من علمائنا وأهل الفِكر والرأي فينا وعلماء الاجتماع والنفس؛ لأن هناءَ الزوجين واستقرارَهما واستمرارَهما هو هناءُ الحياة واستمرارُها، وسعادةُ المُجتمع واستقرارُه.
والزوجان شريكان كريمان جعل الله بينهما مودَّةً ورحمة، يخوضان مُعترَكَ الحياة، يُحقِّقان أهدافَهما الهدفَ تلوَ الأخرى، والزواج ليس رابطةً بين شخصين فقط؛ بل هو علاقةٌ وثيقةٌ بين أُسرتين وميثاقٌ غليظٌ بين زوجين، وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا[النساء: 21].
ميثاقٌ غليظٌ ليس من اليسير نقضُهُ؛ فالزوجان قبل الزواج كان لهما طبائِعهما وتصوُّراتهما وهواجسهُما ومخاوِفهما وآمالُهما، ناهِيكم بتأثير العادات والتقاليد والأعراف والمُستوى المعيشي والاجتماعي، وبعد الزواج يحتاجُ الزوجان إلى تكيُّفٍ وتأقلُمٍ وإعادةٍ للنظرِ في تصوُّراتهما وهوَاجسهِما ومخاوفهما وآمالهما، مما يحتاجُ معه كلُّ واحدٍ فيهما إلى التعديلِ والتقييم سواءً في ذلك الزوجان والأُسرتان والمُحيطون بهم.
أيها المسلمون:
الزوجان شريكان لا غريمان، ما كان في مصلحة الزوج فهو في مصلحة الزوجة، وما كان في مصلحة الزوجة فهو في مصلحة الزوج، ومن بعدهما مصلحة الأُسرة والأقارب والمُجتمع، فتعاوُنهما تبادُلٌ للمصالح بينهما، ولا مانع أن يختلفا في تقدير المصلحة ورُجحان رأيٍ على آخر عن تشاوُرٍ منهما وتراضٍ، ولكن يجبُ ألا يختلِفا على المصلحة العُليا وتقديرها وتقديمها، إنها الاحترامُ المُتبادَل، والمُحافَظةُ على تماسُك الأسرة، والتوافُق والتضحيةُ من الجانبين، والتنازُل المُتبادَل عن بعض المطالبِ الشخصية في الحياة الأُسرية.
إن الإدارة الحكيمة والنظرَ الواعي للمصالح وتقديرها واليقين أن المُستهدَف هو مصلحةُ الجميع؛ فالرِّبحُ للجميع، والخسارةُ على الجميع.
يجبُ إدارة الأُسرة بالرِّفق والمودة والصبر والتصبُّر والهدوء والروِيَّة والحوار الهادِف والتفاهُم المُحاط بالتسامُح.
يجبُ الابتِعادُ عن المُكابَرة ومفهوم النصر والهزيمة والرِّبح والخسارة، أو فرض الشخصية في الحياة الأُسرية، فليس في البيت مُنتصرٌ ولا مهزوم؛ بل النصرُ للجميع والهزيمةُ على الجميع.
السعادةُ ليست في وَفرة المال، ولا علوِّ الجاه، ولا غلَبَة واحدٍ على الآخر، ولكنها بالإيمان، وصفاء النفس، وراحة الضمير، والبُعد عن النفعية الشخصية البَحتة والأنانية القاتِلة، وابتِغاء رضا الله، ثم صلاح الأُسَر.
معاشر المسلمين:
في طبيعة الإنسان أنه في حال الغضب والاستِياء لا يذكُر إلا ما كان غيرَ حسنٍ، ويتصيَّد الأخطاء يرصُدُها، ويُكبِّر صغيرَها، ويُطيلُ قصيرَها، ويُعسِّرُ يسيرَها، مع أن من المعلوم أن أغلبَ بني الإنسان صوابُهم أكثرُ من خطئهم، وحسناتُهم تفوقُ سيئاتِهم، وإيجابياتهم تغلِبُ سلبياتِهم، ولكن في حال الغضب والكُره والسَّخَط لا يرى الغاضِبُ إلا السوءات، ولا يُظهِرُ الساخِطُ سوى الأخطاء، ويعمَى عن الحسنات والفضائل، ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - يُنبِّهُ إلى هذه الطبيعة البشرية، فيُوصِي بقوله في الحديث الصحيح: «لا يفرَك مؤمنٌ مُؤمنةً، إن كرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخر»؛ رواه مسلمٌ.
معاشر المسلمين:
الموضوع واسعٌ، والحديثُ مُتشعِّبٌ، والخوضُ فيه مهمٌّ، والعنايةُ به مُلِحَّة؛ بل إن قضيةَ الأُسرة ومُشكلاتها من أهم القضايا، وإن مما يُؤسَفُ له: أن الناسَ في بيوتهم، والأزواج في مُشكلاتهم ليس لهم تفكيرٌ في العلاج إلا في الطلاق.
التسرُّعُ في إيقاع الطلاق من غيرِ تروٍّ ولا فهمٍ للبواعِث ودراسةٍ للآثار والتَّبِعات، التسرُّع يُورِثُ الاكتِئاب والانعِزال واليأس والإحباط، وتتوارَدُ الأفكارُ والخواطرُ والشُّكُوك والوساوِسُ، فيفقِدُ صاحِبُه الاتزانَ في التصرُّف، والعدلَ في الحُكم، المُتسرِّعُ لا يتَّسِمُ بالثباتِ والاستِقرار؛ بل بالتقلُّب، وعدم الرَّصانة والتوازُن الاجتماعي.

الزوجُ لن يكون سعيدًا وهو يرى بيتَه يتهدَّمُ، وأُسرتَه تتناثَر، وحيويَّتَه تدوب، كيف يرعَى أبناءَه وبناته، إنه مُشتَّتُ الذِّهنِ مُوزَّعُ الفِكر.
الطلاقُ المُتسرِّعُ زلزالٌ أُسريٌّ يُهدِّدُ كيانَ الأُسرة، ويهدِمُ أركانَ البيت، وهل للبيت إلا رُكنان: الزوج والزوجة، والأبُ والأُمُّ؟!
معاشر الإخوة:
الطلاقُ من غير حاجةٍ حقيقيةٍ ولا أسبابٍ صحيحةٍ يُمثِّلُ مُشكلةً لا حلَّ لها؛ بل مُشكلةً مُتعدِّيةً لا تخُصُّ الطليقَين؛ بل تتعدَّى للأطفال، ثم أفراد الأُسرتين، ثم المُجتمع.
الطلاقُ المُتعجِّلُ فراقٌ لأُنسِ الصحبة والسَّكَن والسكينة والاستقرار، الخلافُ الناجِمُ عن الطلاق يتَّسِمُ بالعُنف والكراهية المُتبادَلة، ويُثيرُ المشاعِر العُدوانية بين الأطفال في فجوةٍ نفسيَّةٍ واسِعة تُباعِدُ بين الطفل وبين المُحيطين به يشعُرُ معها بعدم التقبُّل، والقُصُور، والإهمال، وفُقدان الحُبِّ والتقبُّل الأُسريِّ، وعدم الاهتمام بين الزملاء، مع الشعور بالحُزن والتشاؤُم، وعدم الشعور بقيمةِ الذات، والبُعد عن المُشارَكة والتفاعُل والتواصُل الاجتماعي، والفشل، الطفلُ يشعُرُ بالفشل وتأنيبِ الضمير ومُحاسَبةٍ داخليَّةٍ عنيفةٍ، وشعورٍ بالذنبِ والندَم يزيدُ في المُعاناة والعُزلة والانغِلاق.
الأولادُ في أُسرة الطليقين ينتمون إلى أُسرةٍ مُفكَّكةٍ مُتفرِّقة، الحنانُ فيها ضعيفٌ إن لم يكن مفقودًا، يفقِدون معه الأمن والحماية والاستِقرار؛ بل إنهم فرائِسُ صراع الوالدَيْن، سواءً بتجالُب الحضانة والرعاية، أو بتدافُعها والتخلِّي عنها.

وقد يسمعُ الأولادُ من أحد الوالدَيْن أو من كليهما في الآخر كلامًا غيرَ سديدٍ ولا حكيمٍ، مما يُفقِدُهم الثقةَ بأنفسهم ووالدَيْهم ومُجتمعهم، ومعلومٌ تأثيرُ ذلك كله على سُلُوكهم وتعامُلهم ودراساتهم وعلاقاتهم.
الوالِدان هما مدَدُ الأولاد بالعاطِفة والعقلانية والمُساعَدة في مسارات الحياة، ولا سيَّما في السنوات المُبكِّرة سنوات التنشِئة والتربية والتعليم، وبالانفِصال يفقِدُ الأولادُ التوجيهَ المُتَّزِن، ناهِيكم لما يتعرَّضُ له هؤلاء الأولاد من احتِمال الانحرافِ والجُنوحِ والوقوع في أحضان قُرناء السوء والبيئات الموبوءَة، والتخلُّف الدراسي، والأمراض النفسية، والتشرُّد، والمُخدِّرات، والتسوُّل، وانتشار الجريمة، وهي مُشكلاتٌ خطيرةٌ، وآثارٌ مُتعدِّيةٌ على المُجتمع كله.
أيها الأحِبَّة:
أما المرأةُ فإن ثقافة كثيرٍ من المُجتمعات فيها ثقافةٌ قاصِرة؛ بل خاطِئة، فالمُطلَقةُ عندهم مُدانةٌ في جميع الأحوال، تعودُ إلى البيت حاملةً مع متاعها جراحَها وآلامها ودموعها في مُعاناةٍ نفسيَّةٍ لا تكادُ تُطاق، هذه الثقافةُ الخاطِئة تُحاصِرُ المرأةَ المُطلَّقة بنظرةِ انتِقاصٍ ورَيبٍ، مما تشعُرُ معه أن السهامَ مُوجَّهةٌ إليها، يُشعِرونها بالذنبِ والفشلِ وخيبةِ الأمل، بل تشعُرُ وكأن المُجتمع يتنصَّلُ من مسؤوليته نحوَها ونحو أطفالها والحُنُوِّ عليهم.
وبعدُ، عباد الله:
فالطلاقُ على غير سُنَّةٍ بغيضٌ، يُولِّدُ حالةً نفسيَّةً كريهةً، ومُعاناةً أُسريَّةً ثقيلة، تنزِلُ بكلكَلِها على النفسِ والجسَدِ، فيهتزُّ الجسد، وينكسِرُ القلب، ويضيقُ الصدرُ، ويُحِسُّ صاحِبُه - رجلاً كان أو امرأة - بخيبةِ الأمل، والشعور بالقلق والنُّفرة.

حتى قالوا: إن الفراقَ بالطلاق أصعبُ منه بالموت، وإن كان كلاهما مُوجِعًا؛ لأن الفقدَ بالطلاق يُولِّدُ مُحاسبةً ورِيبةً ومسؤولية، أما الفراقُ بالموت فيُولِّدُ الحُزنَ والعطفَ والشفقةَ وألمَ الفراق، مع الحِفاظ على التوازُن النفسيِّ.
ألا فاتقوا اتلله - رحمكم الله -، وحافِظوا على بيوتكم وأولادكم وأُسَركم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[الطلاق: 1- 3].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله على سعة عطائه، والشكرُ له على جزيل آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ووحدانيته وصفاته وأسمائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه رفعَ له ذِكرَه في أرضِه وسمائه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأحِبَّائه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم لقائه.
أما بعد، أيها المسلمون:
الإسلامُ كرِه الطلاق ونفَّر منه، وفي الحديثِ: «ما أحلَّ اللهُ شيئًا أبغض إليه من الطلاقِ»؛ رواه أبو داود بإسنادٍ متصلٍ صحيحٍ عن معروف بن واصِل، عن مُحارِبٍ، عن دِثارٍ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا.
ولكن حين تكون الحاجةُ إليه فهو داءٌ مُرٌّ، أباحَه الإسلام بضوابطه؛ إذ الحياة الزوجية والمعيشة الأُسرية لا بُدَّ لها من أحد طريقين صالحين ناجِحين: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[البقرة: 229]، وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ[النساء: 130].
وكما أن سوء استِخدام الطلاق يُمثِّلُ مُشكلةً وأسى، فإن الإمساك بغير المعروف يُمثِّل ما هو أشدُّ وأقسى، الطلاقُ في الإسلام شُرِع ليكون فرَجًا ومخرَجًا وليس ضيقًا وشدَّة، حين تُسدُّ الطرقُ من المعالجة والإصلاح، وحين يتعذَّر تحقيقُ مقاصد الزواج القائمِ على المودَّة والسكَن والتعاوُن في الحياة، فإن الطلاق المُنضبِط بضوابطه الشرعية هو حلٌّ وليس مُشكلةً، لا يضيعُ أفرادُه، ولا يندَمُ فاعِلُه.
والإسلامُ حين شرعَ الطلاقَ وأباحَه نظَّمه تنظيمًا دقيقًا ليكون علاجًا ودواءً وحلاًّ، مُراعيًا المقاصِد الكُبرى من الاستِقرار والسعادة وحِفظ الكِيان، فالطلاقُ في الإسلام لا يكون إلا بعد استِنفاذِ وسائل الإصلاح والاستِصلاح، وحين تتعذَّرُ الحياةُ السعيدة والسكنُ والمودَّة.
الطلاقُ الحلُّ لا بُدَّ أن يسبِقَه مُمهِّداتٌ من التروِّي والمُراجَعة، والمُعالَجات من الوعظِ والهجرِ في المَضجَع، والتهديد من غير تعنيفٍ، والتحكيم، وإذا لم يُفِد ذلك كلُّه وصار التوجُّه إلى الطلاق فيُترقَّبُ طُهرٌ جديدٌ لم يقَع فيه مُعاشَرة، ثم بعد هذا الانتظار والترقُّب والتروِّي، ورُؤِيَ اللجوء إلى الطلاق فيكون طلاقًا رجعيًّا طلقةً واحِدةً.
الإسلامُ استبقَى مجالاً للحياة الزوجية بعد الطلاق لعلَّ مشاعِر المودَّة تعود، أعطى حقَّ الرجعةِ والمُراجَعة إذا كان الطلاقُ طلقةً واحِدةً أو طلقتين.
عباد الله:
وإذا حصلَ الطلاقُ وتمَّ الفِراق فليكن تسريحًا بإحسانٍ، كما أمرَ الله - عز وجل -، ومن الإحسانِ نسيانُ الهَفَوات، وتركُ تتبُّع العَثَرات، والصفحُ عن الزلاَّت، وقد بوَّب الإمام النسائيُّ في "سننه" في ذلك فقال: "بابُ النهي عن التِماس عثَرات النساء"، مُستدلاًّ - رحمه الله - بحديثِ: «نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يطرُقَ الرجلُ أهلَه ليلاً» - أي: يتخوَّنهم أو يتلمَّس عثَرَاتهم -؛ والحديثُ في البخاري.
هذا وهي في عِصمته؛ فكيف بعد الفِراق؟!
ومن التسريحِ بإحسانٍ: تجنُّب التجريحِ والقسوةِ وإظهار العُنف والشدَّة، فكفَى بالطلاق البَغيضِ قسوةً وعُسرًا، وقد سمَّاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كسرًا.
ومن التسريحِ بإحسانٍ: حِفظُ الأيام الجميلة، واللحظات الحانية، فهذا عقلٌ وحكمةٌ؛ بل بلسمٌ ودواءٌ يجبُرُ ألمَ الفُراق، ويُواسِي جراحَ الطلاق، وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ[البقرة: 237].
ومن التسريحِ بإحسانٍ: الإنفاقُ على الأولاد بسخاءٍ، سواءً كانوا في حضانة الأب أو الأم، ومع أن هذا واجبٌ ومسؤوليةٌ ولكنه كرمٌ وإحسانٌ ومُروءة.
يقول أيوب السختياني لأحد تلاميذه: "لو أعلمُ أن أبنائي يحتاجون إلى بَقلة ما جلستُ معكم ساعةً".
معاشر الأحِبَّة:
هذه بعضُ المُعالَجات والآداب في شؤون الأُسرة وتعامُلاتها، ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وأصلِحوا ذاتَ بينكم، فحقٌّ على الأهل والمعارِف وكلِّ ذي علاقةٍ أن يكون عونًا وسنَدًا ماديًّا ومعنويًّا ليُخفِّف أعباءَ الطلاق وتداعياتها وآثاره.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، وارحمنا يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك.
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[يونس: 85]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:50 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir