أحبابي الموتى للشاعر أنور العطار
أحـنُّ إليـكم كـلّما ذرَّ شـارقٌ
وأبكـيكمُ ما عشتُ في السرّ والجهرِ
أحـبّايَ يـا سؤلي ويـا غاية المنى
طويتمْ ضلوعَ القلبِ مني على الجمرِ
وبـتُّ أنـاجـيكمْ وأهفو إليكمُ
وأصـبو إلى لـقيـاكمُ آخرَ الدهر
كأنّيَ لحنُ الحب قيثارة الهـوى
أنـوحُ على الأحبابِ بالأدمع الحمر
أصـوغهم شـعراً يفيضُ مواجعاً
وأنـظـمهمْ عـقداً يتيه على الدرِّ
وأودعـهمُ قلباً تـقـطّع حسرةً
عـليهـمْ، وعيـناً دمعها أبداً يجري
فيا عهدهمْ لا زلتَ نضراً على البلى
تـرفُّ رفيفَ النورِ في أضلع الزهر
ويـا طيفـهم زدني اشتياقاً ولوعةً
يزدكَ الهوى ما شئتَ من دامعِ الشعر
* * *
فـيا أيُّها الغـادون لا البينُ صدَّهمْ
ولا حـجبتْ أنـوارهمْ ظلمةُ القبر
جفونيَ مـأواهمْ، ضلـوعي قبورهم،
فيا لقبورٍ خـطَّها الحبُّ في صـدري
سَلوا الجفنَ هل طافتْ به سنةُ الكرى
سلوا الليلَ هل دارتْ به مقلةُ الفجر
إلى الـلهِ أشكو مـا أقاسي من النَّوى
وما يتنـزّى فـي الخواطر من ذكر
بـروحيَ أنـتم مـن محبينَ ودَّعـوا
فـودَّعتُ أفـراحي وفارقني صبري
ولـم تـؤوني الأرضُ الفضاءُ كأنني
سجـينٌ أقضّي العمرَ في النفي والأسر
بـعيدٌ عـن السلوانِ، صفرٌ من الألى
أشـاعَ هـواهم لذّةَ الشعر في ثغري
فـهل عـلمَ الأحـبابُ أنّ خيالهمْ
سمـيريَ في حُـلوِ الحـياةِ وفي المرِّ
إذا نـسيَ الإنسانُ في اليسرِ صحبه
فـلا خيرَ في التذكارِ في ساعة العُسر
أأيـامـنا لا زلتِ مـعسولـةَ الجنى
كـروضٍ شـذيٍّ رفَّ في حللٍ خضر
أنـاجيكِ بالقلبِ اللهيفِ من الجوى
وأرعـاكِ بـالودِّ البريءِ مـن الغدر
وأسقـيكِ دمـعَ العينِ سقيا كريمةً
إذا ضنَّ جَفْنُ السحب بالساكب القطر
سـلامٌ عـلى تـلك العـهودِ فإنها
أمـدَّتْ خريفَ العمر بالوارف النضر
وزانـت أناشيـدي ووشّتْ مدامعي
فمـنْ لـؤلـؤٍ نظمٍ إلى لـؤلـؤٍ نثر
وما شئتَ من ظلٍّ رخيٍ ومـن شذاً
ومـا شئتَ مـن طيرٍ يغنّي ومن نهر
أمـانيُّ فـي زهـو الحياةِ وفجرها
مـرصـعة الأفـياءِ بـالممتع المغري
أراكِ بـعينٍ قـد تـنكّر دهـرها
ومـا ألفتْ إلا الـوفاءَ عـلى النُّكر
وأصـبو إلى ذكـراكِ والذكر راحةٌ
لمـنْ عـاشَ في الهـمّ المبرحِ والخسر
وأشـتاق أُلافـاً سقـاني ودادهمْ
كؤوس الهوى حتى انتشيتُ من السكر
وحـتى كـأنَّ الـدهرَ طوعُ أناملي
ينـوّلني قـصدي ويُبـلغني أمـري
إذا زرتـني يا طيفهمُ في حمى الكرى
فـقد زارني سعدي وعاودني بشري
وأشـرقتِ الدنيا بـعينيَّ وازدهتْ
ليـاليَّ بـالأنـوار والأنجـم الزُّهر
وهـوّن مـا ألقاهُ من لاعج الضنى
وخـفّـف ما أشكوهُ من ثائرِ الفكر
* * *
مـررتُ على الدارِ التي غالها البلى
وقـوّضها حـتى استحالتْ إلى قفر
فـنازعـني قلـبٌ يذوبُ صبابةً
إلـيها، ودمـعٌ لا ينـهنهُ بالـزَّجر
أطوفُ بها والروحُ يعصرها الشجا
ويـغمرهـا بـالبشرِ حـيناً وبالذُّعر
هنا الأهلُ والأحبابُ والقصدُ والمنى
هـنا المـلتقى بعـد القطيعةِ والهجر
هنا تجثمُ الذكرى، هنا ترقدُ الرُّؤى
هـنا المـوتُ يبدو في غلائله الصُّفر
هنـا يقـرأ الإنسانُ سـفرَ حياتهِ
ويـا هـولَ ما يلقاهُ في ذلك السفر
صحائفُ إن قلّبتها ازددت حسرةً
عـلى مـا بها من غائل ِ الغدرِ والشر
هـنا العبرةُ الكبرى التي دقَّ شأنها
وأعـوزها سبْـرٌ فأعيتْ على السّبر
هـنا يخشعُ القلبُ الشجيُّ مردداً
كـتابَ الرَّدى المحتوم سطراً إلى سطر
بنـفسيَ أرواحٌ رقـاقٌ حبيـسةٌ
مضـمّخةُ الأعـطافِ مسكيةُ النشر
تـأرَّجُ بـالذكرى وتعبقُ بالهوى
كـأنَّ بهـا عـطراً أبرَّ عـلى العطر
أعيـشُ بها جذلانَ يسعدني الرضا
ويـقنـعني مـنها الخيالُ إذا يسري
* * *
سـلامٌ على الأحبابِ إنّ طيوفهمْ
لتـملأ هـذا الـفكرَ بالنائلِ الغمر
ولـولاهـمُ لم أجنِ ريحانةَ الهوى
ولـولاهـمُ مـا شمتُ بارقةَ العمر
ولا صـغتُ أنـغاماً لطافاً شجيّةً
أرقَّ مـن النجوى وأصفى من الخمر
يـرى الـمفردُ الحيرانُ فيها أليفهُ
وينـسى بهـا دارَ الخديعةِ والمـكر
* * *
عـفاءٌ عـلى الدنيا فما هي لذّةٌ
إذا كـنتَ في شطرٍ وقلبكَ في شطر
ويـا بـؤسَ محيانا ويا طولَ غمّنا
ويا شـدَّ ما نلقاهُ في الدهر من قسْر
ويا شوقنا للصحب في غمرةِ الرَّدى
وفي هـدأة المثوى وفي رقـدةِ العفر
* * *
نـمرُّ خـيالاتٍ يوشّحها الأسى
ونـنزع أثوابَ الحياةِ ولا ندري
ونـطرحُ أيـاماً ثـقالاً رهيبةً
براءً من الألوانِ خلواً من السحر