يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-22-2012, 05:02 PM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

آداب المعاملات بين الزوجين
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "آداب المعاملات بين الزوجين"، والتي تحدَّث فيها عن تماسُك المُجتمع واتصاله ببعضه، وأن لبِنَته الأساسية هي الأُسرة، وأن الزوجين هما رُكنا أيِّ أُسرة، وتوجَّه بالنصائح المهمة لكل زوجٍ وزوجة بضرورة التروِّي وإعادة النظر قبل اللجوء في حل المُشكلات إلى الطلاق، وقد أرشدَ إلى العديد من سُبُل العلاج المُتاحة قبل إيقاع الطلاق.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله دبَّر بحكمته شؤون العباد، وأوضحَ بفضله سبيلَ الرشاد، وقهرَ بحُجَّته أهل العناد، أحمده - سبحانه - وأشكره ونِعمُ ربنا بالشكر تزداد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الأشباه والأنداد، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خصَّه ربُّه بالمقام المحمود والحوض المورود في يوم المعاد، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين الأسياد، وأصحابه البَرَرَة الأمجاد، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم التناد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا مُتطاوِل الآماد.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ[البقرة: 281]، فمن اتَّقى الحسابَ تورَّعَ في الاكتِساب، ومن قنِع باليسير هانَ عليه العسير، والأيامُ تُبلِي الأفعال، وتمحُو الآثار، وتُميتُ الذكرَ.
فاجتهِدوا في فعلٍ لا يَبلى، وذكرٍ لا يُنسَى، وآثارٍ لا تُمحَى؛ من الإيمان والإخلاص، وبذل المعروف، وحبِّ الناس؛ فقد جُبِلَت القلوب على حبِّ من أحسنَ إليها، وبلينِ الكلامِ تدومُ المودَّة، وبحُسن الخُلُق يَطيبُ العيشُ، وبخفضِ الجَناح تستقيمُ الأمور، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت: 34، 35].
أيها المسلمون:
يقول الله - عزَّ شأنُه -: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ[الأنبياء: 89]، الإنسانُ مدنيٌّ بطبعه، اجتماعيٌّ بفِطرته، يعيشُ مع الجماعة، يتأثَّرُ بها، ويُؤثِّرُ فيها، يُقيمُ علاقاته الاجتماعية بدءًا من طفولته المُبكرة مع أمه وأبيه، ثم أفراد أسرته وأقاربه وجيرانه، ليمتدَّ اتصالُه وتفاعُله في دوائر مُتصلة؛ في مدرسته، وسوقه، وعمله، وسائر أنحاء بلده، ومُجتمعه الكبير.
وتماسُك المُجتمع وسلامتُه ونموُّه وانسجامُه يتمُّ بإمداده بأعضاء فاعلين مُنسجِمين، وذلك يبدأُ - بإذن الله - من عتَبَة الأسرة؛ فهي اللَّبِنةُ الأولى في البِنية الاجتماعية، والمرأةُ والرجلُ شقيقان قرينان لهما دورهما المُشترك، والتمازُجُ في الأسرة والمُجتمع، فهما الزوجان والأبَوان والأخ والأخت، يعملان ويكدَحان ويُكافِحان من أجلِ عيشٍ كريمٍ، وحياةٍ سعيدةٍ مُستقرة، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ[البقرة: 35]، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا[طه: 123].
ومن هنا؛ فإن الزواجَ والحياةَ الأسرية هي محلُّ الاهتِمام في ديننا، ومحلُّ العناية من علمائنا وأهل الفِكر والرأي فينا وعلماء الاجتماع والنفس؛ لأن هناءَ الزوجين واستقرارَهما واستمرارَهما هو هناءُ الحياة واستمرارُها، وسعادةُ المُجتمع واستقرارُه.
والزوجان شريكان كريمان جعل الله بينهما مودَّةً ورحمة، يخوضان مُعترَكَ الحياة، يُحقِّقان أهدافَهما الهدفَ تلوَ الأخرى، والزواج ليس رابطةً بين شخصين فقط؛ بل هو علاقةٌ وثيقةٌ بين أُسرتين وميثاقٌ غليظٌ بين زوجين، وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا[النساء: 21].
ميثاقٌ غليظٌ ليس من اليسير نقضُهُ؛ فالزوجان قبل الزواج كان لهما طبائِعهما وتصوُّراتهما وهواجسهُما ومخاوِفهما وآمالُهما، ناهِيكم بتأثير العادات والتقاليد والأعراف والمُستوى المعيشي والاجتماعي، وبعد الزواج يحتاجُ الزوجان إلى تكيُّفٍ وتأقلُمٍ وإعادةٍ للنظرِ في تصوُّراتهما وهوَاجسهِما ومخاوفهما وآمالهما، مما يحتاجُ معه كلُّ واحدٍ فيهما إلى التعديلِ والتقييم سواءً في ذلك الزوجان والأُسرتان والمُحيطون بهم.
أيها المسلمون:
الزوجان شريكان لا غريمان، ما كان في مصلحة الزوج فهو في مصلحة الزوجة، وما كان في مصلحة الزوجة فهو في مصلحة الزوج، ومن بعدهما مصلحة الأُسرة والأقارب والمُجتمع، فتعاوُنهما تبادُلٌ للمصالح بينهما، ولا مانع أن يختلفا في تقدير المصلحة ورُجحان رأيٍ على آخر عن تشاوُرٍ منهما وتراضٍ، ولكن يجبُ ألا يختلِفا على المصلحة العُليا وتقديرها وتقديمها، إنها الاحترامُ المُتبادَل، والمُحافَظةُ على تماسُك الأسرة، والتوافُق والتضحيةُ من الجانبين، والتنازُل المُتبادَل عن بعض المطالبِ الشخصية في الحياة الأُسرية.
إن الإدارة الحكيمة والنظرَ الواعي للمصالح وتقديرها واليقين أن المُستهدَف هو مصلحةُ الجميع؛ فالرِّبحُ للجميع، والخسارةُ على الجميع.
يجبُ إدارة الأُسرة بالرِّفق والمودة والصبر والتصبُّر والهدوء والروِيَّة والحوار الهادِف والتفاهُم المُحاط بالتسامُح.
يجبُ الابتِعادُ عن المُكابَرة ومفهوم النصر والهزيمة والرِّبح والخسارة، أو فرض الشخصية في الحياة الأُسرية، فليس في البيت مُنتصرٌ ولا مهزوم؛ بل النصرُ للجميع والهزيمةُ على الجميع.
السعادةُ ليست في وَفرة المال، ولا علوِّ الجاه، ولا غلَبَة واحدٍ على الآخر، ولكنها بالإيمان، وصفاء النفس، وراحة الضمير، والبُعد عن النفعية الشخصية البَحتة والأنانية القاتِلة، وابتِغاء رضا الله، ثم صلاح الأُسَر.
معاشر المسلمين:
في طبيعة الإنسان أنه في حال الغضب والاستِياء لا يذكُر إلا ما كان غيرَ حسنٍ، ويتصيَّد الأخطاء يرصُدُها، ويُكبِّر صغيرَها، ويُطيلُ قصيرَها، ويُعسِّرُ يسيرَها، مع أن من المعلوم أن أغلبَ بني الإنسان صوابُهم أكثرُ من خطئهم، وحسناتُهم تفوقُ سيئاتِهم، وإيجابياتهم تغلِبُ سلبياتِهم، ولكن في حال الغضب والكُره والسَّخَط لا يرى الغاضِبُ إلا السوءات، ولا يُظهِرُ الساخِطُ سوى الأخطاء، ويعمَى عن الحسنات والفضائل، ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - يُنبِّهُ إلى هذه الطبيعة البشرية، فيُوصِي بقوله في الحديث الصحيح: «لا يفرَك مؤمنٌ مُؤمنةً، إن كرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخر»؛ رواه مسلمٌ.
معاشر المسلمين:
الموضوع واسعٌ، والحديثُ مُتشعِّبٌ، والخوضُ فيه مهمٌّ، والعنايةُ به مُلِحَّة؛ بل إن قضيةَ الأُسرة ومُشكلاتها من أهم القضايا، وإن مما يُؤسَفُ له: أن الناسَ في بيوتهم، والأزواج في مُشكلاتهم ليس لهم تفكيرٌ في العلاج إلا في الطلاق.
التسرُّعُ في إيقاع الطلاق من غيرِ تروٍّ ولا فهمٍ للبواعِث ودراسةٍ للآثار والتَّبِعات، التسرُّع يُورِثُ الاكتِئاب والانعِزال واليأس والإحباط، وتتوارَدُ الأفكارُ والخواطرُ والشُّكُوك والوساوِسُ، فيفقِدُ صاحِبُه الاتزانَ في التصرُّف، والعدلَ في الحُكم، المُتسرِّعُ لا يتَّسِمُ بالثباتِ والاستِقرار؛ بل بالتقلُّب، وعدم الرَّصانة والتوازُن الاجتماعي.

الزوجُ لن يكون سعيدًا وهو يرى بيتَه يتهدَّمُ، وأُسرتَه تتناثَر، وحيويَّتَه تدوب، كيف يرعَى أبناءَه وبناته، إنه مُشتَّتُ الذِّهنِ مُوزَّعُ الفِكر.
الطلاقُ المُتسرِّعُ زلزالٌ أُسريٌّ يُهدِّدُ كيانَ الأُسرة، ويهدِمُ أركانَ البيت، وهل للبيت إلا رُكنان: الزوج والزوجة، والأبُ والأُمُّ؟!
معاشر الإخوة:
الطلاقُ من غير حاجةٍ حقيقيةٍ ولا أسبابٍ صحيحةٍ يُمثِّلُ مُشكلةً لا حلَّ لها؛ بل مُشكلةً مُتعدِّيةً لا تخُصُّ الطليقَين؛ بل تتعدَّى للأطفال، ثم أفراد الأُسرتين، ثم المُجتمع.
الطلاقُ المُتعجِّلُ فراقٌ لأُنسِ الصحبة والسَّكَن والسكينة والاستقرار، الخلافُ الناجِمُ عن الطلاق يتَّسِمُ بالعُنف والكراهية المُتبادَلة، ويُثيرُ المشاعِر العُدوانية بين الأطفال في فجوةٍ نفسيَّةٍ واسِعة تُباعِدُ بين الطفل وبين المُحيطين به يشعُرُ معها بعدم التقبُّل، والقُصُور، والإهمال، وفُقدان الحُبِّ والتقبُّل الأُسريِّ، وعدم الاهتمام بين الزملاء، مع الشعور بالحُزن والتشاؤُم، وعدم الشعور بقيمةِ الذات، والبُعد عن المُشارَكة والتفاعُل والتواصُل الاجتماعي، والفشل، الطفلُ يشعُرُ بالفشل وتأنيبِ الضمير ومُحاسَبةٍ داخليَّةٍ عنيفةٍ، وشعورٍ بالذنبِ والندَم يزيدُ في المُعاناة والعُزلة والانغِلاق.
الأولادُ في أُسرة الطليقين ينتمون إلى أُسرةٍ مُفكَّكةٍ مُتفرِّقة، الحنانُ فيها ضعيفٌ إن لم يكن مفقودًا، يفقِدون معه الأمن والحماية والاستِقرار؛ بل إنهم فرائِسُ صراع الوالدَيْن، سواءً بتجالُب الحضانة والرعاية، أو بتدافُعها والتخلِّي عنها.

وقد يسمعُ الأولادُ من أحد الوالدَيْن أو من كليهما في الآخر كلامًا غيرَ سديدٍ ولا حكيمٍ، مما يُفقِدُهم الثقةَ بأنفسهم ووالدَيْهم ومُجتمعهم، ومعلومٌ تأثيرُ ذلك كله على سُلُوكهم وتعامُلهم ودراساتهم وعلاقاتهم.
الوالِدان هما مدَدُ الأولاد بالعاطِفة والعقلانية والمُساعَدة في مسارات الحياة، ولا سيَّما في السنوات المُبكِّرة سنوات التنشِئة والتربية والتعليم، وبالانفِصال يفقِدُ الأولادُ التوجيهَ المُتَّزِن، ناهِيكم لما يتعرَّضُ له هؤلاء الأولاد من احتِمال الانحرافِ والجُنوحِ والوقوع في أحضان قُرناء السوء والبيئات الموبوءَة، والتخلُّف الدراسي، والأمراض النفسية، والتشرُّد، والمُخدِّرات، والتسوُّل، وانتشار الجريمة، وهي مُشكلاتٌ خطيرةٌ، وآثارٌ مُتعدِّيةٌ على المُجتمع كله.
أيها الأحِبَّة:
أما المرأةُ فإن ثقافة كثيرٍ من المُجتمعات فيها ثقافةٌ قاصِرة؛ بل خاطِئة، فالمُطلَقةُ عندهم مُدانةٌ في جميع الأحوال، تعودُ إلى البيت حاملةً مع متاعها جراحَها وآلامها ودموعها في مُعاناةٍ نفسيَّةٍ لا تكادُ تُطاق، هذه الثقافةُ الخاطِئة تُحاصِرُ المرأةَ المُطلَّقة بنظرةِ انتِقاصٍ ورَيبٍ، مما تشعُرُ معه أن السهامَ مُوجَّهةٌ إليها، يُشعِرونها بالذنبِ والفشلِ وخيبةِ الأمل، بل تشعُرُ وكأن المُجتمع يتنصَّلُ من مسؤوليته نحوَها ونحو أطفالها والحُنُوِّ عليهم.
وبعدُ، عباد الله:
فالطلاقُ على غير سُنَّةٍ بغيضٌ، يُولِّدُ حالةً نفسيَّةً كريهةً، ومُعاناةً أُسريَّةً ثقيلة، تنزِلُ بكلكَلِها على النفسِ والجسَدِ، فيهتزُّ الجسد، وينكسِرُ القلب، ويضيقُ الصدرُ، ويُحِسُّ صاحِبُه - رجلاً كان أو امرأة - بخيبةِ الأمل، والشعور بالقلق والنُّفرة.

حتى قالوا: إن الفراقَ بالطلاق أصعبُ منه بالموت، وإن كان كلاهما مُوجِعًا؛ لأن الفقدَ بالطلاق يُولِّدُ مُحاسبةً ورِيبةً ومسؤولية، أما الفراقُ بالموت فيُولِّدُ الحُزنَ والعطفَ والشفقةَ وألمَ الفراق، مع الحِفاظ على التوازُن النفسيِّ.
ألا فاتقوا اتلله - رحمكم الله -، وحافِظوا على بيوتكم وأولادكم وأُسَركم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[الطلاق: 1- 3].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله على سعة عطائه، والشكرُ له على جزيل آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ووحدانيته وصفاته وأسمائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه رفعَ له ذِكرَه في أرضِه وسمائه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأحِبَّائه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم لقائه.
أما بعد، أيها المسلمون:
الإسلامُ كرِه الطلاق ونفَّر منه، وفي الحديثِ: «ما أحلَّ اللهُ شيئًا أبغض إليه من الطلاقِ»؛ رواه أبو داود بإسنادٍ متصلٍ صحيحٍ عن معروف بن واصِل، عن مُحارِبٍ، عن دِثارٍ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا.
ولكن حين تكون الحاجةُ إليه فهو داءٌ مُرٌّ، أباحَه الإسلام بضوابطه؛ إذ الحياة الزوجية والمعيشة الأُسرية لا بُدَّ لها من أحد طريقين صالحين ناجِحين: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[البقرة: 229]، وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ[النساء: 130].
وكما أن سوء استِخدام الطلاق يُمثِّلُ مُشكلةً وأسى، فإن الإمساك بغير المعروف يُمثِّل ما هو أشدُّ وأقسى، الطلاقُ في الإسلام شُرِع ليكون فرَجًا ومخرَجًا وليس ضيقًا وشدَّة، حين تُسدُّ الطرقُ من المعالجة والإصلاح، وحين يتعذَّر تحقيقُ مقاصد الزواج القائمِ على المودَّة والسكَن والتعاوُن في الحياة، فإن الطلاق المُنضبِط بضوابطه الشرعية هو حلٌّ وليس مُشكلةً، لا يضيعُ أفرادُه، ولا يندَمُ فاعِلُه.
والإسلامُ حين شرعَ الطلاقَ وأباحَه نظَّمه تنظيمًا دقيقًا ليكون علاجًا ودواءً وحلاًّ، مُراعيًا المقاصِد الكُبرى من الاستِقرار والسعادة وحِفظ الكِيان، فالطلاقُ في الإسلام لا يكون إلا بعد استِنفاذِ وسائل الإصلاح والاستِصلاح، وحين تتعذَّرُ الحياةُ السعيدة والسكنُ والمودَّة.
الطلاقُ الحلُّ لا بُدَّ أن يسبِقَه مُمهِّداتٌ من التروِّي والمُراجَعة، والمُعالَجات من الوعظِ والهجرِ في المَضجَع، والتهديد من غير تعنيفٍ، والتحكيم، وإذا لم يُفِد ذلك كلُّه وصار التوجُّه إلى الطلاق فيُترقَّبُ طُهرٌ جديدٌ لم يقَع فيه مُعاشَرة، ثم بعد هذا الانتظار والترقُّب والتروِّي، ورُؤِيَ اللجوء إلى الطلاق فيكون طلاقًا رجعيًّا طلقةً واحِدةً.
الإسلامُ استبقَى مجالاً للحياة الزوجية بعد الطلاق لعلَّ مشاعِر المودَّة تعود، أعطى حقَّ الرجعةِ والمُراجَعة إذا كان الطلاقُ طلقةً واحِدةً أو طلقتين.
عباد الله:
وإذا حصلَ الطلاقُ وتمَّ الفِراق فليكن تسريحًا بإحسانٍ، كما أمرَ الله - عز وجل -، ومن الإحسانِ نسيانُ الهَفَوات، وتركُ تتبُّع العَثَرات، والصفحُ عن الزلاَّت، وقد بوَّب الإمام النسائيُّ في "سننه" في ذلك فقال: "بابُ النهي عن التِماس عثَرات النساء"، مُستدلاًّ - رحمه الله - بحديثِ: «نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يطرُقَ الرجلُ أهلَه ليلاً» - أي: يتخوَّنهم أو يتلمَّس عثَرَاتهم -؛ والحديثُ في البخاري.
هذا وهي في عِصمته؛ فكيف بعد الفِراق؟!
ومن التسريحِ بإحسانٍ: تجنُّب التجريحِ والقسوةِ وإظهار العُنف والشدَّة، فكفَى بالطلاق البَغيضِ قسوةً وعُسرًا، وقد سمَّاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كسرًا.
ومن التسريحِ بإحسانٍ: حِفظُ الأيام الجميلة، واللحظات الحانية، فهذا عقلٌ وحكمةٌ؛ بل بلسمٌ ودواءٌ يجبُرُ ألمَ الفُراق، ويُواسِي جراحَ الطلاق، وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ[البقرة: 237].
ومن التسريحِ بإحسانٍ: الإنفاقُ على الأولاد بسخاءٍ، سواءً كانوا في حضانة الأب أو الأم، ومع أن هذا واجبٌ ومسؤوليةٌ ولكنه كرمٌ وإحسانٌ ومُروءة.
يقول أيوب السختياني لأحد تلاميذه: "لو أعلمُ أن أبنائي يحتاجون إلى بَقلة ما جلستُ معكم ساعةً".
معاشر الأحِبَّة:
هذه بعضُ المُعالَجات والآداب في شؤون الأُسرة وتعامُلاتها، ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وأصلِحوا ذاتَ بينكم، فحقٌّ على الأهل والمعارِف وكلِّ ذي علاقةٍ أن يكون عونًا وسنَدًا ماديًّا ومعنويًّا ليُخفِّف أعباءَ الطلاق وتداعياتها وآثاره.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، وارحمنا يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك.
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[يونس: 85]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2012, 05:06 PM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

أسباب العقوبات العامة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "أسباب العقوبات العامة"، والتي تحدَّث فيها عن أسباب العقوبات العامة التي يُنزِلُها الله على الأمم، وذكر من أعظمها: الشرك بالله، والظلم، وانتشار الفواحِش، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأسباب، ودلَّل على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل لا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
ثم إن خيرَ الوصايا: الوصية بتقوى الله تعالى، فما جاوَرَت قلبًا إلا سلِم، ولا خالطَت عقلاً إلا رجِح، وما تلبَّس بها أحدٌ إلا صلح، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].


أيها المسلمون:
كل البشر يسعَون إلى الحياةِ الهانِئة السعيدة، ويُسخِّرون كل إمكاناتهم وطاقاتهم لتجنُّب أسباب الشقاء والعذاب؛ فضلاً عن الفناءِ والهلاكِ، فإذا تحقَّق لهم خيرٌ حافَظوا عليه بكل الوسائل وخافوا من فواته أو نقصِه.
وكم من أمةٍ كانت آمنةً مُطمئنَّةً تُجبَى إليها ثمراتُ كلِّ شيءٍ، ويأتيها رزقُها رغدًا من كل مكانٍ، لم يخفِق فيها قلبٌ من خوفٍ، ولم تتضوَّر نفسٌ من جوعٍ، فانقلبَت أحوالُها في طرفةِ عينٍ، فإذا بالنعمةِ تزول، وإذا بالعافيةِ تتحوَّل، وإذا بالنِّقمةِ تحِلُّ.
وكم حكَى الزمانُ عن دولٍ وأممٍ وأفرادٍ وجماعات أتَت عليهم عقوباتٍ تستأصِلُ شأفتَهم، وتمحُو أثرَهم، لا ينفعُ معها سلاحٌ ولا تُغني معها قوَّةٌ، وكلُّ أحدٍ من البشر له مدفعٌ ومنه حِيلة، ولا ملجأَ من ربِّنا ولا منجَا منه إلا إليه، فهو القويُّ القاهِر، والعزيزُ القادِر، وهو العظيمُ الذي لا أعظمَ منه.
ولله مع خلقهِ أيامٌ وسُنن؛ فأين ثمود وعاد؟ وأين الفراعِنةُ الشِّدادُ؟ أين من قدُّوا الأرضَ ونحَتوا الجبال، وحازوا أسباب القوة واحتاطوا للنوائِب؟ لما نسُوا اللهَ أوقعَ بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجودِ أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا، فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون[العنكبوت:40].
عباد الله:
إن سنةَ الله لا تُحابِي أحدًا، وليس لفردٍ ولا لمُجتمعٍ حصانةٌ ذاتيةٌ، وحين تُقصِّرُ أمةٌ في توقِّي أسباب المصائب العامة فإن عليها أن تتقبَّل نتيجةَ التقصير، والسعيدُ من اتَّعَظَ بغيره، وليست أمةٌ بمنأَى عن العذابِ إذا عقَدَت أسبابَه، ولا في مأمنٍ من العقابِ إن سلَكَت سبيلَه وفتحَت للذنبِ أبوابَه، ولذلك أكثرَ الله تعالى من وعظِ هذه الأمةِ بمصارعِ الأمم الغابِرة، وحذَّر الآمنين من مكرِه الذين لا يُقدِّرون اللهَ حقَّ قدره، ولا يقِفون عند نهيِه وأمرِه، فقال - عز وجل -: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيم، وقال - عز وجل -: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُون (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون[الأعراف: 97- 100].
إن الأمنَ من مكر اللهِ كبيرةٌ من الكبائِر؛ عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: "الكبائِرُ: الإشراكُ بالله، والأمنُ من مكرِ الله، والقنوطُ من رحمة الله، واليأسُ من روحِ الله"؛ رواه الطبراني والبيهقي.
ولهذا كان أعرفُ الخلقِ بربِّه وأخشاهم له - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، فسُئِل عن ذلك فقال: «ما يُؤمِّنُني أن يكون فيه عذابٌ، قد عُذِّبَ قومٌ بالريح، ورأى قومٌ العذابَ فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا[الأحقاف: 24]»؛ متفق عليه.
أيها المسلمون:
لقد أخبرَ - عليه الصلاة والسلام - عن أنواع المصائب التي كان يخشَى أن تنزل بأمَّته، وحذَّرَهم من أسبابِ نزولها، فقال: «يا معشر المُهاجِرين! خمسٌ إذا ابتُليتُم بهنَّ وأعوذُ بالله أن تُدرِكوهن: لم تظهر الفاحِشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فشَا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافِهم الذين مضَوا، ولم ينقُصوا المِكيالَ والميزانَ إلا أُخِذوا بالسنين وشِدَّة المَؤونَة وجَور السلطان عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا، ولم ينقُضوا عهدَ الله وعهدَ رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخَذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكُم أئمتُهم بكتابِ الله ويتخيَّروا مما أنزلَ اللهُ إلا جعلَ اللهُ بأسَهم بينهم»؛ أخرجه ابن ماجه، والحاكمُ وصحَّحه، ووافقَه الذهبيُّ.
فظهورُ الفاحِشةِ في واقعِ المُسلمين وفي وسائل الإعلام، والتطفيفُ في المُعاملات، ومنعُ الزكاةِ، وخِيانةُ الأمانة، ونقضُ العهود، وتحكيمُ الهوى ونبذُ الشريعة؛ تلك هي أكبرُ أسباب المصائب العامة التي إذا نزلَت بقومٍ لم يسلَم من وطأَتها أحدٌ.
ومن أسباب العقوبات العامة: ما أخبرَ عنه المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «في هذه الأمةِ خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ». فقال رجلٌ من المُسلمين: يا رسول الله! ومتى ذاك؟ قال: «إذا ظهرَت القَيناتُ والمعازِف، وشُرِبَت الخُمور»؛ رواه الترمذي.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "المسخُ واقعٌ في هذه الأمةِ ولا بُدّ، وهو في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلَبوا دينَ الله وشرعَه، فقلبَ الله تعالى صُورَهم كما قلَبوا دينَه، والمُجاهِرين المُتهتِّكين بالفسقِ والمحارِم، ومن لم يُمسَخ منهم في الدنيا مُسِخ في قبره أو يوم القيامة".
أيها المؤمنون:
إن المسؤولية في المُجتمع على كلِّ فردٍ فيه، وجاء الأمرُ باتقاءِ المصائب العامة مُوجَّهًا إلى كل أحدٍ، كلٌّ بحسَبِه، قال الله - عز وجل -: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً[الأنفال: 25].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أمرَ اللهُ المؤمنين ألا يُقِرُّوا المنكرَ بين ظهرانَيهم، فيعُمَّهم اللهُ بالعذابِ، يُصيبُ الصالحين منهم ما أصابَ الناسَ، يهلِكون مهلكًا واحِدًا، ويصدُرون مصادر شتَّى، يبعثُهم الله على نيَّاتهم".
عباد الله:
إن اتقاءَ هذه المصائب العامة لا يكونُ إلا بتوقِّي أسبابها، والظلمُ من أعظم أسباب العذاب العام، فبسببه هلَكَت الأممُ السالِفة والقرونُ الخالية، وبسببه تسقُط الدولُ، وتهلَك القُرى، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا[الكهف: 59]، وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِين[الأنبياء: 11].
والله - عز وجل - يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ ليُملِي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلِته، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد[هود: 102]»؛ أخرجه البخاري.
فاحذَروا ظلمَ العباد وهضمَ حقوق العُمَّال والضعفاء، فضلاً عن المظالمِ العامة التي يطالُ ضررُها الكثيرين.
ومن الظلمِ: خُذلان المظلوم والتخلِّي عن نُصرته؛ فإن ذلك مُؤذِنٌ بالعقوبة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخُذوا على يديه أوشكَ أن يعُمَّهم الله بعقابٍ»؛ أخرجه الترمذي، وقال: حديثٌ صحيحٌ.
وأشدُّ الظلمِ ما يُسبِّبُ فواتَ الدين أو النفسِ أو العرضِ أو المالِ.
أيها المؤمنون:
والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكر أمَنَةٌ من العذابِ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون[هود: 117]؛ فما أعظمَ بركةَ المُصلِحين، وما أقبحَ أثرَ الناسِ عليهم!
ومن سُنَّةِ اللهِ في عباده: أن المُنكَر إذا فشَا فيهم ولم يُغيِّروه فإن العقوبةَ تشملُهم والعذابَ يعُمُّهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ - عز وجل - لا يُعذِّبُ العامةَ بعملِ الخاصَّة حتى يرَوا المُنكَرَ بين ظهرانَيهم، وهو قادِرون على أن يُنكِروه فلا يُنكِروه، فإذا فعَلوا ذلك عذَّبَ اللهُ الخاصةَ والعامةَ»؛ أخرجه الإمام حمد، وحسَّنه الحافظُ ابن حجر.
وعن النعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثَلُ القائمِ على حُدود الله والواقعِ فيها كمثَل قومٍ اتَهَموا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلِها مرُّوا على من فوقَهم، فقالوا: لو أنَا خرَقنا في نصيبِنا خرقًا ولم نُؤذِ من فوقنا، فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعًا»؛ أخرجه البخاري.
وعن زينب بنت جحشٍ - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترَب، فُتِح اليوم من ردمِ يأجُوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه» - وحلَّقَ بأُصبعه الإبهام والتي تلِيها -. قالت زينبُ: فقلتُ: يا رسول الله! أنهلَكُ وفينا الصالِحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبَثُ»؛ متفق عليه، واللفظُ للبخاريِّ.
وأخرج الإمامُ أحمد، والترمذي وحسَّنه من حديثِ حُذيفةَ بن اليمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده؛ لتأمرنُّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المُنكَر، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدعُونَه فلا يُستجابُ لكم».
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ثم يقدِرون على أن يُغيِّروا ثم لا يُغيِّروا إلا يُوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ»؛ أخرجه الإمام أبو داود.
عباد الله:
ومن أسباب العقوبات العامة: كُفران النِّعم، وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون[النحل: 112]، الجوعُ والخوفُ شبَحٌ يُرعِبُ كلَّ الأحياء، ولقد قال: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِولم يقُل: كفَرَت باللهِ؛ ذلك أن كُفران النِّعَم سبب الجُوع والخوف، وسببُ الفتن والاضطرابِ في الأمن والمعايِش، وإنما تثبُت النعمةُ بشُكر المُنعِم.
وإن اللهَ تعالى أعطَى فأجزَل، وأنعمَ فتفضَّل، وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا[إبراهيم: 34]، وقد وعدَ - سبحانه - وأوعدَ، فقال - وهو القادِر -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد[إبراهيم: 7].
ومن كُفران النِّعَم: الإسرافُ والتبذيرُ، وإهانةُ الطعام، والطغيان، والتباهِي بما يجلِبُ سخطَ اللهِ ومقتَه.
أيها المسلمون:
ومن أسباب العقوبات العامة: الغفلةُ والإغراقُ في اللهو والعبَث؛ جاء في "المُسند" عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتَ اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو استِدراجٌ». ثم تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون[الأنعام: 44]».
قال الحسنُ - رحمه الله -: "مكِر بالقومِ - وربِّ الكعبة -، أُعطُوا حاجتهم ثم أُخِذوا".
وقال قتادة: "بغَتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذَ اللهُ قومًا قطُّ إلا عند سَكرتهم وغِرَّتهم ونِعمتهم".
فلا تغترُّوا باللهِ، إنه لا يغترُّ إلا القومُ الفاسِقون، وحاذِروا الترَفَ، والرُّكونَ إلى الدنيا والتسابُقَ فيها؛ فإنه الداءُ الذي أهلكَ الأممَ السابقة، وهو ما حذَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمتَه منه، حين حذَّرَها من فتنةِ الدنيا والتسابُق فيها، فقال: «فواللهِ ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن أخشَى أن تُبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطَت على من كان قبلَكم، فتنافَسُوها كما تنافَسُوها، وتُهلِكَكم كما أهلكَتهم»؛ متفق عليه.
وقال: «إني مما أخافُ عليكم من بعدي ما يُفتَحُ عليكم من زهرة الدنيا وزِينتها»؛ متفق عليه.
ومن أعظمِ أسباب العقوبات العامة: انتشارُ الفواحِش والزنا، وأسباب الفُسوق المُؤدِّية إليها، قال الله - عز وجل -: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء: 16]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لم تظهَر الفاحِشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فشَا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافهم الذين مضَوا»؛ أخرجه ابن ماجه، والحاكمُ وصحَّحه.
فحافِظوا على أمنِكم - أيها المؤمنون -، وحاذِروا غضبَ الجبَّار، وتوقَّوا أسبابَ غضبه لعلكم تتقُون.
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِهِ ومن تبِعَهم بإحسانٍ.
عباد الله:
والسببُ الذي ترجِعُ إليه كلُّ أسباب العقوبات العامة بعد الشركِ بالله: هو الذنوبُ والمعاصِي؛ فهي التي تُزيلُ النِّعَم، وتُحِلُّ النِّقَم، وتُحدِثُ في الأرضِ أنواعًا من الفساد في الماء والهواء، والزروعِ والثِّمارِ، والمساكِن والأرزاق، والأمنِ وسائرِ الأحوال، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون[الروم: 41]، وقال - سبحانه -: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين[الأنعام: 6]، وقال - سبحانه -: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ، وقال - عزَّ من قائلٍ -: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير[الشورى: 30].
وما المعاصي إلا خرابٌ للديارِ العامِرة، وسلبٌ للنِّعَم الظاهِرة والباطِنة، فبادِروا بالتوبةِ والاستِغفار؛ فذلك أمانٌ من العذابِ، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون[الأنفال: 33]، الاستِغفارُ سببٌ لرحمةِ الله ولُطفه، لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون[النمل: 46].
وكذا الإيمانُ والتقوى، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ[الأعراف: 96]، أما إذا غيَّر العبادُ أو بدَّلوا فإن سننَ الله لا تُحابِي.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نِقمتك، وجميعِ سخَطك.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى والرسول المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّق وليَّ عهده وسدِّده وأعِنْه على ما حُمِّل، واجعَله مُبارَكًا مُوفَّقًا لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ.
اللهم كُن لإخواننا في سُورية، اللهم أصلِح أحوالَهم، واحقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، يا حيُّ يا قيُّوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم عليك بأعداءِ الدين فإنهم لا يُعجِزونَك، اللهم عليك بالطُّغاة والظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميعُ الدعاء.
نستغفِرُ الله، نستغفِر الله، نستغفِرُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ ونتوبُ إليه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مُجلِّلاً عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2012, 05:12 PM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

تزكية النفوس وإصلاح القلوب
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان"تزكية النفوس وإصلاح القلوب"، والتي تحدَّث فيها عن تزكية النفوس وإصلاح القلوب، والطرق التي ينبغي على كل مسلمٍ سلوكها لتحصيل ذلك، مُستشهِدًا في ذلك بالآيات والأحاديث والأقوال والآثار عن السلف والعلماء.
الخطبة الأولى
الحمد لله العليِّ الأعلى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلقَ فسوَّى وقدَّر فهدَى، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله نبيُّ الرحمة والهُدى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الأئمةِ الأبرارِ النُّجَبَا، والتابعين ومن تبِعَهم إلى يوم البعثِ واللِّقاءِ والجَزَا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكرُوا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس: 34- 37].
عباد الله:
تزكيةُ النفوسِ وتقويمُها وإصلاحُ القلوبِ وتطهيرُها أملٌ سعَى إليه العُقلاء في كل الثقافات وفي كل الحضارات منذ أقدم العُصور، فسلكوا إلى بلوغه مسالك شتَّى، وشَرَعوا لأنفسهم مناهِج وطرائِق قِددًا، وحسِبُوا أن في أخذهم أنفُسهم بها إدراكَ المُنَى، وبلوغَ الآمال في الحَظوةِ بالحياة الطيبة والعَيشِ الهانِئِ السعيد.
فمن تعذيبٍ للجسد بأمورٍ وأعمال مُضنِيةٍ أسمَوها: رياضاتٍ ومُجاهَدات، إلى إغراقٍ في الشهوات، وانهِماكٍ في طلب اللذَّاتِ بإسرافٍ على النفسِ لا حُدود له، إلى عكوفٍ على مناهج فلسفيَّة وتأمُّلاتٍ قائمةٍ على شطَحَاتٍ وخيالاتٍ لا سنَدَ لها من واقعٍ، ولا ظهيرَ لها من عقلٍ، إلى غير ذلك من نزَعاتٍ وطرائِق لا يجِدُ فيها اللبيبُ ضالَّته، ولا يبلُغُ منها بُغيتَه.
غيرَ أن كل من أُوتي حظًّا من الإنصافِ، ونصيبًا من حُسن النظر والبصر بالأمور لا يجِدُ حرجًا في الإقرار بأن السعادةَ الحقَّة التي تطيبُ بها الدنيا، وتطمئنُّ بها القلوبُ، وتزكُو النفوسُ هي تلك التي يُبيِّنُها ويكشِفُ عن حقيقتها الكتابُ الحكيمُ والسنةُ الشريفةُ بأوضحِ العبارة وأدقِّها وأجمعِها في الدلالة على المقصود.
عباد الله:
لقد أرسلَ الله رُسُلَه، وأنزلَ كُتبَه ليُرشِدَ الناسَ إلى سُبُل تزكيةِ أنفسهم وإصلاحِ قلوبهم، وليُبيِّن لهم أن ذلك الأمر لن يتحقَّق إلا حين يُؤدُّون حقَّ الله عليهم في إخلاص العبودية له؛ إذ هي الغايةُ من خلقهِ لهم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات: 56- 58].
وقد جاء في كتاب الله وسنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانُ الطريقِ إلى هذه التزكية التي جعل اللهُ فلاحَ المرء مرهونًا بها، وجعل الخيبةَ والخُسران مرهونًا بضدِّها، وهو: التَّدسِيَة؛ أي: تخبيثُ وتلويثُ النفس وإفسادُها بالخطايا؛ فقال الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[الشمس: 7- 10]، وقال - عزَّ اسمُه -: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[الأعلى: 14، 15]، وقال - سبحانه - في خطابِ نبيِّه موسى - على نبيِّنا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام - حين أرسله إلى فرعون، قال: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى[النازعات: 17- 19].
وإن هذا الكتابَ المُبارَك - يا عباد الله - الذي جعله الله روحًا تحيا به القلوبُ، ونورًا تنجابُ به الظُّلُماتُ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الشورى: 52].
إن هذا الكتابَ ليُصرِّحُ أن أساسَ التزكية في الإسلام ورُوحها وعِمادَها ومِحورَها: توحيدُ الله تعالى، وحقيقتُه - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أن يشهدَ العبدُ انفرادَ الربِّ - تبارك وتعالى - بالخلق والحُكم، وأنه ما شاء كان، وما لم يشَأ لم يكُن، وأنه لا تتحرَّك ذرَّةٌ إلا بإذنه، وأن الخلقَ مقهورون تحت قبضَته، وأنه ما من قلبٍ إلا وهو بين أصبعين من أصابعه إن شاءَ أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاءَ أن يُزيغَه أزاغَه.
فالقلوبُ بيده، وهو مُقلِّبُها ومُصرِّفُها كيف شاءَ وكيف أراد، وأنه هو الذي آتَى نفوسَ المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكَّاها، وألهمَ نفوسَ الفُجَّار فُجورَها وأشقاها، من يهدِ الله فهو المُهتَد، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، يهدِي من يشاءُ بفضله ورحمته، ويُضِلُّ من يشاءُ بعدلهِ وحِكمته، هذا فضلُه وعطاؤُه، وما فضلُ الكريم بممنون، وهذا عدلُه وقضاؤه، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء: 23] ...
وفي هذا المشهَد يتحقَّقُ للعبدِ مقامُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة: 5] علمًا وحالاً، فيثبُتُ قدمُ العبدِ في توحيد الربوبية، ثم يرقَى منه صاعِدًا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقَّن أن الضُّرَّ والنفعَ والعطاءَ والمنعَ والهُدى والضلال والسعادةَ والشقاءَ، كل ذلك بيد الله لا بيدِ غيره، وأنه الذي يُقلِّبُ القلوبَ ويُصرِّفُها كيف يشاء، وأنه لا موفِّقَ إلا من وفَّقه وأعانَه، ولا مخذولَ إلا من خذلَه وأهانَه وتخلَّى عنه، وأن أصحَّ القلوبَ وأسلمَها وأقومَها وأرقَّها وأصفاها وأشدَّها وأليَنها: من اتخَذَه وحده إلهًا ومعبودًا، فكان أحبَّ إليه من كلِّ ما سِواه، وأخوفَ عنده من كل ما سِواه، وأرجَى له من كل ما سِواه.
فتتقدَّمُ محبَّتُه في قلبه جميعَ المحابِّ تبَعًا لها، كما ينساقُ الجيشُ تبَعًا للسلطان، ويتقدَّم خوفُه في قلبه جميعَ المخوفات، فتنساقُ المخاوِفُ كلها تبَعًا لخوفه - سبحانه -، ويتقدَّم رجاؤه في قلبه جميعَ الرجاء، فينساقُ كل رجاءٍ تبعًا لرجائه. فهذا علامةُ توحيد الإلهية في هذا القلب، والبابُ الذي دخلَ إليه منه هو توحيدُ الربوبية ...
والمقصود: أن العبدَ يحصُل له في هذا المشهد من مُطالَعة الجنايات والذنوب وجريانها عليه وعلى الخليلَ بمعونته، ولا وصول لمرضاته إلا بتوفيقه، فموارد الأمور كلها منه، ومصادِرها إليه، وأزِمَّةُ التوفيقِ جميعُها بيديه، فلا مُستعان للعباد إلا به، ولا مُتَّكَل إلا عليه، كما قال شُعيب - خطيبُ الأنبياء -: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[هود: 88]". اهـ كلامُه.
وإن أثرَ التوحيد في التزكية - يا عباد الله -؛ بل في حياة المسلم لَيبدو جلِيًّا في توحيد الهدَف والغاية واتفاقِ العلمِ والعمل، حتى يكون فهمُ المُسلم وعقيدتُه وعلمُه وعملُه وقصدُه واتجاهاتُ قلبه ونشاطُه مُنتظمًا في سلكٍ واحدٍ، مُتوافقٍ مُؤتلفٍ لا تعارُضَ فيه ولا تضارُب، ويرتفعُ عن كاهلِ الإنسان ذلك الضيقُ المُمِضُّ الذي يستشعِرُه حين تتعارَضُ في نفسه الأهداف، وتتناقضُ الأعمال.
ومما يُزكِّي النفوسَ - يا عباد الله -: تجيدُ الإيمان فيها على الدوام؛ إذ الإيمانُ يخلَقُ كما تخلَقُ الثياب، ولذا كان صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخُذ أحدُهم بيدِ الآخر فيقول: "تعالَ نُؤمنُ ساعةً"، فيجلِسان فيذكُران اللهَ تعالى.
وفي ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وطاعته والازدِلافِ إليه أعظمُ ما يُجدِّدُ الإيمان في نفس المؤمنِ الذي يعلمُ أن الإيمانَ يزيدُ بالطاعة، وينقُصُ بالمعصية، فيعملُ على زيادة إيمانه بصدقِ الالتِجاءِ إلى الله تعالى الذي تكونُ أظهرُ ثماره المُبارَكة تزكية النفوس، كما جاء في الدعاء النبوي الكريم: «اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها».
ومما يُزكِّي النفوس ويُصلِحُ القلبَ - يا عباد الله - أيضًا: دوامُ تذكُّر نعمِ الله التي أنعمَ بها على عباده، وإحصاؤُها خارجٌ عن مقدور البشر، كما قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[النحل: 18].
فإن هذا التذكُّر لهذا النعَمِ يُورِثُ الذاكِرَ لها كمال تعلُّقٍ بربِّه، وتمامَ توجُّهٍ إليه، وخضوعًا وتذلُّلاً له - سبحانه -؛ فإن كل ما وهبَهُ من حياةٍ وصحةٍ ومالٍ وولدٍ وجاهٍ وغيرها إنما هو منَّةٌ منه، وفضلٌ وإِنعامٌ أنعمَ به كيف ومتى شاء، ولو شاء لسلَبَ ذلك منه متى شاء؛ فإنه مالكُ الملكِ كلِّه، بيده الخيرُ يُؤتيه من يشاءُ، ويصرِفُه عمَّن يشاءُ، ومعرفةُ ذلك ودوامُ تذكُّره باعِثٌ على معرفةِ العبدِ بعجزه وضعفِه وافتِقاره إلى ربِّه في كل شؤُونه.
غيرَ أن تذكُّر النِّعَم لا بُدَّ من اقتِرانه بالعمل الذي يرضاه الله ويُحبُّه ويُثيبُ عليه يوم القيامة، وحقيقتُه: فعلُ الخيراتِ، وتركُ المُنكرات، على هُدًى من الله، ومُتابعةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع العنايةِ الخاصَّةِ بالفرائِض التي افترَضَها الله على عباده؛ إذ هي أحبُّ ما يتقرَّبُ به العبدُ إلى ربِّه، كما جاء في الحديثِ: «إن الله تعالى قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذنَّه»؛ أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ومما يُزكِّي النفسَ أيضًا - يا عباد الله -: أعمالُ القلوب؛ فإن القلبَ ملكُ الجوارِح تصلُح بصلاحه وتفسُد بفساده، كما جاء في الحديثِ: «ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلَحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسَدت فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديثِ النُّعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنه -.
ومن أهمِّها وأعظمِها: نيَّةُ المرء ومقصودُه من كلِّ عملٍ يعملُه، فقد قال رسول الهُدى - صلواتُ الله وسلامُه عليه -: «إنما الأعمالُ بالنيَّات، وإنما لكل امرئٍ ما نوَى؛ فمن كانت هِجرتُه إلى الله ورسولِه فهِجرتُه إلى الله ورسولِه، ومن كانت هِجرتُه لدُنيا يُصيبُها أو امرأةٍ ينكِحُها فهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
فاتقوا اللهَ - عباد الله -، واتخِذوا من كتاب ربِّكم وسنةِ نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - خير منهجٍ لتزكيةِ النفوسِ وإصلاحِ القلوبِ ابتغاءَ رِضوان الله على هُدًى من الله، وتأسِّيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واقتِفاءً لأثر الصفوةِ من عباد الله، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ[الزمر: 18].
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعَّال لما يُريد، أحمده - سبحانه - يخلُق ما يشاءُ ويفعلُ ما يُريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتَّقي بها نارًا حرُّها شديد، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله صاحبُ الخُلُق الراشدِ والنهجِ السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن النقصَ والتقصيرَ والخطأ لا ينفكُّ عنه إنسانٌ، ولا يسلَمُ منه إلا من عصمَه الله، ولذا جاء الأمرُ بالتوبة للناس جميعًا بقوله - سبحانه -: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31].
والتوبةُ - يا عباد الله - من أعظمِ أسباب التزكيةِ للنفس والإصلاحِ للقلبِ؛ فإن عبوديةَ التوبة - كما قال ابن القيم - يرحمه الله -: "من أحبِّ العبودياتِ إلى الله وأكرمِها عليه؛ فإنه - سبحانه - يحبُّ التوابين، ولو لم تكن التوبةُ أحبَّ الأشياء إليه لما ابتَلَى بالذنبِ أكرمَ الخلقِ عليه، فلمحبَّته لتوبةِ عبادهِ ابتلاه بالذنبِ الذي يُوجِبُ وقوعَ محبوبهِ من التوبةِ، وزيادةَ محبَّته لعبده؛ فإن للتوبة عنده - سبحانه - منزلةً ليست لغيرها من الطاعات، ولهذا يفرحُ - سبحانه - بتوبةِ عبده حين يتوبُ إليه أعظمَ فرحٍ يُقدَّمُ، كما مثَّلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بفرَحِ الواجدِ لراحِلَته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرضِ الدوِيَّةِ المُهلِكة بعدما فقدَها وأيِسَ من أسباب الحياة، ولم يجِئ هذا الفرحُ - يا عباد الله - في شيءٍ من الطاعاتِ سِوى التوبة.
ومعلومٌ أن لهذا الفرحِ تأثيرًا عظيمًا في حال التائبِ وقلبه، ومزيدُه لا يُعبَّر عنه، وهو من أسبابِ تقدير الذنوبِ على العباد؛ فإن العبدَ ينالُ بالتوبةِ درجةَ المحبوبيَّة فيصيرَ حبيبًا لله، فإن الله يُحبُّ التوابين، ويُحبُّ العبدَ المُفتَّن التوَّاب، ويُوضِّحُه: أن عبوديَّة التوبة فيها من الذلِّ والانكِسار والخُضوع والتملُّقِ لله والتذلُّل له ما هو أحبُّ إليه من كثيرٍ من الأعمال الظاهرة، وإن زادَت في القدرِ والكمية على عبودية التوبة، فإن الذلَّ والانكِسار روحُ العبودية ومُخُّها ولُبُّها.
يُوضِّحُ ذلك: أن حُصول مراتب الذلِّ والانكِسار للتائبِ أكملُ منها لغيره، فإنه قد شاركَ من لم يُذنِب في ذلِّ الفقر والعبوديةِ والمحبةِ، وامتازَ عنه بانكِسار قلبه، ولأجل هذا فإن أقربَ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجِدٌ، كما أخبرَ بذلك نبيُّ الرحمة والهُدى - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه مقامُ ذلٍّ وانكِسارٍ بين يدَي ربِّه.
ويُوضِّحُ ذلك: أن الذنبَ قد يكونُ أنفعَ للعبدِ إذا اقترنَت به التوبةُ من كثيرٍ من الطاعات؛ فإنه قد يعملُ الذنبَ فلا يزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعَد وإن مشَى ذكَر ذنبَه، فيُحدِثُ له انكِسارًا وتوبةً واستِغفارًا وندَمًا، فيكونُ ذلك سببَ نجاته، ويعملُ الحسنةَ فلا تزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعدَ وإن مشَى، كلما ذكَرَها أورثَتْه عُجبًا وكِبرًا ومِنَّة، فتكونُ سببَ هلاكِه.
فيكون الذنبُ مُوجِبًا لترتُّب طاعاتٍ وحسناتٍ ومُعاملاتٍ قلبيَّةٍ؛ من خوفِ الله والحياء منه، والإطراقِ بين يديه، مُنكِّسًا رأسَه، خجِلاً، باكِيًا، نادِمًا، مُستقيلاً ربَّه.
وكلُّ واحدٍ من هذه الآثار أنفعُ للعبد من طاعةٍ تُوجِبُ له صولةً وكِبرًا وازدِراءً للناس ورؤيتَهم بعين الاحتِقار، ولا ريبَ أن هذا المُذنِبَ خيرٌ عند الله وأقربُ إلى النجاةِ والفوزِ من هذا المُعجَبِ بطاعته، الصائلِ بها، المانِّ بها وبحاله على الله - عز وجل - وعباده". اهـ كلامُه.
ألا وإن عمادَ التزكيةِ التي تُورِثُ الحياةَ الطيبةَ في الدنيا، والفوزَ بعيشِ السُّعداءِ في الآخرةِ، وأساسُها ولُبُّها ورُوحُها: عبادةُ الله على بصيرةٍ، بألا يُعبَدَ - سبحانه - إلا بما شرَعه في كتابه، أو صحَّ به الخبرُ عن رسوله - عليه الصلاة والسلام -، وهذا يستلزِمُ الاستِمساك بسُنَّته - صلوات الله وسلامه عليه - والعضَّ عليها بالنواجِذ، كما جاء في حديثِ العِرباضِ بن ساريةَ - رضي الله عنه -، وفيه قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «.. إنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعيد، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه في "سننهم"، والحاكم، وابنُ حبان في "صحيحه".
وجاء في الحديثِ الذي أخرجه مُسلمٌ في "صحيحه"، والنسائيُّ - واللفظُ له - من حديثِ جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خُطبته: «نحمَدُ الله ونُثنِي عليه بما هو أهلُه»، ثم يقول: «من يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِي له، إن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار ..» الحديث.
وفي "الصحيحين" من حديثِ عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ». وفي لفظٍ لمُسلمٍ - رحمه الله -: «من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ». أي: مردودٌ على صاحبِه، غيرُ مرضِيٍّ ولا مقبولٍ عند الله.
وهذا الحديثُ العظيمُ - كما قال أهلُ العلمِ - قاعدةٌ جليلةٌ، وأصلٌ عظيمٌ في ردِّ الابتِداعِ وإبطال الإحداثِ في دين الله، يجبُ على كل لبيبٍ ناصحٍ لنفسه، مُريدٍ للخيرِ لها أن يضعَه نُصبَ عينيه.
وما أحسنَ قول الصحابيِّ الجليلِ حُذيفة بن اليَمان - رضي الله عنه - ناصِحًا به، ومُحذِّرًا أصحابَه القُرَّاء من مُجانَبة سبيل سلفِ الأمةِ وخِيارها، والتردِّي في ظُلمات البِدَع؛ حيث قال - رضي الله عنه -: "كلُّ عبادةٍ لم يتعبَّدها أصحابُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبَّدوها؛ فإن الأولَ لم يدَع للآخر مقالاً، فاتقوا الله - يا معشرَ القُرَّاء - وخُذوا طريقَ من قبلكم".
فاتقوا الله - عباد الله -، وحذارِ من الابتِداعِ في دين الله حَذَارِ.
وصلُّوا وسلِّموا على النبيِّ المُختار؛ فقد أمَرَكم بذلك ربُّكم بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.
اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد، يا من إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم احفَظ المُسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احفَظ المُسلمين في سُورية، اللهم احفَظ المُسلمين في سُورية، اللهم احفَظ المُسلمين في سُورية، وفي كل بلاد الإسلام يا رب العالمين، اللهم احقِن دماءهم، وكُن لهم، وارحَم عفَهم، واجبُر كسرَهم، واشفِ جرحاهم، وارحَم موتاهم يا رب العالمين، وقِهِم شرَّ الفتن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفتن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن يا رب العالمين.
اللهم آتِ نُفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2012, 05:16 PM   رقم المشاركة : 4

 

لتحذير من السَّفَه في العقل والمال
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التحذير من السَّفَه في العقل والمال"، والتي تحدَّث فيها عن السَّفَه ومعناه وصفات المُتخلِّقين به، وبيَّن خطورته، مُحذِّرًا من مغبَّته، مُستدلاًّ على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، ومن الواقع المُشاهَد.

الخطبة الأولى
الحمد لله العليِّ القدير، هو القاهرُ فوق عبادهِ ويُرسِلُ عليهم حفَظَةً، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[القصص: 70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، أرسلَه الله بالهُدى ودينِ الحقِّ ليُظهِرَه على الدينِ كلِّه ولو كرِهَ المُشرِكون، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولةَ لي ولكم - عباد الله - هي تقوى الله - سبحانه -؛ فهي سِلاحُ كلِّ مؤمنٍ، ودِثارُ كلِّ خائفٍ، وبُشرى كلِّ راغبٍ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة: 100].


أيها الناس:
يتفقُ الناسُ جميعًا مهما اختلَفَت مدارِكُهم أن العقلَ من أعظم نِعَم الله على العبدِ، به يميزُ الخبيثَ من الطيبِ، والزَّينَ من الشَّيْن، هو علامةٌ فارِقةٌ بين الآدميَّة وبين البهيميَّة والحجر الصَّلدِ، إنه لا يعرفُ قدرَ العقلِ إلا من وُهِبه، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[النحل: 78].
وإنه لا يعلمُ مقدارَ العقلِ إلا من رأى فاقِدَه أو فقِدَ الاستِنارةِ به، ومن وهبَه الله عقلاً لا أثرَ له في واقعِ حياته فهو كمثلِ الحِمارِ يحمِلُ أسفارًا، أو كالعِيسِ في البَيْدَاءِ يقتلُها الظَّمَأ والماءُ فوق ظُهورِها محمولٌ.
لقد تسلَّلَت الاِزدِواجيَّةُ والتَّضادُّ لدى كثيرٍ من العقول، وما ذاك إلا لاضطرابِ وسائل التلقِّي التي يتعارَكُ فيها الحقُّ والباطلُ، والزَّيْنُ والشَّيْنُ، في زمنٍ يتقدَّمُ الحقُّ فيه تارةً ويتسلَّلُ الباطلُ فيه تاراتٍ.
وإنه متى تسلَّل الخللُ إلى العقل لِواذًا فتجاذَبَته الخِفَّةُ والطَّيشُ والاضطرابُ في الرأيِ والفكرِ والأخلاق؛ فإنه السَّفَهُ ما مِنه بُدٌّ، والسفيهُ في مثل هذا: هو ظاهرُ الجهل خفيفُ اللُّبِّ، استمهَنَ عقلَه بالتقليدِ الأعمى، والإعراضِ عن النظرِ به خللٌ في تفكيره، وخللٌ في لسانه، وخللٌ في قلمه، وخللٌ في أخلاقه، يفِرُّ منه العُقلاءُ فِرارَ الصحيحِ من الأجربِ.
السَّفَهُ - عباد الله - ليس جنونًا ولا فُقدانًا للعقل؛ وإنما هو سوءُ استعمالٍ له أو تهميشُه عن أداء دوره الذي خُلِق له، فكلُّ صاحبِ عقلٍ سارَ مع مُرادِ الله ومُرادِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو العقلُ السلمُ، ومن ندَّ عن مُراد الله ومُراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو السَّفيهُ وإن كان عقلُه يفوقُ عقولَ الدُّهاة.
ومن هنا وصفَ الله - جل وعلا - بالسَّفَه كلَّ من عانَدَه أو ندَّ عن شِرعتِه ومِنهاجِه، كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ[البقرة: 13]، فوصفَهم بالسَّفَه مع كمال عقولهم ودهائِهم؛ لمُخالفتهم صِبغةَ الله، ولهذا توعَّد اللهُ كلَّ سفيهٍ لا يُعمِلُ عقلَه فيما يُرضِي اللهَ - سبحانه -، أو يُعمِلُه فيما لا يُرضِي الله، بقوله تعالى: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف: 179].
والسَّفَه - عباد الله - آفةٌ تعتري الإنسانَ في أموره الدينية وأموره الدنيوية؛ أما الأمور الدينية فيكونُ ذلك بمُحادَّة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم –، والنُّكوص عن شِرعة الله أو مُضادَّتها، أو الاستِهزاءِ بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو السخريةِ بشيءٍ من أمور الدين، أو التهوين من شأن الشريعة الإسلامية ووصفها بالتخلُّف أو النُّقصان أو عدم مُلاءمتها لواقع الحال، كلُّ ذلك سَفَهٌ وخَبالٌ، كما قال تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا[البقرة: 142]، فقد وصفَ الله هؤلاء المُعترِضِين بالسَّفَه؛ لأن العاقلَ لا يعترِضُ على الله ولا على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثمَّ يكون عزيزًا كريمًا، بخلاف المُعترِض فإنه يُصابُ بالذلِّ والصَّغار، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ[المجادلة: 20].
ولم يكن وصفُ السَّفَهِ - عباد الله - قاصرًا على مُعانَدة بعض سُفهاءِ الإنس تجاهَ دينهم ومتهم ومُجتمعهم، كلا؛ بل إن اللهَ - سبحانه - ذكرَ ذلك عن أمةِ الجنِّ أيضًا، وذلك بقولهم: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا[الجن: 4]؛ أي: يقول بُهتانًا وزُورًا.
فانظروا - يا رعاكم الله - كيف اتفقَت الجِنَّةُ والإنسُ على وصفِ من تخبَّطَ في أمور الدين، ولتَّ فيها وعجَنَ بغير هُدًى من الله أنه سَفيهٌ ليس من العُقلاء في وِرْدٍ ولا صَدَرٍ، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة: 130].
ولهذا - عباد الله - تكون مغبَّة السَّفَه في أمور الدين وخيمةً، فهي غيرُ قاصرةٍ على السفيهِ وحدَه؛ بل تعمُّ السفيهَ والعقلَ والمُجتمعَ كلَّه؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سُئِل: أنهلِكُ وفينا الصالِحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبَثُ».
ولهذا قال الله - جل وعلا -: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[الأنفال: 25]، فمن سَفَهِ السفيهِ أنه يجُرُّ الويلَ والهلاكَ لمُجتمعه جرَّاءَ سفَهِهِ وحماقاتِهِ، وما كان خوفُ موسى - عليه السلام - من السَّفَه في أمور الدين إلا خشيةَ أن تعُمَّهم العقوبةُ من الله، فكان كلامُ موسى لربِّه: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ[الأعراف: 155].
وأما السَّفَهُ في الأمور الدنيوية - عباد الله - فيكون في التصرُّف في المال بما يُخالِفُ شرعَ الله، أو بالتبذيرِ والإسرافِ فيه، ومن ذلكم: الاتِّجارُ والمُرابَحَة فيها بتهوُّرٍ وعدم استِحضارِ حُرمتها وحُرمةِ أصحابها، فهذا سَفَهٌ ووضعٌ للأمور في غيرِ موضعِها، ولهذا قال الله تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا[النساء: 5].
لقد كثُر السَّفَهُ في الأموال، فاستهانَ البعضُ بالحقوق وتصرَّفوا بأموال الناس بلا ذِمَّةٍ ولا أمانة، فاضطربَت الإِحَنُ والمُشاحَّةُ والدعاوَى، وكثُر الإعسارُ المُفاجِئُ، والخسائرُ المُتراكِمة، ونشأَت الفتنُ بين المُساهِمين والمُستثمرين، فبغَى بعضُهم على بعضٍ، ولعَنَ بعضُهم بعضًا، كلُّ ذلك بسببِ الطمعِ والجشَع، وضعفِ القناعَة المُولِّدة للسَّفَه الماليِّ؛ لأن للمال ثورةً كثورةِ الخَمرة تأخُذ شارِبَها حتى ينتشِي.
وجامِعُ الأمر في ذلكم: هو قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «من يأخُذ مالاً بحقِّه يُبارَك له فيه، ومن يأخُذ مالاً بغير حقِّه فمَثَلُه كمثَلِ الذي يأكلُ ولا يشبَع»؛ رواه مسلم.
فليتَّقِ اللهَ أولئك الذين استأمنَهم الناسُ على أموالهم، وليُرابِحُوا فيها بما أحلَّ الله، وألا يتهوَّروا ولا يُفرِّطوا، ولا يقعُوا في الرِّيبةِ والشُّبهَة، ولا يستغِلُّوا ثقةَ الناسِ بهم، وليذكُروا قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أخذَ أموالَ الناسِ يُريدُ أداءَها أدَّى اللهُ عنه، ومن أخذَها يُريدُ إتلافَها أتلفَه الله»؛ رواه البخاري.
ثم إن من السَّفَه - يا رعاكم الله -: قتلَ النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وكلما ازدادَ المرءُ قتلاً ازدادَ سَفَهًا، وإن تعجَبوا - عباد الله - فعَجَبٌ سَفَهُ من يقتُلون شُعُوبَهم وبني جِلدَتهم ممن وصفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمثالَهم بأنهم سُفهاءُ الأحلام، ومن أفعالهم: أنهم يقتُلون أهلَ الإسلام، ويدَعُونَ أهلَ الأوثان، كما يجري لبعضِ إخواننا ممن قُتِلوا وعُذِّبُوا سَفَهًا بغير علم، وكم هي الحالُ المُؤرِّقةُ مع إخواننا في سورية والذين يُواجِهون أشدَّ أنواعِ الجَور والقتل والوحشية التي لا يرضاه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُقِرُّها دينٌ ولا مِلَّةٌ ولا عُرْفٌ، قتلٌ وغدرٌ وعِنادٌ، وكلما قيل لهم: اتقوا الله ولِينوا بأيدي إخوانكم، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وتأبَّطوا أسلحتَهم، وأصرُّوا واستكبَروا استِكبارًا.
وأمثالُ هؤلاء يصدُقُ فيهم قولُ ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -: "إذا سرَّك أن تعلمَ جهلَ العربِ فاقر قولَ الله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ[الأنعام: 140]"؛ رواه البخاري.
وبهذا المُناسَبة فإن الشكرَ موصولٌ لكل من كانت له يدٌ طُولَى في الإنكار على أولئك؛ من حكوماتٍ، وقادة، وعلماء، ومُفكِّرين، وشُعوب، وأخُصُّ منهم: الدول التي سحَبَت سُفراءَها، ووقفَت ضدَّ الظلم والعُدوان، ومنهم: هذه البلاد بقيادتها.
فإلى مزيدٍ من الجهود وممارسة تضييق الخِناقِ ضدَّ هذا التصعيدِ السَّفيه في نَزيفِ الدماء، وجمعِ الكلمة في اتخاذ خُطواتٍ مُتقدمةٍ تكون كفيلةً في حقنِ الدماءِ ورفع القتلِ والظلمِ.
بارَكَ الله في الجهود، وسدَّد الخُطى، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، وأُصلِّي وأُسلِّمُ على عبده ورسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن المُجتمعات الجادَّة الواعِية هي تلكم المُجتمعات التي تُحسِنُ التعامُل المُتكامِل، وتلمَّسُ مواقعَ الخللِ لدى بنِيها والمُنتَمين إليها؛ لتشكُر الناجِح وتُكرّمه، ولتُصلِح المُتعثِّر وتُقوِّمه، ومن ذلكم: أخذُها على أيدي سُفَهائِها، وإصلاح شأنهم، والقضاء على مظانِّ السَّفَه لئلا تغرقَ سفينةُ المُجتمع الماخِرة بقضِّها وقضيضِها.
السَّفيهُ آفةٌ في المُجتمع عالةٌ عليه؛ لأنه لا يعرفُ متى يجبُ أن يتكلَّم ولا متى يجبُ أن يسكُت.
السَّفيهُ يتطفَّلُ على كلِّ شيءٍ، ويتكلَّم ويهرِفُ في كل شيءٍ.
السَّفيهُ هو الرُّويبِضَةُ الذي يتكلَّمُ في أمرِ العامَّة، وينصِبُ نفسَه نِدًّا لذوي العلمِ والاختِصاصِ.
السَّفيهُ يسبِقُ طيشُه عقلَه، وغضبُه حلمَه، وغفلتُه يقظتَه، لا تزيدُه المُجاراةُ إلا هذَرًا، ولا المُداراةُ إلا بطَرًا، ولا أمانُ العقوبةِ لا هرَفًا وتماديًا.
وأما السَّفيهُ في الأخلاقِ فدواؤُه السكوتُ، ومُتاركتُه بلا جوابٍ أشدُّ عليه من الجوابِ في الغالبِ، سفيهُ الخُلُق إذا ردَدتَ عليه فرَّجتَ عنه، وإذا خلَّيتَه فإنه يموتُ كمَدًا، قال عنه الشافعيُّ - رحمه الله -:
يُخاطِبُني السَّفيهُ بكلِّ قُبحٍ
وأكرَهُ أن أكون له مُجيبًا
يزيدُ سفاهةً وأزيدُ حِلمًا
كعودٍ زادَه الإحراقُ طِيبًا
فالسَّفيهُ - عباد الله - كالضَّرعِ إن حلبتَه درَّ، وإن تركتَه قرَّ.
وقد كان عُميرُ بن حبيبٍ ممن أدركَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقولُ لبَنِيه: بنِيَّ! إياكم والسُّفهاء؛ فن مُجالستهم داءٌ، من يحلُم عن السَّفيه يُسَرُّ، ومن يُجِبْهُ يندَمُ، ومن لا يرضَى بالقليلِ مما يأت به السَّفيهُ يرضَى بالكثيرِ.
ولا خيرَ في عقلٍ إذا العلمُ غائبٌ
ولا خيرَ في علمٍ يكونُ بلا عقلِ
فلا بُدَّ من علمٍ وعقلٍ كلاهُما
يصُدَّان عنَّا ذا السَّفاهَةِ والجهلِ
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56]، وقال - صلواتُ الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها شرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمُشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في سُوريا، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في سُوريا، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، اللهم اشفِ مرضاهم، وفُكَّ أسراهم، وارحم موتاهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللم شأن من ظلمَهم في سِفال، وأمرَه في وبالٍ، يا حيُّ يا قيُّوم يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2012, 05:25 PM   رقم المشاركة : 5

 

أسباب العقوبات العامة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "أسباب العقوبات العامة"، والتي تحدَّث فيها عن أسباب العقوبات العامة التي يُنزِلُها الله على الأمم، وذكر من أعظمها: الشرك بالله، والظلم، وانتشار الفواحِش، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأسباب، ودلَّل على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل لا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
ثم إن خيرَ الوصايا: الوصية بتقوى الله تعالى، فما جاوَرَت قلبًا إلا سلِم، ولا خالطَت عقلاً إلا رجِح، وما تلبَّس بها أحدٌ إلا صلح، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].


أيها المسلمون:
كل البشر يسعَون إلى الحياةِ الهانِئة السعيدة، ويُسخِّرون كل إمكاناتهم وطاقاتهم لتجنُّب أسباب الشقاء والعذاب؛ فضلاً عن الفناءِ والهلاكِ، فإذا تحقَّق لهم خيرٌ حافَظوا عليه بكل الوسائل وخافوا من فواته أو نقصِه.
وكم من أمةٍ كانت آمنةً مُطمئنَّةً تُجبَى إليها ثمراتُ كلِّ شيءٍ، ويأتيها رزقُها رغدًا من كل مكانٍ، لم يخفِق فيها قلبٌ من خوفٍ، ولم تتضوَّر نفسٌ من جوعٍ، فانقلبَت أحوالُها في طرفةِ عينٍ، فإذا بالنعمةِ تزول، وإذا بالعافيةِ تتحوَّل، وإذا بالنِّقمةِ تحِلُّ.
وكم حكَى الزمانُ عن دولٍ وأممٍ وأفرادٍ وجماعات أتَت عليهم عقوباتٍ تستأصِلُ شأفتَهم، وتمحُو أثرَهم، لا ينفعُ معها سلاحٌ ولا تُغني معها قوَّةٌ، وكلُّ أحدٍ من البشر له مدفعٌ ومنه حِيلة، ولا ملجأَ من ربِّنا ولا منجَا منه إلا إليه، فهو القويُّ القاهِر، والعزيزُ القادِر، وهو العظيمُ الذي لا أعظمَ منه.
ولله مع خلقهِ أيامٌ وسُنن؛ فأين ثمود وعاد؟ وأين الفراعِنةُ الشِّدادُ؟ أين من قدُّوا الأرضَ ونحَتوا الجبال، وحازوا أسباب القوة واحتاطوا للنوائِب؟ لما نسُوا اللهَ أوقعَ بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجودِ أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا، فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون[العنكبوت:40].
عباد الله:
إن سنةَ الله لا تُحابِي أحدًا، وليس لفردٍ ولا لمُجتمعٍ حصانةٌ ذاتيةٌ، وحين تُقصِّرُ أمةٌ في توقِّي أسباب المصائب العامة فإن عليها أن تتقبَّل نتيجةَ التقصير، والسعيدُ من اتَّعَظَ بغيره، وليست أمةٌ بمنأَى عن العذابِ إذا عقَدَت أسبابَه، ولا في مأمنٍ من العقابِ إن سلَكَت سبيلَه وفتحَت للذنبِ أبوابَه، ولذلك أكثرَ الله تعالى من وعظِ هذه الأمةِ بمصارعِ الأمم الغابِرة، وحذَّر الآمنين من مكرِه الذين لا يُقدِّرون اللهَ حقَّ قدره، ولا يقِفون عند نهيِه وأمرِه، فقال - عز وجل -: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيم، وقال - عز وجل -: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُون (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون[الأعراف: 97- 100].
إن الأمنَ من مكر اللهِ كبيرةٌ من الكبائِر؛ عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: "الكبائِرُ: الإشراكُ بالله، والأمنُ من مكرِ الله، والقنوطُ من رحمة الله، واليأسُ من روحِ الله"؛ رواه الطبراني والبيهقي.
ولهذا كان أعرفُ الخلقِ بربِّه وأخشاهم له - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، فسُئِل عن ذلك فقال: «ما يُؤمِّنُني أن يكون فيه عذابٌ، قد عُذِّبَ قومٌ بالريح، ورأى قومٌ العذابَ فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا[الأحقاف: 24]»؛ متفق عليه.
أيها المسلمون:
لقد أخبرَ - عليه الصلاة والسلام - عن أنواع المصائب التي كان يخشَى أن تنزل بأمَّته، وحذَّرَهم من أسبابِ نزولها، فقال: «يا معشر المُهاجِرين! خمسٌ إذا ابتُليتُم بهنَّ وأعوذُ بالله أن تُدرِكوهن: لم تظهر الفاحِشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فشَا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافِهم الذين مضَوا، ولم ينقُصوا المِكيالَ والميزانَ إلا أُخِذوا بالسنين وشِدَّة المَؤونَة وجَور السلطان عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا، ولم ينقُضوا عهدَ الله وعهدَ رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخَذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكُم أئمتُهم بكتابِ الله ويتخيَّروا مما أنزلَ اللهُ إلا جعلَ اللهُ بأسَهم بينهم»؛ أخرجه ابن ماجه، والحاكمُ وصحَّحه، ووافقَه الذهبيُّ.
فظهورُ الفاحِشةِ في واقعِ المُسلمين وفي وسائل الإعلام، والتطفيفُ في المُعاملات، ومنعُ الزكاةِ، وخِيانةُ الأمانة، ونقضُ العهود، وتحكيمُ الهوى ونبذُ الشريعة؛ تلك هي أكبرُ أسباب المصائب العامة التي إذا نزلَت بقومٍ لم يسلَم من وطأَتها أحدٌ.
ومن أسباب العقوبات العامة: ما أخبرَ عنه المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «في هذه الأمةِ خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ». فقال رجلٌ من المُسلمين: يا رسول الله! ومتى ذاك؟ قال: «إذا ظهرَت القَيناتُ والمعازِف، وشُرِبَت الخُمور»؛ رواه الترمذي.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "المسخُ واقعٌ في هذه الأمةِ ولا بُدّ، وهو في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلَبوا دينَ الله وشرعَه، فقلبَ الله تعالى صُورَهم كما قلَبوا دينَه، والمُجاهِرين المُتهتِّكين بالفسقِ والمحارِم، ومن لم يُمسَخ منهم في الدنيا مُسِخ في قبره أو يوم القيامة".
أيها المؤمنون:
إن المسؤولية في المُجتمع على كلِّ فردٍ فيه، وجاء الأمرُ باتقاءِ المصائب العامة مُوجَّهًا إلى كل أحدٍ، كلٌّ بحسَبِه، قال الله - عز وجل -: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً[الأنفال: 25].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أمرَ اللهُ المؤمنين ألا يُقِرُّوا المنكرَ بين ظهرانَيهم، فيعُمَّهم اللهُ بالعذابِ، يُصيبُ الصالحين منهم ما أصابَ الناسَ، يهلِكون مهلكًا واحِدًا، ويصدُرون مصادر شتَّى، يبعثُهم الله على نيَّاتهم".
عباد الله:
إن اتقاءَ هذه المصائب العامة لا يكونُ إلا بتوقِّي أسبابها، والظلمُ من أعظم أسباب العذاب العام، فبسببه هلَكَت الأممُ السالِفة والقرونُ الخالية، وبسببه تسقُط الدولُ، وتهلَك القُرى، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا[الكهف: 59]، وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِين[الأنبياء: 11].
والله - عز وجل - يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ ليُملِي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلِته، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد[هود: 102]»؛ أخرجه البخاري.
فاحذَروا ظلمَ العباد وهضمَ حقوق العُمَّال والضعفاء، فضلاً عن المظالمِ العامة التي يطالُ ضررُها الكثيرين.
ومن الظلمِ: خُذلان المظلوم والتخلِّي عن نُصرته؛ فإن ذلك مُؤذِنٌ بالعقوبة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخُذوا على يديه أوشكَ أن يعُمَّهم الله بعقابٍ»؛ أخرجه الترمذي، وقال: حديثٌ صحيحٌ.
وأشدُّ الظلمِ ما يُسبِّبُ فواتَ الدين أو النفسِ أو العرضِ أو المالِ.
أيها المؤمنون:
والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكر أمَنَةٌ من العذابِ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون[هود: 117]؛ فما أعظمَ بركةَ المُصلِحين، وما أقبحَ أثرَ الناسِ عليهم!
ومن سُنَّةِ اللهِ في عباده: أن المُنكَر إذا فشَا فيهم ولم يُغيِّروه فإن العقوبةَ تشملُهم والعذابَ يعُمُّهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ - عز وجل - لا يُعذِّبُ العامةَ بعملِ الخاصَّة حتى يرَوا المُنكَرَ بين ظهرانَيهم، وهو قادِرون على أن يُنكِروه فلا يُنكِروه، فإذا فعَلوا ذلك عذَّبَ اللهُ الخاصةَ والعامةَ»؛ أخرجه الإمام حمد، وحسَّنه الحافظُ ابن حجر.
وعن النعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثَلُ القائمِ على حُدود الله والواقعِ فيها كمثَل قومٍ اتَهَموا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلِها مرُّوا على من فوقَهم، فقالوا: لو أنَا خرَقنا في نصيبِنا خرقًا ولم نُؤذِ من فوقنا، فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعًا»؛ أخرجه البخاري.
وعن زينب بنت جحشٍ - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترَب، فُتِح اليوم من ردمِ يأجُوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه» - وحلَّقَ بأُصبعه الإبهام والتي تلِيها -. قالت زينبُ: فقلتُ: يا رسول الله! أنهلَكُ وفينا الصالِحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبَثُ»؛ متفق عليه، واللفظُ للبخاريِّ.
وأخرج الإمامُ أحمد، والترمذي وحسَّنه من حديثِ حُذيفةَ بن اليمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده؛ لتأمرنُّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المُنكَر، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدعُونَه فلا يُستجابُ لكم».
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ثم يقدِرون على أن يُغيِّروا ثم لا يُغيِّروا إلا يُوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ»؛ أخرجه الإمام أبو داود.
عباد الله:
ومن أسباب العقوبات العامة: كُفران النِّعم، وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون[النحل: 112]، الجوعُ والخوفُ شبَحٌ يُرعِبُ كلَّ الأحياء، ولقد قال: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِولم يقُل: كفَرَت باللهِ؛ ذلك أن كُفران النِّعَم سبب الجُوع والخوف، وسببُ الفتن والاضطرابِ في الأمن والمعايِش، وإنما تثبُت النعمةُ بشُكر المُنعِم.
وإن اللهَ تعالى أعطَى فأجزَل، وأنعمَ فتفضَّل، وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا[إبراهيم: 34]، وقد وعدَ - سبحانه - وأوعدَ، فقال - وهو القادِر -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد[إبراهيم: 7].
ومن كُفران النِّعَم: الإسرافُ والتبذيرُ، وإهانةُ الطعام، والطغيان، والتباهِي بما يجلِبُ سخطَ اللهِ ومقتَه.
أيها المسلمون:
ومن أسباب العقوبات العامة: الغفلةُ والإغراقُ في اللهو والعبَث؛ جاء في "المُسند" عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتَ اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو استِدراجٌ». ثم تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون[الأنعام: 44]».
قال الحسنُ - رحمه الله -: "مكِر بالقومِ - وربِّ الكعبة -، أُعطُوا حاجتهم ثم أُخِذوا".
وقال قتادة: "بغَتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذَ اللهُ قومًا قطُّ إلا عند سَكرتهم وغِرَّتهم ونِعمتهم".
فلا تغترُّوا باللهِ، إنه لا يغترُّ إلا القومُ الفاسِقون، وحاذِروا الترَفَ، والرُّكونَ إلى الدنيا والتسابُقَ فيها؛ فإنه الداءُ الذي أهلكَ الأممَ السابقة، وهو ما حذَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمتَه منه، حين حذَّرَها من فتنةِ الدنيا والتسابُق فيها، فقال: «فواللهِ ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن أخشَى أن تُبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطَت على من كان قبلَكم، فتنافَسُوها كما تنافَسُوها، وتُهلِكَكم كما أهلكَتهم»؛ متفق عليه.
وقال: «إني مما أخافُ عليكم من بعدي ما يُفتَحُ عليكم من زهرة الدنيا وزِينتها»؛ متفق عليه.
ومن أعظمِ أسباب العقوبات العامة: انتشارُ الفواحِش والزنا، وأسباب الفُسوق المُؤدِّية إليها، قال الله - عز وجل -: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء: 16]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لم تظهَر الفاحِشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فشَا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافهم الذين مضَوا»؛ أخرجه ابن ماجه، والحاكمُ وصحَّحه.
فحافِظوا على أمنِكم - أيها المؤمنون -، وحاذِروا غضبَ الجبَّار، وتوقَّوا أسبابَ غضبه لعلكم تتقُون.
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِهِ ومن تبِعَهم بإحسانٍ.
عباد الله:
والسببُ الذي ترجِعُ إليه كلُّ أسباب العقوبات العامة بعد الشركِ بالله: هو الذنوبُ والمعاصِي؛ فهي التي تُزيلُ النِّعَم، وتُحِلُّ النِّقَم، وتُحدِثُ في الأرضِ أنواعًا من الفساد في الماء والهواء، والزروعِ والثِّمارِ، والمساكِن والأرزاق، والأمنِ وسائرِ الأحوال، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون[الروم: 41]، وقال - سبحانه -: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين[الأنعام: 6]، وقال - سبحانه -: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ، وقال - عزَّ من قائلٍ -: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير[الشورى: 30].
وما المعاصي إلا خرابٌ للديارِ العامِرة، وسلبٌ للنِّعَم الظاهِرة والباطِنة، فبادِروا بالتوبةِ والاستِغفار؛ فذلك أمانٌ من العذابِ، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون[الأنفال: 33]، الاستِغفارُ سببٌ لرحمةِ الله ولُطفه، لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون[النمل: 46].
وكذا الإيمانُ والتقوى، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ[الأعراف: 96]، أما إذا غيَّر العبادُ أو بدَّلوا فإن سننَ الله لا تُحابِي.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نِقمتك، وجميعِ سخَطك.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى والرسول المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّق وليَّ عهده وسدِّده وأعِنْه على ما حُمِّل، واجعَله مُبارَكًا مُوفَّقًا لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ.
اللهم كُن لإخواننا في سُورية، اللهم أصلِح أحوالَهم، واحقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، يا حيُّ يا قيُّوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم عليك بأعداءِ الدين فإنهم لا يُعجِزونَك، اللهم عليك بالطُّغاة والظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميعُ الدعاء.
نستغفِرُ الله، نستغفِر الله، نستغفِرُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ ونتوبُ إليه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مُجلِّلاً عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2012, 05:35 PM   رقم المشاركة : 6

 

لتحذير من السَّفَه في العقل والمال
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التحذير من السَّفَه في العقل والمال"، والتي تحدَّث فيها عن السَّفَه ومعناه وصفات المُتخلِّقين به، وبيَّن خطورته، مُحذِّرًا من مغبَّته، مُستدلاًّ على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، ومن الواقع المُشاهَد.

الخطبة الأولى
الحمد لله العليِّ القدير، هو القاهرُ فوق عبادهِ ويُرسِلُ عليهم حفَظَةً، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[القصص: 70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، أرسلَه الله بالهُدى ودينِ الحقِّ ليُظهِرَه على الدينِ كلِّه ولو كرِهَ المُشرِكون، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولةَ لي ولكم - عباد الله - هي تقوى الله - سبحانه -؛ فهي سِلاحُ كلِّ مؤمنٍ، ودِثارُ كلِّ خائفٍ، وبُشرى كلِّ راغبٍ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة: 100].


أيها الناس:
يتفقُ الناسُ جميعًا مهما اختلَفَت مدارِكُهم أن العقلَ من أعظم نِعَم الله على العبدِ، به يميزُ الخبيثَ من الطيبِ، والزَّينَ من الشَّيْن، هو علامةٌ فارِقةٌ بين الآدميَّة وبين البهيميَّة والحجر الصَّلدِ، إنه لا يعرفُ قدرَ العقلِ إلا من وُهِبه، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[النحل: 78].
وإنه لا يعلمُ مقدارَ العقلِ إلا من رأى فاقِدَه أو فقِدَ الاستِنارةِ به، ومن وهبَه الله عقلاً لا أثرَ له في واقعِ حياته فهو كمثلِ الحِمارِ يحمِلُ أسفارًا، أو كالعِيسِ في البَيْدَاءِ يقتلُها الظَّمَأ والماءُ فوق ظُهورِها محمولٌ.
لقد تسلَّلَت الاِزدِواجيَّةُ والتَّضادُّ لدى كثيرٍ من العقول، وما ذاك إلا لاضطرابِ وسائل التلقِّي التي يتعارَكُ فيها الحقُّ والباطلُ، والزَّيْنُ والشَّيْنُ، في زمنٍ يتقدَّمُ الحقُّ فيه تارةً ويتسلَّلُ الباطلُ فيه تاراتٍ.
وإنه متى تسلَّل الخللُ إلى العقل لِواذًا فتجاذَبَته الخِفَّةُ والطَّيشُ والاضطرابُ في الرأيِ والفكرِ والأخلاق؛ فإنه السَّفَهُ ما مِنه بُدٌّ، والسفيهُ في مثل هذا: هو ظاهرُ الجهل خفيفُ اللُّبِّ، استمهَنَ عقلَه بالتقليدِ الأعمى، والإعراضِ عن النظرِ به خللٌ في تفكيره، وخللٌ في لسانه، وخللٌ في قلمه، وخللٌ في أخلاقه، يفِرُّ منه العُقلاءُ فِرارَ الصحيحِ من الأجربِ.
السَّفَهُ - عباد الله - ليس جنونًا ولا فُقدانًا للعقل؛ وإنما هو سوءُ استعمالٍ له أو تهميشُه عن أداء دوره الذي خُلِق له، فكلُّ صاحبِ عقلٍ سارَ مع مُرادِ الله ومُرادِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو العقلُ السلمُ، ومن ندَّ عن مُراد الله ومُراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو السَّفيهُ وإن كان عقلُه يفوقُ عقولَ الدُّهاة.
ومن هنا وصفَ الله - جل وعلا - بالسَّفَه كلَّ من عانَدَه أو ندَّ عن شِرعتِه ومِنهاجِه، كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ[البقرة: 13]، فوصفَهم بالسَّفَه مع كمال عقولهم ودهائِهم؛ لمُخالفتهم صِبغةَ الله، ولهذا توعَّد اللهُ كلَّ سفيهٍ لا يُعمِلُ عقلَه فيما يُرضِي اللهَ - سبحانه -، أو يُعمِلُه فيما لا يُرضِي الله، بقوله تعالى: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف: 179].
والسَّفَه - عباد الله - آفةٌ تعتري الإنسانَ في أموره الدينية وأموره الدنيوية؛ أما الأمور الدينية فيكونُ ذلك بمُحادَّة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم –، والنُّكوص عن شِرعة الله أو مُضادَّتها، أو الاستِهزاءِ بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو السخريةِ بشيءٍ من أمور الدين، أو التهوين من شأن الشريعة الإسلامية ووصفها بالتخلُّف أو النُّقصان أو عدم مُلاءمتها لواقع الحال، كلُّ ذلك سَفَهٌ وخَبالٌ، كما قال تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا[البقرة: 142]، فقد وصفَ الله هؤلاء المُعترِضِين بالسَّفَه؛ لأن العاقلَ لا يعترِضُ على الله ولا على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثمَّ يكون عزيزًا كريمًا، بخلاف المُعترِض فإنه يُصابُ بالذلِّ والصَّغار، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ[المجادلة: 20].
ولم يكن وصفُ السَّفَهِ - عباد الله - قاصرًا على مُعانَدة بعض سُفهاءِ الإنس تجاهَ دينهم ومتهم ومُجتمعهم، كلا؛ بل إن اللهَ - سبحانه - ذكرَ ذلك عن أمةِ الجنِّ أيضًا، وذلك بقولهم: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا[الجن: 4]؛ أي: يقول بُهتانًا وزُورًا.
فانظروا - يا رعاكم الله - كيف اتفقَت الجِنَّةُ والإنسُ على وصفِ من تخبَّطَ في أمور الدين، ولتَّ فيها وعجَنَ بغير هُدًى من الله أنه سَفيهٌ ليس من العُقلاء في وِرْدٍ ولا صَدَرٍ، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة: 130].
ولهذا - عباد الله - تكون مغبَّة السَّفَه في أمور الدين وخيمةً، فهي غيرُ قاصرةٍ على السفيهِ وحدَه؛ بل تعمُّ السفيهَ والعقلَ والمُجتمعَ كلَّه؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سُئِل: أنهلِكُ وفينا الصالِحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبَثُ».
ولهذا قال الله - جل وعلا -: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[الأنفال: 25]، فمن سَفَهِ السفيهِ أنه يجُرُّ الويلَ والهلاكَ لمُجتمعه جرَّاءَ سفَهِهِ وحماقاتِهِ، وما كان خوفُ موسى - عليه السلام - من السَّفَه في أمور الدين إلا خشيةَ أن تعُمَّهم العقوبةُ من الله، فكان كلامُ موسى لربِّه: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ[الأعراف: 155].
وأما السَّفَهُ في الأمور الدنيوية - عباد الله - فيكون في التصرُّف في المال بما يُخالِفُ شرعَ الله، أو بالتبذيرِ والإسرافِ فيه، ومن ذلكم: الاتِّجارُ والمُرابَحَة فيها بتهوُّرٍ وعدم استِحضارِ حُرمتها وحُرمةِ أصحابها، فهذا سَفَهٌ ووضعٌ للأمور في غيرِ موضعِها، ولهذا قال الله تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا[النساء: 5].
لقد كثُر السَّفَهُ في الأموال، فاستهانَ البعضُ بالحقوق وتصرَّفوا بأموال الناس بلا ذِمَّةٍ ولا أمانة، فاضطربَت الإِحَنُ والمُشاحَّةُ والدعاوَى، وكثُر الإعسارُ المُفاجِئُ، والخسائرُ المُتراكِمة، ونشأَت الفتنُ بين المُساهِمين والمُستثمرين، فبغَى بعضُهم على بعضٍ، ولعَنَ بعضُهم بعضًا، كلُّ ذلك بسببِ الطمعِ والجشَع، وضعفِ القناعَة المُولِّدة للسَّفَه الماليِّ؛ لأن للمال ثورةً كثورةِ الخَمرة تأخُذ شارِبَها حتى ينتشِي.
وجامِعُ الأمر في ذلكم: هو قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «من يأخُذ مالاً بحقِّه يُبارَك له فيه، ومن يأخُذ مالاً بغير حقِّه فمَثَلُه كمثَلِ الذي يأكلُ ولا يشبَع»؛ رواه مسلم.
فليتَّقِ اللهَ أولئك الذين استأمنَهم الناسُ على أموالهم، وليُرابِحُوا فيها بما أحلَّ الله، وألا يتهوَّروا ولا يُفرِّطوا، ولا يقعُوا في الرِّيبةِ والشُّبهَة، ولا يستغِلُّوا ثقةَ الناسِ بهم، وليذكُروا قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أخذَ أموالَ الناسِ يُريدُ أداءَها أدَّى اللهُ عنه، ومن أخذَها يُريدُ إتلافَها أتلفَه الله»؛ رواه البخاري.
ثم إن من السَّفَه - يا رعاكم الله -: قتلَ النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وكلما ازدادَ المرءُ قتلاً ازدادَ سَفَهًا، وإن تعجَبوا - عباد الله - فعَجَبٌ سَفَهُ من يقتُلون شُعُوبَهم وبني جِلدَتهم ممن وصفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمثالَهم بأنهم سُفهاءُ الأحلام، ومن أفعالهم: أنهم يقتُلون أهلَ الإسلام، ويدَعُونَ أهلَ الأوثان، كما يجري لبعضِ إخواننا ممن قُتِلوا وعُذِّبُوا سَفَهًا بغير علم، وكم هي الحالُ المُؤرِّقةُ مع إخواننا في سورية والذين يُواجِهون أشدَّ أنواعِ الجَور والقتل والوحشية التي لا يرضاه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُقِرُّها دينٌ ولا مِلَّةٌ ولا عُرْفٌ، قتلٌ وغدرٌ وعِنادٌ، وكلما قيل لهم: اتقوا الله ولِينوا بأيدي إخوانكم، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وتأبَّطوا أسلحتَهم، وأصرُّوا واستكبَروا استِكبارًا.
وأمثالُ هؤلاء يصدُقُ فيهم قولُ ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -: "إذا سرَّك أن تعلمَ جهلَ العربِ فاقر قولَ الله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ[الأنعام: 140]"؛ رواه البخاري.
وبهذا المُناسَبة فإن الشكرَ موصولٌ لكل من كانت له يدٌ طُولَى في الإنكار على أولئك؛ من حكوماتٍ، وقادة، وعلماء، ومُفكِّرين، وشُعوب، وأخُصُّ منهم: الدول التي سحَبَت سُفراءَها، ووقفَت ضدَّ الظلم والعُدوان، ومنهم: هذه البلاد بقيادتها.
فإلى مزيدٍ من الجهود وممارسة تضييق الخِناقِ ضدَّ هذا التصعيدِ السَّفيه في نَزيفِ الدماء، وجمعِ الكلمة في اتخاذ خُطواتٍ مُتقدمةٍ تكون كفيلةً في حقنِ الدماءِ ورفع القتلِ والظلمِ.
بارَكَ الله في الجهود، وسدَّد الخُطى، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، وأُصلِّي وأُسلِّمُ على عبده ورسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن المُجتمعات الجادَّة الواعِية هي تلكم المُجتمعات التي تُحسِنُ التعامُل المُتكامِل، وتلمَّسُ مواقعَ الخللِ لدى بنِيها والمُنتَمين إليها؛ لتشكُر الناجِح وتُكرّمه، ولتُصلِح المُتعثِّر وتُقوِّمه، ومن ذلكم: أخذُها على أيدي سُفَهائِها، وإصلاح شأنهم، والقضاء على مظانِّ السَّفَه لئلا تغرقَ سفينةُ المُجتمع الماخِرة بقضِّها وقضيضِها.
السَّفيهُ آفةٌ في المُجتمع عالةٌ عليه؛ لأنه لا يعرفُ متى يجبُ أن يتكلَّم ولا متى يجبُ أن يسكُت.
السَّفيهُ يتطفَّلُ على كلِّ شيءٍ، ويتكلَّم ويهرِفُ في كل شيءٍ.
السَّفيهُ هو الرُّويبِضَةُ الذي يتكلَّمُ في أمرِ العامَّة، وينصِبُ نفسَه نِدًّا لذوي العلمِ والاختِصاصِ.
السَّفيهُ يسبِقُ طيشُه عقلَه، وغضبُه حلمَه، وغفلتُه يقظتَه، لا تزيدُه المُجاراةُ إلا هذَرًا، ولا المُداراةُ إلا بطَرًا، ولا أمانُ العقوبةِ لا هرَفًا وتماديًا.
وأما السَّفيهُ في الأخلاقِ فدواؤُه السكوتُ، ومُتاركتُه بلا جوابٍ أشدُّ عليه من الجوابِ في الغالبِ، سفيهُ الخُلُق إذا ردَدتَ عليه فرَّجتَ عنه، وإذا خلَّيتَه فإنه يموتُ كمَدًا، قال عنه الشافعيُّ - رحمه الله -:
يُخاطِبُني السَّفيهُ بكلِّ قُبحٍ
وأكرَهُ أن أكون له مُجيبًا
يزيدُ سفاهةً وأزيدُ حِلمًا
كعودٍ زادَه الإحراقُ طِيبًا
فالسَّفيهُ - عباد الله - كالضَّرعِ إن حلبتَه درَّ، وإن تركتَه قرَّ.
وقد كان عُميرُ بن حبيبٍ ممن أدركَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقولُ لبَنِيه: بنِيَّ! إياكم والسُّفهاء؛ فن مُجالستهم داءٌ، من يحلُم عن السَّفيه يُسَرُّ، ومن يُجِبْهُ يندَمُ، ومن لا يرضَى بالقليلِ مما يأت به السَّفيهُ يرضَى بالكثيرِ.
ولا خيرَ في عقلٍ إذا العلمُ غائبٌ
ولا خيرَ في علمٍ يكونُ بلا عقلِ
فلا بُدَّ من علمٍ وعقلٍ كلاهُما
يصُدَّان عنَّا ذا السَّفاهَةِ والجهلِ
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56]، وقال - صلواتُ الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها شرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمُشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في سُوريا، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في سُوريا، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، اللهم اشفِ مرضاهم، وفُكَّ أسراهم، وارحم موتاهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللم شأن من ظلمَهم في سِفال، وأمرَه في وبالٍ، يا حيُّ يا قيُّوم يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2012, 05:40 PM   رقم المشاركة : 7

 

غيابُ القيم في ظل الفتن
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "غيابُ القيم في ظل الفتن"، والتي تحدَّث فيها عن القِيَم والأخلاق الحميدة التي جاء بها الإسلام، ورسولُ السلام - عليه الصلاة والسلام -، ونبَّه على ضرورة التمسُّك بها، مُشيرًا إلى ما يحدُثُ في هذه الأيام من تطاوُلٍ على الذات العليَّة، والمقامِ النبوي، وأيضًا مُندِّدًا بما يحدُثُ من بعضِ الحُكَّام الظلمةِ والطُّغاة الذين سامُوا شعوبَهم سوءَ العذابِ، مُستشهِدًا في ذلك بالآيات الكريمة، والأحاديث الصحيحة، وبعضِ الأشعار المُعبِّرة.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُك ربي ونستعينُك ونستغفرُك ونُثنِي عليك الخيرَ كلَّه.
حمدًا وشُكرًا يا إلهي وخالِقِي
وليس بذاكَ الشكرِ نُوفِي فضائِلَك
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نلهَجُ بها اعتقادًا واعترافًا، ونرشُفُ من معينِها أزكَى المناقبِ عَلَلاً واغتِرافًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أسمَى العبادِ شمائلَ وأوصافًا، اللهم فصلِّ وبارِك عليه، من نحَلَ البريَّةَ دُررًا من الشِّيَم أصنافًا، ومن بديعِ القِيَم أصدافًا، وعلى آله الطيبين الطاهرين الأُلَى كانوا على الحقِّ أُلاَّفًا، وصحابتِهِ الغُرِّ الميامين نُبلاً وألطافًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو من الرحمن جنَّاتٍ ألفافًا، وسلِّم ربَّنا تسليمًا كثيرًا ما انهمَرَ غيثٌ وكَّافًا.


أما بعد، فيا عباد الله:
خيرُ ما يُوصَى به تنافُسًا واستِباقًا: تقوى الله - عز وجل - خوفًا وإشفاقًا؛ فتقوى الديَّان تعمُرُ القلبَ إشراقًا، وتُزكِّي الأركانَ ندًى وإيراقًا، والروحَ خضوعًا وائتِلاقًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
وما لبِسَ الإنسانُ أبهَى من التُّقَى
وإن هو غالَى في حِسانِ الملابِسِ
وإن التُّقَى للمرءِ زادٌ ورِفعةٌ
وخيرُ ضِياءٍ في ظلامِ الحنادِسِ
أيها المسلمون:
في مُلتَهَبِ القضايا العالمية الكاسِرة، والمِحَن السياسية الهاصِرَة، والفِتنِ المُدلهِمَّةِ الكاسِرة تنبجِسُ قضيةٌ تأصيليَّةٌ جِدُّ مهمَّة، أصلُها ثابتٌ مُنيف، وفرعُها باسِقٌ ورِيف، لها دلالاتٌ كعذبٍ رحيقٍ، ورَسمٌ وضِيءٌ رقيق، كيف وقد قامَ الإسلامُ على جانبٍ منها متين، ورُكنٍ لسعادة البشريَّة ركين.
ولكن من أسَفٍ لاعِجٍ غاضَت أنهارُها، وانطَفَأت أنوارُها لدى كثيرٍ من الناس دون خجلٍ أو إحساس، تلكُم - يا رعاكم الله - هي: قضيةُ القِيَم المُزهِرَة، والشِّيَم الأخَّاذة المُبهِرَة التي أعتَقَت الإنسانَ من طيشِه وغُرُوره إلى مداراتِ الحقِّ ونورِه، ومن أوهاقِ جهلِه وشُروره إلى علياءِ زكائهِ وحُبُوره.
وأنَّى يخفَى على شريفِ علمِكم أن الإسلامَ وحده إياه لا غيرَه ولا سِواه هو مَوئِلُ القِيَم والفضائل، والمهدُ البديعُ لشُمِّ المُثُلِ والخلائِل، قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[الأنعام: 161].


معاشر المسلمين:
وفي إرشاد العالَمِ إلى أعالي القِيَم، وقِمَم الشِّيَم جاء الإسلامُ بالمُساواة بين الأجناس، والتراحُم بين الناس في تآلُفٍ وتعارُف ينبُذانِ التعادِيَ والتخالُف، يقول الباري - جلَّ اسمُه -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات: 13].
وكذا شِيمةُ إحقاقِ الحقِّ وإن لم يُطَب؛ إذ به قِوامُ العالَمِ وأمنُه وانتِظامُه، وقُطبُ رَحاهُ ومَرامُه، وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ[الإسراء: 105].
ومن مذخورِ تلك القِيَم ورِكازِها: الحثُّ على إقامةِ فُسطاطِ العدل، ذلكمُ المَعينُ الرقراق الذي يُسعِدُ العبادَ، ويُخصِبُ البلاد، وتطمئنُّ بهيبتِهِ القلوبُ، وتنجلِي به غياهِبُ الكُرُوب؛ بل تعدَّى الأمرُ العدلَ إلى الإحسانِ، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ[النحل: 90].
مُطلَقُ العدلِ والإحسانِ في الأسرة والمُجتمع والأوِدَّاء مع الرعيَّةِ أو الأعداء؛ بل في العالمين على حدٍّ سواءٍ.
وإذا العدالةُ في العالَمين تحكَّمَت
جاءَت لهم بنعيمِها النَّعماءُ
نالُوا الحقوقَ كبيرُهم كصغيرِهم
فالكلُّ في بابِ القضاءِ سَواءُ
إخوة الإسلام:
أما دفعُ الظلمِ واجتِثاثُ أُصولِه، ودَحرُ جلاوِزَته وأُسطُوله، فقيمةٌ أصَّلَتها الأديان، ودانَ بها بنُو الإنسان على اختلافِ مذاهِبهم ومشارِبهم، وعزَّزَها الإسلامُ ونصرَها، وتوعَّدَ من خالَفَها وغمَرَها، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا[طه: 111]؛ لأن الظلمَ يُتبِّرُ الديارَ، وعُقباه أشدُّ فتكًا من النار، يقول - عليه الصلاة والسلام -: «إن الناسَ إذا رأَوا الظالمَ فلم يأخُذوا على يديه أوشكَ أن يعُمَّهم الله بعقابٍ منه»؛ رواه أبو داود والترمذي.
وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البيهقيُّ وابن حبان في "صحيحه" -: «شهِدتُ في دار عبد الله بن جدعان حِلفًا لو دُعِيتُ إلى مثلِهِ في الإسلام لأجبتُ».
وهذا الحِلفُ ينتصِفُ إلى الوَضيعِ من الرفيعِ، وللمظلومِ من الظالِم، ومن ذي المرتبة لذي المتربَة.
أما مُثُلُه وقِيَمُه - عليه الصلاة والسلام - أوانَ السِّلمِ والأمان، والحربِ والطِّعان؛ فإنها دستورُ المبادِئِ النفائِس، والفرائِدِ العرائِس؛ عن بُريدَةَ - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سرِيَّة أوصاه في خاصَّتِهِ بتقوَى الله ومن معه من المُسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزُوا بسمِ الله، وفي سبيل الله، ولا تغُلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تُمثِّلُوا، ولا تقتُلوا وَليدًا»؛ رواه مسلم. وفي روايةٍ: «ولا شيخًا ولا امرأةً».
الله أكبر، الله أكبر! إنها الأخلاقُ الإنسانية، والشمائلُ المُحمدية.
إذا غَزَا فالرِّفقُ يغزُو قبلَه
والرِّفقُ أعتَى جحفَلٍ جرَّارِ
إخوة الإيمان:
وفي هذا الأوانِ العَصيبُ استِناخَ الظلمُ ليلاً حالِكًا في طُغاةٍ سامُوا شُعوبَهم الظلمَ والاستِبداد، والطُّغيانَ والاستِعباد، وصمُّوا عن صوتِ الحقِّ والرشاد، ولجُّوا في الجُحودِ والعِناد.
فيا للهِ! كيف ضاعَت القِيَم وغابَت الشِّيَم؟! أين النُّهَى والرأيُ الأسَدُّ؟! حَتامَ الارتِكاسُ في مُستنقَع الطُّغيان والبطشِ الأشَدِّ! حتى غدَت تلك الرُّبَى الشَّهباء والخمائِلُ الفَيحاء بين الأنقاضِ والأشلاءِ، وأهوالِ الدموعِ والدماءِ.
يا قومِ نادُوا طُغاةً عمَّهم أفَنٌ
أن ليس هذا من الأخلاقِ والقِيَمِ
إن المبادئَ والأخلاقَ سُنَّتُها
تبنِي الشُّعوبَ وترعَى حُرمةَ الأُمَمِ
وما وحشيَّةُ الإنسانِ وقسوتُه إلا مِرآةُ حِقدِه وانتِكاستُه، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ[ص: 55].
نعم، لنا اللهُ مولانا نُؤمِّلُه
عند الرخاءِ وفي الشِّدَّاتِ والنُّوَبِ
ربٌّ يغارُ ومن يطلُبهُ يُدرِكهُ
لا أرضٌ تقِيهِ ولا قصدٌ إلى هَرَبِ
عباد الله:
شُرَفاءَ العالَم، عُقلاءَه وأحرارَه في كل مكانٍ! لقد تحتَّم وآن تعزيزُ القِيَم وإعلاءُ الشِّيَم، وإحياءُ الذِّمَم بين بني الإنسان، والائتلافُ حول معاقِدِ الحقِّ والعدلِ والأخلاقِ، لا حول الذَّوَاتِ والطوائِفِ والأعراقِ.
وأن يُحقَّقَ الإِخاءُ الإنسانيُّ والأمنُ العالَميُّ، المُجرَّدُ عن المطامِعِ والدوافِع، المُبرَّأُ عن الأغراضِ المدخولةِ والمنافِع، وأن يكون لله احتِسابًا، ولآصِرةِ الإنسانيةِ انتِسابًا، فلن يرسُو العالَمُ المنكوب في مرافِئِ العدلِ والسلامِ إلا بدحرِ الظلمِ والعُدوان، وإن شذَّ من شذَّ ومانَ دون حُجَّةٍ أو بُرهان.
وأن يكون الانتِصارُ للقِيَم طيَّ الأفكارِ والأرواحِ لا الأدراجِ ومهبِّ الرياح، إلا يكُن فعلَى الدنيا العَفاء، وسطِّرُوا على أطلالِ الهيئاتِ والمجالسِ والأُمَم عباراتِ الفناءِ.
ليس السلامُ ترنُّمًا يحلُو لِمَن
عشِقَ السلامَ لجَرسِهِ يتسمَّعُ
إن السلامَ مواقِفٌ تُبنَى على
أُسُس العدالةِ لا تُخانُ وتُقطَعُ
أين تجريمُ الإرهاب، وتحريمُ الإرعاب؟! أين شِيَمُ الإنصافِ والنُّصرةِ والسلام التي أعلَنَت بياتًا شتائيًّا حَولاً كاملاً لا أمَدَ لانقِضائه، وتحرُّكًا تقليديًّا لا أملَ لانطِوائِه، حِيالَ إخواننا المكلومين في سوريا.



نبكِي على تلك الرُّبَى في
الشامِ حيثُ الجُرحُ غائِر
ونَهيمُ في أرجائِها
بين المساجِدِ والمنائِر
فاللهُ المُستعان.
وإلى متى يستمرُّ الاستِبدادُ والطُّغيان المُمنهَجُ يحصِدُ أرواحَ الأطفال والشيوخ، وأبطالَ العِزَّة والشموخ، ولا حول ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
هُمُ الذين لك اللهمَّ قد صبَرُوا
وكلُّهم لك فيما كانَ مُحتسِبُ
فلا يُغَرَّ بما يلقَونَ طاغيةٌ
فلن يكون لغيرِ المؤمنِ الغَلَبُ
فالصُّبحُ آتٍ وإن طالَ الدُّجَى زمنًا
والغيثُ يُرجَى إذا ما اسودَّتِ السُّحُبُ
فلِزامًا على أصحابِ المُبادَرات والقرار غَذُّ السيرِ بمَضاءِ الصارمِ البتَّار، لانتِشالِ البلَدِ الجريح، والوطنِ من مُدَى الخَديعة والاستِكبار الصريح، اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا[فاطر: 43].
يا ربِّ سلِّم أهلَها
واحمِ المواطِنَ والمنازِلَ
واحفَظ بلادَ المُسلمين
عن الميامِنِ والشمائِل
يا ربِّ صُن أعراضَهم
ونُفوسَهم من كلِّ قاتِل
وغدًا إذا الحقُّ اعتَلَى
حتمًا سيزهَقُ كلُّ باطِل
أمة الإسلام:
وفي ظلِّ تعزيزِ قِيَمنا الربَّانية الومَّاضة التي تتأبَّى على التدليسِ والمُوارَبَة والتلبيسِ: العدلِ، والصدقِ والوفاءِ، والرِّفقِ والصفاء، والأمانةِ، والإحسان، والإخاء، وسِواها من كرائمِ الشِّيَم الغرَّاء، وإبَّان غرسِها أزاهِير ضوَّاعةً في أفئِدَة المُجتمعات والأجيال.
ستنطلِقُ بنا - بإذن الله - أشعةُ هدايةٍ وحياةٍ نحوَ أمةٍ عالمية مُترَعةٍ بالوِفاقِ والازدِهار، مُتألِّقةٍ بمعاني الإباء والنصرِ الغِزار، في حًصَانةٍ ذاتيَّةٍ فريدة عن متاهاتِ الضلالةِ والصَّغَار والقِيَم المنبوذَةِ الحِقار التي قَذَفَت بها الشبكات والتِّقَانات، وكثيرٌ من مواقعِ التواصُل الأفِكات، في سباقٍ محمومٍ من التقليعاتِ والتغريدات.
فالانتِصارُ للقِيَم سَنَنُ العَودة الظافِرَة بالأمة لنقودَ العالَمَ بفُولاذِيِّ الهِمَّة، ونكون فيه كما أرادَ الله لنا الهُداةَ الأئمة، ونسُوقَه إلى أفياءِ السلامِ والعدلِ بالخُطُمِ والأزِمَّة.
وبعدُ، أيها المسلمون:
هل صيحةٌ في اللهِ تُوقِدُ عزمَنَا
فندُقُّ ما حاكَ الضلالُ وزوَّرَا؟!
هل غضبةٌ للهِ تجمَعُ شملَنَا
لنقُودَ هذا العالَمَ المُتحيِّرَا؟!
هذا الرجاءُ وذاكَ الأمَلُ، ومن اللهِ - سبحانه - نستلهِمُ سدادَ القول وصوابَ العمل، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[يوسف: 100].
أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، فاستِغفروه وتوبوا إليه واشكُروه، إنه كان حليمًا غفورًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله، زكَّى القلوبَ والأعمالَ بأسنَى القِيَم، وأشكُرُه - سبحانه - على إنعامه المِدرارِ الأَتَمّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مِعراجُنا إلى شُمِّ القِمَم، وصلواتُ ربي الطيباتِ المُبارَكات على النبيِّ الكريمِ هادِي الأُمَم، وآلهِ وصحابتهِ معادنِ المناقِبِ وأسمَى الشِّيَم، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ما جلَّت الأنوارُ حالِكَ الظُّلَم، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واستمسِكوا جميعًا بعُرى الخِصالِ الحميدة والقِيَم؛ تفوزوا الفلاحَ والمجدَ الأعَمَّ.
إخوة الإيمان:
القِيَمُ الإسلامية هي مِعراجُ الروح لبناءِ الشخصيةِ السَّوِيَّة العالمية؛ شخصيَّةٍ مُبارَكةٍ مُتماسِكة، راسِخةٍ مُتناسِقة، وجيهَةٍ غير مُتشاكِسة، وأُسوتُنا المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، هو المُضمَّخُ من القِيَم بأعظمِ الحظِّ والنصيبِ؛ كيف وقد ترقَّى بالإنسانية شطرَ الكمالات، والمعالِي المُشمخِرَّات.
وإننا لنُزجِي للعالَمِ الذي اعتسَفَ كثيرًا من القِيَم، وأبادَها كالرِّمَم؛ تذكيرًا بلُمَعٍ من شِيَمه الباهِرَة، وسيرتِه الطاهِرة؛ فقد كان - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام - كان الصِدقُ أليفَه، والحِلمُ حليفَه، والعدلُ طريقَه، والتواضُع رفيقَه، وإحقاقُ الحقِّ رحيقَه، أما الأمانةُ فسجيَّتُه، والرحمةُ الفيَّاضة فشِيمتُه، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
ملأتَ الكونَ أخلاقًا ونورًا
وقد كانت معالِمُه يَبَابًا
إذا ما الطُّهرُ صافَحَنا شَذَاهُ
غَدَا أصفَى الوَرَى قلبًا ثِيابًا
إذا ما الحِلمُ عطَّرَنا رُواهُ
سَباكَ العفوُ صبرًا واحتِسابًا
ومن أهمِّ ما يُعزِّزُ القِيَم في وقتِ جَفافِ منابِعِها، ويُعلِي الشِّيَم في زمنِ التطاوُلِ على مرابِعِها؛ تربيةُ النشءِ وتوجيهُ الجيل وشبابِ الأُمَّة على التأسِّي والاقتِداءِ بالحبيبِ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ووجوبِ تعظيمِهِ ومحبَّتِه، وتوقيرِه وطاعتِه، وطبعُهُم على إجلالِه وإعظامِه، وذَودُهم عن بُؤَرِ الجُنوحِ الفِكريِّ النَّزِق، والتمرُّدِ الأرعَنِ على الأُصول والثوابتِ الشرعية، والقِيَم النبوية المرعيَّة.
فمن اللَّوعَة والأسَى، والخَطبِ الذي نجَمَ - وبحمدِ الله - ما عسَى: التطاوُلُ على الذاتِ العليَّة، وجنابِ سيدِ البريَّة - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -.
إنا إذا سِيْمَ الرسولُ أذِيَّةً
تُلفَى لدينا أُهبَةٌ وكِفاحُ
ودِماؤُنا دون الرسولِ رخيصةٌ
ففِداؤُه المُهجاتُ والأرواحُ
ولكن بفضلِ اللهِ، ثم بفضلِ الله؛ وُئِدَت في مِهادِها؛ بل قبل ميلادِها، مِصداقًا لقول الحق - تبارك وتعالى -: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 95].
ألا بُعدًا، وبُعدًا، ثم بُعدًا
لمن يرمِي النبُوَّةَ بالسِّهَامِ
برِئْنَا من سَفَاهَتِهِ وعُذْنَا
بربِّ الكونِ من سُوءِ الخِتامِ
وهذا، وإن الأمةَ لترفعُ التقديرَ أعبَقَه، والدعاءَ أصدقَه لمقام خادمِ الحرمين الشريفين - أيَّدَه الله - كِفاءَ غيرتِه وانتِصارِه للمُقدَّسات، ومواقفِه الصارِمةِ البَلْجاء حِيالَ إخوانه في بلاد الشام، وما نضَحَت به مشاعِرُه من نُبْلٍ وصفاءٍ، وغَيرةٍ على قِيَم الحقِّ والعدلِ والاتِّحادِ والإخاءِ، ودعوتِه الصادقةِ إلى حقنِ الدماءِ، وكذا مواقِفُه الحكيمةُ الحازِمة ممن تطاوَلَ على المقام الإلهي، والجَنابِ المُصطفوِيّ.
اللهم فاجعل ذلك له في موازين الحسنات، ورفيعِ الدرجات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعَوَات.
ولا غرْوَ أيها الإمام الهُمام، دُمتَ مُوفَّقًا مُؤيَّدًا مُسدَّدًا.
فعِندكم دينٌ وفيكم شِيَمٌ
خَزرجِيَّاتٌ ومجدٌ لن يُرامَا
ونفوسٌ لم تُطِق صبرًا على
ظالمٍ وتأبَى أن تُضامَا
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على من سمَا في العالَمين قدرًا وجَنابًا: خيرِ الوَرَى آلاً وصِحابًا، صلاةً تعبَقُ مِسكًا وتَطيابًا، كما أمرَكم المَولَى العزيزُ الجليلُ في مُحكَم التنزيلِ، فقال تعالى قولاً كريمًا لُبابًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
فصلِّ ربِّي وسلِّم كلَّ آوِنةٍ
على المُشَفَّعِ وانشُر طِيبَه فِينا
وآلهِ الغُرِّ والأصحابِ ما حَفِظُوا
عهدَ النبيِّ وبَرُّوه مُوفِّينا
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على الرحمة المُهداة، والنِّعمةِ المُسداة: نبيِّنا وسيِّدنا وقُدوتنا محمدِ بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر الطُّغاةَ والظالمين، وسائرَ المُفسدين والمُلحِدين وأعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحة التي تدُلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلاد والعبادِ.
لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ الأرض وربُّ العرشِ الكريم، حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل، حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل، حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل.
إلهَنا، إلهَنا، إلهَنا! عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤُك، وتقدَّسَت أسماؤُك، ولا إله غيرُك، منك الفَرَج، وأنت المُستعان، وإليك المُشتكَى، ولا حول ولا قوةَ إلا بك.
اللهم ارفع عن إخواننا في بلاد الشام، اللهم ارفع عن إخواننا في بلاد الشام، اللهم انصر إخواننا في سوريا، اللهم انصر إخواننا في سوريا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم وأموالَهم، وأدِم أمنَهم وأمانَهم يا ربَّ العالمين.
نَدرأُ بك اللهم في نُحور أعدائِهم، ونعُوذُ بك اللهم من شُرُورهم.
اللهم إنا نسألُك أن تغفِرَ لموتاهم، اللهم اغفِر لموتاهم، اللهم اشفِ مرضاهم، اللهم عافِ جَرحاهم، اللهم عافِ مُبتلاهم يا رب العالمين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين الذين سفَكوا دماءَ المُسلمين، الذين سفَكوا الدماء، ونَثَروا الأشلاء، ولم يرحَموا الشيوخَ والأطفالَ والنساءَ، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل عليهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا لا تُؤاخِذنا بما فعلَ السُّفَهاءُ منَّا، ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين الأحياءِ منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزَّة عمَّا يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2012, 05:44 PM   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الشام .. فضلها وتاريخها
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الشام .. فضلها وتاريخها"، والتي تحدَّث فيها عن الشام وفضلها من الكتاب والسنة، وذكرَ بعضَ الدلائل النبوية عنها، ثم أشادَ بصبرِ وجلَد أهلِها على مرِّ العصور، ونبَّه إلى ضرورة التحلِّي بالصبر على هذا الابتلاء مُعدِّدًا بعضَ فضائل الصبر.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي تحُولُ بأمره الأحوال، يُداِلُ الأيام فكم من دُولٍ أدلَّ عليها ثم أدالَ، وكم من زُمرةٍ تسلطَنَت وظنَّت خُلودَ سُلطانها فزلَّت ثم زالَت ومُلكُها زال، أحمدُ ربي - سبحانه - وأُثنِي عليه وأشكُرُه وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله الكبيرُ المُتعال، يُمهِلُ من غيرِ إهمال، وهو شديدُ المِحال عظيمُ النَّكَال، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أكرمُ الرسلِ وأتمُّ الرجال، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وصلَّى على الصحبِ والآل.
أما بعد:
فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
ثم إن خيرَ الوصايا: الوصيةُ بتقوى الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].

أيها المسلمون:
حين دحا الله الأرضَ وأجرى يدَ الخلقِ على الخليقة، جعل فيها بلادًا وذرأَ فيها بشرًا، ثم اصطفى الله من هذه البلاد بلادًا، ومن البشر بشرًا، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ[القصص: 68]، فكانت مكةُ والمشاعِرُ وطَيبةُ الطيبة، وكان شامًا منها بلادُ الشام.
واصطفى الله من البشر أنبياءَه ورُسُله، وقضى لبلاد الشام حظًّا وافرًا منهم، فجعل أرضَها مدرجَ الأنبياء، ومُتنزَّلَ الوحيِ من السماء، هي أرضُ المحشَرِ والنشَر، وحين يبعثُ اللهُ المسيحَ ابنَ مريم في آخر الزمان لا ينزلُ إلا فيها، عند المنارة البيضاء شرقِيّ دمشق؛ رواه مسلم.
طُوبَى للشام! ملائكةُ الرحمن باسِطةٌ أجنحتَها عليها، إنها بلادٌ بارَكَها الله بنصِّ الكتاب والسنة؛ فهي ظِئرُ الإسلام وحاضِنَتُه، وعاصِمتُه حينًا من الدهر، سُطِّرَت على أرضها كثيرٌ من دواوين الإسلام، ودُفِن فيها جموعٌ من الصحابةِ ومن عُلماء المُسلمين.
كم ذرَفَت على ثراها عيونُ العُبَّاد، وعُقِدَت في أفيائِها ألوِيَةُ الجهاد، وسالَ على دفاتِرِها بالعلوم مِداد، وجرَت على ثراها دماءُ الشهداء: صحابةً وأخيارًا وأصفياء، وتداوَلَ الحُكمَ فيها ملوكٌ وسلاطين،أضافوا للمجدِ مجدًا وللعِزِّ عِزًّا.
كُسِرَت على رُباها حملاتٌ صليبيةٌ تقاطَرَت عليها مائتي عام، قارَبَ أعدادُ الجُند فيها سُكَّانَ بلاد الشام كلِّها.
إذا عُدَّت حضاراتُ الإسلام ذُكِرَت الشام، وإذا ذُكِر العلمُ والفضلُ والفتوحُ ذُكِرَت الشام، هي أرضُ الأنبياء، وموئِلُ الأصفياء، وما زارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلادًا خارجَ الجزيرة إلا بلاد الشام.
وفي آخر الزمان عندما تكون الملحَمَةُ الكُبرى يكونُ فُسطاط المُسلمين ومجمعُ راياتهم بأرضِ الغُوطَة فيها مدينةٌ يُقال لها: دمشق، هي خيرُ مساكن الناسِ يومئذٍ؛ كما أخرجه الطبراني من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولقد أدركَ الصحابةُ - رضي الله عنهم - دعاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم بارِك لنا في شامِنا، اللهم بارِك لنا في شامِنا»؛ رواه البخاري.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فسدَ أهلُ الشام فلا خيرَ فيكم، ولا تزالُ طائفةٌ من أمتي منصورةً على الناسِ لا يضرُّهم من خذَلَهم حتى تقومَ الساعةُ»؛ رواه الترمذي.
فلم يلبَثُوا بعد رحيله - صلى الله عليه وسلم - إلا قليلاً، حتى توجَّهَت قلوبُهم إلى الأرض التي بارَكَها الله، ووصَّى بها رسولُ الله، فخفَقَت إليها بيارِقُ النصر، ورفرَفَت في روابيها ألوِيةُ الجهاد، وسُطِّرَت ملامِحُ من نورٍ، ونشرَ الإسلامُ رِداءَه على الشام، تُزجيه طلائعُ الإيمان، يتقدَّمُهم خالدُ بن الوليد، وأبو عُبيدة بن الجرَّاح، وشرحبيلُ بن حسنة، وعمرو بن العاص، ويزيدُ بن أبي سفيان، والقَعقاعُ بن عمرو، وضِرارُ بن الأَزوَر، وفيهم ألفُ صحابيٍّ منهم مائةٌ ممن شهِدَ بدرًا، وتوالَى عليها الصحبُ الكِرامُ.
قال الوليدُ بن مُسلم: "دخلت الشامَ عشرةُ آلافِ عينٍ رأَت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -".
عيونٌ بعد طُهر المدينة ترى نظرةَ الشام، ولا غَروَ؛ فقد اختارَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، ووصَّى بها الخُلَّصَ من أصحابه؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «سيصيرُ الأمرُ إلى أن تكونوا جنودًا مُجنَّدةً، جُندٌ بالشام، وجندٌ باليمن، وجندٌ بالعراق». قال ابنُ حَوالةُ - رضي الله عنه -: خِر لي يا رسول الله إن أدركتُ ذلك. فقال: «عليك بالشامِ؛ فإنها خِيرةُ الله من أرضه، يجتبِي إليها خِيرتَه من عباده، فأما إن أبيتُم فعليكم بيَمَنكم، واسقُوا من غُدُركم؛ فإن الله توكَّلَ لي بالشامِ وأهله»؛ أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود.
وصارَت الشامُ عاصِمةَ الإسلام، قامَت فيها أولُ ممالكِ الإسلام وأعدلُ ملوك الإسلام، شعَّ منها نورُ العلم، وبُسِط فيها رِداءُ العدل، ونُشِرَت فيها قِيَمُ الحق والحرية، وسطَّر المُسلمون هنالك أروعَ الأمثِلة في حُسن الجِوار، وكرمِ التعامُل مع الآخرين.
وحفِظَ المُسلمون لأهل الأديان ذِمَمهم، وتركُوا لهم مذاهبَهم ومعابِدَهم، فعاش الناسُ في تسالُمٍ وأمانٍ، أحرارًا في أرضهم ومُعتقَدهم، ونالَت الشامَ بركةُ العدل، فرغَدَ عيشُها، ووفَرَ رِزقُها، حتى قال عُمرُ بنُ عبد العزيز وهو مُتربِّعٌ على عرشها: "انثُروا الحبَّ على رؤوس الجِبال حتى لا يُقال: جاعَ طيرٌ في بلاد المُسلمين".
وتكسَّرَت على رُباها جُيوشُ التَّتَر، وعلا فيها نورُ الإسلام وانتصَر، حتى صارَ السائلُ يسألُ ابنَ تيمية - رحمه الله -: "هل المُقامُ بالشام لظهور الإسلام بها أفضلُ أم بمكَّة والمدينة؟".
ثم مضَى الدَّهرُ، ودالَت الأيام، وظهرَ على الأمر فيها مَن بظهورِه استحَالَت حالُها؛ فما الشامُ بالشامِ التي تعهَد، صوَّحَ نبتُها، وذَبَلَ زهرُها، وضاقَ بأهلها العيشُ، وترحَّلَ الأمنُ من مرابِعِها، واقتطَعَ الأعادي جُزءًا من أراضيها، وما زال في أرض الشام العُلماءُ والصالِحون، ومنهم من تفرَّقَ في الديار؛ تفرَّقوا عن أوطانهم مطرودين، تُلاحِقُهم يدُ الظلمِ والبَغيِ، عيُونُهم تفيضُ بالدمعِ، والغُرباءُ أكثرُ ما يكونون شفقةً على أهلهم وديارِهم، وهم يرَون في الشاشات أماكن يعرِفونها من بلادهم، لهم فيها ذكرياتٌ وشُجونٌ، تقصِفُها الطائِرات، وتدكُّها المدافِع.
أيها المسلمون:
الشامُ ترِكةُ الفاتحين من الصحابة والتابعين، ووديعةُ المُتقدِّمين من المُسلمين للمُتأخِّرين، تاريخُها مُلهِم، وحاضِرُها مُؤلِم، وأهلُها لهم في الصبر حكايا تطُول عسَى صبرُهم إلى خيرٍ يَؤول.
وإننا في الوقتِ الذي نستحضِرُ فيه ذلك المجد وذلك التاريخُ القديم لنقفُ على جُرحَيْن غائِرَيْن في بلاد الشام، دمِيَا فاعتلَّت بنزفِهما الأمةُ، كِلا الجُرحَيْن رَطبٌ، ومع ذلك تعملُ المناجِلُ فيهما عملَها: جُرحُ فلسطين، وجُرحُ سُوريا، وبينهما نُدوبٌ هنا وهناك، وهي أيامُ تمحيصٍ وابتِلاءٍ.


أيها المسلمون:
كيف يستطيعُ إنسانٌ في هذه الأيام أن يتجاوَزَ مذابِحَ القِيَم في شامِنا الحبيب وهو يرى غدرَ القريب، وخُذلان البعيد، وخِيانةَ الراعي للرعيَّة، مُقدَّراتُ الشعب ومُكتسباتُه تُوظَّفُ لسحقِه وإذلالِه، وسِلاحُه الذي يدفعُ به غائِلَةَ العدُوِّ عاد على أوداجِ الشعبِ ذبحًا وتقطيعًا، تُسحَقُ الأمةُ لمصلحةِ أفرادٍ ما بالَوا بها يومًا، لقد كُشِف المستورُ، وترنَّحَت الشعارات، وتبيَّن أن العدوَّ الذي وراء الحُدود أرحمُ أحيانًا من العدو الذي في داخل الحُدود.
نساءٌ وأطفالٌ لم يحمِلوا حتى الحجرَ، نثَرَت صواريخُ الغدر حجارةَ منازلهم، وتشظَّت تحت الرُّكام أجسادُهم، ترى الأذرُع مبتورة، والأجسامَ تحت رُكامِ المنازل مقبور، في صُورٍ تُنبِئُ عن مقدار خواءِ نفوسِ مُرتكبيها من الإنسانية والمُثُل، وتجرُّدِ أفعالهم من الشِّيمَةِ والنُّبْلِ، جرَت دماءُ الشاميين جرَيَان دجلة والفُرات، ليس على عدوٍّ ظاهرٍ؛ بل على يدِ مُدَّعِي بعثِ العروبة وحِراسةِ العرب على وجهٍ لا يحتملُ العُذر ولا تستُرُه المُبرِّرات.
أيها الشاميُّون الكرام:
سلاحُكم له كرامةٌ، فلا يُدنَّس بالنَّيلِ بهِ من إخوانكم، وقوتُكم ذُخرٌ للعرب، فلا تتقوَّوا بها على أهلِيكم، واجعَلوا سلاحَكم لأهلِكم حامِيًا، وعن أرضِكم مُدافِعًا، لا عُذرَ لكم أمام الله والتاريخِ أن تعود فَوهات البنادِق على صُدروكم، ويُذيقَ بعضكم بأسَ بعضٍ، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء: 93]، وحِّدوا الصفوف، واجمَعوا الكلمة، واستعِينوا بالله واصبِروا.
عباد الله:
إن فضلَ الشام وكونَها ثغرَ الإسلام يُحتِّمُ على المُسلمين التنادِي لنُصرة أهلها ودفعِ البَغيِ عنهم، ورفعِ الضَّيْمِ عنهم، ولقد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاحَ الشام مِعيارًا لصلاح الأمةِ كلها، مما يُحتِّمُ على المُسلمين - كلِّ المُسلمين - أن يدفَعوا بما استَطاعوا لكي لا تُغيِّرَ يدُ الفسادِ وجهَ الشام الجميل، وتبقى كما تاريخُها إيمانٌ وعلمٌ وحضارةٌ ونورٌ، لا يجُوعُ فيها طيرٌ كما أراد عُمر، ولا يُروَّعُ فيها بشرٌ؛ وفاءً للصحابة الفاتحين، والعُلماء الأماجِد الذين توسَّدوا ثَرَى الشامِ في رَقدة الدنيا الأخيرة، وقِيامًا بحقِّها كِفاءَ ما وهبَتْه العربَ والمُسلمين.
ولقد نادى العُقلاءُ الغيورون على مصالِحِ الأمة، وارتفعَ صوتُ خادمِ الحرمين الشريفين من أولِ ساعةٍ يُنادِي بتحكيم الحقِّ والعدل، والمنطقِ والحِكمة والعقل، وتقديمِ المصالحِ العامة العُليا على المصالحِ الشخصيةِ حقنًا لدماءِ المُسلمين، وحِفظًا لوَحدة صفِّهم وأراضيهم، ودفعًا للخلافات الطائفية والمذهبية، وثباتًا على مواقفِ الدين والأخلاق، ووقفَ - حفظه الله - صادِعًا بكلمةِ الحقِّ والعدلِ مع إخوانه وأصدقائِهِ الغَيورين.
فسدَّدَ اللهُ المساعِي، وأصلحَ الشأن، وجعلَ العواقِبَ إلى خيرٍ.
وإنَّا لنُؤمِّلُ في صُبْحٍ يَطوِي الليلَ الخانِقَ، وتتنفَّسُ له الأزهارُ، وتُشرِقُ به شمسُ الخلاص، والأملُ بالله كبير أن تعُودَ إلى بُشراها الأيام، والسماءُ تُرجَّى حين تحتجِبُ.
عسى اللهُ أن يُبدِّلَ ليلَكم صُبحًا، وخوفَكم أمنًا، ولاءَكم عافيةً، وأن يُولِّي عليكم خِيارَكم، ويكفِيَكم شرَّ شِرارِكم، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.



الخطبة الثانية
الحمد لله الوليِّ الحميد، يخلُقُ ما يشاءُ ويحكُمُ ما يُريد، وهو العدلُ يفعلُ ما يشاءُ ويحكُمُ ما يُريد، بيده العطاءُ والمنعُ، والابتِلاءُ والمُعافاة، - سبحانه وتعالى وتقدَّسَ - لا تخرُجُ أفعالُه وأوامرُه عن الحِكمةِ والرحمةِ والمصلحة، ونحن عبيدُه بنو عبيدِه بنو إمائِهِ، ماضٍ فينا حُكمُه، عدلٌ فينا قضاؤُه، وهو - سبحانه - أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، لا يقضِي لأوليائِه قضاءً إلا كان خيرًا لهم، ساءَهم ذلك القضاءُ أو سرَّهم، وله الحِكمةُ البالِغةُ المحمودةُ في كل ما يجرِي على المُؤمنين حتى وإن كان القضاءُ في ظاهِرِه بلاءً وشرًّا، فإن في طيَّاته من الحِكَم والمصالِحِ ما لا يُحصِيهِ إلا اللهُ، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: 216].
وإذا أيقنَ المؤمنون بهذه الحقيقةِ، وتعرَّفوا أوجُهَ الخير والرحمةِ فيما يُصيبُهم؛ امتلأَت قلوبُهم بالثباتِ والصبرِ، وبالرجاءِ والأملِ والثقةِ بوعدِ الله، والاطمِئنانِ إلى حُسن تدبيرِه واختِيارِه، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19].
إن الجُرحَ غائِر، والمُصابَ عظيم، والألمَ شديد، ولكنَّ الوعيَ الذي أحدَثَه هذا الدمارُ في الأمةِ كبير، ولئن اشتَكَت الشامُ؛ فلقد تداعَى لها جسدُ الأمةِ بالحُمَّى والسَّهَر، وظهر التلاحُمُ بين المُسلمين، وسرَت الحياةُ في جسدهم الواحِد، وضجَّت المساجِدُ بالدعاء، واستيقَظَت في الأمةِ مشاعِرُ دفينة، مشاعِرُ كادَت أن تنطمِس، وكادَت أن تقضِيَ عليها شهواتُ الحياة، ولطالَما حاولَ أعداءُ الإسلام تخديرَها بالمُلهِيات ووسائل الترفيهِ - زعَموا -.
وإذ بها تستيقظُ من جديدٍ، وتتأجَّجُ في القلوب، وهي ترى دماءَ الأحِبَّةِ تجري على أرضِ الشامِ المُبارَكة، وعادَ الناسُ عودةً صادقةً إلى الدين، وبانَ صِدقُ الصادقين، وظهر خُذلان الخاذِلين، واهتزَّت ثقةُ العالَمِ بمُنظَّمته الدولية، وتبيَّن أنها لا تتحرَّكُ إلا وفقَ مصالِحها الأنانية، لا يُؤثِّرُ في قلوبِ أربابِها صريخُ الأطفال، وأنينُ الجرحَى والمُعذَّبين.
واستيقَنَت قلوبُ المؤمنين بقولِ الحقِّ - سبحانه -: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[آل عمران: 160].
رُوِي عن عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - أنه أنشَدَ:
ولا تجزَع إذا ما نابَ خَطْبٌ
فكَم لله من لُطفٍ خفِيِّ
وكم يُسْرٍ أتَى من بعد عُسْرٍ
ففرَّجَ كُربةَ القلبِ الشَّجِيِّ
وكم أمرٍ تُساءُ به صباحًا
وتأتيكَ المسَرَّةُ بالعَشِيِّ
إذا ضاقَت بك الأحوالُ يومًا
فثِق بالواحدِ الفردِ العلِيِّ
أيها المؤمنون:
إن الله تعالى يُريد منَّا عند كل مُصيبةٍ أو نازِلةٍ أن نُكفكِفَ العَبَرات، وأن نمسحَ الأحزان، وأن نُجدِّدَ التوبة، وألا نهِنَ ولا نيأَس، وأن نُدافِعَ القدرَ بالقدر، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران: 139].
معاشر المُسلمين:
إن التعرُّف على أوجهِ الخيرِ والرحمةِ في هذه الأحداث، والرضا بقضاء الله –عز وجل - والتسليمِ لقدره لا يعني التواكُل والعَجز، والرِّضا بالفساد والذِّلَّة والمهانة، وتركَ الأخذِ بأسبابِ النصرِ والعِزَّةَ والكرامَة، ولكنَّه يُقوِّي اليقينَ بوعد الله - سبحانه -، والثقةَ بنصره، والاطمئنانَ إلى قضائِهِ وتدبيرِه.
الابتِلاءُ رفعةٌ وتطهيرٌ وتمحيصٌ، والشهادةُ اختيارٌ واصطِفاءٌ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى[القصص: 60].
الألمُ يُولِّدُ الأمل، وبقدر ما يشتدُّ الكربُ يحصُلُ اليقينُ بقُرب الفرَج، واعلَم أن النصرَ مع الصبر، وأن الفرجَ مع الكَرب، وأن مع العُسرِ يُسرًا.
بالصبرِ يكونُ المَدَدُ من السماء، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ[آل عمران: 125].
وبالصبرِ يذهبُ أذى الأعداء، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا[آل عمران: 120].
ولقد أثنَى اللهُ على الصابرين في البأساء والضرَّاء وحين البأس، فقال - سبحانه -: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[البقرة: 177].
إنه لا بُدَّ من الصبر ولا بَديلَ عنه، لا بدَّ من الصبرِ على ما تُثيرُه الأحداثُ من الألمِ والغَيظ، ومن اليأسِ أحيانًا والقُنوط، لا بُدَّ من الصبرِ ومن المُصابَرة، مُصابَرة الظالمين الذين يُحاوِلون جاهِدين أن يفُلُّوا من صبر المؤمنين.
وإذا كان الباطلُ يُصِرُّ ويصبِرُ ويمضِي في الطريقِ، فما أجدرَ أهلَ الحقِّ أن يكونوا أشدَّ إصرارًا، وأعظمَ صبرًا، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[النساء: 104].
فيا أهل الشام! اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف: 128].
إن الله - عز وجل - قد تكفَّلَ لنبيِّه بالشام وأهله، من تكفَّل الله به فلا ضيعَةَ عليه، وإن وصفَ الشام في الكتاب والسنة بالبركة لمُبشِّرٌ بأنه لن يطُولَ فيها أمَدُ الفتنةِ والطُّغيان؛ لأنها موطِنُ برَكةٍ وأمنٍ وإيمانٍ
ولقد كان الشامُ مقبرةً لأعداءِ الأمةِ والكِبار؛ ففيها انكسَرَ الصليبيُّون والتتار، وفيا يُغلَبُ الروم - كما في حديثِ المَلحَمة الكُبرى -، وفيها يُهلَكُ الدجَّال ومن تبِعَه من اليهود، وقد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فسادَ الشام مُؤذِنًا بذهابِ الخير من الأمة، وجعل صلاحَها مُبشِّرًا بصلاح أمرِ الأمةِ كلها، وها هي اليوم تجِيءُ البُشريات والليالي بالأماني حافِلات.
وإننا لنُقسِمُ بالله - عز وجل - جازِمين مُوقِنين بما عوَّدَنا ربُّنا من نُصرة أوليائِهِ والدفاع عنهم إذا أخَذوا بأسبابِ النصر، بأن الكربَ والشدَّةَ لن تطُول على قومٍ أنزَلوا حاجتَهم بالله، وهتَفوا: يا اللهَ، ما لنا غيرُك يا اللهَ! والله تعالى يقول: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[آل عمران: 101]، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[الروم: 47]، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[الصافات: 173]، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ[الحج: 40]، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ[غافر: 51].
أيها المؤمنون:
إن انتظار الفرَجِ من أعظم العبادات، وإن اليأسَ من رحمةِ الله من كبائرِ الذنوبِ،وعلى المؤمنين ن يملأَ قلوبَهم الفألُ بقُربِ الفرَجِ واليقينُ بنهايةِ الظالمين، فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا[مريم: 84].
ولقد يُريد اللهُ لعباده نصرًا وفرَجًا أعظمَ مما يظُنُّون، وتمكينًا أدوَمَ مما ينتظِرون، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[الطلاق: 3].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى والرسول المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه يا قويُّ يا عزيزُ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَله مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ العرشِ الكريم، لا إله إلا أنت، عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤُك، وتقدَّسَت أسماؤُك، اللهم يا مَن لا يُهزَم جُندُك، ولا يُخلَفُ وعدُك، ولا يُردُّ أمرُك، سُبحانك وبحمدِك.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجَك القريب، اللهم فرَجَك القريب.
اللهم إنا نستودِعُك إخواننا في سوريا، اللهم إنا نستودِعُك دماءَهم، ونستودِعُك أعراضَهم، ونستودِعُك أعراضَهم يا مَن لا تضيعُ ودائِعُه، اللهم إنا نستنزِلُ نصرَك على عبادك المُستضعفين المظلومين، اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماكَ بهم رُحماك يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم إنا نستنزِلُ بطشَك على القوم المُجرمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميعُ الدعاء.
نستغفِرُ الله، نستغفِر الله، نستغفِرُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ ونتوبُ إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا غدَقًا طبقًا مُجلِّلاً عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تسقِي به العباد، وتُحيِي به البلاد، وتجعلُه بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:29 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir