((مملكة آبوعالي))
أوحى إليٍٍٍٍٍَِّ بكتابة هذه المقالة الآخ الصديق الأديب
القآصّ عثمان سعيد المفرجي ،فهو كثيرا ما يدفعني
إلى الكتابة سواءً باركته الصحافة أم رفضته ،فله
من الشكر أجزله ،كما أشكر كل من رحب بي كتابة
أو أسرّها في نفسه ولم يبدها ،وسأبدأ مشاركاتي
بالكتابة عن ((ممكلة آبو عالي)) رحمه الله فأقول:
تعريف بسيط:آبو عالي هو الوالد والمحترم
في قومه بامتياز بلا منازع والمسمى-علي سعد آبو
عالي والمكنى : ( بدغسان)،حيث كان الأقدمون-
رحمهم الله- يضيفون كنية عند ولادة الطفل إذا رأوا
مؤشرا يشي بعلامات الذكاء والنبوغ تبدو عليه
وذلك دفعا للحسد كما يظنون .
لم يخيّب هذا الطفل نظرة أهله الثاقبة فيه ،فقد
ترعرع وشبّ كما أراد الله ثم أريد له ،يستقي تلك
العلامات والمناقب من دوحة أصيلة هي ((بيت آبو
عالي )) والرائد لا يكذب أهله .
كان أهله يثقون فيه ثقة كبيره ،فأطلقوا له العنان ،
فنشأ على سجيته ،حيث كانوا ينتدبونه للقيام بمهآم
لا يقوى عليها إلا كبار السن ،امتهن التجارة في
بداية حياته وتفتحت قريحته فهزج بأشعار جميله
رقيقه ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
(قصيدة الجبوب)
ياليت لي في الجبوب اربع مئة لومه
لماذا يتمنى الشاعر أن يكون له ملك وادي الجبوب
مع ذلك العدد الكبير من المحاريث في واد جديب
يبعد عن أهله ومسقط رأسه مئات الكيلو مترات؟!
أليست في بيئته (منطقة الباحة) أرض واسعة
ترضي هذا الطموح وتكفيه عناء مغادرة قريته
وربعه ؟! الجواب طبعا بالنفي،فمنطقة الباحة
كما هي كل من مناطق الجنوب عبارة عن
سلسلة من الجبال الوعرة الضيّقة لا تزورها
الأمطار إلا قليلا وقد تأتي متذبذبة غير متوالية
فيموت الزرع ويجفّ الضّرع ويذهب تعب الناس
أدراج الرياح،أما المزارع فعبارة عن مدرّجات
تتراوح جدرانها بين القصر والطول وكثير ما تنثال
إذا جادت السماء وبحكم ارتفاع المنطقة فإن
مزارعها لاتمسك الماء فتنساب مياهها إلى
الأراضي المنخفضة كوادي العقيق وتربه والخرمة
ورنيه وغيرها.
كان أبناء المنطقة على قلة عددهم في ذلك الزمان
تفتك بهم المجاعة فتهاجمهم جيوش الأمراض
وخآصة الأطفال ،لقد مرت علينا جائحة لازلت
أتذكرها ،كان الجماعة لا يكادون يفارقون المقبرة
فما يكادون يصلون إلى منازلهم حتى يعودوا
أدراجهم ليحفروا قبرا جديدا لطفل مات حديثا
فالحمد لله على هذه النعم التي ننعم الآن بها .
أتخذ الناس الأسفار ديدنهم للحصول على لقمة العيش وكثيرا
ما يقصدون مكة المكرمة للعمل في خدمة الحجاج غالباً وبعضهم يسافر إلى الدول المجاورة كالسودان والصومال والحبشة أما أولادهم فيعملون صبياناً في المنازل ، ما أصعب تلك الحياة !!!
أما شاعرنا فلديه طموح أكبر ونظرة أبعد ، لم ترق له تلك المعيشة الرخيصة المبتذلة ، فتمنى حياة الاستقرار ورغد العيش ولم يجد ما يحقق ذلك الطموح غير تمنيه أن يكون وادي الجبوب ملكاً له ليحقق أحلامه وما أعظمها من أحلام !!
كلنا نعرف وادي الجبوب ، إنه ذلك الوادي الممتد بطول النظر تحيط به الجبال من كل جانب يستطرقه المسافرون ذهابا و إيابا.
هذا الوادي العريض يحتاج إلى ذلك الكم الهائل من المحاريث، وكل محراث يحتاج إلى عامل ليقوم بالحرث والدمس وحيث لم يكن هناك عمالة أجنبية في ذلك الوقت فتمنى من العمالة المحلية السائدة و هم العبيد قبل تحريرهم فهم أكثر مطواعية و أقل تكلفة. فهو ليس مكلفا أن يدفع لهم أجورا آخر كل شهر لأنهم ملك اليمين ، فلا إضراب عن العمل ولا مضربون ، ( و ليس لهم من حرية التعبير غير حق الماء والشعير ) كما يقول المرحوم نزار قباني .
ولم يغب عن بال شاعرنا أن هؤلاء العمال من العبيد لهم حاجات إنسانيه غير الأكل والشرب فهم بحاجة إلى إشباع الغرائز الجنسية . فتمنى أيضا أن يملك أربع مئة جارية لتزويجها لأولئك العبيد فيكثر نسلهم فتروج تجارة العبيد لديه و هذا مورد مالي واقتصادي ضخم و هام و لاشك أنه سيستفيد من ريعه فائدة كبيرة وحتى يهيئ الأجواء المناسبة والمستقرة لهم ليضمن ولاءهم المطلق لهذه المملكة العريضة، عدى الحاجة الملحة لجلب الحطب والماء لأنهما من اختصاص النساء.
أمام هذا الحشد الهائل من العبيد والجواري ونسلهم المرتقب فلك أن تتخيل كم سيصبح عددهم بعد عشر سنوات فقط ...
كما أنه سيأتي بأهله و ذويه أجمعين فهم عزوته في هذه الأرض البعيدة عن موطن آبائه و أجداده فتمنى كذلك أربع مئة قصر تأويه وتأوي حاشيته . إلى هنا كاد أن يكتمل المشهد بخروجه مع غروب الشمس يتدرج حول قصوره
و يتفقد أحوال رعيته ويتعرف على مطالبهم واحتياجاتهم عن قرب و ليتعرف على سير العمل في تلك الجنة (( جنة دغسان أبو عالي )).
بعد هذا كله شرع يفكر بأن هذه المملكة بحاجة إلى موارد ثابتة تقيها غائلة الزمان فهداه تفكيره إلى فرض رسوم على كل من يستطرق جنته ، ولماذا لا يأخذ رسوما؟!! وجميع المسافرين ليس لهم طريق آخر ولابد أن يعبروا من وسط مملكته ، إن لم يهتبل هذه الفرصة السانحة فهو من عداد المغفلين وحاشا لشاعرنا أن يكون منهم ، فأصدر مرسوما يقضي بفرض رسوم على كل عابر ، وأحاط مملكته بسور له بابان أحدهما للواردين إلى مكة و الآخر للصادرين منها إلى الجنوب و بلاد اليمن .
ولايسمح لأي مسافر بولوج مملكته إلا بعد دفع الرسوم المقررة وبهذا يكتمل المشهد أيها السادة . هذه أمانيّ شاعرنا استهام بذكرها فشدا بها شعرا.
أنطق هذا الوادي المجدب فخلق منه جنة تعج بالصور والأخيلة والحياة في أبيات قليلة سهلة جامحة مانعة.
فما أجمل ما تخيّل وما أحسن ما قال :
ياليت لي في الجبوب اربع مئة لومه
واربع مئة عبد عند الحرث والدمس
واربع مئة جارية عند الحطب والماء
واربع مئة قصر و اتدرج حواليها
واحط رسما على الورّاد والصدر
ماينفسح واحد الا بامر أبو عالي
رحم الله شاعرنا رحمة الأبرار وأسكنه فسيح الجنان ، لقد افتقدناه كثيرا (وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر).مات صاحب الرأي الرشيد ونزهة المجالس وبهجتها لكن مكارمه لم تمت مازالت محفورة في الذاكرة تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل .
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
بعد هذه السياحة في مناقب شاعرنا ومآثره وشعره ترى أيها القارئ الكريم كيف كان حالنا في عهده وكيف أصبح مآلنا من بعده .
لايصلح الناس فوضى لاسراة لهم
ولا سراة إذا جهّالهم سادوا
وبعد هذا لا أظن أن شهادتي في شاعرنا مجروحة إلا إن كان النهار يحتاج إلى دليل !!!
أشكركم على صبركم عليَّ وإلى لقاء آخر
&رفيق الدرب&