الأمير سلطان بن عبد العزيز
الموت سنة الله في خلقه.. ولو كان الخلود في الدنيا يشترى لبذلنا كل ما يمكن أن نفتدي به الأمير سلطان بن عبد العزيز – يرحمه الله –.
الأمير سلطان ليس رجل دولة فحسب ولكنه مجموعة رجال إذا عدّينا الرجال. إنه لا يمثل لي رجل سياسة فقط ولكنه عندي أبٌ لكل مواطن، وشيخ لكل قبيلة وعشيرة؛ وحكيم في زمن شاعت فيه الرعونة وانتشر فيه التسرع وعدم الروية.
ونحن المواطنين في المملكة العربية السعودية نقبل سنة الله ونرضى بقضائه وقدره ونقدم تعازينا إلى قائدنا وإمامنا ومليكنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وكافة أفراد الأسرة المالكة ونقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
لا شك أن الحزن يغمر كل قلب، والدمع ينهمر من عيون كثيرة.. ولكن عندما نستذكر سهره وجهده في سبيل خدمة الوطن فإن ذلك حافز لنا للاستمرار في العمل الوطني تحت قيادة وتوجيه خادم الحرمين الشريفين – يحفظه الله. وإذا كنا ندعو الله في هذه اللحظة أن يتغمد الأمير سلطان بن عبد العزيز بعفوه ورحمته فإن من حقه علينا أن نذكر ونتذكر مناقبه ومواقفه الإنسانية.
حبّه للعلم والعلماء
تلقى الأمير سلطان تعليمه على أيدي كبار العلماء والمدرسين.. ونهل من معين حكمة والده الملك عبد العزيز غفر الله له وهذا ما جعله بارزاً ومبرزاً منذ طفولته.. وقد رأيت ملامح وعلائم النبوغ والتفوق في جميع المواقف التي جمعتني به – يرحمه الله - .
في مجلسه ترى العلماء إلى جانبه.. يعطيهم أولوية الحديث وسامي التقدير والاحترام. لقد كان نائباً لرئيس اللجنة العليا لسياسة التعليم ثم رئيساً لها في أوقات شهدت فيها مسارات التعليم بالمملكة تطورات هامة وقفزات هائلة.
في وزارة الدفاع دعم مكتب الإشراف على مدارس أبناء منسوبي القوات المسلحة التي تم إنشاؤها في مناطق عديدة منها المنطقة الشرقية وكانت المدارس متميزة في مبانيها وتجهيزاتها وهيئات التدريس فيها.
جاء – يرحمه الله – إلى المنطقة الشرقية ليتفقد أبناء ومشاريع القوات المسلحة وكان لي شرف مرافقته إلى الجبيل حيث افتتح مدارس جديدة أقامتها وزارة الدفاع داخل القاعدة البحرية وأثناء تجواله على فصول ومرافق المدرسة استدعاني وقال ما رأيك في نقل هذه المدارس إلى إدارات التعليم، فقلت له: رأيي أن تبقى مع وزارتكم يحفظك الله فسأل مبتسماً: لماذا؟ فقلت له إني لا أريد لهذه المدارس أن تفقد اهتمامك ورعايتك.
حضرت جميع جلساته التي كان يعقدها للمسؤولين والمواطنين عندما يزور المنطقة وكنا نترقب دعوته لنسعد بحديثه فهو عندما يتحدث عن شأن من شؤون المملكة أوعن الجيران أو عن السياسة الدولية يربط الشأن بمواقف السلف الصالح ويحلل الواقع ببصيرة الناقد العارف بخبايا الأمور ويربط الإنجازات بملك البلاد ويؤكد على أن المملكة تتشرف بخدمة الحرمين الشريفين ونصرة الإسلام والمسلمين.. وهذا يجعلني أثق في حبه لقراءة أمهات الكتب وأحدث المؤلفات في السياسة والاجتماع.
ابتسامة حانية
ما كانت تغيب الإبتسامة عن ثغره.. يبتسم للمتحدث إليه، ويبتسم للسائل، ويبتسم للمسؤول الذي يقف أمامه.. ولقد كانت إبتسامته تجعل كلّ من يحضر مجلسه أو يقف أمامه يشعر أنه قريب من سموه.. وهذا – في نظري – مغزى السمو في ابتسامته. إنها ابتسامة قادرة على التأثير في الناس ونشر الإحساس بأنهم قريبين منه. وهذا يعود لأنه جواد يعطي ولا يأخذ. إنك عندما تحس أنك قريب من إنسان فإنك تشعر بالطمأنينة وتبدع في التعامل معه.
سافرت مع مجموعة من طلاب الدراسات العليا بكلية التربية بمكة المكرمة عام 1398هـ إلى بريطانيا لزيارة مؤسسات تعليمية وتربوية وقررنا، الطلاب وأنا، أن نقوم بواجب الزيارة لجلالة الملك خالد بن عبد العزيز – يرحمه الله – الذي كان يتلقى العلاج هناك. واستقبلنا الملك في قصره بشمال لندن فكنت أقوم بتقديم الطلاب وتخصصاتهم إلى جلالته الذي كان مسروراً بذلك. وفي هذه الأثناء وقف قريباً مني رئيس المراسم الملكية يومها السيد أحمد عبد الوهاب وهمس إلي قائلاً سلم على الأمير سلطان فسمعت سموه يقول للسيد اتركه يكمل مع طويل العمر.
سلمت عليه لأول مرة في حياتي.. وملك مني عقلي وفؤادي بابتسامته.. شعرت أني أعرفه من زمن طويل.
الذاكرة الحية
في عام 1399هـ جاء – يرحمه الله – إلى المنطقة واستقبلناه في مطار الظهران وفوجئت وسعدت بأنه حياني بلقبي العلمي.. المفاجأة كانت لأني لم أقابله إلا مرة واحدة في مجلس الملك بلندن كما أسلفت. وسعادتي كانت لأني ما أزال على باله المشغول بهموم وطن!!
في عام 1405هـ وفي قصره العامر بمدينة الخبر بالمنطقة الشرقية حضرت حفل غداء وفي حضور سمو الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز وبعض أبنائه الأمراء دخل إلى مجلسه مواطن عليه ملامح الحياة في البادية وحيًّا قائلاً: السلام عليك يا سلطان، كيف حالك؟! وعندما صافحه فاجأنا الأمير بأنه يرد التحية للمواطن باسمه ويقول له: الحمد لله على سلامتك.. عساك ما تعبت.
وبعدما أخذ البدوي مكانه التفت إليه الأمير سلطان وقال: كيف حلالك؟ وإيش أخبار العنز المريضة؟! ابتسم البدوي وقال: ما شاء الله يا سلطان.. ماتزال تذكر عنزي من خمس سنين!!
الكرم سجية
تقول العرب إن الكريم يعطي ويأخذ.. أما الجواد فإنه يعطي فقط ولا يأخذ ولا ينتظر الثناء من أحد. ولقد شهدت مواقف كرم وجود لسموه – يرحمه الله – أذكرها ولا أستطيع وصفها.
اتصل بي صديق يطلب مساعدتي في تأمين طائرة إخلاء طبي تنقل والده المريض من منطقة الباحة إلى مطار الظهران ليتلقى علاجه في مستشفى أرامكو. تبادرت إلى ذهني صورة الأمير سلطان. فأبرقت لسموه بالتلكس عن حالة المريض ورغبة ولده ورغبتي.. في نفس اليوم اتصل بي معالي الأخ عبد المحسن المحيسن يبلغني أمر سموه بتحقيق رغبتنا. وهكذا كان.
ذات يوم اتصلت بي عائلة سعودية من مكة المكرمة وطلبوا مني – بحكم معرفة سابقة – المساعدة في علاج ابنتهم التي تغالب المرض الخطير.. ومرةَ أخرى أبرقت لأمير الكرم عن الحالة ورغبتي.. ويتصل بي الأخ عبد المحسن المحيسن مرة أخرى يبلغني بأن سموه أمر بنقلها إلى المستشفى التخصصي بالرياض مع استضافة زوجها المرافق وتأمين سفرهم بين مكة والرياض وإكرامهم.
في إحدى زياراته للمنطقة ذهبنا معه إلى الأحساء بالقطار.. تفقد المشاريع والطرق والمزارع وزار عدداً من الوجهاء في الهفوف والمبرز والعمران.. وفي كل بيت تحس أنه هو يحتفي بأهل البيت وبنا نحن مرافقيه. عدنا إلى الدمام مساء وكان يتحدث معنا عن أمور تهم الجميع.. لمحت جندياً يهم بالدخول عليه فأشرت إليه أمام سمو الأمير أن يدخل. بعد التحية قدم الجندي خطاباً وفوراً أصدر الأمير تعليماته بعلاج والد الجندي على حسابه الخاص داخل المملكة أوخارجها والسماح للجندي بمرافقة والده حتى يمنّ الله على والده بالشفاء.
في قصره سواءً بالخبر أوبجدة كان – يرحمه الله – يختار تمراً أو رطباً ويطلب من مساعديه توزيعه على الضيوف ويشرح لنا محاسن التمر أو الرطب وأين زرع ومتى تم حصاده.
في عام 1990م غداة احتلال الكويت الشقيق.. وصل – يرحمه الله – إلى مطار الظهران واستقبلنا – وأقول استقبلنا - وصافحنا وحيانا واحداً واحداً.. وبعدها دلف إلى قاعة الاستقبال وتحلق حوله مئات الصحفيين العرب والأجانب وكانت الأسئلة باللغة العربية والإنجليزية.. اقتربت إلى حيث يجلس سموه لكي أشبع فضولي مما سيقول. وبينما كان يجيب على سؤال حضرت القهوة وتناول الفنجان وهمَّ بشرب أول رشفة فيما كان يجيل بصره في القاعة وفجأة أبعد الفنجان وقال وكأنه فقد شيئاً: قهووا الناس.
هذا هو سلطان بن عبد العزيز – يرحمه الله – إنسان لا تخونه الذاكرة، ولا يتوقف كرمه. هو سام في مقامه ومواقفه ولكنه متواضع يحب الناس.. كل الناس.
لم أكتب عن مناصبه ومسؤولياته ومساهماته في بناء هذا الوطن الذي نتشامخ ونزهو بأننا فيه مواطنون ولم أكتب عن مشاريعه الخيرية. ولكني آترت أن أذكر بعضاً من مناقبه الإنسانية.. وأسال الله أن يرحمه رحمة واسعة، وأن يسكنه أعلى الجنات إنه على كل شيء قدير.
وقفـــة
يروى أن الإمام الشافعي رحمه الله فقد عزيزاً فذهب معزياً وخاطب أهل الفقيد شعراً فقال:
إنــي معزِّيك لا إنــي على ثقـــة
مــن الخلود ولكــن سنة الديـــن
فلا المعـزَّى بباق بعـد صاحبــه
ولا المعزِّي وإن عاش إلى حين
اهداءات ساحات وادي العلي
10-25-2011, 08:14 PM
العرض العادي
