يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحات الموروث والشعر والأدب > ساحة الأدب الشعبي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-20-2010, 11:12 PM   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية العضو











سعيد الفقعسي غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


ذكر

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 

المعلامة

الجزء الخامس :


تصاعد عدد تلاميذ المدرسة مع تفاوت كبير بينهم في الأعمار والأجسام وقد يحدث أحياناً خلاف بين طالب وآخر ثم يتطور الخلاف إلى مشاكسات وتحديات بين طلاب قرية وقرية أخرى، فيصل الأمر إلى خصام.. ومضاربة وتشابك بالأيدي والحجارة بعد الانصراف من المدرسة، فلا يفك الاشتباك إلا رجال ونساء القرية التي بها المدرسة، وإذا لزم الأمر فإنهم (يعصبون) مع أبنائهم إن كانوا طرفاً في (الهوشة)..
في أحد الأيام فوجئنا برجل يقتحم المدرسة شاهراً سلاحه ( الجنبيّة ) وهو يقول:
( أين هو.. أرونيه.. والله لأفعل به كذا وكذا...)..
رأينا الأستاذ ( مشرف ) وقد عُيّن في المدرسة منذ أيام قليلة _ رأيناه يتصدى لهذا الرجل الذي كان يبحث عن تلميذ تعرّض لابنه في طريق عودتهما من المدرسة، وقام بضربه حسب قوله...
حاول المعلمون صدّه وإقناعه وإيقافه عن ذلك الهجوم الذي شنّه على الطالب والمدرسة ومن فيها. لم يستمع لأحد، وأصرّ على الإمساك بذلك الطالب لينتصر لابنه، فما كان من (مشرف) رحمه الله إلا أن هجم عليه، فأمسك يد الرجل التي يقبض بها على (سلة الجنبية) وطبق بيده الأخرى على حلقه فكاد أن يسقط الرجل أو سقط، وانتزعت الجنبية من يده ورأيناه أخيراً يخرج من المدرسة بصمت، وليست معه تلك الجنبية التي دخل بها ..!!
لمْ ندرِ في حينه _ نحن الطلاب _ عمّا انتهى إليه الأمر حول هذا التّصرف من الرجل، ومن خلال أحاديث الكبار علمنا أن (سلة الجنبية) حُجِزت، وحُكم على الرجل (حقوق قبلية) إدانة له.
كان كل من الأستاذين: (عبدا لرحمن بن رمزي) و(مقبول العرابي) يحذران الطلبة وعلى الأخص كبار السن من المضاربات والاعتداء على بعضهم بعضاً، أو التعرض للطلبة الصغار، ومن اعتدي عليه فليأت إلى المدير ومعاونه، ومع ذلك يندر أن يشتكي أحد من أحد خوفاً من العقاب الذي لن يسلم منه حتى الشاكي المتظلم لئلا يقوم المتظلم بالانتصار لنفسه بيده أو يستنصر بأبناء قريته.
كان الأستاذ (عبدا لرحمن بن رمزي) يولي الخطابة والإلقاء اهتماماً كبيراً فلكل طالب _ في الغالب _ خطبة تخصه، يختارها له.. وحسب السن والمستوى الدراسي.. خطبة طويلة أو محاورة بين طالبن، أحدهما يمثل (العلم) والآخر يمثل الجهل، بين العلم والجهل، فيختار الطالب المجتهد ليمثل العلم، والطالب المهمل ليمثل الجهل، ومحاورات مختلفة بين (الليل والنهار) فيختار لمن يمثل الليل أن يكون (أسوَداً) ومحاورة بين (السيف والقلم) وكانت هذه المحاورات امتداداً إلى ما كان يهتم به أحد معلمي المعلامة/الكتّاب (جمعان بن خميس) رحمه الله_ أما الطلبة الصغار فكان الأستاذ عبدا لرحمن يلقنهم حِكماً صغيرة أو بيتاً من الشعر.. أو عبارة طريفة، وفي الغالب تنطبق على شخصية صاحبها مثل:
(تضرب في حديد بارد)، (أكلتم تمري وعصيتم أمري)، (يوم لك ويوم عليك.. ويوم كفاك الله شر بلاه ..).
وطريقة الأداء أن يتقدم الطالب الصغير أمام المعلمين والطلاب والآباء.. فيقول بجرأة:
( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... يوم لك ويوم عليك.. ويوم كفاك الله شر بلاه.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..)..
وهذه كانت خطبتي ، وبعد ذلك _ حين كبرت _ أُعطيت خطبة من قصيدة لعنترة بن شداد ومطلعها:


إذا كشفَ الزمانُ لك القناعا ** ومدّ إليك صرفُ الدهرِ باعا
فلا تخشَ المنيـّةَ والتقيـها ** ودافعْ ما استطعتَ لها دِفاعا
ولا تخترْ فِراشاً مـن حريرٍ ** ولا تبـكِ المنـازلَ والبِقاعا

ويجب على الطالب حين يؤدي الخطبة أن يرفع صوته جداً، ويؤشر بيده ويهزها هزاً.. ثم يتقدم من بعده حين يناديه المعلم.
وفي يوم الأحد من كل أسبوع، وهو اليوم الذي فيه السوق (سوق رغدان) تكون الدراسة فيه خفيفة ومشتتة لانشغال الأساتذة بارتياد السوق.. وغياب عدد من التلاميذ لمساعدة آبائهم، وفي ذلك اليوم يطلب منا بين حين وآخر الخروج إلى السوق من المدرسة بطريقة منتظمة.. في طابور يتقدمنا الطلاب الكبار، وقد اختار الأستاذ بعضاً منهم لتقديم الأناشيد والخطب أمام أهل السوق جميعاً، فيصعد أولئك (المحظوظون) على حائط، أو سطح مرتفع (على الدكاكين الحجرية المسقوفة بالأخشاب) فيقوم كل طالب بأداء ما عنده، فيتوقف الناس ويتركون السوق للاستماع باهتمام.. فيظلون مشدوهين بإعجاب ومدح يتناقله الرجال والنساء.. وكان يُطلق على هذا النشاط: (بدوة) قياساً على التسمية التي كانت تطلق على رجال كانوا يقومون بالوعظ في الأسواق، ويحذرون الناس من المنكر ويأمرونهم بالمعروف، وأذكر مما كانوا ينهون عنه ويحذرون منه: (الرادي) في بداية ظهوره، وأضراره.. وأنه لا يجوز اقتناؤه، فقد تأثر بذلك أحد من يمتلك (الرادي) فقدم به بعد فترة إلى السوق، وأخذ يعلن على الناس بأنه سيتخلص من صندوق الراديو.. فأعلن التوبة منه، وقام بتكسيره وتحطيمه في السوق أمام الناس..!!


* * * * *

يوم الخميس دراسة، وزمن الدراسة فيه أقل من الأيام الأخرى،ومتعة الإجازة الأسبوعية مساء يوم الخميس، ويوم الجمعة نذهب للسباحة في الآبار.. ونقوم بآداء ما علينا من واجبات المدرسة،ويتسع الوقت في هذا اليوم لإنهاء كثير من المشاغل، وتبادل الزيارات داخل القرية وخارجها، ولقد علمنا ونحن في السنة الثالثة أن المدرسة سوف تقفل من أجل (العطلة)،سيكون عندنا إجازة طويلة بعد إنهاء العام الدراسي، فقد تحددت مسميات الفصول الدراسية إلى الصف الخامس، وبمناسبة هذا الحدث السعيد فقد طلب الأستاد (عبدا لرحمن) من جميع التلاميذ أن يقفوا صفاً دائرياً داخل المدرسة، قدم عدد من الطلاب الكبار الأناشيد والخطب، ثم النشيد الجماعي ومنه:
] أهلاً وسهلاً مرحباً..
آنستمونا يا كرام..
( شرّفتمو) هذا المقام..
( وعليكمو) منا السلام [.
وقبل الانصراف طلب من الجميع الاهتمام بما أعطينا من واجبات دراسية، ولأن الإجازة طويلة فقد طلب منا جميعاً أن نأتي إلى المدرسة كل يوم أحد من كل أسبوع لتسليم وتقديم الواجبات بعد أدائها وأخذ واجبات جديدة، ومن تلك الواجبات حفظ جدول الضرب وكتابته عشر مرات.. أو كتابة الأعداد من واحد إلى (ألفين).. ثم من ألفين إلى ثلاثة آلاف، وتكليف مجموعة أخرى بكتابة موضوع في القراءة (عشرين مرة) أو أكثر، وآخرون يُطلب منهم حفظ عدد من سور القرآن الكريم... وتظل المدرسة مفتوحة يوم الأحد، وكان سبب اختيار هذا اليوم، لأنه يوم السوق الأسبوعي في القرية، يأتيه الناس من كل مكان، وهو اليوم المناسب لمعلمنا ليرتاد فيه السوق.. وللطلبة من القرى المجاورة ليحضروا مع آبائهم، وهكذا حتى تنتهي هذه (الإجازة)!!!
وفي أول يوم نعود فيه إلى المدرسة بعد انتهاء (العطلة) وقبل أن نبدأ الدرس الأول نقف صفوفاً للسلام على الأستاد، فيتهيأ بالجلوس على كرسيه ثم يمدّ يده اليمنى على طرف مكتبه الخشبي، ويتقدم التلاميذ لتقبيل كفّه.. ونتزاحم على كفه ونتناطح بالرؤوس.. وتصطدم الأجساد، وبعض التلاميذ وبالأخص الصغار منهم يكررون التقبيل أكثر من مرّة، فإذا ما تم لهم التقبيل في المرة الأولى فإنهم يذهبون من خلف المعلم، ثم يعودون أمامه لتقبيل كفه ونيل هذا الشرف أكثر من مرّة، فلا تنتهي تلك المراسيم إلا حين يسحب المعلم يده التي طُليت بطبقة غروية من الرساب (اللعاب) وما يسيل من أنوف التلاميذ الصغار....
المعلم نراه مثالياً في كل شيء.. نطيعه ونأخذ بقوله وأوامره أكثر من الوالدين، وإذا خالف الابن أمر أبيه أو أمّه وأصرّ على ما يريد.. ثمّ هدداه بإبلاغ المعلم فإنه سرعان ما يستسلم ويتوسل بألا يخبرانه..
فذا كنّا نمشى أو نلعب في الطريق ورأينا معلمينا أو أحدهم من بعيد فإننا نهرب بعيداً من طريقه، ونتمنى ألا يكون قد شاهدنا نلعب فيحاسبنا على هذا اللهو، ويزيد في معاقبة المقصر في دروسه أو لم يحضر ما طلب منه من واجبات في اليوم التالي لانشغاله باللعب... وليس من حق الطالب أن يسترسل في التعبير عمّا يريد، أو يدافع عن نفسه حول موقف من المواقف، وليس من حقه أن يعترض على العقاب أو يبلغ والده لأنه سيزيده عقاباً وتوبيخاً، فقد كانت المفاهيم في ذلك الوقت متشبعة بأن العقاب (بالضرب) أمرٌ أساسيّ ولابد منه للنجاح والتعلم والتربية.
حتى أن المقعد الخشبي المخصص لجلوس المعلم له مكانة اكتسبها من شخصيته، فلايجروء التلميذ أن يجلس على هذا (الكرسي)، سوى عدد قليل من الطلاب الكبار اللذين ختموا دراسة القرآن الكريم وأوكل إليهم الإشراف على التلاميذ الصغار.. فنراهم يسترقون الجلوس على هذا المقعد فنغبطهم بصمت، ونتمنى مثل تلك المزايا الراقية،فلم نصدق _ أوّل الأمر _ أنه سيصل (كراسي) للطلاب!!
وبعد أسابيع شاهدنا هذه المقاعد الخشبية التي يتصل فيها الكرسي بالمقعد، وكل مقعد لطالبين، فجعل كل مقعد لأربعة طلاب، وبها أدراج.. اقتنينا لها الأقفال والمفاتيح فيما بعد، فكنا سعداء بهذا الحدث العجيب، وصُرف للمعلمين كراسِ معدنية من الصاج وأخرى من الخيزران..




يتبع .........

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 03-22-2010, 10:41 PM   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 

المعلامة

الجزء السادس :


أخذ يتزايد عدد المدارس ليكون في كل قرية مدرسة، تكون في الغالب في منزل شيخ القبيلة أو عريفة القرية، فظهرت الحاجة إلى أعداد كبيرة من المعلمين،والبحث عمّن لديه مبادئ ولو بسيطة في القراءة والكتابة مع قراءة القرآن الكريم..
وحين سمع بعض هؤلاء بحضور رجل إلى المنطقة يقوم بتوظيف من يقرأ ويكتب لمهنة التدريس لتأمين احتياج المدارس، ويقوم هذا (المفتش) المعتمد باختبار من يتقدم بعدد من الأسئلة، التي يرون فيها صعوبة وتعجيزاً، فأخذوا يحاولون تحقيق رغبتهم بشتى الوسائل، وبوسطاء آخرين.
قال أحد هؤلاء عن اختباره للتدريس: ]... لم أتوقع أنني سأصبح في يوم من الأيام معلماً ثم مديراً للمدرسة، حتى كان ذلك اليوم _ يوم خميس _ يوم السوق في قرية الباحة.. والناس (هابطون) إلى السوق، كنت أعمل في سقي زرع لنا بواسطة الثيران من البئر، فمرّني (عبدالغني) فقال:
( لماذا لا تذهب إلى هذا الرجل الذي يوظف (أستادين) فأنت تقرأ وتكتب ) فقال له:
(وماذا عندي من القراية والكتابة). قال: (رُح له) مثلك مثل غيرك، اسمع كلامي، وبعد أن واصل سيره، أخذت أفكر وأتردد،ثم قررت أن أذهب، وفي الحال استدعيت إحدى زوجاتي لتكمل العمل، وانطلقت إلى قرية الباحة، أو قال (الظفير)، وكنت أشد الجنبية على وسطي، وحافي القدمين، وحين اقتربت من المكان الذي هو فيه، بدأت أشعر في نفسي بشيء من الرهبة، فلم أكن أهاب أحداً من قبل، قابلت رجلاً نصحني بأن ( أحط ) الجنبية قبل أن أدخل إليه، كدت أرفض أن أفكها من وسطي تحرجاً وأنفة.. جلست أمام الرجل فطلب مني أن أتلو آيات من القرآن الكريم، لم يتركني أواصل حينما اطمأن إلى قراءتي، طلب أن أكتب بعض الكلمات والجمل.. سألني عن اللام القمرية والشمسية، فلم أستطع الإجابة... فسألني عن إشارات الجمع والطرح والضرب، لم أكن أعرفها أو أفرق بينها، كتب لي أعداداً لأجمعها، وأطرحها، وأضربها... أجبت على الجمع ثم الطرح، فسجلت النتيجة، أما الضرب فقد أطلت في حساب نتيجته... كانت مسألة الضرب شبيهة بضرب: (230 * 12) وأخيراً وبعد طول حساب كتبت الجواب (2760)، سألني: كيف حليتها؟ قلت باعتزاز وفخر: حليتها بعقلي، قال لي: كيف.. كيف توصلت إلى النتيجة؟! فقلت: (ضربت مئتين وثلاثين في عشرة، ثم ضربتها في اثنين، ليكون الناتج (ألفان وسبعمائة وستون). قال: (الجواب صح، والطريقة غلط.... راجعنا فيما بعد..)، بعد ذلك جاءتني البشرى من رجل أوصيته بأمري، لأكون معلماً في المدرسة ومديراً لها بعد انتقال المدير الأول..)
فكان يدعو لوالدي حين كان سبباً في ذهابه....
شخص آخر (توظف) بنفس الطريقة، قال: (لقد سألني هذا الرجل في الكتابة والقراءة ثم الحساب وكنت أعتبر نفسي من أجود المتقدمين، ومشهود لي بأن عندي (قلم) وهذا كناية عن حسن الخط والمعرفة، وبعد أن أبدى إعجابه بالخط والإملاء، سألني: (ما هي الأسماء الخمسة)؟ صمت مفكراً، ثم قلت: (الأسماء كثيرة) قال: ماهي؟ قلت: (السماء.. الأرض.. الليل.. محمد.. صالح.... إنها كثيرة..) قال: (ألم تسمع بشيء يسمى الأسماء الخمسة؟) قلت: (لم أسمع بها... لم تمر عليّ...). وخرجت كئيباً، بسبب هذا السؤال، (ماهي الأسماء الخمسة؟؟!!).
أخذت أسأل عن الجواب كل من يقرأ ويكتب، ولا جواب سوى احتمالات وتخمينات بعيدة وطريفة.... وبعد أيام جاءني خبر تعييني معلماً، وأن عليّ أن أباشر العمل فوراً، وكلمة (فورا) هذه أحدثت سوء فهم عند أحدهم في خطاب وُجّه إليه، هل (فوراً) تعني أن الوظيفة اسمها (فوراً) أنها اسم مكان العمل؟، فلم تهدأ نفسه إلا حين فُسّرت له من أحد (العارفين).. وكنا على المدى الطويل نداعب ذلك الرجل ونتعمد أن نذكر هذه الكلمة في أحاديثنا لنذكِّره بها...
وفي ذلك الحين انضم إلى التدريس عدد من أبناء المنطقة والمناطق الأخرى، لم يكن لديهم _أول الأمر_ سوى مبادئ بسيطة من التعليم لا تتعدى المستوى الدراسي للصف الثالث الابتدائي أو الرابع، وكان يغبطهم الآخرون ويشار إليهم بإعجاب.
ومع ذلك قاموا بما أوكل إليهم بجد وحماس مع مواصلة التعليم الذاتي والتثقيف المعرفي لسد حاجة المدارس مع الذين قدموا إلى المملكة من المعلمين الوافدبن من البلاد العربية..


* * * * *
مع بدايات عام 1376هجرية أخذنا نشهد مفاجآت جديدة في دراستنا... استلمنا كتباً دراسية للقراءة.. والتاريخ.. وتقويم البلدان، وحين لا تفي بالعدد يشترك طالبان أو ثلاثة في كتاب واحد.
استخدمت الصفارة للدخول والخروج.. وبدء الحصص الدراسية.. صار عدد المعلمين في المدرسة (سبعة) ثلاثة منهم من المنطقة.. والآخرون من خارج المملكة من (مصر والأردن وفلسطين..) لقد كان لكل معلم طريقته في التدريس، وأسلوب التعامل مع التلاميذ يختلف بين معلم وآخر، أحدهم يعاقب بالضرب في القدمين،وآخر يكتفي باليدين... وآخر يتميز بطريقته المحببة في التعليم ولا يعاقب إلا نادراً فنمدحه قائلين: (الأستاد فلان ضعيّف) بتشديد الياء.. فيتبوأ مكانة كبيرة في نفوسنا، ومع ذلك فكثيراً ما نهتم أولاً بواجبات معلمينا الذين نخاف منهم ونخشى عقابهم، وبصفة عامة فإن معلمينا المتعاقدين أقل قسوة من الوطنيين.
ويمكنني تسجيل ما تحتفظ به الذاكرة من أساليب بعض معلمينا في ذلك العهد من (الوطنيين) أو (المتعاقدين) ولا يعني هذا التشهير أو إنكار فضلهم في ذلك الوقت وحتى اليوم فجزاهم الله خير الجزاء... ومع الأخذ في الاعتبار طبيعة الحياة واختلاف المفاهيم التربوية بين زمن وآخر... فما كان مألوفاً في ذلك الزمن، كثيراً ما يكون مستنكراً في زمن آخر، والعكس:
· أحد معلمينا الذي عيّن في المدرسة لأول مرة، كان يصفع الوجه لأي سبب مهما كان بسيطاً، فقد كان يطلب من جميع الطلاب عند تلاوة القرآن الكريم أن يمسك الطالب مصحفه بيده اليسرى، ويتتبع الآيات (يقصّ) بسبابة يده اليمنى،والويل لمن يخالف هذا، وقد كنت أعسر (أشول) استخدم يدي اليسرى أكثر من اليمنى، فأعكس المطلوب مني ويصر عليّ أن أمسك المصحف بيدي اليسرى وأتابع بيدي اليمنى (فأتلخبط) وأرتبك وترتجف يدي، فأصبحت أهتم بالوضع المطلوب وطريقة الإمساك بالقرآن الكريم، فأقع في خطأ التلاوة باستمرار... فلا أسلم من صفعة على الوجه.. أو الرأس، أو ضربة شديدة على كفّي فأزداد ارتباكاً، وتتزايد أخطائي فيحكم علي _بكل قناعة_ بأنني غير (حافظ/مطيّس).
· أكثر المعلمين من الوطنيين كانوا في البدايات يطلبون منّا حفظ الدرس غيباً مهما كانت المادة الدراسية، فكنا نحفظ موضوعات القراءة (من سلم القراءة العربية) فنحفظ التاريخ حفظاً.. ولم يستمر ذلك طويلاً، فاقتصر الحفظ على سور الحفظ من القرآن الكريم.. والتوحيد والفقه والحديث...
· من وسائل العقاب التي أخذ بها فيما بعد أحد المعلمين، هي (الشتم) و (التفل) في الوجه/(البصق) أو الوعيد بتحويل الطالب المقصر إلى صف دراسي أدنى، وتسميته بلقب يعيّره به، وسرعان ما يلتصق به هذا الاسم الجديد.. ويظل التلاميذ ينادونه به، فيستسل لذلك اللقب مرغماً... وقد سبق الإشارة إلى أساليب مختلفة من طرق العقاب في المدارس بصفة عامة وفي بداية عهدها، والمثل الشائع حينذاك: (ما يقرأ إلا راغب وإلا راهب).. والشيء العجيب أن من تخرّج في هذه المدارس، وعلى يد أولئك المعلمين، ومرت عليه أساليب العقاب المختلفة، أو شاهدها أخذ يمارسها أو بعضاً منها مع تلاميذه حين أصبح معلماً.. !!
· أحد معلمينا (المتعاقدين) إذا قرر عقاب طالب، فإنه يدعو أحد الطلاب الأشداء ليمسك به من الأمام فيقول: (اعبطه) فيشده، ويقوم هو بضربه في ظهره بسرعة فيبادر العم (قرطان) برمي (الجبّة) بينه وبين العصا، يحتميه بها، ولئلا يصاب بشيء من تلك الضربات..

..يعتمد التعليم والتدريس في الماضي عامة على التلقين والحفظ، لا أقول هذا من باب التنظير _الآن_ أو التعليل والتحليل، ويندر جداً أن يهتم بمعنى موضوع أي درس، ومغزاه، أو الهدف منه، وعلى الأخص في المرحلة الابتدائية، فما على الطالب إلا أن يردد ويحفظ ويكرر، ومع أن ما اختير من موضوعات القراءة والأناشيد لها أهداف توجيهية، إلا أننا نقرأ بدون فهم، ونحن في وادٍ والمعنى في وادٍ آخر، والمطلوب منا سلامة القراءة واستظهار ما طُلِب منا حفظه، وأقرب الأمثلة البسيطة الساذجة، أننا درسنا موضوعاً بعنوان: (صاحب الحمار.. والولد الشقي)، وخلاصته:
أن رجلاً مرّ في طريقه على عدد من الأولاد ومعه حمار يحمل عليه علفاً ليبيعه، فقال له ولد من هؤلاء الأولاد: (السلام عليكم يا أبا الحمار) فرد عليه الرجل قائلاً: (وعليك السلام يا بني العزيز ..)، فضحك عليه رفاقه.. فخجل الولد[..
فلم نفهم هذه الحكاية ، فماذا يعني بقوله: (أبا الحمار) ورده عليه بقوله: (يا بني العزيز) ولماذا ضحك الأولاد.. ولماذا خجل!!
ومقطوعات قصيرة تجلي الهم وأناشيد عن الأب.. والأم، وعن الكرة (كرة القدم... كل يعدو.. وله ندّ، ذا يقذفها.. ذا يلقفها.. وأخو الشرف رامي الهدف..). ونحن أصلاً لا نعرف معنى الكرة إلا بمسمى (الكبابة)

لم نكن ندرك أو نفهم معاني المفردات لهذه الأناشيد ولا المعنى العام إلا في وقت لاحق.. وكذلك الحال بالنسبة لأساسيات فهم مواد الفقه والتوحيد والحساب.



يتبع .........

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 03-25-2010, 12:42 PM   رقم المشاركة : 13

 

لله ما أثمر قلمك يا سعيد في هذه الصفحات النديّة .
وللشكر وأحسن من ذلك هذا الإبداع وهذا الفكر وهذا التميّز .
والله إنّه لجهدٌ مبارك وعملٌ رائق وتوثيقٌ يستحقّ الإشادة والشكر والذكر ، فشكر الله سعيك وجزاك الله كلّ خير .

 

 
























التوقيع



لا علاقة لي بمعرّف أحمد بن قسقس في الملتقى لأهالي وادي العلي

   

رد مع اقتباس
قديم 03-26-2010, 11:32 AM   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد بن قسقس مشاهدة المشاركة
لله ما أثمر قلمك يا سعيد في هذه الصفحات النديّة .
وللشكر وأحسن من ذلك هذا الإبداع وهذا الفكر وهذا التميّز .
والله إنّه لجهدٌ مبارك وعملٌ رائق وتوثيقٌ يستحقّ الإشادة والشكر والذكر ، فشكر الله سعيك وجزاك الله كلّ خير .
بارك الله فيك وجزاك خير

مرورك من هنا شرفني رفع الله قدرك

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 03-26-2010, 11:38 AM   رقم المشاركة : 15

 

المعلامة

الجزء السابع:



أحد معلمينا كان ذا صوت جميل إذا قرأ القرآن الكريم ينصت له جميع من في المدرسة وخارجها إذا شرع يتلو في المصحف، فأعطي تدريس القرآن الكريم في الصف السادس.. يبدأ أولاً بالاستماع إلى تلاوة كل منا للآيات السابقة بحيث يتلو كل واحد ثلاث إلى أربع آيات وأثناء ذلك يشرع في استخراج (علبة السجائر والكبريت) ويشعل عود الكبريت، ويبدأ في إيقاد طرف السيجارة من غير أن يضعها في فمه، ويستمر في هذه العملية بعدد من أعواد الثقاب وببطء وهدوء حتى يشتعل طرفها كلياً، ثم يبدأ في (شفطها) ويواصل التدخين، ويستمع إلى تلاوة كل منا، كنا نتابعه بتعجب.. ليس لأنه يدخن في المدرسة.. أو في الفصل.. أو في مادة القرآن الكريم!! وإنما لطريقته في إشعال السيجارة، كان لطيفاً معنا، مما جعل أحدنا يسأله عن طريقته هذه في (توليع السيجارة ؟!) فأجاب بشرح طويل خلاصته:
(لأن الكبريت به غازات تضر الجسم، فإذا شفطت السيجارة مع الكبريت، فيدخل دخان الكبريت مع دخان السيجارة إلى الجسم فيضرّه....!!)..
لقد أذهل هذا المعلم الجميع بما يظهره من مواهب وقدرات داخل المدرسة وخارجها، فقد أثبت لأهل القرية والقرى المجاورة أنّه يداوي (حكيم) يعالج مختلف الأمراض.. ويصف الدواء.. ويقوم بضرب (الشرنقات)/إعطاء الحقن العلاجية، ومع أنّه لا يوجد حينذاك صيدلية في المنطقة.. فهو يوصي بإحضار الأدوية والوصفات الطبية من مدينة الطائف مع سائق السيارة التي تذهب إلى الطائف مرّة كل أسبوعين، ثم قام الأستاذ (فؤاد) هذا بعمل لوحين عريضين بكل منهما حلقة دائرية، ونصبهما على عمودين طويلين وبينهما مسافة في سوق القرية، وقال هذه لعبة تُسمى (كرة السلة)، وأخذ يعلمنا هذه اللعبة.. ويلعب معنا، ويساعد معلم الرياضة (المادة الجديدة).
كان هذا المعلم يتعلم كل شيء من خلال تعامله مع الآباء، ويتعرف على مختلف العادات والتقاليد، وقصائد العرضة ومعانيها، ثم أحضر أسرته، فكان يدعونا إلى منزله لإعداد وتقديم موضوعات، وصحيفة مدرسية مبسطة، فاكتسب شهرة واسعة عند قطاع كبير من الناس...
لم يكن للرياضة البدنية حصة دراسية في المدرسة حتى عام 1376هجرية تقريباً، فكان الأولاد وحتى الكبار أحياناً يمارسون ألعاباً لها مواسمها ومناسباتها مثل:]القطرة أو المقطار، يالسح وسالي، الذئب سرى بالناقة، لعبة الأمثال، والألعاب الرمضانية، ولعبة (السُّقطة) للبنات والأولاد [ وكل لعبة لها طريقتها وقانونها، إلى جانب ألعاب (العرضة) بأشكالها المختلفة، ولم يكن الآباء في البداية يتصورون أنه سيكون في المدرسة حصة (لعب) بمسمى حصة رياضة، فكان أكثر رجال القرية يعلنون صراحة انتقادهم وتذمرهم لتحول المدرسة إلى لعب وضياع.. فكان أحد الآباء يلوم المدرسة والمعلم، ويصيح بنا قائلاً: (ياسفان الكورة) عندما تسقط الكرة في الركيب (أرض زراعية)، ثم يتوعدنا (بفقعها) لو عادت مرّة أخرى.. لم نعرف من قبل سوى لعبة (الكبابة) قماش أو خروق بالية مدورة الشكل.
أصبحت الكرة (كرة القدم) لعبتنا المفضلة على جميع الألعاب ويندر أن نمارس غيرها في حصة الرياضة أو خارج المدرسة.. في سوق القرية، أو بأحد الأراضي غير المزروعة، وقد اتفق الأستاذ (طلال) أستاذ الرياضة بمدرستنا مع معلم الرياضة في مدرسة قرية الباحة على إقامة مباراة (ودية) بين المدرستين،ذهبنا إليهم.. وبدأت المباراة، فكانوا أكثر استعداداً ومهارة في هذه اللعبة، لم يشركني الأستاذ في الفريق، كم كنت أتمنى أن أشارك.. مع أنني كنت مستعداً بلبس (البدلة) تحت ثوبي.. لأن ارتداء البدلة شرط أساسي بين الفريقين، ولا يشترط لبس الحذاء..
فهُزِمنا في الشوط الأول، وأخذ معلمنا يجري تغييراً لبعض اللاعبين، ويطلب من آخرين النزول إلى الملعب.. ناداني،فانطلقت إليه بسرعة وشوق من أجل المشاركة في اللعب.. وقفت أمامه.. سألني: (عندك شورت) لم أعلم ماذا يعني شورت.. قال بتذمر وسرعة: (بدلة.. سروال) فأجبته بسعادة: نعم.. وكدت أنطلق إلى الملعب، لكنه استوقفني قائلاً: (أعط البدلة زميلك...).. كتمت غيظي.. فهو أكثر مهارة منّي، وعدنا من هذه المباراة الودية مهزومين وغير معترفين بفوزهم علينا لوجود لاعب معهم ليس من مدرستهم، فهو يدرس في إحدى المدن.. أتى لزيارة أهله فاستعانوا به، وحين علم بعض رجال قريتنا بأننا غُلِبنا وهزمت مدرستنا غضبوا منا... وأحسوا بمرارة الهزيمة أكثر منا نحن الطلاب، فكانوا يلوموننا ويعيروننا بهذه الهزيمة في كل مناسبة.




* * * * *

مناسبة كبيرة شملت المنطقة كلها (غامد وزهران) حين سمعنا في المدرسة وفي البيت بأن الملك سعود بن عبدالعزيز سيزور (الحجاز) ويقصد به حينذاك منطقة الجنوب، من الطائف حتى بلجرشي وما بعدها...
كان ذلك في عام 1376هـ فقامت كل قبيلة وكل قرية وبادية بالاستعداد لهذه الزيارة، نصبت الأعلام والأقواس والسرادقات والمخيمات الجماعية الكبيرة والفردية البسيطة على الطريق الترابية الوحيدة، ونصب بعض الأهالي المجاورين لطريق الموكب مثل (آل سابي) حسب علمي خيمة بسيطة لتقديم القهوة والحليب الطازج (حليب الغنم) للملك ومرافقيه حين مروره، فيقف الملك _رحمه الله_ لتناول فنجان القهوة.. ثم يواصل الموكب سيره ومروره على مواقع استقبال أخرى، وقد قام والدي بتصميم وخياطة علم كبير نصبه فوق بيتنا على عمودين من طرفيه احتفاءً بتلك المناسبة، ولقد أسهم أيضاً.. عدد من أبناء المنطقة الذين يقيمون في المدن الرئيسة.. بما لديهم من قدرات وإمكانات وخبرات متمدنة لمثل هذه الزيارة التفقدية الكبيرة، ومن هؤلاء رجال من بلجرشي وبني كبير وبني ضبيان وبني عبدالله وبني خثيم.. وأذكر ممن عرفت في قريتنا (رغدان):
آل حجر، وأحمد عقيل، وعبدالرحمن مجحود وغيرهم، وكذلك الحال بالنسبةللقرى والقبائل الأخرى البعيدة من زهران وغامد.
كنت في تلك الفترة مصاباً ووالدتي بمرض شديد (الحمى) ويسمى (السابع) نحُل لها جسمي، فلم أعد أقوى على المشي أو الوقوف، وتغيبت عن المدرسة.. وعالجني والدي _يرحمه الله_ بالكيّ في قمّة رأسي، فقد كان ذا مواهب متعددة وله أفكار وتصرّفات جريئة لمواجهة كثير من المواقف أو المشكلات التي قد تواجهنا في البيت أو أيّ بيت في القرية.. يقاوم الثعابين ويُسْتنجد به في القرية من أجلها، وكان يختن أطفال القرية ويخلع الأسنان المؤلمة، ويقوم بتركيب بدائل الأسنان الأمامية من عظام الجمل ويلبسها بالفضة أو الذهب لمن يريد.. ويُصلِح الأجهزة المستحدثة في ذلك الوقت كالساعات أو الرادي، إلى جانب صياغة الحليّ والسيوف والخناجر ولا أبالغ _لأنه أبي_ فهو يكاد أن يكون مبدعاً أو مخترعاً لأشياء كثيرة حتى الأجهزة التعويضيّة الصغيرة إذا تلفت للسيارة التي أخذت تأتي إلى المنطقة لأول مرة يقوم بإصلاحها أو عمل البديل.
وأذكر أن عمي (عقيل) يرحمه الله أراد أن يرمي بالبندقية هدفاً في الجبل وحين أطلق الزناد انفجرت البندقية في وجهه فأصيبت عينه وتعرض أنفه لقطع عميق فعالجه والدي بتثبيت الشق بمساكة صنعها من الفضة لأنفه لتثبيته ليلتئم ولا يتشوّه..
كما أسعف امرأة من القرية شربت الماء من فم القربة وكان في الماء (علقة) سوداء مستطيلة فاندفعت إلى فم المرأة واستقرت في حلقها، وكادت تختنق.. نظر إليها فرأى الطرف الأخير لهذه العلقة يظهر ويختفي في البلعوم فعمل ملقطاً مدبباً طويلاً وتصايد العلقة حتى أمسك بها وانتزعها بعد عدة محاولات، فقد كانت متشبثة بفمها الذي يشبه الشفّاط...
ولم أدرك في حينه أنّ في المجتمع من (يحتقر) بصمت كثيراً من المهن ويأنف من ممارستها أو مصاهرة أصحابها.. وقد كان الوالد محط إعجاب الآخرين...
مع اقتراب موكب الملك سعود يرحمه الله من قريتنا كان قد أُعدّ له حفل استقبال في مخيم كبير في إحدى الأراضي الزراعية الواسعة، قدمت خلاله العرضة الشعبية والخطب الترحيبية، ومنها خطبة ألقاها أخي (عبدالهادي) بعد أن ألقى خطبة مدرسة قرية الباحة بصفته مديراً للمدرسة ولأن العلم والتعليم كان في بداية عهده في المنطقة عامة والمعلمون (المتنورون) في ذلك الزمن قليلون، بل أنهم يُعدّون على أصابع اليد الواحدة في كل قبيلة وقرية، حتى الرسائل وكتابة الوثائق (الحجج) المتعلقة بالبيع أو الشراء أو الصلح يستمر البحث عمّن يقرؤها أو يكتبها على يد أناس معروفين ونادري الوجود في بعض القرى يسمى أحدهم (الفقيه) إلى جانب إمامة المسجد مثل (علي بن محمد بن اسماعيل) وكذلك الحال في كل قبيلة أو قرية من القرى الرئيسة في المنطقة.
وفي قريتنا لقد اصطفّ الطلاب في هذا الحفل للهتاف والترحيب والإنشاد ولست معهم بسبب المرض، وتم توزيع عشرة ريالات من الفضّة لكل طالب.
في آخر أيام زيارة الملك رافقت جدتي (عليّة) للاصطفاف مع الناس على طريق الموكب، في انتظار السيارة التي بها النقود التي تُوزع على الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً.. فيقفون أو يقعدون منتظرين الموزّع، فينزل من سيارة حمراء (وانيت أو لوري) لا أعرف الفرق بينهما أو الاسم.. فيبدأ بتوزيع الريالات الفضيّة على الناس، والسيارة تمشي ببطء فقد ينال أحدهم عشرة ريالات أو أقل أو أكثر، فكان نصيبي بقية ما بيده (ثلاثة ريالات)، كما تمّ توزيع مجموعات من العمائم والثياب من قماش الدوت أو المبرم.. على بعض الرجال.
ويواصل عدد من الرجال والنساء العجائز السير من مكان إلى آخر من أجل اللحاق بغنيمة توزيع هذه النقود،ولا أنسى ذلك الموقف... الذي رأيت فيه إحدى النساء ومعها ثلاثة من أبنائها، ولكنها جعلتهم خمسة.. فقد ألفت قطعة قماش (حوكة) واحتضنتها على أنها الطفل الرابع الرضيع، وألبست حجراً بقطعة قماش أخرى وكأنه طفلها الخامس،فأعطى الموزع لها ولكل واحدٍ من الخمسة نصيبه.. فذهب ذلك التصرف مثلاً طريفاً.
كما منح الخطباء والمشائخ نصيبهم، وكذلك أصحاب الضيافات على جانب الطريق مهما كانت بساطتها.
والطرق في ذلك الوقت ترابية ووعرة خلال الجبال والشعاب والأودية.






يتبع .........

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 03-28-2010, 10:24 PM   رقم المشاركة : 16

 

المعلامة

الجزء الثامن:


في عام 1377 أو 1378هـ حدث أمر عظيم وعجيب في قريتنا.. (الكهرباء ... !!) الكهربة تدخل (رغدان) فقد اشترى (عبدالله بجاد).. (ماطور) للكهرباء عن طريق أحد أبناء القبيلة المقيم في مدينة جدة.. وامتدت الأسلاك على ظهور المنازل، وعلى الجدران، وعلى عدد من الأعمدة الخشبية، فدخل (الكهرب) أغلب المنازل مقابل (خمسة ريالات للمبة) المصباح الواحد.. وتستمر الإضاءة من أذان المغرب إلى بعد العشاء بنصف ساعة، من الساعة (12) إلى الثالثة والنصف على الأكثر بالتوقيت الغروبي حينذاك، يتخللها انقطاع أو انطفاء مفاجئ قد يستمر أياماً، فكانت الفوانيس أو الأتاريك القليلة في صراع مستمر لإثبات وجودها أمام الكهرب هذا الدخيل الجديد..!!
في ليلة من تلك الليالي،لم يأت النور (الكهرب ما ولّع !؟) واستمرّ الانقطاع عدّة أيام، بعد أن كانت القرى المجاورة تغبط أهل رغدان على هذا التحضر والازدهار لوجود السوق الأسبوعي والكهرباء وكثيرٍ من المستجدات الحديثة والدكاكين المفتوحة يومياً، وبها يسكن عدد من المعلمين من الدول المجاورة، ويرتادها أهل الدول المجاورة للتسوق ولحل المشكلات عند شيخ القبيلة (هاشم بن عدنان).. أو لمراجعة (فؤاد) الذي يمارس التطبيب إلى جانب التدريس..
وقد علمت أن (دار عيسى) وهي إحدى قرى (الحبشي) دخلتها الكهرباء لفترة قصيرة.. بواسطة ( ) أحد أبناء القرية و لم تستمر.
كان موقع (الماتور الكهربائي) في طرف السوق (الأسفل) من القرية، ويعتبر سوق (رغدان) في ذلك الوقت من أكبر الأسواق في المنطقة وأكبر تجمع لأهالي القرى المجاورة والقبائل، يجلب إليه كل شيء يحتاجه الناس من حبوب وماشية وسمن وعسل وحطب وقماش وتمر وبن.. على الجمال والحمير وفي السوق دكاكين صغيرة مبنية بالحجر ومسقوفة بجريد الخشب مملوكة لأهل القرية، وتُعرض بعض البضائع على أرضية السوق، وفي السوق الأسفل شجرة الجميز الكبيرة (الرقعة) تظلل كثيراً من البائعين والمشترين،وللسوق كما عرفنا _فيما بعد_عقود وعهود واحترام، فلا يعتدي أحد على أحد.. وإلا نال جزاءه بتغريمه ماديّاً ومعنوياً على يد شيخ القبيلة والأطراف الأخرى من العرفاء وذوي العلاقة.
انقطع التيار الكهربائي واستمر الخلل عدة ليالي وأياماً، وكما قال العامل الذي يقوم بتشغيله.. ونسميه (المهندس) بأن أحد العابثين وضع كمية من السُّكر في الماكينة!
لكن.. من هؤلاء العابثون أو الحاقدون؟؟ ولماذا السّكر؟!
لا أدري حتى الآن، لقد وُجّه الاتهام إلى كل الأولاد... فقرر شيخ القبيلة وعرفاؤها استدعاء جميع الأولاد في القرية _كإحدى وسائل التحقيق_ للوصول إلى المتسبب، أو من يدل عليه.
وقد يكون الاشتباه في آخرين أكبر سناً.. من الذين لم يُدخلوا الكهرباء إلى بيوتهم..
أخذ مندوب الشيخ (ابن خموس) يطوف على المنازل، لإبلاغ جميع شباب القرية بالحضور إلى بيت الشيخ هاشم، كنت لا أعلم عن سبب هذه الدعوة المفاجئة مع أن والدي وأخي نصحاني بعدم الذهاب.. والبقاء لمذاكرة مادة الحديث للصف السادس، لكنني رغبت بشوق في حضور هذا الاجتماع الذي لم يحدث للأولاد من قبل؛ فلم نكن نذهب إلى منزل الشيخ إلا في عيد الفطر برفقة الآباء، فنستمع إلى الكبار وهم يتحدثون وبأصوات مرتفعة عن بعض القضايا المتعلقة بالغابة أو الحمى، والمشكلات الفردية أو بين طرفين، ثم ننقضّ _نحن الصّغار_ على صحون التمر، وقد نحشو الجيوب.
في هذا الاجتماع الذي كنا نعتبره شيئاً مسلّياً يشبع استطلاعنا عمّا يراد منّا، لم يقدم لنا التّمر كالعادة في كل عيد، بل فوجئنا بالوعد والوعيد والتهديد إن لم نعترف بمن (خرّب الماطور) أو ندلّ عليه..
وحينما لم يعترف أحد؛ قرر الشيخ وكبار أهل القرية إنزالنا إلى (الدبلة) وهي مكان منخفض جداً تحت الدور الأرضي.. تحت (السافلة)، وقيل أن هذا مكان السّجن قديماً، فكان منّا من يضحك، أو الغاضب أو الخائف الحزين...
تذكرت نصيحة والدي لقناعته ببراءتي؛ بألا أذهب.. ولأن مثل هذه الفعلة لا يفعلها صغار السّن؛ (ما تغدي عن العزبان الكبار).كما قال.
أخذنا نتزاحم في ذلك القبو المظلم للاقتراب من نافذة صغيرة لاستنشاق شيء من الهواء، ولنستمد منها بصيصاً من النور..
سمعت أخي عبدالهادي يناديني من خارج النافذة ليعطيني كسرة خبز، وضعها في كتاب الحديث (مادة اختبار الشهادة الابتدائية لليوم التالي). أخذ يضحك قائلاً: ذاكر.. ذاكر، اختبار الحديث غداً..
ومع حلول ظلام الليل سمعنا الباب يفتح لإطلاقنا، فاندفعنا نستبق الخروج عائدين إلى بيوتنا.



* * * * *


كان عددنا في الصفّ السادس "عشرة طلاب" في عام 1378هـ فقد بدأت تتزايد المدارس سنة بعد أخرى، وكل قرية مهما قل عدد أبنائها تسعى لفتح مدرسة بها للبنين، أما البنات فلا مدارس لهن في ذلك الوقت حتى عام 1381هـ حيث فتحت أوّل مدرسة للبنات في (بلجرشي).
كان الاختبار شيئاً رهيباً لنا، فقد توافد إلى القرية طلاب الصف السادس من المدارس الأخرى، فمنهم من أقام مع أسرة من أهل القرية.. أو رافقهم بعض أهلهم للاهتمام بهم، وإعداد طعامهم أو إيقاظهم. وآخرون يأتون صباح كل يوم لأداء الاختبار ثم يعودون إلى منازلهم سيراً على الأقدام أو على الحمير..
ويتم الاختبار أمام لجنة من المعلمين وعدد من مسؤولي التعليم.. موظفين أو مفتشين، وكان رئيس هذه اللجنة مدير التعليم (المعتمد) كما نسميه، وكانوا يسكنون داخل المدرسة المبنية من الحجر ومسقوفة بالخشب.. فنخضع لتفتيش دقيق للجيوب، والسراويل وتحت العمامة والظهر، وأذكر أن طالباً حضر وهو يرتدي ثوبين، فاكتُشِف أنّ ثوبه الداخليّ منقوشاً بالمعلومات، فطلب منه بعد بكاء وتوسّل أن يخلع ثوبه، ويتركه خارج المدرسة، وأثناء الاختبار نسمع من أحد المراقبين أو الملاحظين يقول بصوت مرتفع:
(مضى من الوقت نصف ساعة.. عند الامتحان يُكرم المرء أو يهان... أو بقي من الوقت عشر دقائق...) فنزداد قلقاً وتشتيتاً وربكة.
كنّا قبل بدء الاختبار بعدة أسابيع قد كتبنا (استمارة الاختبار)، وكان هذا الإجراء حدث كبير وهام بالنسبة لأساتذتنا في المدرسة، ولنا الويل والتهديد لمن يخطئ في ملء هذه الاستمارة، ثم يعاد جزء من هذه الاستمارة تحت مسمى (رقم الجلوس) أثناء أداء الاختبار.. فلكل طالب رقم جلوس خاص به على مستوى جميع المدارس الابتدائية في المملكة التي بلغ عدد طلابها (5182) طالباً للمرحلة الابتدائية في ذلك العام، عرفت هذا العدد حين تسلمنا الشهادات بعد سنوات.
كان فراشنا الحنابل وبسط الخصف، مع تثبيت بطاقة رقم الجلوس أمام كل طالب على البساط.
كان جلوسي على الأرض أمام مكتب رئيس اللجنة.. وكلما جلس على مكتبه؛ أخذ ينظر إلى ما أكتبه من إجابات فأجد حرجاً وتشتيتاً لذهني وأفكاري، فأشعر بأنه يحاسبني على إجاباتي أو أخطائي، فأكتب وأشطب. ويسألني شقيقي عبدالهادي عن الأسئلة ومدى سهولتها، فأقول إنها سهلة لولا مداومة نظر (المعتمد) أو قلت المفتّش.. لما أكتب بحكم جلوسي تحت مكتبه، مما يجعلني أحياناً (ألخبط) في إجابتي، فما كان من أخي بحكم معرفته بأعضاء اللجنة، وهو حينها مدير لمدرسة قرية الباحة.. ولعله أوعز لأحدهم بهذه المعاناة، فانحلت هذه المشكلة التي أعاني منها. ثم بلغني أن رئيس اللجنة كان مغتبطاً بإجاباتي، ومعجباً بحسن خطّي.
لم نكن ندري عن مصير إجاباتنا، وأين وكيف يتم التصحيح.
فعلمنا أنها تُرتّب في ظروف مختومة بالشمع الأحمر وبالأرقام/أرقام الجلوس، مع فصل الأسماء وترسل إلى مكة المكرمة، وربما إلى الرياض لتصحيحها.
بعد عدة أسابيع ظهرت النتائج، فكنّا ثلاثة فقط في الدور الأول.
وقد تسلمنا شهادات النجاح من الصف السادس "الشهادة الابتدائية" بعد سنوات من وزارة المعارف بتوقيع وكيل الوزارة معالي الأستاذ عبدالوهاب عبدالواسع .
لا ننسى ذلك الموقف، حين نجحت من الصف السادس (الشهادة الابتدائية) عدت إلى المنزل فرحا أنهب الأرض جريا لأبشر والدي, فقد كنت أحمل في جيبي (سيجارة) فأخفيتها فوق رأسي تحت القبعة والعمامة لئلا يراها والدي, فهنأني, وقبلني, ومنحني ريالاً أو ريالين, مع عبارات المديح والتشجيع, جلست بجانبه مزهوا, وشعرت بتدفق العرق من رأسي بسبب سيري السريع إلى البيت فما كان مني إلا أن خطفت العمامة من فوق رأسي لألقيها بجانبي, فإذا بالسيجارة تنطلق لتستقر في حجر والدي, فنظر إليها بابتسامة مريرة, والتفت إليّ بعد صمت رهيب وقال:من أين جاءت هذه السيجارة, لعلها سقطت من السقف.. اجبني؟؟ من أين، لم لا ترد؟اصفر وجهي, وارتعدت أوصالي خوفا, فما كان منه إلا أن أطبق يده عليّ قبل أن أنطلق هاربا, ونالتني منه الصفعات والتوبيخ بدل تلك القبلات والمديح, فلم ينقذني غير توسلات أمي ووعودي وعهودي بالتوبة عن هذه العادة الســيـــئة, ولا عجب فقد كان عدد من رجال القرية وعلى الأخص من كان يسافر إلى مدن أخرى.. يدخنون وكذلك والدي ومعلمنا الذي ذكرته في الصف الخامس والسادس, ابتداء من أنواع الدخان (الأخضر , واللف , وأبو غليون , وأبو ورده... الخ)..
فقد كنا نشعر –عن جهل– بأن ممارسة التدخين يكمل لنا سمات الرجولة والشباب, وكان احد الرفاق ممن لدى أسرته دكانا لبيع مختلف الحاجيات الأسرية والمواد الغذائية ومنها (الدخان), فكان رفيقي وصديقي هذا يجلب لنا بعض الدخان وتعلمنا منه كيف ندخن والطريقة الصحيحة لامتصاص وشفط السيجارة فكان يقول:
شفط السيجارة ونفث دخانها مباشرة خطأ, والأصح أن (تكنها) أي بشفطها وتبلع الدخان ثم تعيد إخراجه من الصدر والأنف, وهذه الطريقة جعلتنا (نتولع) وندمن على التدخين, ونشتريه, وكان والدي يكره هذا الصاحب الذي علمني الدخان ولا يود أن أصاحبه أو امشي معه أو أزوره أو يزورني في المنزل وظل على هذا الموقف لا يرتاح إليه حتى بعد أن كبرنا.

يتبع........................

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 03-28-2010, 11:40 PM   رقم المشاركة : 17

 

جهد موفق اخي سعيد الفقعسي بارك الله فيك وفي من الف كتاب المعلامة واحسنت صنعا عندما نشرت فصوله وجزاك الله عنا خيرا وتقبل خالص تحياتي وتقديري .

 

 
























التوقيع



سبحانك اللهم وبحمدك عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك .

   

رد مع اقتباس
قديم 04-02-2010, 10:54 PM   رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالحميد بن حسن مشاهدة المشاركة
جهد موفق اخي سعيد الفقعسي بارك الله فيك وفي من الف كتاب المعلامة واحسنت صنعا عندما نشرت فصوله وجزاك الله عنا خيرا وتقبل خالص تحياتي وتقديري .
شرفني مرورك اخي الحبيب عبدالحميد وجزاك الله كل خير وحفظك ورعاك

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 04-02-2010, 11:01 PM   رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 

المعلامة

الجزء التاسع:


السفر إلى مدينة الطائف أمنيه لايعادلها شيء ونحن في تلك المرحلة من العمر وكان بعض أهلنا في الجنوب مازالوا يقولون عن الطائف, ومكة, وجدة (الشــــام) وقد يطلقون على أهل هذه المدن مسمى (المكاكوة) نسبه الى مكة المكرمة كما يطلقون أهل هذه المدن كلمة (الحجز... حجازي) على أهل الجنوب عامة, ولقد رأيت – فيما بعد– في سجل قيد الطلاب الدارسين في المدرسة التي درست بها أمام كل اسم, الجــنــســيـــة: (حجازي) يا لسعادتي حين قرر والدي رحمه الله أن أسافر معه في سيارة لنا يقودها شقيقي (أحمد), وهي لوري موديل 1952م, فكان عمي (أحمد عقيل) يقيم في الطائف ويقتني عدد من السيارات ومعه عمي (عقيل) يرحمهما الله, كانوا ينقلون المسافرين الحجاج الى اليمن, والبضائع وصفيحات وبراميل والكاز إلى خميس مشيط وجيزان وصنعاء وكذلك ممن أعرفهم وأسمع عنهم في ذلك الحين (آل حجر, والمروة, وال ملّة, والعريكة, والعبيدالله, آل محفوظ, الرامي .... الخ) ثم تكاثرت الأسر والأسماء في كل قرية كبني جرّة وخيرة.....
قبل تلك الفترة بسنوات قليلة لا تصل السيارة إلى المنطقة (قرى غامد وزهران) فكانت تقف في (بطحان, بيدة), ويواصل المسافرون السير على الدواب, ثم شق طريقان عبر (عرق بني يسار في زهران) و(الصنة) في (بني عبدالله), وقد ساهم الأهالي من الجهتين في توصيل الطرق بجهود تعاونية مع الدولة, من أصحاب الأراضي التي فيها هذا الطريق الترابي, مع إسهام عدد من الرجال المتنورين ومن أصحاب السيارات الذين يقدرون أهمية شق الطريق إلى كل قرية, وأذكر منهم (سعد بن شيبان وأحمد عقيل) وبالتأكيد هناك رجال آخرون في زهران وغامد أسهموا في هذه المهمة التعاونية بتنافس وأريحية.


* * * * *
سافرت لأول مره عام 75 أو 1376هـ إلى الطائف في صبيحة يوم الاثنين (اليوم المعتاد في السفر) فكان معنا في السيارة عدد من الركاب المستأجرين عن طريق (عرق بني يسار) ثم (بطحان وبيده) ثم توقفنا في السويسية لتناول الغداء والعشاء والنوم في (شقصان) ثم وصلنا إلى مدينه الطائف اليوم التالي (الثلاثاء). كان الطريق ترابيا لا يخلو من عوائق رملية وحجرية وأودية, ومن شدة الشوق إلى رؤية مدينة الطائف.. كنت في كل مره اسأل والدي: (متى نصل الطائف)؟؟ فيحدثني أنه قد سافر عدة مرات على (رجله) مشياً أو على حمار أو جمل, فيقطعون المسافة في مدة (سبعة أيام) ولا يسافرون إلا جماعات خوفاً من مخاطر السفر وقطاع الطريق, وحين العودة يتزايد احتمال النهب والسلب, ومن لديه نقود كسبها من العمل يفضل أن يحولها إلى (جنيه ذهب) كنت أتشوق إلى هذه الحكايات والقصص الواقعية فأستزيده بإلحاح, فيقول:
(عملت في مكة المكرمة وهي المدينة المباركة التي يجد الناس فيها أعمالاً مختلفة وعلى الأخص في موسم الحج.. (صبياناً) في المنازل (لصغار السن) أو مع مطوفي الحجاج أو في دفع عربات السعي للحجاج أو حمل (الشبرية) في الطواف أو في السقاية والتحميل.. يقول: (ولقد عملت صبيا في دكان صائغ يسمى: (عبدالغني) وازددت مهارة ومعرفه بعد أن علمني (فرج).. مهنة الصياغة،وكسبت أجرا كثيراً, حولته إلى (جنيهين اثنين), وفي عودتي إلى الديرة/الحجاز, مررنا بالطائف, وجدناهم يبيعون الأراضي حول مستشفى الملك فيصل الحالي بسعر المتر (أربع قروش), وقد كان في مكان المستشفى حين ذاك (المجزرة) كان يمكن شراء مساحات شاسعة بمبلغ بسيط لكننا ورفاقي رفضنا مستنكرين على من يشتري أرضاً في ديرة غير ديرته!!).
يقول: (قررنا أنا ومن معي ممن لديه (جنيها ذهبياً) أن نقوم ببلعها مع حبة تمر أو طعام, ونفذنا ذلك, ونظل نبحث عن (الكنز) الذي في بطوننا كلما ذهبنا إلى الخلاء لئلا نفقده دون أن نشعر..., كنا متعاونين في السراء والضراء, ولا نسير على الأخص في السفر إلا جماعات ومتحزمين با السلاح, ثم يقول: يا الله لك الحمد اليوم أمان وطاعة رحمان.., ثم يعقب –يرحمه الله– وبأسلوب طريف قائلا : (كيف لو عشتم ما عشناه.. كان الواحد منكم مات من الجوع, أو هرب وخلى الجمل بما حمل لو بدا بادي أو عادي...) كان يحدثني يرحمه الله عن أشياء ومواقف عجيبة, وهي اليوم أعجب, ولا نكاد تُصدق أو يستوعبها جيل هذا العصر.. فيما يتعلق بعادات الزواج أو طريقة الختان. ومقاومة (النمور) في مناطق تهامة... يقول: نشأنا أيتاماً صغاراً ومكثت فترة أسكن مع خالي (هادي) في بيشة وكان ابنه (محمد) (نديدي)، وافتقد خالي (ربع قرش) فقال لنا (أنا وابنه): من أخذها؟ فحلف كل منا بالنفي، وأخيراً قال: والله لئن لم تعترفا (لألحسكما) وحين لم يصل إلى نتيجة، قام بتسخين سكين عريضة في النار حتى احمرّت، ثم بدأني فلحستها، فوالله لم أشعر بشيء بإذن الله _لأنني بريء_ وحين جاء دور ابن خالي انطلق هارباً، وكان هو الذي اختلس (ربع القرش)...
فينسيني بهذه الأحاديث سؤالي المتكرر عن الطائف ومتى نصل إليها؟! كنت متذمراً من طول السفر, بالرغم من حبنا لامتطاء السيارة وعلى الأخص حين نتسابق على الجلوس (فوق البرندة) وعلى السيارة (اللوري) مع ما نتعرض له من غبار واهتزاز وشمس وهواء شديد, وكأننا على كفوف الراحة والمتعة وذلك لحداثة العهد بركوب السيارات وقلة وجودها.
حين اقتربنا من ضاحية الطائف الجنوبية (ليّة), قال: والدي (مازحاً).. هذا هو الطائف.. فأخذت أشرئب متأملاً منازلها الصغيرة البيضاء, ونوافذها الجميلة, يحيط بها ألوان بيضاء أو زرقاء, وتكاد تغطي البيوت مزارع وبساتين كثيفة.. (كدت أصدق أنها الطائف) ثم توقفت السيارة, وطلب من الركاب دفع (الحساب) أجرة الركوب, وهي (أربعة ريالات عربي فضه), أو دفع عشرة ريالات ورقية (إصدار عام 1373هـ) مع دفع تكاليف طعام الغداء والعشاء بين الركاب المشتركين..
وصلنا الطائف ضحى اليوم الثاني, حين رأيت الطائف ــأول مره سافرت إليهاــ أحسست أنني في حلم كل شي بالنسبة لي غريب وعجيب ومذهل, تلهتم نظري المرئيات وأندهش أمام كل صغيرة وكبيرة.. المنازل بأشكالها وألوانها، المحلات والدكاكين.. المقاهي.. الناس وهيئاتهم, وأحاديثهم المختلفة عن فهمي أو ما اعتدت عليه في الكلام.. , وما أكثر أسئلتي التي لا تنقطع, حتى ذلك المنادي كل صباح بائع اللبن المتجول, اسمعه يقول: (.. بون.. بون) فأسأل والدي عن (بون.. بون) فيجيبني مبتسماً: هذا بائع اللبن يقول : ( لبن .. لبن ) ومع تنغيم نداء البائع فإنني أسمعها وأفهمها هكذا. وآخر ينادي (فريينيا.. فريينيا) بمعنى (ملابس فرقنا) والماء يأتي إلى منزل عمي بواسطة الزفة في برميل كبير يجره الحمار كنت أرافق والدي في جميع تحركاته, وعند ذهابه من حي الشهداء الذي يتوقف العمران بها قبل سوق ودكاكين (منشية خان با فيل) القائم الآن. فأرافقه إلى (سوق البلد) سيراً فأجد متعة في مشاهدة ما حولي, وتلك السيارات القليلة جدا والمختلفة الأشكال.., ويجيبني والدي –يرحمه الله– على أسئلتي المستمرة الساذجة أو المضحكة.
كان عمي أحمد عقيل يرحمه الله, لديه سيارة (فورد موديل 46) فأشعر بسعادة كبيرة حين أركب وأبناؤه معه, فيأخذنا مرة في كل أسبوع للتنزه إلى جهة المثناة قريباً من مسجد (عداس) ومسجد (الخبزة ), ويرافق عمي صديقه (عبدالرحمن مجحود) يرحمه الله.
نشاهد المزارع وبساتين العنب وأشجار السدر المحملة بالنبق على جانبي الوادي (وادي وج).
كان عمي أحمد حازماً مهاباً يخافه أبناؤه إلى درجة كبيرة ولا نسلم من عقابه لأي خطأ. وأتذكر حين قدم إلينا في الحجا/رغدان, وعلم بأنني وابنيه ذهبنا إلى الوادي الذي يتدفق بالمياه طوال العام, وسبحنا في بئر يسمى (بئر الحبل), مكثنا (نتشرّع في البئر) فترة طويلة, فعاقبنا بربطنا في المكان الذي تربط فيه الحمير في الساحة أمام البيت بجوار ( مذود الحمير) استنجدت بوالدي لينقذنا من هذا العقاب فردعليّ قائلاً: (تستاهلون..) ثم أطلق سراحنا بعد أن همس له والدي بإطلاقنا، فالزوار لا يكادون ينقطعون عن منزلنا لقضاء حاجاتهم عند والدي لصياغة حلي الفضة وصناعة الخناجر والسيوف وإصلاح البنادق وللاستماع إلى (ألرادي) المذياع الوحيد, الذي جلبه عمي معه من (الشام) الطائف ومكة. كان يجتمع الرجال والنساء من القرية للاستمتاع ومشاهدة هذا (الصندوق) الذي كنت أحسب أن الذين يتحدثون منه هم أناس بداخله..!
أذكر في تلك الرحلة إلى الطائف أو في سفره بعدها.. أن رجلاً من سكان الطائف حين راني برفقه والدي في طريقنا إلى (سوق البلد) نادي والدي قائلا: (.. الواد يجاود)؟ فأجابه والدي بالنفي ثم قال: هذا ما يجاود.. عنده شهادة سادسة. لم أعلم ماذا يعني بقوله (يجاود) و(الواد) شرح والدي كلام الرجل وهو يضحك: ( يعني تشتغل عندهم في البيت.. صبي.. وتكنس وتنظّف البزورة...) وسألته عن معنى البزورة؟
قال: ( السفان الصغار.. تنظفهم) وقهقه ضاحكاً، فما كان مني إلا أن غضبت من ذلك الرجل الذي يسأل والدي هذا السؤال، ويعتبر هذا السؤال عاديّاً من أهل مكة أو الطائف المتحضرين حين يشاهدون رجلاً من خارج المدينة يرافق ولداً صغيراً في العاشرة.
فكان أبي وعمي يمازحاني فيقول لي أحدهما: (.. ياواد تجاود..) فأنصرف غاضباً, ويضحكون مني..


يتبع .....................

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 04-09-2010, 10:39 PM   رقم المشاركة : 20

 

المعلامة

الجزء العاشر :




ذات يوم من عام (1376)هـ حدث في القرية في الجبل الشرقي انفجار لغم في رجلين أحدهما من أهل القرية (فائز) والآخر رجل يمني, كانا يقومان بتكسير وقطع الصخور لجلب الحجارة على الجمال واستخدامها في بناء المنازل وقد كانا طوال النهار يثقبان الصخر في عدة أماكن, مع وضع (البارود), ولعله حصل خطأ ما فأنفجر اللغم (اللغب) فيهما.. سمعنا الانفجار والاستغاثة فأصيبا إصابات شديدة , ولم يكن في ذلك الوقت مستشفى أو طبيب سوى في الظفير (الحكيم ابن طلميس) ثم بعده قدم الدكتور بشندي في الظفير نقل (فائز) إلى بيته ونقل الرجل اليمني إلى بيت هاشم بن عدنان شيخ القرية والقبيلة..
انطلقنا إلى الجبل نحن الصغار للمشاهدة, فرأينا أحدهما محمولاً على ظهر رجل من أهل القرية (عبدالله بن سعيد), والآخر على سرير. في ذات اليوم أو بعده بيوم حدثت (الفاجعة الكبرى) لأهل القرية في الطائف, حين وصل أسوأ خبر عن حادث احتراق (أحمد عقيل وعبدالرحمن مجحود وسعدي بن ضرمان, ورجل من أهل الطائف اسمه الأسيود) ماتوا جميعا حين انفجرت سيارة عمي, وهم بها متجهين من الشهداء إلى (سوق البلد) وبجوار مسجد (البقيرة) أُقيم العزاء في الطائف وفي القرية ( رغدان ), والجميع في حزن عميق.. لأول مرة أشاهد والدي يحجب عينيه بكفه ويبكي. حضر الناس والأقارب وأفراد القرية للمشاركة والعزاء والتحقق من هذه المصيبة.. وقد صادف أن جدتي لأمي (مستورة) قدمت إلينا من قرية في زهران, ورأت البكاء والعويل من جميع النساء, فأخذت تبكي وتواصل البكاء, وبعد أن هدأ البكاء وسكنت الأصوات, قامت –يرحمها الله– تسأل ببراءة إحدى النساء قائلة: (يا بنتي.. ليش يبكون..؟).
وبعد فترة طويلة كانت الأهل يتذكرون هذا الموقف منها, ويتندّرون به عليها قائلين: (كيف تبكين ولاتدرين..) فقد كانت تبكي بحرقة شديدة.
توجه الرجال من ذوي المصابين ومعهم آخرون من أفراد القرية إلى الطائف بعد بحث في القرى المجاورة عن سيارة تنقلهم فلم يجدوا بسهولة, وأخيراً وجدوا سيارة (إسماعيل بن ملّة) يرحمه الله (الأبلاكاش) فرحل بهم إلى الطائف ثم وصل خبر تفاصيل الحادث كما قيل: فقد ركبوا _يرحمهم الله_ السيارة وكان معهم في السيارة (تنكة) صفيحة مليئة بالبارود لإيصالها إلى دكان عبد الرحمن مجحود, وكان إلى جانب الصفيحة بطارية للسيارة, فربما كانت ألصفيحة فوق البطارية, وبعد سيرهم مسافة قصيرة, وأمام مسجد البقيرة حدث الانفجار داخل السيارة .. اكتظ الدخان داخلها.. حاول الناس مساعدتهم وإنقاذهم, لكن أبواب السيارة تمددت من الحرارة ولم تفتح, حاول الناس استخدام السواطير والفؤوس من المجزرة المجاورة.., وبدأت النيران واللهب يخرج من النوافذ, وقيل أن (عبدالرحمن بن مجحود) كان في جيبه وثائق أو أمانات ولفّها في عمامته وقذف بها من داخل السيارة, وبعد وصول (الإطفاء) كما يسمى ذلك الوقت, وأُطفئت النيران وفتحت الأبواب أخرج الرجال ولم يعرفوا, وقد كان عمي موظفاً مرموقاً في الإطفاء (الدفاع المدني). وقد فارقوا الحياة وبقي (الأسيود) فيه رمق، وحين سئل قال: معي (أحمد عقيل وعبد الرحمن مجحود, وواحد حجازي من جماعتهم _يعني سعدي بن ضرمان) ثم توفي (يرحمهم الله) وتعرف عليهم للتأكد ابن عمي (سعيد) بمعرفته لسيارة والده. يقول (عبدالله بن محمد): كنت معهم في ذلك الوقت, وتمنيت أن أركب معهم في السيارة لكنني تأخرت قليلاً فذهبوا بدوني..
وكثيرا ما يتذكر والدي مقولتهما منذ زمن, وأمنيتهما إذا جاءت الوفاة, أن يموتا معاُ: (عبدالرحمن بن مجحود, وعمي).





* * * * *

حصلت على (الشهادة الابتدائية ) عـــام 1378هــ, وكأنها شهادة الدكتوراه, والدي يود أن أذهب إلى معهد المعلمين الابتدائي الذي افتتح حديثا في (عراء/بني ضبيان) أما أخي عبدالهادي فقد اقترح أن أدرس في متوسطة بلجرشي الجديدة وتبعد عنا ثلاثين كيلاً, وهي المتوسطة الوحيدة في المنطقة, كان يستمع إلى هذا الحديث أحد الأرحام من المنطقة وكان مقيما في الطائف, فأبدى ترحيبه بأن أدرس في الطائف, وأسكن معه في منزله بعد وفاة عمي.
كانت هذه الفكرة غاية ما أتمناه بأن أرحل للدراسة في مدينة الطائف, فرحت فرحاً شديداً, فلم أصدق أنني سأذهب إلى الطائف وأقيم فيها للدراسة, رافقت والدي إلى الطائف للمرة الثانية من أجل أن أسجل في المتوسطة أو المعهد,.. لم أقبل في المعهد _لصغر سني_ كما قيل لنا, وكان المعهد أو مقر التسجيل في مبنى مجاور لمقر إدارة التعليم السابق في حي العزيزية, وفي المدرسة المتوسطة العزيزية سجلت للدراسة بها, وكان موقعها في شارع الملك فيصل, ثم انتقل مقرها في (نجمة) تلك المباني الفخمة في ذلك الوقت (تبرع بها للتعليم محمد سرور الصبان يرحمه الله), وتضم المتوسطة والثانوية بمسمى (المدرسة الفيصليّة المتوسطة والثانويّة) ومديرها حين ذاك (الأستاذ حامد مير) يرحمه الله, ودّعني والدي عائداً إلى(الحجاز), بعد أن قام بشراء حاجاتي البسيطة , وأصر على إعطاء (رحيمنا محمد بن علي) يرحمه الله مبلغاً وقدره (مائة ريال), فرفضها قائلا: (أتريد أن تعطيني مصاريف طعامه؟ هذا لا يمكن, فأقنعه والدي قائلا: (إنها ليست للطعام, اعتبرها لفسحة المدرسة كل يوم نصف ريال).
أقمت مع صهرنا هو وإحدى زوجاته (من الحوطة) لا أكاد افهم حديثهما وكنت أعاني من الخجل والوحدة والغربة, كان يقيم مع الأسرة غلام في سنّي من أبناء (الديرة) لأهله صلة أو معرفه بربّ هذه الأسرة (محمد بن علي) فأُرسل للطائف للعمل في فترة الصيف فكان يعمل في هذا المنزل (صبياً), وفي المحل يقوم بجلب المقاضي والمهام الأخرى, فكان سلوتي في هذه الغربة لعدة أيام, لكن مشاعر الحزن على ذهاب والدي وفراق أسرتي, واشتياقي إلى قريتي البعيدة أخذت تتزايد حين علمت أن هذا الذي يؤنس غربتي سيذهب ويعود إلى أهله ليدرس بعد فتح مدرسة ابتدائية في قريتهم, وتفاقم إحساسي بمرارة الغربة والوحدة بعد أن سافر (خميس), وبالتدريج وبطريقة غير مباشرة، أخذت أقوم بمهام (خميس) في خدمة الأسرة في المراسلات فلا أجد غضاضة أو إحساساً ما, أول الأمر لكنّي تفاجأت بعد ذلك, بأن معارف (رحيمنا) وجيرانه في السوق وفي المنزل يعتبرونني (الصبي) صبي هذه الأسرة, وأنا البديل للصبي السابق (خميس) مرّ رجل برحيمي (محمد), وتحدثنا قليلا, ثم قال له: (أرسل لي الصبي..) يعنيني طبعاً, فلم يكلف نفسه بالتعريف بي, بأني لست (صبيا), وتذكرت عبارة: (ياواد تجاود..) فتزايد قهري وحنيني للعودة إلى أهلي, فأنفرد بنفسي باكياً منطوياً..
لم يكن الوسط المدرسي أخف وطأة, فلم أستطع الاندماج أو الانسجام مع من حولي, أجلس منفرداً مع أوقات الفسح, اكتشف كثير من طلاب الفصل أنني أتحدث بكلمات ذات لهجة قروية يضحكون منها, فأتوقف عن التحدث معهم, أما مادة الانجليزي فكانت أثقل الدروس علي, منذ أن بدأ المعلم يحفظنا نطق بعض المفردات, ويطلب منا ترديدها جماعياً, ثم فرادي ومنها مثلا (ييس... نو) ولا أدري ما الذي يضحكهم حين أنطقها, وسرعان ما يضحك المعلم, ثم ينفجر التلاميذ يضحكون مني, وكرهت الانجليزي, ومدرس الانجليزي.. حتى الدراسة كنت أذهب إليها بجسمي أما قلبي وعقلي فهما يحلقان هناك عبر المسافات البعيدة نحو قريتي الحبيبة "رغدان".
علمت أن أحد أبناء العم من المقيمين في المدينة انتظم للدراسة في هذه المدرسة, فاستأنست به, مع أنه يدرس في فصل آخر.. فرحت بوجوده لتبديد وحدتي, وكآبتي في الييت وفي المدرسة, وكنت أشاهده يحضر إلى المدرسة قبل الدخول, وأبحث عنه في الفسحة أو بين حصة وأخرى فلا أراه؟! وكل يوم لا همّ لي سوى البحث عنه داخل المدرسة، أشاهده يومياً قبل الدخول, لكنه يتجنبني, وينسحب عني بطريقه لبقة ثم لا أجده؟! حيّرني أمره, سألته في صباح أحد الأيام عن مكانه وأين فصله, قال: إنني موجود, لم تقنعني إجابته, تساءلت في نفسي, لعله لا يحب أن يلتقي بي, فعزمت بإصرار على مرافقته لندخل إلى المدرسة معا ولأعرف فصله الدراسي, لكنه بقي بجوار المدرسة, ولم يدخلها, ودخل جميع الطلاب, ولم يبق إلا أنا وهو, وتلميذاً آخر بقي بعيداً سألته: لم لا تدخل المدرسة؟ قال: وأنت لماذا لاتدخل قلت: إنني انتظرك, فأجابني متذمراً مني: لن ادخل اليوم.
أين ستذهب.. هل أنت مريض؟ لست مريضاً.. فلم أقم بحل الواجبات, فهل تذهب معنا إلى شهار, فنشتري (تميسة) ونفطر في (قهوة) هناك.. في قهوة البستان. استنكرت هذا الأمر قائلا: أتريد أن نهرب من المدرسة؟! فأجابني بغضب.. ادخل.. ادخل. ماذا تنتظر؟!
وركبا الدراجة (البسكليت) وانطلقا تتبعهما نظراتي الحائرة.. بلغ ضيقي مداه من كل شي.. البيت.. المدرسة.., الطائف كله ضاق بي, لم أهتم بالدراسة, وحل الواجبات, ولم أجد من يحس بحالتي وعقدتي النفسية التي تراكمت من كل جانب تبخرت تلك السعادة التي كنت أنتظرها للعيش في مدينة الطائف, كان كل همي أن يأتي والدي لأعود معه.
ذات يوم وصلت إلى المدرسة متأخراً, المنزل يقع من حي الشرقية من جهة وادي وج, والمدرسة في (نجمة) دار التوحيد حالياً, وذهابي على الأقدام.., حين وصلت وجدت الطلاب قد دخلوا.. عدا من يريد الهروب, وجدت ابن العم ومعه آخر, سألته ماذا تفعلان؟ قال: (سنفرك) سألته: ماذا يعني؟ قال: (سأغيب) قلت: سآتي معكما, وكان مع كل منهما دراجته, فكم كنت أتمنى أن أتعلم قيادة (البسكليت) أو ركوبها على الأقل, رحبا بي فرِحَين, ركبت خلفه على الدراجة, وأكاد أسقط بين مرة وأخرى. وصلنا إلى مقهى البستان بعد شراء (التميس والجبنة والسجائر والفصفص) كانت القهوة ترى منفردة من بعيد في حي شهار الخالي من العمران حينذاك، سببت لرفيقي ضيقاً وتذمراً لسقوطي عدة مرات من فوق الدراجة, وبقينا في المقهى حتى وقت الانصراف, ثم عدنا إلى المنزل, وتواصل التغيّب مره بعد أخرى بهذه الطريقة, فكانت النتيجة نصف العام الرسوب في أكثر المواد, مع نجاحي في ركوب (السيكل) وقيادته

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:54 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir