والله غالب على أمره( الحلقة الأولى )
( والله غالب على أمره ،ولكن أكثر الناس لايعلمون ) وردت هذه الاية في سورة يوسف وهي تعني أن الله إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فلا راد لأمره وَلا ممَانَع له وَلامخَالَف ، وقد اراد الله ليوسف عليه السلام أن يكون نبيا وحاكما لبلاد مصر فإرادة الله تغلب إرادة غيره، ومشيئته تغلب مشيئة غيره " والناس لايدرون ماهية حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد فكيف غلب أمر الله أمر من سواه واصبح يوسف نبيا وحاكما لتلك الديار ؟!.
بدأت القصة من إسحق جد يوسف عليهما السلام وهو أخو إسماعيل أبو العرب إذ كان إسحق يسكن أرض كنعان وهي أرض ( العراق وماجاورها ) وقد تزوج من إمراة إسمها ( ِرقّّا ) فرزقه الله منها بإبنين تؤامين الاول إسمه ( عيصو ) وتسميه العرب بالعيص وهو أبو الروم والثاني إسمه ( يعقوب ) والد يوسف عليه السلام وقد سُمّي بذلك لآنه جاء متعلقا وأعقبت ولادته ولادة أخيه العيص وهو أصغر منه سنا بحكم أنه جاء بعده ، ويقال بأن العيص كان أقوى في البنية من يعقوب وأنبه منه ويقوم بشؤن والده ويشرف عليها ولذا احبه والده أكثر من أخيه يعقوب الذي أحبته والدته ( رقا ) حبا جما لأنه اصغر واضعف في الجسد ومقرّب إلى نفسها.
كبر إسحق في السنّ وضعف بصرُه واصبح لايرى إلا قليلا فقال لإبنه العيص يابني أريد أن أدعو لك دعوة يبارك الله لك فيها في نفسك وأبنائك ويجعل النبوة فيك من بعدي فاذهب فاصطد لي صيدا ثم اشوه لي وأتني به حتى أدعو لك بعد ذلك بهذه الدعوة وكانت ( رقا ) قد سمعت مادار بين إبنها وزوجها من حديث فأرادت أن تنال الدعوة إبنها يعقوب بدلا من أخيه العيص فعمدت إلي يعقوب بعد أن خرج العيص مسرعا لتحقيق رغبة والده وقالت له يابني إذهب وأت بجديين مما عندك من الشياة ثم اذبحهما واشوهما والبس لباس أخيك العيص ( وكان العيص لايلبس إلا ما اخشوشن من اللباس ) وضع على يديك قليلا من الشعر ( وكان العيص مشعرا ) ثم قدمهما لوالدك واقترب منه لعله يتحسسك ويظن بأنك العيص ويدعو لك بهذه الدعوة المباركة ، ففعل يعقوب ما اشارت عليه به والدته ولما قدم الطعام لوالده وقال له ياأبتي هذا الغداء الذي تريد قال له والده من أنت ؟ قال أنا إبنك ( وهو لم يكذب عليه ) فلما أكل إسحق عليه السلام وارتوى قال لأبنه يابني أدنو مني فتحسسه وضمه إليه وقال : الجسد جسد يعقوب والصوت صوت يعقوب واليد والشعر واللباس لعيصو ودعا له بالبركة وأن يجعل الله النبوة فيه ويبارك له في ذريته .
وبعد أن رجع العيص وقد إصطاد صيده شوى ما اقتنصه لوالده وقدمه إليه وقال له يا أبتي هذا الطعام الذي طلبت ، قال له والده ألم تأتني به قبل قليل فدعوت لك ؟! قال لا يا أبتي لم آتك بشئ, ثم علم أي ( العيص ) أن الذي أتى بالطعام لوالده إنما هو أخوه يعقوب فغضب غضبا شديدا وتوعد يعقوب وأقسم على أن يؤذيه أو يقتله وحينئذ دعا إسحق للعيص بأن يجعل الله فيه وفي أبنائه القوة والملك والسلطان والشكيمة والحرب .
لما خافت ( رقا )على إبنها يعقوب من بطش أخيه العيص قالت له يابني ارحل إلى خالك ( لابان ) في أرض حرّان ( بالشام ) وانزل عنده حتى لا يلحقك أخوك العيص فيقتلك ، فخرج يعقوب عليه السلام وهو شابّا حينها متوجها إلى خاله في أرض الشام ومرّ على مزرعة في الطريق لرجل يقال له ( شكيم بن جمّور ) ولما دخلها وكان متعبا نام على حجر بداخلها فرأى في منامه أن الملائكة تطلع من عند رأسه من على هذا الحجر ثم تنزل وأن الله قال له يايعقوب قد إستجبت لدعوة أبيك إسحق وجعلت النبوة فيك وفي ذريتك وباركت لك فيهم فأعجب يعقوب بما رأى وفرح فرحا شديد ثم أخذ دهنا ودهن به تلك الصخرة حتى لايضيع مكانها ونذر لله إن مكنه الله في الأرض واعطاه ملكا ومالا ليشترين تلك المزرعة وليبنيّن على الصخرة التي نام عليها معبدا لله يسميه بيت (أيل) أي بيت الله ثم واصل طريقه إلى حرّان .
وعندما وصل إلى خاله لابان في أرض حرّان وجد لديه إبنتين إحداهما تدعى ( ليا ) وهي الكبرى ولم تكن جميلة بينما الصغرى تدعى ( راحيل ) وهي فاتنة الجمال فطلب من خاله أن يزوجه إبنته ( راحيل ) فاشترط عليه أن يرعى لديه الغنم لمدة سبع سنوات وبعد ذلك يزوجه إياها فوافق يعقوب على شرط خاله وبعد أن انقضى الأجل أدخل لابان في عتمة الليل على يعقوب إبنته الكبرى ( ليا ) ولما أصبح الصبح وقد إختلى بها عرف أنها ليا ولم تكن راحيل فغضب غضبا شديدا وقال لخاله : غششتني ، وعدتني بأن تزوجني راحيل فزوجتني ليا , قال له خاله : يابني لم يكن من عادتنا تزويج الصغرى قبل الكبرى فانظر ماذا ترى ؟! قال له أريد الزواج من راحيل ، ( وكانت شريعة بني إسرائيل تسمح بالجمع بين الأختين حينها ولم ينسخ ذلك إلآ متأخرا في توراة موسى ) فوافق لابان على أن يخدمه يعقوب مقابل ذلك سبع سنوات أخر ، وفي خلال السنوات السبع تلك رزق الله ( ليا ) أربعة أبناء هم ( روبيل ،وشمعون ،ولاوي , ويهوذا ) وعندها وهبها والدها أمة إسمها ( زلفى ) لتقوم على خدمتها وخدمة أبنائها ثم تزوج يعقوب ( راحيل ) بعد إنقضاء المدة وبقي معها فترة طويلة لم تنجب له خلالها أبناء فغارت من أختها ( ليا ) أم الأبناء فأدخلت على يعقوب أمة لها تدعى (بلهى ) وقالت له تسرّها أي إنكحها فأنجبت له بلهى إبنين هما ( دان ونفتاني ) وعندئذ غارت ( ليا ) من إختها راحيل لأنها أدخلت أمتها على زوجها فارادت أن ترد لها الصاع صاعين وبالطريقة والاسلوب نفسه فطلبت من يعقوب الدخول على أمتها ( زلفى ) ففعل يعقوب وأنجبت له ( زلفى ) إبنين هما ( حال وقيل جال وأشقير ) وعادت ( ليا ) بعد ذلك لتنجب له إبنين آخرين هما ( آيسخر وزافلون ) فأصبح لديه من الأبناء عشرة ، ستة من زوجته الحرة ( ليا ) وأربعة من إمائه ( زلفى وبلهى ) فزاد ذلك من توقد غيرة راحيل لكنها لم تلجأ هذه المرة إلى المكر بل لجأت إلى الله تعالى فانطرحت بين يديه وتضرعت له وبكت واستغاثت وطلبت منه الأبناء فرزقها بإبن كفلقة القمر ظاهر الحسن بديع الجمال هو ( يوسف ) عليه السلام كما رزقها من بعده ( ببنيامين ) الذي توفيت أثناء تولدها به .
وهنا نقف لنرى كيف غلب أمر الله أمر من سواه في هذا الجزء ليتبين لنا مصداقية قوله تعالى ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون ) فنقول : ـ
أولا ـ اراد إسحق أن تكون النبوة فيمن اختار هو من أبنائه فأبت عليه إرادة الله ذلك مع أنه نبي فقد أسمع الله زوجته رقا حديثه مع إبنه العيص فحدث ما حدث و لو أن يعقوب هو الذي سمع الحديث بنفسه لربما لم يستطع أن يمكر لنفسه مكر والدته له ولذا فقد أورد الله بعد ذلك في نفس السورة ما يؤيد شدة مكر النساء عندما قال على لسان عزيز مصر وهو يخاطب إمرأته ( إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ) .
ثانيا ـ سأل إسحق يعقوب عندما جاءه بالطعام من أنت ؟ فقال أنا إبنك ، أي أنه سمع صوته عندما أجابه ثم تحسس جسمه وضمه إليه بعد أن شبع وروي وقال له : الصوت والجسد ليعقوب واللبس والشعر للعيص ومع ذلك دعا له بالنبوة و لم يعلم أنه يعقوب إلا بعد أن عاد العيص من مهمته ، أو أنه علم قبل ذلك لكنه عرف بالوحي أو بالحدس أو بغيرهما أن مشيئة الله أرادت غير ما أراد فلم يكن له بد من مسايرة تلك المشيئة ولذا أتم دعوته ليعقوب بالنبوة ولم يدع للعيص بها بعد عودته ولو أراد الله ذلك لدعى له بها وكانت النبوة فيهما جميعا كما كانت في إسحق نفسه وأخيه إسماعيل من قبل وهما إبني إبراهيم عليه وعليهما السلام لكن ـ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون ـ .
ثالثا ـ لم ترد مشيئة الله أن يعود العيص من مهمته إلا بعد أن انجز إسحق كل شئ ولم يبق له أي شئ ولو عاد قبل ذلك لاختلف كل شئ فالله سبحانه وتعالى غالب على أمره .
رابعا :ـ أراد الله أن يرحل يعقوب من أرض كنعان إلى أرض حران بالشام فيقترب بذلك من أرض مصر مملكة إبنه يوسف فكان لابد لرحيله من سبب قوي يجبره على البقاء في تلك البلاد والمكوث بها ومن ثم بناء المعبد الذي سمي ببيت أيل وهو بيت المقدس وليقابل أمهات أبنائه الأربع ويدخل بهن وينجب منهن إثنى عشر إبنا تحدث بينهم الفرقة لأن أمهاتهم متعددات ومتنوعات ( حرائر وإماء ) وليكونوا فيما بعد أسباط بني إسرائيل فكان خلافه مع أخيه وخوفه من القتل هو السبب الأنسب الذي قدره الله لحدوث مثل هذه النقلة في حياته.
خامسا :ـ غلب أمر الله على يعقوب فلم يتنبه لخديعة خاله له وإدخاله ليا عليه بدلا من راحيل إلا بعد أن اختلى بها وذلك على الرغم من أنه عاش معها ومع أختها طوال سبع سنين ولكن .... ليقضي الله أمرا كان مفعولا ...
سادسا :ـ قضت إرادة الله أن يتزوج يعقوب الذي ورث الجمال عن أمه سارة ( زوجة إبراهيم ) عليه السلام والتي قيل أنها من أجمل نساء الأرض وأشبه النساء بأمها حواء عليها السلام من راحيل الفاتنة الجمال فتكون الثمرة ( يوسف ) عليه السلام والذي قطع جماله عن غير قصد أيادي النسوة اللائي أُخرج عليهن في ديوان زوجة عزيز مصر وذلك على الرغم من مخادعة خاله له بادئ الأمر وإدخاله ليا عليه بدلا من راحيل .
سابعا :ـ عاجل الموت راحيل أثناء ولادتها بإبنها بنيامين ليعيش وأخوه يوسف يتيمي الأم فيقربهما والدهما منه ويحنو عليهما مما يشعل الغيرة في نفوس بقية الأبناء لتبداء من هنا فصول قصة جديدة هي لب موضوعنا الذي سنتابعه في الحلقة القادمة من ( والله غالب على أمره ) بحول الله .