يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-03-2012, 12:12 AM   رقم المشاركة : 1

 

الثبات على الطاعات بعد شهر الرحمات
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 29 رمضان 1433هـ بعنوان: "الثبات على الطاعات بعد شهر الرحمات"، والتي تحدَّث فيها عن الثبات على الطاعات بعد شهر رمضان المبارك، وأن العبدَ لا بُدَّ له من المُثابرة والمواظبة على الطاعات؛ لأن ذلك دليلٌ على قبول الأعمال الصالحة.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيها المسلمون:
يُنزِل الله على عباده مواسِم الخيرات ليتزوَّدوا من الطاعات، ولحكمته - سبحانه - لا تدوم الأيام المُباركات ليتسابقَ المُتسابِقون في لحظاتها، ويُحرَم من فضلها المُقصِّرون.
زمنٌ فاضلٌ حلَّ بالمسلمين، في نهار صيامٌ وبذلٌ وعطاءٌ، وليلِه تهجُّدٌ وقرآنٌ ودعاءٌ، كم من مُسيءٍ غُفِر له، وكم من محرومٍ وُهِب له، وكم من شقيٍّ كُتِبت له السعادة، وكم من دعوةٍ استُجيبَت، وكم من .
أيامُ مُباركةٌ أذِنت بالرحيل وأوشكَت على الزوال، موسمٌ يُودِّعه المسلمون، كم من حيٍّ لن يعود عليه رمضان وكُتِب في عِداد أهل القبور، فيكون مرهونًا بعمله، قال - سبحانه -: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ[المدثر: 38].
والعاقلُ من انتهزَ بقيَّةَ حظات شهره فشغلَها بالطاعات وعظيم القُرُبات، واستبدلَ السيئات بالحسنات.
قال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: "العبرةُ بكمال النهايات لا بنقص البدايات".
، وليشكُر النعماء ولا يكون كالتي نقضَت غزلَها من بعد قوةٍ أنكاثًا، ومن كان مُسيئًات فليتُب إلى الله ما دام بابُ التوبةِ مفتوحًا، فرمضانُ موسمٌ لتوبة العاصين.
أيها المسلمون:
الاستغفارُ ختامُ الأعمال الصالحة يُختَم به الصلاة والحجُّ وآخر الليل، ومن خير ما يثختَم به شهرُ رمضان: كثرة الاستغفار وتلاوة القرآن والدعاء، فالأعمال بالخواتيم، وإذا أكملَ المُسلِمُ العملَ وأتمَّه بقِيَ عليه الخشيةُ من عدم قبوله، أو فسادُه بعد قبوله.
قال علي - رضي الله عنه -: "كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، قال - عز وجل -: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[المائدة: 27]".
قال سلمة بن دينار - رحمه الله -: "الخوف على العمل ألا يُتقبَّل أشدُّ من العمل".
والمرءُ مأمورٌ بعبادة الرحمن في كل وقتٍ وحين، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99]، ومن كان يعملُ الصالحات في رمضان فليُداوِم عليها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أحبُّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قلَّ»؛ متفق عليه.
قال النووي - رحمه الله -: "قليلُ العمل الدائم خيرٌ من كثيرٍ مُنقطِع".
وإنما كان القليلُ الدائمُ خيرًا من الكثير المُنقطِع لأن بدوام القليل تدوم الطاعةُ والذكرُ والمراقبةُ والنيةُ والإخلاص والإقبال على الخالق، ويُثمِر القليلُ الدائمُ بحيث يزيدُ على الكثير المُنقطِع أضعافًا كثيرة.
ومن كرم الله أن الأعمال الصالحة في رمضان دائمةٌ ، كان كصيام الدهر، وتلاوةُ القرآم مأمورٌ بها على الدوام، وقيامُ الليل مشروعٌ في كل ليلةٍ يغلبُ شمسُ نهارها، والصدقةُ بابٌ مفتوحٌ، والدعاءُ لا غِنى للمرء عنه في حياته.
ومن عمِلَ طاعةً فعلامةُ قبولها أن يصِلها بطاعةٍ أخرى، وعلامةُ ردِّها أن يُعقِبَ تلك الطاعةَ بمعصية، وما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحُها، وأحسنُ منها الحسنةُ بعد الحسنة تتلوها، وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقُها، والإخلاص في عبادته، وصدق التوبة إلى الله طمعًا في عظيم مغفرته وواسع رحمته وجزيل عطائه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ[الأعراف: 156].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.



أيها المسلمون:
شرع الله في ختام الشهر زكاةَ الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرَّفَث، وطُعمةً للمساكين. قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "فرضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطر صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، على العبد والحُرِّ، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين".
ويُستحبُّ إخراجُ الزكاة عن الجنين، ولا بأس بنقل الزكاة إلى بلدٍ آخر، وإخراجُها في المحل الذي أنت فيه أفضل، ويجوزُ إخراجُها قبل العيد بيومٍ أو يومين، ويُستحبُّ إخراجُها حين الذهابِ إلى صلاة العيد.
والعيدُ فرحٌ بتفاؤُل قبول الأعمال الصالحة في شهر البركة، فيُشرع التكبير من ليلته إلى صلاة العيد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرجُ إلى العيد في أجمل (..)، أكل تمراتٍ وخرجَ من طريقٍ إلى المُصلَّى وعاد من طريقٍ آخر.
ومن فاتَته صلاةُ العيد فإنه يُصلِّيها على صفتها سواءٌ في المُصلَّى أو في غيره جماعةً أو فُرادَى. قال البخاري - رحمه الله -: "إذا فاتَه العيدُ يُصلِّي ركعتين".
والعيدُ سرورٌ واستبشارٌ بإسباغ فضل الله على عباده، فيُكثِرُ العبدُ في يوم العيد من ذكر الله؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن هذه الأيام أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله - عز وجل -»؛ رواه أبو داود.
وليحذرِ المُسلمُ أن يتجاوزَ في العيد ما حدَّه الله له، فيهدِمَ ما بناه في رمضان، وليكن على وجهِك في العيد وغيره نورُ الطاعة وسمتُ العبادة.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم تقبَّل منا صيامَنا وقيامَنا، اللهم اجعلنا في هذا الشهر الكريم من عُتقائِك من النار، اللهم لا تدَع لنا فيه ذنبًا إلا غفرتَه، ولا همًّا إلا فرَّجتَه، ولا دَينًا إلا قضيتَه، يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم انصر المُستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم عجِّل لهم بالنصر والفرج، اللهم احقِن دماءَهم، واستُر عوراتهم وآمِن روعاتهم، اللهم اجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا.
اللهم عليك بمن تسلَّط عليهم، اللهم سلِّط عليهم جندًا من عندك يا قوي يا كبير يا عظيم.
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك، وتحكيمِ شرعك يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-03-2012, 12:19 AM   رقم المشاركة : 2

 

عنوان الخطبة: ماذا بعد رمضان؟
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 6 شوال 1433هـ بعنوان: "ماذا بعد رمضان؟"، والتي تحدَّث فيها عن ما بعد شهر رمضان، وما ينبغي من الاستقامة على طاعة الله تعالى بعده.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفِره ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرور أنفُسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء: 1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أيها المُسلمون:
في انصِرام الأزمان أعظمُ مُعتبَرٍ، وفي تقلُّب الأيام أكبرُ مُزدَجَر، يقول - جل وعلا -: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ[يونس: 6].

معاشر المسلمين:
لقد عاش المُسلمون في رمضان لذَّة المُناجاة لربهم - جل وعلا -، وأُنسَ القُرب منه بالتضرُّع إليه والدعاء، فطابَت بذلك نفوسُهم، وانشرحَ صدورُهم، واستأنَسَت أفئدُهم، فلله الحمدُ والمنَّة، وله الشكرُ على هذه النعمة.
إخوة الإسلام:
إن الفوزَ الأعظمَ، والفلاح الأتمَّ، والسعادة الكُبرى، والغنيمةُ العُظمى، كل ذلك لا يكون إلا بالاستقامة على الإيمان والتُّقَى، والطاعة الدائمة لله - جل وعلا -، ولذا تعدَّدَت مطالِبُ القرآن الكريم بالاستقامة على البرِّ والتُّقَى، والثبات على الخير والهُدى، يقول - جل وعلا - لنبيِّه محمدٍ - عليه الصلاة والسلام -: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ[هود: 112]، ويقول - سبحانه -: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ[فصلت: 6].
ولقد أوصى نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أمَّتَه بوصيةٍ عظيمةٍ، جميلةِ المبنى، جميلةٍ المعنى، قليلة العبارة، كثيرة الإشارة، وذلك في حديث سُفيان الثَّقفي حينما جاء إليه - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول اللهَ! قُل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدك. فقال - عليه الصلاة والسلام -: «قُل: آمنتُ بالله، ثم استقِم».
إنها وصيةٌ عظيمةٌ تتضمَّنُ الأمرَ بلزومِ الإيمان الكامل والاعتقاد الصحيح، وفعلِ الواجبات، واجتناب المنهيَّات، وفعلِ الفضائل والمكرُمات.
إن هذه الوصيةُ هي وظيفةُ الإنسان في عُمره حتى الممات، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99]، ويقول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم -: «قارِبوا وسدِّدوا».
والتسديدُ هنا معناه: الاستقامةُ والإصابةُ على السُّنَّة.

أيها المسلمون:
إن من أنعمَ الله عليه بالعمل الصالحِ وفعلِ الطاعات فإنه يجبُ عليه أن يشكُر الله - جل وعلا -، وأن يبذُلَ المزيدَ، وليحرِص أشدَّ الحِرص على أن يحفظَ حسناته.
ألا وإن أشدَّ ما ينبغي أن يكون عليه المُسلمُ من الحَذَر: التعدِّي على المخلوقين بقولٍ أو فعلٍ، أو النَّيل منهم في عِرضٍ أو مالٍ أو نحو ذلك؛ فإن حقوقَ الخلق عظيمةٌ عند الله - جل وعلا -، وهي من الديوان الذي لا يُغفَر حتى يتحلَّل المرءُ من أصحابِ المظلمات.
يقول الله - جل وعلا -: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا[الأحزاب: 58].
ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما رواه البخاري -: «من كانت عنده لأخيه مظلمةٌ فليتحلَّل منه قبل ألا يكون درهمٌ ولا دينارٌ، إن كان له عملٌ صالحٌ أُخِذ منه بقدر مظلَمته، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذ من سيئات صاحبِه فحُمِل عليه».
ألا وإن من الخسارَة الكُبرى: أن تُسدِيَ لخيرِك أعظمَ ما تحصَّلتَ عليه من الحسنات، فذلك هو الإفلاسُ الحقيقيُّ؛ ففيما رواه مسلمٌ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للصحابة: «ما المُفلِسُ فيكم؟». فقالوا: المُفلِسُ فينا من لا متاعَ عنده ولا دينار. فقال - عليه الصلاة والسلام -: «المُفلِسُ من أمتي: من يأتي بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتمَ هذا، وقذفَ هذا، وضربَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وأخذَ مالَ هذا، فيأخُذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنِيَت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطُرِحَت عليه ثم طُرِح في النار».
ألا فاستقيموا على طاعة الله - جل وعلا -، واستجيبوا لأمره في جميع أدوار حياتكم، وشتَّى أحوالكم؛ تفوزوا وتغنَموا، وتسعَدوا وتُفلِحوا.
يقول ربُّنا - جل وعلا -: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الأحقاف: 13، 14].
بارك الله لي ولكم فيما نقول وما نفعل، وأقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رِضوانه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أُوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -؛ فهي وصيةُ الله - جل وعلا - للأولين والآخرين.
عباد الله:
مما شرعَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمَّته بعد رمضان من النوافل والقُربات: صيامُ ستَّة أيامٍ من شوال؛ فيقولُ - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه مسلم -: «من صامَ رمضان ثم أتبَعَه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر».
ولا بأس بصيامِها مُتتابعةً أو مُتفرِّقة، واعلموا أن من عليه قضاءٌ من رمضان فإنه لا ينبغي له أن يأتي بالنَّفل قبل الواجبِ؛ فإن قواعد الشريعة تقضِي بتقديمِ الواجبِ على النَّفل.

عباد الله:
أن من واجبِ التناصُح بين المُسلمين أن يتناصَحوا، وأن يُعلِّم بعضُهم بعضًا.
ألا وإن من المُلاحَظات التي يلحظُها كثيرٌ من المُصلِّين في هذا المسجدِ العظيمِ: انشغالُ بعض المُصلِّين بأجهزة الهواتف النقَّالة، فتجِده إما أن يُصوِّر بها، أو أن يُكلِّم بها، أو أن يشتغِلَ بها بأي صُورةٍ ما، وذلك غيرُ لائقٍ بالمُسلم في بيتٍ من بيوت الله - جل وعلا -؛ فإن هذه المساجد إنما أثعِدَّت للصلاة، ولقراءة القرآن، وللانشغالِ بالذِّكرِ.
فانشغِلوا بطاعة الله - جل وعلا - عن توافِهِ الدنيا، ولا يليقُ بالمُسلم أن يفعلَ مثلَ هذه الأفعال في مسجدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
نسأل الله لنا ولكم التوفيقَ والسدادَ.
ثم إن من أفضل الأعمال: الصلاةَ والسلامَ على النبيِّ الكريم.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابةِ أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ المسلمين، اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ المسلمين، اللهم احفظ دماءَ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ دماءَ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ دماءَ المسلمين في الشام، اللهم اكتب لهم الفرجَ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظ إخواننا في بُورما، اللهم احفظ إخواننا المسلمين في بُورما، اللهم احفظ إخواننا في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم هيِّئ لإخواننا في مصر وفي تُونس وفي اليمن وفي ليبيا الأمنَ والأمان، والرخاءَ والاستقرارَ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.
اللهم ارزقنا الاستقامةَ على دينك يا حي يا قيوم، اللهم ثبِّتنا بالقول الثابت يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّ وترضَى، اللهم وفِّقه لما تُحبُّه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين لما تُحبُّه وترضاه يا حي يا قيوم.
عباد الله:
اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحوه بكرةً وأصيلًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-03-2012, 12:24 AM   رقم المشاركة : 3

 

من الخذلان: الجهل بالأعداء
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 13 شوال 1433هـ بعنوان: "من الخذلان: الجهل بالأعداء"، والتي تحدَّث فيها عن الجهل بأعداء الدين، وبيَّن أنه لم تُستبح بلدٌ من بلاد المُسلمين ويُقتَّل من فيها، وتُغتصبُ نساؤُها وأراضيها إلا بكيد هؤلاء الأعداء ومكرهم، فعلى المسلمين أن يكونوا أشدَّ وعيًا حمايةً لدين الحق من شرار الخلق.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله أنشأ وبرَا، وأبدعَ كل شيءٍ ذرى، لا يغيبُ عن علمه ما عنَّ وما طرا وما جرى، أحمده ما قُطِع نهارٌ بسيرٍ وليلٌ بسُرَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حذَّرنا من كيد العِدا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله سيدُ الخلق بلا مِرا، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ليوث الوغَى، وأُسد الشَّرَى، وغيظ العِدا، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تبقى وسلامًا يَترى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله حق التقوى؛ فبالتقوى يُرفع البلا، ويُدفَع كيدُ العِدا، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا[آل عمران: 120].
أيها المسلمون:
من أعظم الخُذلان أن يجهل المرءُ عدوَّه، فلا يعرفُ جليَّة أمره، ولا يعلمُ عِظَم كيده ومكره، ولا يسعَى لإيقاف خطره وشرِّه، وربما ركنَ إليه ووثِق بموعوده واغترَّ بشعاراته، وكم رأينا شعاراتٍ وراياتٍ، وكم سمِعنا نداءاتٍ وهُتافات تُنادي بالموت لأعداء الأمة، وتحمِل لواءَ المُمانعة والمواجهة والمُقاومة في وجه المُعتدِي المُحتلُّ!
وما هي إلا شعاراتٌ خدَّاعة تخدعُ البُسطاء، وتستميلُ عواطِف البُلهاء والغوغاء، شعاراتٌ يُكذِّبُها التآمُر المكشوف، ويدحضُها التواطُؤ المفضوح والولاء المُتبادَل. والتاريخُ يحكي والتاريخُ لا يكذِب.
فحينما كانت المعركةُ قائمةً بين الأمة وعدوِّها كان حامِلو تلك الشعارات هم الحامُون لظهره، المُستودَعون لسرِّه، المُنقادون لأمره.
ولم يستبِح العدوُّ أرضَ الإسلام في تاريخٍ غابرٍ أو حاضرٍ إلا على ظهورهم، وبسبب كيدهم وتآمُرهم وخيانتهم، وقد دبَّروا على الإسلام وأهله من الأمور الفظيعة ما لم يُؤرَّخ أبشع منه، وحصل في التاريخ الحاضر من البشائع والفظائع من أحفاد أولئك مثلُ ما حصل من أسلافهم أو أشد، وصدق الله - ومَن أصدقُ من الله قيلاً -: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا[المائدة: 82].
وكل من حمل رايةَ الجهاد من الأمة مُصيبًا كان أم مُخطئًا طالَته آلةُ العدو بالقتل والتصفية، ومن حمل رايةَ الجهاد من أولئك لم يبلُغه من أعداء الأمة إلا السلامةُ والإعانة؛ لأنهم يعلمون أن سلاحَه لم يكن يومًا لقتالهم أو مُنابَذتهم أو مُجابهتهم.
يُعادونهم ظاهرًا، ويُوالونهم باطنًا، وما استباح سفَّاحٌ ديارًا للمُسلمين فقتلَ رجالَهم، واغتصبَ نساءَهم، ودمَّر مساجِدَهم، وحرَّق كُتبَهم إلا نالَه من ثنائِهم وتأييدهم وعونِهم ما يدلُّ على أنهم أعداء الأمة حقًا، وأنصارُ العدو صدقًا.
ولا يذمُّون عدوًّا للإسلام إلا لهدفٍ يخدِم مصالِحَهم لا لولاءٍ لدين الإسلام وأهله، وما امتدَّ سُلطانهم على أرضٍ إلا أزالوا منها معالمَ الدين الحق، ونشَروا ما يُناقِضُ دينَ نبيِّنا وسيِّدنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولا أدلَّ على العداوة لدين الله من ذلك.
فعلى المُسلمين أن يكونوا أشدَّ وعيًا وأسرعَ سعيًا لصدِّ الخطر المُحدِق من شرار الخلق حمايةً للدين الحق، والعقيدة الصحيحة، ودين الإسلام الذي جاء به نبيُّنا وسيدُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وهو الواجبُ الذي أوجبَه الله على الأمة في قوله - عز وجل -: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[التوبة: 36]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «جاهِدوا المُشركين بألسِنتكم وأنفسكم وأموالكم وأيديكم»؛ خرجه أحمد من حديث أنسٍ - رضي الله عنه -.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا خير إلا منه، ولا فضلَ إلا من لدُنه، أحمده حمدًا لا انقطاع لراتبه، ولا إقلاع لسحائبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سميعٌ لمن يُناديه، قريبٌ ممن يُناجيه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والسائرين على ذلك السبيل، وسائر المُنتمين إلى ذلك القَبيل.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
طاغيةُ الغي وقائدُ البغي ومعه أحلافُ الخُرافة، وأشياعُ الضلالة، وأعداءُ السنة يرتكِبون العظائم، ويقترِفون المخازي والمآثِم في شامِنا الحبيبة، ولا يُرجى من عدوٍّ للإسلام أن يُحارِبَ عدوًّا للإسلام لأجل أهل الإسلام؛ فإن فعلَ فلمصالح لا تعدُو أن تكون في حقيقتها عداءٌ للإسلام.
فيا أهل الإسلام! لا تخذلوا أهلَكم في الشام، لا تخذلوا أهلَكم في الشام، لا تخذلوا أهلَكم في الشام، انصُروهم وأعينوهم وأمِدُّوهم بما يُمكِّنُهم من كسر شوكة عدوِّهم، وحسم معركتهم معه.
واعلموا أن أعظم العارِ خُذلانهم، وأعظمُ الخطر تركُ مُناصرتهم، فانصُروهم فانصروهم، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا[النساء: 84].
اللهم انصر أهلَنا في الشام، اللهم انصر أهلَنا في الشام، اللهم انصر أهلَنا في الشام على القوم المُجرمين يا رب العالمين.
اللهم عليك بمن يقتُل أهلَنا في الشام، اللهم عليك بمن يقتُل أهلَنا في الشام، اللهم اقصِم ظهرَه، اللهم اقصِم ظهرَه، اللهم اقصِم ظهرَه، اللهم اقصِم ظهرَه يا قوي يا عزيزُ يا رب العالمين، اللهم عليك به وبمن عاونَه وساندَه يا قوي يا عزيزُ يا رب العالمين.
اللهم دُكَّ عروشَهم، وفُلَّ جيوشَهم، وانصُر جيشَ المُوحِّدين عليهم يا رب العالمين يا قوي يا عزيزُ يا أكرم الأكرمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجِزونك، اللهم انصر إخواننا في فلسطين على اليهود الغاصبين يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم وأدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعِزَّها واستقرارَها يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا وقائدَنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، واجزِه خيرَ الجزاء على نُصرته لإخواننا في الشام يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَهه وإخوانَه وأعوانَه لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلِّم على النبي المُصطفى المُختار، اللهم صلِّ وسلِّم على النبي المُصطفى المُختار، اللهم صلِّ وسلِّم على النبي المُصطفى المُختار، وآله الأطهار، وصحابته الأبرار المُهاجرين منهم والأنصار، وارض عنَّا معهم بمنِّك وجُودِك وكرمِك وإحسانِك يا عزيزُ يا غفَّار.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 05:55 PM   رقم المشاركة : 4

 

قصة عاد في القرآن والسنة
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 20شوال 1433هـ بعنوان: "قصة عاد في القرآن والسنة"، والتي تحدَّث فيها عن قصة قوم هودٍ - عليه السلام - كما وردت في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيَّن أن عاقبة الظلم في الدنيا والآخرة وخيمةٌ.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فتقوى الله تُستجلَبُ بها النعم، وبالبُعد عنها تحلُّ النِّقم.
أيها المسلمون:
خلق اللهُ الخلقَ ليعبدوه وحده بإخلاص الأعمال له وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأداء حقوق عباده بإقامة العدل بينهم والإحسان إليهم، والنهي عن ظُلمهم والبغي عليهم.
والله - سبحانه - في كتابه يأمر وينهى، ويُرغِّبُ ويُرهِّب، ويقُصُّ أحسنَ القصص للعِظة والاعتبار، وسنَّتُه تعالى فيمن عصَى وطغَى من الأمم الخالية والحاضرة والآتية لا تتحوَّل ولا تتبدَّل، قال - جل وعلا -: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[الأحزاب: 62].
والله قصَّ في كتابه خبرَ أمةٍ لم يُرَ مثلُها في القوة والاستكبار، والبطش والظلم، سُمِّيت سورةٌ في القرآن باسم نبيِّها: هود، وسورةٌ أخرى باسم مكانهم: الأحقاف.
قال السُّدِّيُّ - رحمه الله -: "كانوا باليمن بالأحقاف".
وقد ذكر الله خبرَهم في مواضع عِدَّة. قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "ذكر الله قصَّتَهم في القرآن في غير موضعٍ ليعتبر بمصرعهم المؤمنون".
كانوا أعظمَ أهل زمانهم خلقًا، وأطولَهم أبدانًا، وأشدَّهم بطشًا، قال - عز وجل -: وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً[الأعراف: 69].
بل لم يخلُق اللهُ مثلَ قوتهم؛ قال - سبحانه -: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ[الفجر: 8].
قال البغوي - رحمه الله -: "أي: لم يُخلَق مثلُ تلك القبيلة في الطول والقوة".
ومساكنُهم أعظم ما ترى وأجملَه، ذواتُ أعمِدةٍ ضِخامٍ وبُنيانٍ شاهق، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ[الفجر: 6، 7].
أترَفوا أنفسَهم في مساكنهم، فكنوا يبنُون في كل مكانٍ مُرتفعٍ بُنيانًا مُحكَمًا باهرًا هائلاً، يفعلون ذلك عبثًا لا للحاجة إليها؛ بل لمُجرَّد اللهو وإظهار القوة والمُفاخَرة، فأنكر عليهم نبيُّهم ذلك: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ[الشعراء: 128]؛ لأنه تضييعٌ للزمان، وإجهادٌ للأبدان في غير فائدة، وإشغالٌ بما لا يُجدِي لا في الدنيا ولا في الآخرة.
واتخذوا لهم بروجًا مُشيَّدةً ليُخلَّدوا في الدنيا بزعمهم، قال - سبحانه -: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ[الشعراء: 129]، فكانوا يبنون ما لا يسكُنون، ويُؤمِّلون ما لا يُدرِكون.
فتحَ الله عليهم أبوابَ رزقه فزادَت أموالُهم، وكثُرت أبناؤُهم، وأنبتَ لهم الزروعَ وفجَّر لهم العيون، قال لهم نبيُّهم: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ[الشعراء: 133، 134].
وأمرَهم أن يتذكَّروا نعمَ الله ليفوزوا برِضا الله وسعادة الدَّارَين، فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الأعراف: 69].
فقابَلوا نعمَ الله بالجُحود والنُّكران، وعبَدوا الأصنام، وهم أولُ من عبدَها بعد الطوفان، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ[الأعراف: 69].
ودعاهم هودٌ - عليه السلام - إلى عبادة الله وحده ونبذ الأوثان: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[الأعراف: 65].
فاستخفُّوا بنبيِّهم ورمَوه بالجُنون، وقالوا له: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ[هود: 54] أي: أصابكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍأي: بجنونٍ في عقلك، وسخِروا منه وقالوا: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ[الأعراف: 66]، وصارَحوه بالكفر وقالوا له: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ[هود: 53]، وردُّوا دعوتَه وأنِفوا عن قبولها واستكبَروا عنها، وقالوا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ[الشعراء: 136].
وزادوا في الطغيان فقالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ[الشعراء: 137] أي: سنبقى على عبادة الأصنام، وأبَوا أن يتَّبِعوا رسولَهم تكبُّرًا منهم لأنه من البشر فقالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ[المؤمنون: 33].
ولِغرورهم يُريدون أن يكون رسولُهم من الملائكة، فقالوا: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ[فصلت: 14].
وأنكرُوا البعثَ والنشور، وقال بعضُهم لبعضٍ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ[المؤمنون: 35]، بل استبعَدوا يوم الحشر والنشر فقالوا: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ[المؤمنون: 36] أي: بعيدٌ بعيدٌ وقوعَ ذلك.
وظلَموا ضعيفَهم بغِلظتهم وجبروتهم، قال - سبحانه -: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ[الشعراء: 130].
لم يقوموا بحق الخالق ولا المخلوق تجبُّرًا على الله وعلى عباده: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ[هود: 59].
والله - عز وجل - يُملِي للظالم وإذا أخذَه لم يُفلِته، سخِروا من نبيِّهم وبما دعاهم إليه، وقالوا: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا[الأحقاف: 22] أي: من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
فاستدرَجهم الله من حيث لا يعلمون، وأمسكَ عنهم القطرَ فأجدبَت الأرضُ وأصبَحوا مُمحِلين، فساقَ الله سحابةً لما رأوها مُستقبِلةً أودِيَتهم استبشَروا وقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا[الأحقاف: 24] قال الله: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِأي: من العذاب رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌسلَّطها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍ حُسُومًا دائمةً لم تنقطِع لحظةً، وكانت ريحًا عقيمةً لا خير فيها ولا بركة، لا تُلقِّح شجرًا ولا تحمِلُ مطرًا، صرصرًا باردةً شديدةً لمسيرها صوتٌ قويٌّ مُفزِعٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا[الأحقاف: 25]، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا[الذاريات: 42] أهلكَته.
تحمِلُ الرجلَ منهم عاليًا ثم تُنكِّسُه على رأسه فينقطِع عن جسده، فتراهم صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ[الحاقة: 7] بلا رُؤوسٍ، فبادُوا عن آخرهم ولم تبقَ لهم باقية، فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ[الأحقاف: 25]، وأتبعَهم الله في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة.
وجعلَهم عبرةً لمن بعدَهم، قال - سبحانه -: لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ[فصلت: 16].
وبعدُ، أيها المسلمون:
فاللهُ قويٌّ لا يُقهَر، عزيزٌ لا يُغلَب، والقوةُ له جميعًا، وما يعلمُ جنودَه إلا هو، كبيرٌ مُتعالٍ أمرُه كلمح البصر أو هو أقرب.
استكبرَ قومُ عادٍ وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت: 15] فأهلكَهم الله بالهواء.
والله للظالم بالمِرصاد لا يغفُل عنه؛ بل يستدرِجُه ثم يُهلِكُه، فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا[مريم: 84].
وطلبُ النصر من الله نهجُ المُرسلين؛ هودٌ - عليه السلام - استُضعِف من قومه، فقال: رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ[المؤمنون: 26]، فنصرَه الله بريحٍ لا تُرى.
والتوكُّل على الله سبيلُ النصر على الأعداء، قومُ عادٍ أشدَّاء أقوياء، ولا طاقة لهودٍ - عليه السلام - بقوتهم، ففوَّض أمرَه إلى الله وقال لهم: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ[هود: 56]، فدمَّرَهم الله.
وحسبُنا الله ونِعم الوكيل قالَها الخليلان في الشدائد، والاستغفارُ والتوبةُ من أسباب القوة والأمن والرخاء، قال هودٌ - عليه السلام - لقومه: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ[هود: 52].
والنصرُ قد يتأخَّرُ لحكمةٍ من الله، ولكنه لا يتخلَّفُ عن المؤمنين أبدًا، قال - عز وجل -: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[الروم: 47].
وقوةُ الخلق لا تمنعُ من عذاب الله، قال - سبحانه -: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ[الرعد: 11].
والنصر مع الصبر، واليُسر مع العُسر، وإذا اشتدَّ الكربُ لاحَ الفرَجُ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ[يوسف: 111].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
أنصحُ الناس للناس من دعا إلى عبادة الله وحده وإخلاص العمل له وحده وطاعته، والله - سبحانه - مُطَّلعٌ على عباده رقيبٌ عليهم، من كفرَ به أذلَّه، ومن لم يشكُر نعمَه سلبَها منه، ومن تسلَّط على عباده قصَمَه، وإذا زادَ الطاغي من طُغيانه فهو أمارةُ هلاكه، قال - عز وجل -: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء: 16].
فرعونُ أفسدَ في الأرض، ولما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[النازعات: 24] أغرقَه الله بالماء.
والعذابُ قد يأتي في صورة نعمةٍ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا هبَّت ريحٌ عُرِف ذلك في وجهه، يخشى أن تكون عذابًا. فلا يأمنُ العبدُ مكرَ الله وسُرعةَ عقابه
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، اللهم انصر المُجاهدين المؤمنين في كل مكان، اللهم كن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، اللهم وحِّد كلمتَهم، وقوِّ صفوفَهم، وسدِد رميَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين، وأمِدَّهم بمددٍ من عندك يا قوي يا عزيز.
اللهم وأدِر دوائر السوء على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم اقتُلهم بددًا، وأحصِهم عددًا، ولا تُغادِر منهم أحدًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم إنا نسألُك الإخلاصَ في القول والعمل.
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك، وتحكيمِ شرعك.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-25-2012, 12:19 AM   رقم المشاركة : 5

 

وسوسة إبليس لبني آدم

ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 27شوال 1433هـ بعنوان: "وسوسة إبليس لبني آدم"، والتي تحدَّث فيها عن الوسوسة وبعض صُورها وأشكالها، وذِكر بعض الأحاديث المُحذِّرة من الانسياقِ خلفَها، ونبَّه على ضرورة التحصُّن بالأذكار والانشغال بالقرآن ردًّا لكيد الشيطان.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي لا خيرَ إلا منه، ولا فضلَ إلا من لدُنه، احمدُه حمدًا لا انقطاعَ لراتِبه، ولا إقلاعَ لسحائِبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سيمعٌ لمن يُنادِيه، قريبٌ ممن يُناجِيه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والسائرين على ذلك السبيل، وسائر المُنتمين إلى ذلك القَبِيل.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
الوسوسةُ صنعةُ إبليس وشُغلُه وطريقتُه لإضلال بني آدم، يرمِي بها من أطاعَه بالشُّكوك والأوهام والظُّنون، ويقذِفُه في الهواجِسِ والخيالات، ويُردِيه في حالةٍ من الاضطرابِ والارتِياب، ويدفعُه إلى التكلُّف والتشدُّد والتنطُّع، والغلوِّ والزيادة على القدر المشروع.
ومن كيده ووسوسته: ما يُلقِيه من التشكيك والتضليلِ في كيفيَّة الخلق والبعث والاستِواء والعرشِ وغيرها من قضايا الإيمان؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقولُ: من خلقَ كذا، من خلقَ كذا، حتى يقولَ: من خلقَ ربَّك؟ فإذا بلغَ ذلك فليستعِذ بالله ولينتَهِ»؛ متفق عليه.
وفي لفظٍ لمُسلم: «فمن وجدَ من ذلك شيئًا فليقُل: آمنتُ بالله».
ومن كيدِه ومكرِه: الوسوسةُ في الوضوء والطهارة؛ فترى أحدَهم يغسِل ويُكرِّرُ كثيرًا ويدلُك دلكًا عنيفًا، ويتشكَّكُ فيما غسَلضه، ويظنُّ أنه لم يغسِله، فيعودَ إليه مرَّةً بعد مرَّةٍ.
قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: "لا يزيدُ على الثلاثِ إلا مُبتَلَى".
وعلاجُ ذلك: أن يُعرِضَ عن تلك الشُّكوك والأوهام، ولا يلتفِتَ إليها، وينهَى عنها.
ومن كيدِه بأهل الوسوسة في الوضوء والغُسل: أن جعلَهم يُنكِرون الموجودا، ويجحَدون الأمورَ المحسوسات.
ذكرَ ابنُ الجوزيِّ عن أبي الوفاء ابن عَقيل أن رجلاً قال له: أنغمِسُ في الماء مِرارًا كثيرةً، وأشكُّ هل صحَّ لي الغُسلُ أم لا؛ فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخُ: "اذهَب، فقد سقطَت عنك الصلاة". قال: وكيف ذلك؟ قال: "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رُفِع القلمُ عن ثلاثة: عن المجنون حتى يُفيقَ، وعن النائمِ حتى يستيقِظ، وعن الصبيِّ حتى يبلُغ»، ومن ينغمِسُ في الماء مِرارًا ويشُكُّ هل أصابَه الماءُ أم لا فهو مجنونٌ".
ومنهم من يُطيلُ المُكثَ في الخلاء بلا حاجةٍ؛ فتفوتُه الجماعة، وتضيعُ مصالِحُه، فكيف يليقُ بعاقلٍ أن يُطيلَ المُكثَ في حُشوشٍ مُحتضَرة تأوي إليها الشياطين والنفوسُ الخبيثة.
ومن وسوسته - أعاذنا الله وإياكم منه -: الوسوسةُ في انقِطاع البول أو في التنجُّسِ به، لذا يُستحبُّ للمُسلم أن يرتادَ لبَوله مكانًا رِخوًا، وألا يبولَ واقِفًا ولا مُستقبِلاًَ الريحَ لئلا يرتدَّ عليه رشاشُ البول، فيُنجِّسَه ويُدخِلَ عليه العنَتَ، ويفتحُ عليه بابَ الوساوِس.
ويجبُ أن يستفرِغَ أخبَثَيْه، ويستبرِئَ من بولِه لئلا يقطُر عليه، ويحذَرَ من بدع أهل الوسوسة؛ كالسَّلْتِ ونحوه.
ومن وسوسة إبليس: الوسوسةُ في الصلاة؛ فمن الناسِ من يجهَرُ بنيَّةِ الصلاة ويُكرِّرُها، ويُجهِدُ نفسَه في التلفُّظِ بها، ويرفعُ بها صوتَه بثُقلٍ ومشقَّة، ولربما دخلَ في الصلاة ثم قطَعها لشكِّه في النيَّة.
والجهرُ بنيَّة الصلاة بِدعةٌ، وتِكرارُها وسوسة، ورفعُ الصوت بها إيذاءٌ للناس، والتعبُّد بها بِدعةٌ.
ومنهم: من يُعيدُ تكبيرةَ الإحرام كثيرًا، ويُردِّدُ الفاتحة مِرارًا.
ومنهم: من يُكرِّرُ بعضَ الحروفِ والكلمات، حتى ربما فاتَتْه الركعة وتخلَّفَ عن إمامه.
ومنهم: من يُوسوِسُ له الشيطانُ بانتِقاض طهارته أثناء الصلاة، فيُخرِجُه منها، ويصدُّه عنها.
ويرُم على المُصلِّي أن يُخرُج من الصلاة إذا لم يتيقَّن الحدَثَ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا وجدَ أحدُكم في بطنه شيئًا فأشكلَ عليه أخَرَج منه شيءٌ أم لا، فلا يخرُجنَّ من المسجدِ حتى يسمعَ صوتًا، أو يجِد ريحًا»؛ أخرجه مسلم.
فاقطَعوا الأوهام، وادفَعوا الشُّكوكَ، وردُّوا وساوِسَ إبليس، ولا تُبطِلوا أعمالَكم، ولا تُفسِدوا عباداتكم، ولا تُضيِّعوا صلاتَكم.
أعاذنا الله جميعًا من الشيطان وهمزِه ونفخِه ونفثِه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
كلما طرقَت وساوِسُ إبليس فادفعُوها بالاستِعاذة، واقهَروها بالمُخالفة والمُضادَّة، وحارِبوها بالعلم والسنَّة، وتحصَّنوا بالأذكار، وأكثِروا من الدعاء، واشتغِلوا بالتلاوة، وحافِظوا على الصلوات، واهجُروا مجالسَ المُنكر، وجُلساء السوء، ومزاميرَ الشيطان، وحاذِروا الروائح الخبيثة، والأماكن المُنتِنة، واستجيروا بالله من إبليس ونزَغَاته، واستعِيذوا بالله من نفخِه ونفثِه وهمَزاته، ومن يعتصِم بالله فقد هُدِي، ومن يتوكل على الله فقد كُفِي، ومن يلتجِئ إلى ربه فقد وُقِي.
ثم صلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ بشير الرحمة والثواب، ونذير السَّطوة والعذاب، الشافع المُشفَّع يوم الحساب، اللهم وارضَ عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنَّة المُتَّبعة: أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى وم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وجُودِك وإحسانِك يا أكرمَ الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ونائبَه لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة أمور المسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والرحمةِ بشُعوبهم يا رب العالمين.
اللهم انصر أهلَنا في الشام، اللهم انصر أهلَنا في الشام، اللهم انصر أهلَنا في الشام على الطُّغاة المُجرمين، والقتَلَة المُعتدين، والخُرافيِّين المُبتدِعين الضالين يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين على اليهود الغاصبين يا رب العالمين.
اللهم عليك بمن نالَ من عِرضِ نبيِّنا وسيدِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم عليك بمن نالَ من عِرضِ نبيِّنا وحبيبِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم عليك بمن نالَ من عِرضِ نبيِّنا وسيدِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم أرِنا فيهم عجائبَ قُدرتك يا قويُّ يا عزيزُ يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصُرنا على من عادانا يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-25-2012, 12:26 AM   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية العضو

مزاجي:










ابوحاتم غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


ذكر

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 5 ذي القعدة 1433هـ بعنوان: "الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم"، والتي تحدَّث فيها عن واجب جميع المُسلمين حالَ إيذاء النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وبيَّن في خُطبته أن الصراعَ بين الحق والباطلِ قائمٌ إلى قيام الساعة، وأن الحق هو المنصور مهما علَت أصواتُ الباطل، وذكرَ أن نُصرَته - عليه السلام - لا تكون إلا باتباع سُنَّته واقتفاء أثره.

الخطبة الأولى
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه النبي المُجتبى، والرسول المُصطفى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ أهل الفضل والتُّقى.
أما بعد، فيا أيها المُسلمون:
أُوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -.
أيها المسلمون:
في كل زمانٍ ومكانٍ يتصارعُ الحقُّ والباطلُ، ولكن الحقيقة التي لا ريب فيها: أن الحقَّ يثبُت ويستقرُّ ويعلو، والباطل يضمحِلُّ ويزولُ وينتهي؛ قال ربُّنا - جل وعلا -: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[الإسراء: 81].
وإن من سُنن الله في عباده المُؤمنين: أن يبتلِيَهم كلاًّ أو بعضًا بأهل الطغيان والفُجور والعلوِّ والفساد؛ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[العنكبوت: 2].
كل ذلك لحِكَمٍ عظيمةٍ وغاياتٍ جليلةٍ ينتظِمُها قولُ الله - جل وعلا -: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت: 3]، وينتظِمُها قولُه - سبحانه -: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[آل عمران: 140].
وإن على بناء الأمة الإسلامية أن يعلَموا أنهم أصحاب رسالةٍ خالدةٍ، وأهل عقيدةٍ صحيحةٍ مهما تعدَّدت وسائلُ الطغيان المُوجَّهة للمُسلمين، ومهما بلَغت المِحَن والفتنُ والمصائب، فلدينا عقديةٌ راسِيةٌ رُسُوَّ الجبال: أن العاقبة للمُتقين، وأن النصرَ للمُؤمنين، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[آل عمران: 120].
فسُنَّةُ الله - جل وعلا - ماضِيةٌ بهذا المعنى لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّر وإن ظنَّ الناسُ أن البلِيَّة لا نهايةَ لها، وأنه لا يلوحُ في الأُفُق المخلَصَ منها؛ فربُّنا - جل وعلا - يقول: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[يوسف: 110].
ولنستمِع بقلبٍ حاضرٍ إلى قول الله - جل وعلا - عن موسى - عليه السلام - حينما اشتدَّ فرعون لموسى ومن معه، يقولُّ الحقُّ - سبحانه -: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف: 128].
إنها عقيدةُ المُؤمن المُستقرَّة في القلوب بأنه ليس هناك إلا الملاذَ الأوحَد، وهو الملاذُ الحَصينُ الأمينُ، وذلك بالتوجُّه الصادقِ للمولَى - جل وعلا - القويِّ المتينِ؛ فإن البشرَ مهما علَت قوتُهم، وعظُم مُلكُهم فما هُم إلا نُزَلاء في أرض الله، والله - سبحانه - ذو القوَّة النافِذة يُورِثُ الأرضَ من يشاءُ من عباده وفقَ سُنَّته وحِكمته.
فمهما اشتدَّ الأذى بالمُؤمنين في أي زمانٍ أو في أي مكانٍ فليعلَموا وليستيقِنوا أن العاقبةَ الحميدةَ في الدارَيْن لأهل الإيمان والتقوى مهما طالَ الزمنُ أم قصُر، ولكنَّ الشأنَ أن يتعلَّقَ رجاءُ المُؤمنين بربِّهم، وأن يُحقِّقوا التقوى والخشيةَ لمولاهم، فلا يخشَون أحدًا إلا الله، ولا يثِقون بأحدٍ سِواه، لا يتوكَّلون إلا عليه، ولا يطلُبون النصرَ والعِزَّة إلا منه - سبحانه -، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ[آل عمران: 173، 174].
إنه المشهدُ الذي لا يتبدَّل في قضيةِ صِراع الحقِّ مع الباطل، إنها نهايةُ الظلم والاستبداد والطغيان، تهاوِي التعالِي والتطاوُل والاستِكبار إلى الهَوْيِ في الأعماق والأغوار؛ فقد كانت عاقبةُ موسى ومن معه مع فرعون وقومه ما أخبرنا به ربُّنا - جل وعلا -: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْأي: من فرعون وقومه، فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ[الأعراف: 136، 137].
إن من الحقائق المُتيقَّنَة عند أهل الإيمان: أن النصرَ من عند الله وحده، وأنه إنما يتنزَّل - أي: النصر - عندما تبذُل الأمةُ المُسلِمةُ آخر ما في جُهدها البشريِّ، ثم تكِلُ الأمرَ إلى الله - جل وعلا -، فالنصرُ قد يُبطِئُ لحِكَمٍ عظيمةٍ؛ منها:
أن تُقوِّيَ الأمةُ المُؤمنةُ صِلتَها بالله - جل وعلا -؛ فالنصرُ مُتأكِّدٌ لمن حقَّق التقوى، وتدرَّع بالسلاح - بسلاح الإيمان الحق بالله - جل وعلا -، قد تتضاعَفُ من أجل هذا النصر التضحياتُ، وتزايَدُ له الآلام، ولكنَّ الظَّفَر في النهاية للذين آمنوا واتَّقَوا، للذين وثَّقوا صِلَتهم بالله، واتجهوا إليه طائعين خاضِعين مُسلِمين، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[الحج: 40، 41].
فيا أيها المُستضعَفون من المُؤمنين في كل مكانٍ! ثِقوا بنصر الله - جل وعلا -، اذكُروا اللهَ كثيرًا لعلَّكم تُفلِحون، اعلَموا أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وعدَكم بوعدٍ حقٍّ صادقٍ، فقال: «واعلم أن النصرَ مع الصبر، وأن الفرجَ مع الكرب، وأن مع العُسر يُسرًا».
إخوة الإسلام:
إن مما أغاظَ كلَّ مُسلمٍ وغمَّ كلَّ مُؤمنٍ ذلكم التطاوُل الوقِح، والاستِهزاءُ الآثِمُ المُجرِم ضِدَّ خير خلقِ الله أجمعين نبيِّنا محمدٍ - عليه أفضلُ الصلاة وأتم التسليم -، إنه تطاوُل من حُثالةٍ حقيرةٍ لا يُنبِئُ هذا التطاوُل إلا عن حقدٍ دفينٍ، وبُغضٍ مَكين ضدَّ هذه الرسالة المجيدة الخالِدة التي جاء بها هذا النبيُّ العظيمُ، التي أغاظَت الشياطين وأعوانَهم في كل مكانٍ، وأغاظَت الطغاةَ وأذنابَهم، ولكنَّهم - بإذن الله - مقطوعون من كلِّ خيرٍ، مبتورون من كلِّ نصرٍ وعِزٍّ وتمكينٍ وسعادةٍ وحياةٍ طيبةٍ.
ألم يقُل الله - جل وعلا -: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 1- 3]؟!
فليخسَأ الخاسِئون، وليَمُت بغيظِهم الحاقِدون، فلقد امتنَّ ربُّ العِزَّة والجلال على النبي المُصطفى أن رفعَ له الذِّكرَ المجيدَ في العالمين في الأولين وفي الآخرين، فهو سيدُ الأنبياء والمُرسلين، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ[الشرح: 4].
أعطاه ربُّه - جل وعلا - ما لم يُعطِ أحدًا من الأولين والآخرين، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى[الضحى: 5].
إن الله - سبحانه - وهو الخالقُ القادِر العزيزُ المُنتقِم، هو من تكفَّل بالدفاع عن نبيِّه من كلِّ مُجرِمٍ عنيدٍ وآثمٍ مريدٍ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 95].
ذكرَ المُفسِّرون عبرَ التأريخ نماذج من القَصص المشهورة التي تُفيدُ وقوعَ المَثُلات المُتناهِية، والعقوبات الدنيوية لمن نالَ من المقام الأعظم مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذلكم في الدنيا فضلاً عما أُعِدَّ لهم في الآخرة من العذاب الأكبر.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ومن سُنَّة الله: أن من لم يتمكَّن المُؤمنون من أن يُعذِّبوه من الذين يُؤذُون اللهَ ورسولَه فإنَّ اللهَ - سبحانه - ينتقِمُ لرسوله ويكفِيه إياه ..."، إلى أن قال: "فكلُّ من شانأَه وأبغضَه وعاداه فإن الله يقطعُ دابِرَه، ويمحَقُ عينَه وأثَرَه". انتهى كلامُه المتين.
معاشر المُسلمين:
إن الدفاع عن مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرضٌ على كل أحدٍ بحسب الوُسع والطاقة، فذلكم من أعظم الجهاد في سبيل الله - جل وعلا -، فعلينا جميعًا الدفاعُ عن مقامه العظيمِ بكلِّ وسيلةٍ مُمكنةٍ يترتَّبُ عليها تحقيقُ المصالِح ودفعُ المفاسِد والمخاطِر.
لا بُدَّ من الدفاع المبنيِّ على العلمِ الصحيحِ والطريقةِ السديدةِ لا المبنيِّ على مُجرِّد العاطِفة الجيَّاشة فحَسب مما يُفضِي إلى فتنةٍ عظيمةٍ ومفسَدةٍ أعظَم من الصبر على أذاهم.
حسبُنا الله ونِعم الوكيل على كل من تطاوَل. وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ[الأحزاب: 48].
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل رهطٌ من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السَامُ عليكم. قالت عائشةُ: ففهِمتُها، فقلتُ: وعليكم السَّامُ واللعنةُ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مهلاً يا عائشة؛ إن الله رفيقٌ يحبُ الرِّفقَ في الأمر كلِّه». فقلتُ: يا رسولَ الله! ألم تسمَع ما قالُوا؟ قال: «قلتُ: وعليكم»؛ متفق عليه.
فكلُّ حالةٍ بحسبها في شرع الله - جل وعلا -، إن الواجبَ علينا - معاشر المسلمين - أن يزيدنا تطاوُل الأقزام على المقام النبويِّ العظيمِ أن يزيدَنا تمسُّكًا بحبِّه - صلى الله عليه وسلم -، وعملاً بسنَّته، وأن نبذُل كلَّ غالٍ ورخيصٍ في نشر رسالتِه العظيمة، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 94، 95].
إن الفرضَ المُحتَّم علينا على حُكَّامنا، وعلى محكومينا، على العلماء والعامَّة، على المُثقَّفين وأهل الإعلام أن نسعَى لنشر مبادئ هذا الدين وأخلاقه العظيمة، ومحاسِنه الكريمة، وأن نُبيِّن للعالَم ما يحمِلُه هذا الدينُ من صلاحٍ وإصلاحٍ وسعادةٍ وفوزٍ في الدارَيْن، وأن نُعلِّم الجاهلَ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أكملُ العالَم خُلُقًا، زكَّاه ربُّه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم: 4].
إن الواجبَ علينا: أن تُمِدَّنا تلك التهويشاتُ الطائشةُ المُجرِمة من أعداء البشرية أن تُمِدَّنا بطاقةٍ إيمانيَّةٍ تمسُكًا بهذا الدين، وعملاً به، وافتِخارًا بأحكامه ومبادئه، فضلاً عن الدعوة إليه بالحِكمة والموعظة الحسنة.
ولقد نعلمُ في آخر السورة التي ذكرَ فيها ربُّنا - جل وعلا -: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، قال له ربُّه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 97- 99].
لنحرِص ألا تجُرَّنا تلك الاستِفزازاتُ الهَوجاءُ والتطاوُلات الرَّعناء أن تُخرِجَنا عن مبادئِ هذا الدين الذي من قواعِده العُظمَى ومبادئه المُثلَى: لا يجنِي جانٍ إلا على نفسه، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[الأنعام: 164].
بارك الله لنا فيما نقول وما نسمَع، أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.




الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أُوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -؛ فهي وصيةُ الله للأولين والآخرين.
أيها المسلمون:
إن من أُصول الإسلام العُظمى: أنه لا يتحقَّقُ إيمانُ امرئٍ إلا بتحقيق المحبَّة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، محبَّةً أعظم من محبَّة النفس والولد والأهل والمال والناس أجمعين؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «والذي نفسي بيده؛ لا يُؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين».
فحقِّقوا الإيمانَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلبًا وقالَبًا، ظاهرًا وباطنًا.
واعلموا أن من أفضل الأعمال: الإكثارَ من الصلاةِ والتسليمِ عليه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيِّدنا ورسولِنا وحبيبِنا وقُرَّة عيوننا محمدٍ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه ما تعاقبَ ليلٌ ونهار، اللهم وارضَ عن الآلِ والصحابةِ أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم عليك بأعداء هذا الدين، اللهم عليك بأعداء هذا الدين، اللهم عليك بأعداء هذا الدين، اللهم عليك بمن تطاوَل على النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم -، اللهم اجعله عبرةً وآيةً للعالمين، اللهم اجعله عبرةً وآيةً للعالمين يا حي يا قيوم.
اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ المسلمين، اللهم انصر إخواننا المُسلمين المُضطهدين في كل مكانٍ، اللهم احفظ المسلمين في سوريا، اللهم احفظ المسلمين في سوريا، وفي فلسطين، اللهم فرِّج همومَهم، اللهم نفِّس كُرباتهم، اللهم عجِّل لهم بالنصر والتمكين، اللهم عجِّل لهم بالنصر والتمكين، اللهم عجِّل لهم بالنصر والتمكين يا قوي يا متين، يا قوي يا متين، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك يا ربَّنا.
اللهم أرِنا في كل طاغيةٍ وفي كل ظالمٍ ما يسُرُّنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ عليهم من يخافُك ويتَّقيك، اللهم ولِّ عليهم من يخافُك ويتَّقيك، اللهم ولِّ عليهم أهلَ التقوى، اللهم ولِّ عليهم أهلَ التقوى، اللهم ولِّ عليهم أهلَ التقوى، اللهم واكفِهم شِرارَهم، اللهم واكفِهم فُجَّارَهم يا حيُّ يا قيوم.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم سلِّم الحُجَّاجَ والمُعتمِرين، اللهم سلِّم الحُجَّاجَ والمُعتمِرين، اللهم سلِّم الحُجَّاجَ والمُعتمِرين، اللهم واجعلهم من يبوءُ بالفوز العظيم يا حي يا قيوم.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّ وترضَى.
اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-03-2012, 09:15 AM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

كيف [color="rgb(139, 0, 0)"]نشكر الله تعالى على نعمه؟
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة 12 ذي القعدة 1433 هـبعنوان: "كيف نشكر الله تعالى على نعمه؟"، والتي تحدَّث فيها عن نعم الله تعالى على عباده ووجوب شكرها، وكيف يكون ذلك، ونبَّه على أعظم النعم التي أحاطَ الله بها عبادَه وامتنَّ بها عليهم.


الخطبة الأولى

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، له الحمدُ في الدنيا والأخرى، لا نُحصِي ثناءً على ربنا هو كما أثنى على نفسه بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العِزَّة والجَبروت، لا يُعجِزُه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله المُصطفى المبعوثُ بالرحمة والهُدى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك وخليلك محمدٍ، وعلى آله وصحبه البَرَرة الأتقياء.
أما بعد:
فاتقوا الله - أيها المسلمون - بفعل ما أمرَكم به، وترك ما نهاكُم عنه؛ فمن اتقى الله وقاه، وصرفَ عنه من المهالكِ والشُّرور ما يخشاه، وأحسنَ عاقبتَه في دُنياه وأُخراه فجعل الجنةَ مأواه.
أيها الناس:
إن نعمَ الله علينا لا تُعدُّ ولا تُحصى، قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 18].

ونعمُ الله على الخلق منها ما يعلمُه العباد، ومنها ما لا يعلمونه، وشُكرُ نعم الربِّ - جل وعلا - بمحبَّة المُنعِم - تبارك وتعالى - من القلب الصادق، وبدوام طاعة الله وترك معاصِيه، وبالثناء على الربِّ - تبارك وتعالى - بما أنعمَ، وتعظيم النعم والتحدُّث بها تواضُعًا لله واعترافًا بفضل الله - عز وجل -، واستعمالها فيما يُرضِي الله - تبارك وتعالى - وعدم الاستعانة بها على معاصِي الله - عز وجل -.
فمن آمنَ بالله - سبحانه - وابتعدَ عن معاصِيه فقد شكرَ ربَّه العزيزَ الوهابَ.
وهذا الشكرُ على لرسالة السماوية بالإيمان أعظمُ أنواع الشُّكر، وأعظمُ أنواع الحمد لله رب العالمين.
ثم يكون بعد ذلك شكرُ كل نعمةٍ بخُصوصها إلى أصغر وأقل نعمةٍ، وليس في نعمِ الله وآلائه صغيرٌ ولا قليلٌ؛ بل كل نعم الله جليلةٌ وعظيمةٌ، يُوجِبُ الله بها على العبد الحمدَ والشكرَ، فلربنا العزيز الوهاب الثناءُ الحسن، والحمدُ والشكرُ على نعمه كلها التي نعلمُها والتي لا نعلمُها، حمدًا ينبغي لجلال وجه ربِّي وعظيم سُلطانه، حمدًا يُوافي نعمه ويُكافِئُ مزيدَ فضله.
ومن يكفر بالإيمان ويركَب المعاصي فقد كفرَ بنعمة الرسالة التي منَّ الله بها على المُكلَّفين، وكفرُ نعمة الرسالة السماوية أعظمُ أنواع الكفر.
ثم يأتي بعد ذلك: الكفرُ بكل نعمةٍ بخصوصها، قال الله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 2، 3].
ومن شكرَ نعم الله تعالى زادَه، ومن كفَر بنعم الله تعالى عاقبَه، قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال في أول يومه: اللهم ما أصبحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقك من نعمةٍ فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ؛ فقد أدَّى شُكرَ ليلته، ومن قال ذلك حين يُمسِي فقد أدَّى شُكر يومه»؛ وهو حديثٌ حسنٌ.
وهل أعظمُ من نعمة الإيمان والإسلام والقرآن؟!
فيا أيها المسلمون:
اشكُروا الله تعالى واحمَدوه على هذه النعمة المُهداة، والمنَّة المُعطاة، واشكُروه على نعمه العظيمة وآلائه الجَسيمة.
ومما منَّ الله به علينا في هذه البلاد: نعمةُ الإيمان والأمان وعُموم الأمن والاستقرار، ومما خصَّ الله به هذه المملكةَ الحرمان الشريفان منبعُ الإسلام، وموطنُ نزول القرآن الكريم، وبُزوغ شمس الإسلام على البشر بالتوحيد والرحمة والعدل والسلام وكرامة الإنسان، قال الله تعالى في نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأنزلَ عليه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
ومن النعم التي أُعلِنَت بالأمس: توسِعةُ المسجد النبوي الشريف التوسِعةَ النافعةَ المُباركة، الضافِية الكافِية، وهي نعمةٌ من الله على جميع المُسلمين في كل مكانٍ عمومًا، وعلى أهل المدينة خُصوصًا، والتي وضعَ حجر أساسِ هذه التوسِعة خادمُ الحرمين الشريفين: الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله ووفقه -.
ومن قبلها قريبًا: توسِعة المسجد الحرام زيادة على التوسِعات السابقة من آل سعودٍ المُوفَّقين الكُرماء على الحرمين، القائمين على مصالح المُسلمين - وفقهم الله تعالى لما فيه عِزُّ الإسلام -، ونفع الله بهذه التوسِعة المُسلمين وباركَ فيها.
وجزى الله تعالى خادمَ الحرمين الشريفين الجزاءَ الأوفى على ما قدَّم ويُقدِّم لشعبه ووطنه وللإسلام والمُسلمين.
والحرمان الشريفان بركتُهما ونورُهما ونفعُهما للمُسلمين وغير المسلمين، فالله تعالى يدفعُ بالعبادة فيهما الكوارِثَ والنوازِلَ عن أهل الأرض كلها، أو يُقلِّل العقوبات النازِلة على الأرض ببركة العبادة في الحرمين الشريفين، وببركة العبادة في الأرض لله رب العالمين، قال الله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251].
ومجيءُ خادم الحرمين الشريفين من إجازته التي كان فيها خارجَ المملكة إلى المدينة النبوية أولاً وقصدًا لزيارة المسجد النبوي الشريف والسلام على سيد البشر - صلى الله عليه وسلم -، والسلام على صاحبَيْه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - له دلالاتٌ عظيمةٌ؛ منها:
أن البدءَ بزيارة المسجد النبوي الشريف والتشرُّف بالسلام على خير البشر نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والسلام على صاحبَيْه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، ثم إقامة حفل وضع حجر الأساس لتوسِعة خادم الحرمين الشريفين للمسجد النبوي في ساحة المسجد النبوي والمنقولة للعالَم. البدءُ بهذا في المجيءِ من السفر من الردود الصائِبة المُوفَّقة التي تردُّ على المُتطاولين والأراذِل من البشر الذين ينتقِصُون سيدَ ولد آدم نبيِّنا وحبيبِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والذين يُريدون أن يحجُبوا شمسَ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بجناح الذُّباب، أو يُريدون أن يقتلِعوا الجبلَ الطودَ الشامِخَ بنفخةٍ من أفواههم.
قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32].
ومن أعظم الردود على المُتطاولين على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التمسُّك بسُنَّته من كل مسلم، وتطبيقُ شريعته، وعدم الانسياقِ وراء أعمالٍ لا يُقِرُّها الإنسان.
والتمسُّك بالتوحيد بعبادة الله وحده لا شريك له في العبادة، والدعوة إلى مشر محاسن الإسلام، ودعوة الناس إليه.
ومن نُصرة الله - تبارك وتعالى - ونُصرة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن نُصرة الله: أن يستقيمَ على شرع الله - تبارك وتعالى -، وأن يدعُو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن ينصُر الله في كل حالٍ.
ومن دلائل هذه الزيارة: اهتمامُه - حفظه الله - بأهل المدينة جيران رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أوصَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برعاية حقوقهم، وعظَّم حقوقَهم على الأمة في أحاديث كثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وليعلَم العالَمُ أن دينَنا أعزُّ علينا من كل شيءٍ، ونحن بغير الإسلام لا دُنيا لنا ولا آخرة، ولا عِزَّة ولا كرامة، قال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 5].
فتذكَّروا - عباد الله - نعمَ الله عليكم، واشكُروه على آلائه وفضله، واستقيموا على دينه، وانصُروا اللهَ في أنفُسكم، وادعُوا إلى الله - تبارك وتعالى - بهديِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتباع سُنَّته، والتمسُّك بشريعته، قال الله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 151، 152].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المُرسَلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الحليمُ العظيمُ، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
عباد الله:
اعملوا الأسبابَ التي يرضى بها عنكم ربُّكم - تبارك وتعالى -، واجتنِبوا الأسبابَ التي تُغضِبُ الله عليكم؛ فليس بينكم وبين الله سبب إلا بالعمل الصالح، قال الله تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37].
وفي الحديث: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الحلالُ بيِّن والحرامُ بيِّن وبينهما أمورٌ مُشتبَهات، فمن اتَّقى الشُّبهات فقد استبرَأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشُّبُهات وقع في الحرام». ولا يهلِك على الله إلا هالِك.
واعلموا أن الله هو الذي يُدبِّر الكونَ كلَّه علويَّه وسُفليَّه على ما يُريد، قال الله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: 107].
فعلى المُؤمن أن يعمل بأسباب النجاة، ويجتنِب أسبابَ الهلكَة، وعليه أن يثِقَ بالله ويتوكَّل عليه ويشكُر الله على السرَّاء والضرَّاء، ويصبِر على النعم، فلا يبطُرها ولا يكفُرها، ويصبِر على الضرَّاء بالاحتِساب لله - عز وجل -.
وليعلَم المسلمُ أن كل قضاءٍ يقضِيه الله عليه خيرٌ له في العاجل والآجل، إذا عمِل بالطاعة، وترك المعاصي، ولله تعالى أن يبتلِيَ عبادَه، وليس للعباد أن يمتحِنوا ربَّهم، وفي حديث سلمان - رضي الله عنه -: «عجَبًا لأمر المؤمن إن أمرَه كلَّه خيرٌ، إن أصابَته سرَّاء شكَر فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاء صبَر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن».
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلُّوا وسلِّموا على سيدنا وحبيبِنا سيدِ الأولين والآخرين، نبيِّا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة سادات الأمة أجمعين اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحْب أجمعين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وارضَ عن الحسن والحُسين، وارضَ عن أمهما البتُول فاطمة بنت الرسول سيدة نساء العالمين، اللهم وارضَ عن ذريتها المُبارَكين إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عن آل بيت رسولك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - المُبارَكين، اللهم وارضَ عن زوجات رسولك - صلى الله عليه وسلم -، وعن آل بيته الذين قال الله فيهم وفي زوجات رسوله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33].
اللهم اغفر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمورنا، وثبِّت أقدامَنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعِنَّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، اللهم ألهِمنا رُشدَنا وأعِذنا من شُرور أنفُسنا، اللهم أعِذنا من شُرور أنفُسنا ومن سيئات أعمالنا، وأعِذنا من شر كل ذي شرٍّ يا رب العالمين.
اللهم أعِذنا من الشيطان الرجيم ومن نزَغاته ومن وساوسه، اللهم واحفَظنا وذرياتنا والمُسلمين من إبليس وجنوده وشياطينه يا رب العالمين.
اللهم اجعل بلادَنا آمنةً مُطمئنة، رخاءً سخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّ في أوطاننا، اللهم أصلِح وُلاةَ أمورنا، اللهم أصلِح وُلاةَ أمورنا، اللهم وفِّقهم لما تُحبُّ وترضى، ولما فيه الخيرُ والعزُّ للإسلام والمُسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفِّق عبدكَ خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، ولما فيه عِزُّ الإسلام والمُسلمين، اللهم أعِنه على ما فيه الخيرُ وما فيه الصلاحُ ولفلاحُ لشعبه وللمسلمين يا رب العالمين ولعِزِّ الإسلام، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إنا نسألك أن تُغيثَنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين، اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين، اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين، برحمتك إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم اغفِر لأمواتنا وأمواتِ المسلمين، اللهم اغفِر لأمواتنا وأمواتِ المسلمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 90، 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
[/color]

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-09-2012, 10:22 AM   رقم المشاركة : 8

 

تعلَّم قبل أن تعمل
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 19 ذي القعدة 1433هـ بعنوان: "تعلَّم قبل أن تعمل"، والتي تحدَّث فيها عن العلم وفضله ووجوب تعلُّمه، لا سيَّما ما يهمُّ المُسلم من توحيد الله تعالى، والتفقُّه في دينه؛ من معرفة كيفية الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحجِّ، وغير ذلك، وبيَّن أن ذلك فرضٌ على كل مُكلَّفٍ أن يتعلَّمه ولا يعبُد اللهَ على جهلٍ.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي حكَم فأحكَم، وحلَّل وحرَّم، أحمدُه على ما عرَّف وعلَّم، وفقَّهَ في دينه وفهَّم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين مُتلازِمَيْن إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فبالتقوى تحصُل البركة، وبالعلمِ تندفِعُ الهَلَكة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].
أيها المسلمون:
الفقهُ في الدين أنفسُ ذخيرةٍ تُقتَنى، وأطيبُ ثمرةٍ تُجتَنى، وعلمُ الفقهِ من أشرف العلوم قدرًا، وأعظمها أجرًا، وأتمِّها عائِدة، وأعمِّها فائِدة، وأعلاها مرتَبة، وأسماها منقَبة.
وإني لا أستطيعُ كُنْهَ صفاته ولو أنَّ أعضائي جميعًا تكلَّموا
فعن مُعاوية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يُرِد اللهُ به خيرًا يُفقِّهْه في الدين»؛ متفق عليه.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "نِعمَ النساءِ نساءُ الأنصار؛ لم يمنَعهنَّ الحياءُ أن يتفقَّهنَ في الدين"؛ أخرجه مسلم.
وقال - جلَّ في عُلاه -: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122].
ومعرفةُ أحكام الشريعة فضيلةٌ عظيمةٌ، ومرتبةٌ شريفةٌ، وجليلةٌ وفريضةٌ، والجهلُ بأمور الدين نقيصةٌ وخطيئةٌ.
فبالعلمِ النجاةُ من المخازي وبالجهل المذلَّةُ والرَّغامُ
ومن عبَدَ اللهَ بلا علمٍ ولا فقهٍ ولا سُنَّةٍ ولا اتباعٍ هامَ في ضلالته، ولجَّ في إساءته، وشقِيَ في جهالته، وما انتفعَ بشيءٍ من عبادته.
قال عمرُ بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى -: "من عبَدَ اللهَ بغير علمٍ كان ما يُفسِد أكثرَ مما يُصلِح".
وقال الثوريُّ - رحمه الله تعالى -: "تعوَّذوا بالله من فتنةِ العالِم الفاجرِ، والعابِد الجاهل؛ فإن فتنتَهما فتنةٌ لكل مفتونٍ".
وهل ظهَرت الفتنُ والمُخالفات، وانتشَرت الخُرافات والخُزعبلات، والبدعُ والضلالات، والزيادات والمُخترَعات إلا بسببِ ترك التفقُّه في الدين؟!

أيها المسلمون:
وليس يكفِي في العبادات صُورُ الطاعات؛ بل لا بُدَّ من كونها على وفق الكتاب والسُّنَّة.
قال بعضُ السلف: "لا يستقيمُ قولٌ إلا بعملٍ، ولا قولٌ وعملٌ إلا بنيَّة، ولا قولٌ ولا عملٌ ولا نيَّةٌ إلا بمُوافقة السُّنَّة".
لذا كانت معرفةُ ما كان عليه النبي المُكرَّم والرسولُ المُعظَّم نبيُّنا وسيدُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في عباداته أولَى ما اشتغلَ به المُسلم، واستغرقَ الأوقاتَ في تحصِيله، وبذَلَ الوُسعَ في إدراكِه.
وعلى المُكلَّف تعلُّمُ ما لا يتأتَّى الواجبُ الذي تعيَّن عليه فعلُه إلا به؛ ككيفية الوضوء والطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغيرها.
ويتعيَّن على من أراد بيعًا أو نِكاحًا وشِبهَهما ألا يقدُمَ على شيءٍ من ذلك إلا بعد تعلُّم كيفيَّته ومعرفة شرطِه، ويجبُ أن يكون العلمُ مُقدَّمًا على العمل؛ لأنه يحرُسُ العملَ عن الفساد والاختلال، والانحِرافِ والضلال.
وحريٌّ بمن قصَدَ الديارَ المُقدَّسةَ لأداء فريضة الحجِّ وهجَرَ بلادَه، وتركَ أهلَه وأولادَه، وأنفقَ مالَه وحلالَه، وتجشَّمَ المشاقَّ لأداء فرضه، حريٌّ به أن يبذُل وُسعَه وجهدَه في طلب فقهِ حجَّته، ومعرفة صفات أدائها، وشروط إجزائها، وما يجبُ لإتمامِها وإكمالِها، ومعرفة كيف حجَّ سيدُ الخلق مُحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - القائل: «خُذوا عني مناسِكَكم».
ليُؤدِّي فريضتَه على وفق الكتاب والسُّنَّة، ويحظَى بشرف المُتابعة، ويفوزَ بالرِّضا والقبول.
ولا يسألُ الحاجُّ عن أمور حجِّه إلا من يثِقُ في دينه وأمانته وعلمِه، ولا يستفتِ مجهولاً أو غريبًا لا يعرفُ أهلِيَّتَه وقُدرتَه وتمكُّنَه.
وعلى العُلماء والفُقهاء أن يعقِدوا الدروسَ والحِلَق ومجالِسَ الفقه والذكر في أشهُر الحجِّ، ويُعلِّموا الناسَ فقهَ المناسِك، وأحكامَ الحجِّ، وآدابَ الزيارة، ويُؤدُّوا زكاةَ علمِهم وفقهِهم.
تفقَّه فإن الفقهَ أفضلُ قائدٍ إلى البرِّ والتقوى وأعدلُ قاصِدِ
هو العلَمُ الهادي إلى سَنَنِ الهُدى هو الحِصنُ يُنجِي من جميع الشدائدِ
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآيات والبيِّنات والعِظات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
وأنفسُ العلوم وأجلُّها قدرًا: علمُ التوحيد وهو الفقهُ الأكبر، سمَّاه بذلك الإمامُ أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -.
وإذا أردتَ من العلوم أجلَّها نفعًا وأزكاها وأعلى المَطلَبِ
فعلومُ توحيدِ الإلهِ وبعدَهُ فقهٌ بدينٍ فهو أعلى المكسَبِ
ومن عرَفَ اللهَ حقَّ معرفته لم يسجُد لمخلوقٍ مثلِه، ولم يخِرَّ راكعًا له ولو كان عالِمًا أو إمامًا أو ملِكًا؛ فعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يصلُح لبشرٍ أن يسجُد لبشرٍ»؛ أخرجه أحمد.
ومن عبَدَ اللهَ حقَّ عبادته لم يطُفْ بقبرٍ أو ضريحٍ؛ لأن الطوافَ لا يُشرَعُ إلا بالكعبةِ المُشرَّفة، ولم يذبَح لقبرٍ أو جنٍّ أو شياطين، ولم يُعلِّق تمائمَ وعزائِم وخيوطًا وحروزًا على صدره وبدنه يعتقِدُ نفعَها وتأثيرَها.
ومن عظَّمَ اللهَ حقَّ تعظيمه لم يسأل أمواتًا مددًا، ولم يتَّخِذ أضرِحةً ورُفاتًا عونًا وسنَدًا، يرجُو منهم العافيةَ والشفاءَ، والوصلَ والعطاءَ.
وكيف يُنادَى مخلوقٌ ميِّتٌ؟! وكيف يُستغاثُ به ويُتَّخذُ وسيطًا واللهُ هو الحيُّ الغنيُّ الوليُّ، السميعُ البصيرُ، القادِرُ القاهِرُ، المُدبِّرُ للكون ومن فيه، يسمَعُ نداءَ من ناداه، ويرفَعُ عنه ضُرَّه وبلواه، لا إله إلا هو، ولا معبودَ بحقٍّ سِواه.
فتفقَّهوا في دينِكم، وحاذِروا الجهلَ؛ فإنه رأسُ البلاء وأساسُ الشقاء.
ثم صلُّوا وسلِّموا على خيرِ الورَى؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا وسيِّدِنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنَّة المُتَّبعة: أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة أجمعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وجُودِك يا كريم.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وانصُر إخوانَنا في سُورية على القوم المُجرمين، والقتَلَة المُعتدين يا رب العالمين.
اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجس يهود، اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجس يهود، اللهم عليك باليهود الغاصِبين، والصهايِنة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك يا رب العالمين.
اللهم عليك بمن تعرَّض لجنابِ سيد الخلق محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم عليك بمن آذانا وتعرَّضَ لنبيِّنا وسيِّدنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم شُلَّ أركانَه، اللهم شُلَّ أركانَه، اللهم شُلَّ أركانَه يا قويُّ يا عزيزُ يا رب العالمين.
اللهم مُنَّ على جميع أوطان المُسلمين بالأمن والرخاء يا رب العالمين.
اللهم اجزِ خادمَ الحرمين الشريفين خيرَ الجزاء وأوفاه على عمارتِه للحرمين الشريفين وتوسِعتهما وتطوير المشاعِر المُقدَّسة، وخدمتِه للحُجَّاج والزوَّار والمُعتمِرين يا رب العالمين، اللهم متِّعه بالصحةِ والعافيةِ، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصُرنا على من عادانا يا رب العالمين.
اللهم سلِّم الحُجَّاجَ والزوَّارَ والمُعتمرين، اللهم سلِّم الحُجَّاجَ والزوَّارَ والمُعتمرين، اللهم تقبَّل مساعِيَهم وزكِّها، وأعلِ درجاتهم وأعلِها، اللهم وأعلِ درجاتهم وأعلِها، اللهم واكتُب لهم القبولَ والعِتقَ من النار يا سميعُ يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-20-2012, 02:21 AM   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

عز العبد في عبوديته لله تعالى
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة 26ذي القعدة 1433هـ بعنوان: "عز العبد في عبوديته لله تعالى"، والتي تحدَّث فيها عن العبودية لله تعالى، وأن العبد لن يصِل إلى رضا مولاه، والفلاحِ في الدارَين إلا بها، وذكرَ شيئًا من علامات تيسير الله على عباده في شرائعه وأنه لم يشُقَّ عليهم ولم يُكلِّفهم ما لا يُطيقون.

الخطبة الأولى
الحمد لله الغني عن العالمين، لا تنفعُه طاعةُ الطائعين، ولا تضُرُّه معصيةُ العاصِين، من عمِل الطاعات فهو الفائزُ بثواب المُحسنين، ومن عمِل المعاصي فهو مع الخاسرين، ولن يضُرَّ اللهَ شيئًا وسيجزي الله الشاكرين، أحمدُ ربي وأشكره على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الخلق أجمعين، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله بعثَه الله بالهُدى ودين الحقِّ فجعلَه رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك وخليلك محمدٍ، وعلى آله وصحبه المتقين.
أما بعد:
فاتقوا الله - أيها المسلمون - بفعل ما يُرضيه من الطاعات، وترك ما يُغضِبُه من المُحرَّمات.
واعلموا - عباد الله - أن عزَّ العبد في عبوديَّته لربِّه - عز وجل -، وقوَّةَ المُسلم في توكُّله على مولاه، وغِناه في مُداومة الداء برفع حاجاته كلِّها إلى الله تعالى، وفلاحَه في إحسانه لصلاته، وحُسن عاقبته في تقواه لرب العالمين، واشنراح صدره وسروره في برِّ الوالدين وصِلة الأرحام والإحسان إلى الخلق، وطُمأنينة قلبه في الإكثار من ذكر الله المُنعِم - جل وعلا -، وانتظامَ أمور الإنسان واستقامةَ أحواله بالأخذ بالأسباب المشروعة وترك الأسباب المُحرَّمة، مع تفويضِ الأمور كلِّها للخالق المُدبِّر - سبحانه وتعالى -، وإنجازَ الأعمال في أوقاتها بلا تأخُّرٍ ولا كسَل.
وخُسرانُ العبد وخِذلانُه في الرُّكون إلى الدنيا والرضا بها، ونسيان الآخرة، والإعراض عن عبوديَّة الربِّ - جل وعلا -، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يونس: 7، 8]، وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ[السجدة: 22].
وقد جعلَ الله لكم عبَرًا في الأمم الماضية والقرون الخالية؛ فقد أعطاهم الله تعالى طُولَ الأعمار، وجرَت من تحتهم الأنهار، وشيَّدوا القصورَ وبنَوا الأمصار، ومُتِّعوا بقوَّة الأبدان والأسماع والأبصار، ومكَّن الله لهم في الأرض وسخَّر لهم الأسبابَ، فما أغنى عنهم ما كانوا فيه من القُوى والنعيم، ولا دفعَت عنهم الأموال والأولاد، قال الله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[الأحقاف: 26].
والسعيدُ من اتَّعَظ بغيره، والشقيُّ من وُعِظ به غيرُه، فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ[لقمان: 33]، واستعِدُّوا للقاء الله بما تقدِرون عليه من الأعمال الصالحات، ولا تغُرَّ أحدَكم الدنيا وطول الأمل، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ[المؤمنون: 99، 100].
واعلموا - عباد الله - أن اجتماعَ الخير كلِّه في عبادة لله وحده لا شريك له، على ما وافقَ سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع الإخلاص ومحبَّة الله تعالى ومحبَّة رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، ولن ينالَ أحدٌ رِضوانَ الله - عز وجل -، ولن يدخُل جنَّتَه، ولن يسعَد في حياته وبعد مماته إلا بعبادة الله - تبارك وتعالى -.
وللعبادة خُلِق المُكلَّفون، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56]، ولرضا الربِّ - عز وجل - بالعبادة وفرحه بها وحُبِّه لها، وكثرة منافعها للمُكلَّفين، وعموم بركتها، وسُبوغ خيراتها في الدارَين أمرَ الله بها في الليل والنهار، وجوبًا أو استحبابًا، مُقيَّدةً أو مُطلقةً؛ ليستكثِرَ منها السابِقون، وليلحَق بركبِ العُبَّاد المُقصِّرون.
وكمالُ العبادة هو كمالُ محبَّة رب العالمين، وكمالُ الذلِّ والخُضوع للمعبود - سبحانه وتعالى -، مع موافقة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن رحمة الله - عز وجل -، ولُطفه بعباده، وسَعة جوده وكرمه: أن شرَعَ العبادات للمُكلَّفين كلِّهم، يتقرَّبون بها إلى الله - سبحانه -، ليُثيبَهم، وبيَّن لهم الأوقاتَ الفاضِلة التي يتضاعَفُ فيها ثوابُ العبادات، ليتسكثِروا من الخيرات، ولو لم يُبيِّن لهم الزمانَ الفاضلَ لم يعرِفوه، قال الله تعالى: وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ[البقرة: 151]، وقال تعالى: فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ[البقرة: 239].
وإذا شرعَ الله عبادةً دعا المُكلَّفين إلى القيام بها والتقرُّب إلى الله بها، فإذا لم يتمكَّن بعضُ المُكلَّفين من فِعلها فتحَ الله للمُكلَّفين أبوابًا من الطاعات، وشرعَ لهم من الطاعات من جِنسِ ما فاتَهم من العبادات، لينالَ العبادُ عزَّ الطاعات، وثوابَ القُربات؛ فمن لم يُدرِك والدَيه فقد شُرِع له الدعاء لهما، والصدقة عنهما، والحجُّ عنهما، وصِلة رحِمهما، وإكرامُ صديقهما، ومن أدركَهما ثم ماتا فكذلك يستمرُّ على برِّهما.
عن أبي أُسيد الساعدي - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله! هل بقِيَ من برِّ أبَوَيَّ شيءٌ أبرُّهما بعد موتهما؟ قال: «نعم؛ الصلاةُ عليهما - أي: الدعاء لهما -، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصِلة الرَّحِم التي لا تُوصَل إلا بهما، وإكرامُ صديقِهما»؛ رواه أبو داود.
والخالةُ بمنزلة الأم، عن اب عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رجلٌ: يا رسول الله! إني أصبتُ ذنبًا عظيمًا؛ فهل لي من توبة؟ قال: «هل لك من أم؟». قال: لا، قال: «فهل لك من خالةٍ؟». قال: نعم، قال: «فبِرَّها»؛ رواه الترمذي.
ومن لم يجِد مالاً ليتصدَّق منه فليعمَل بيده وينفع نفسَه ويتصدَّق؛ عن سعيد بن أبي بُردة، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على كل مُسلمٍ صدقة». قال: قيل: أرأيتَ إن لم يجِد؟ قال: «يعتمِلُ بيدَيه فينفعُ نفسَه ويتصدَّق». قال: قيل: أرأيت إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجةِ الملهُوف»، قال: قيل له: أرأيتَ إن لم يستطع؟ قال: «يأمُر بالمعروف أو الخير»، قال: أرأيتَ إن لم يفعَل؟ قال: «يُمسِك عن الشر؛ فإنها صدقةٌ»؛ رواه مسلم.
وفي الحديث: «من صلَّى الفجرَ في جماعةٍ، ثم جلسَ في مكانه يذكُر الله حتى تطلُع الشمسُ فصلَّى ركعتَين، انقلَبَ بعُمرةٍ وحجَّةٍ تامَّةٍ تامَّةٍ».
ومن قضَى فريضةَ الحجِّ ولم يتطوَّع بعدَها أو لم تتيسَّر له فريضةُ الحج، فقد شُرِع له صيامُ عرفة، وفي الحديث أنه: «يُكفِّرُ السنةَ الماضِية والآتية»، شُرِعت له الأُضحية؛ فهو يُشارِكُ الحُجَّاج في عرفة، وفي القُربان، وشُرِع له التقرُّب إلى الله بأنواع العبادات في عشر ذي الحجَّة؛ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله منه في عشر ذي الحجَّة». قالوا: ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ولم يرجِع من ذلك بشيءٍ»؛ رواه البخاري.
وأنتم - معشر المسلمين - في أيامٍ فاضِلةٍ من أيام أشهر الحجِّ، وذِكر الله - عز وجل - من أفضل الأعمال وأجلِّ القُربات، وقد كان السلفُ الصالحُ يجهَرون بذِكر الله في عشر ذي الحجَّة، وكان ابنُ عمر وأبو هريرة يُخرُجان إلى السوق فيُكبِّران ويُكبِّرُ الناسُ بتكبيرهما.
وفي حديث عبد الله بن بُسْر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله! إن شرائعَ الإسلام قد كثُرت؛ فبابٌ نتمسَّك به جامعٌ؟ قال: «لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذِكر الله».
وأفضلُ الذكر: تلاوة القرآن العظيم؛ قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[الأحزاب: 41، 42]، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[آل عمران: 133].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المُرسَلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يعلمُ السرَّ وأخفَى، له الحمدُ في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لربِّنا الأسماءُ الحُسنى، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله المُجتبَى، وعلى آله وصحبِه ومن بهديِه اقتدَى.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
عباد الله:
إنكم في أيامٍ من أشهُر الحجِّ، ومن أيام الأشهُر الحُرُم؛ فمن كان حاجًّا فليحمَد اللهَ على توفيق الله له أن يسَّر له الأسبابَ لأداء الحجِّ، فليُلزِم نفسَه بما أرشدَه إليه القرآنُ الكريمُ، قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ[البقرة: 197].
وفي الحديث: «من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ من ذنوبِه كيوم ولدَتْه أمُّه»، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة.
وعلى الحاجِّ أن يتحرَّى في حجِّه السُّنَّةَ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خُذوا عني مناسِكَكم».
وليسألَ الحاجُّ أهلَ العلم الذين تصدُر عنهم الفتوى ويُوثَقُ بعلمِهم ويعرِفون ويعلَمون مناسِكَ الحجِّ، ليسألَ الحاجُّ أهلَ العلم عن تفاصيل أحكام الحجِّ ليستوفِيَ أعماله، وليفوزَ بالقبول.
وعلى الحاجِّ أن يبذُل الخيرَ ويكُفَّ شرَّه وأذِيَّته عن المُسلمين، ومن لم يُقدَّر له الحجُّ فليلِج أبوابَ الخيرات التي شرعَها له ربُّه؛ ليفوزَ بسعادة الدنيا ونعيم الجنات.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلُّوا وسلِّموا على سيدِ الأولين والآخرين وإمام المُرسلين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين يا رب العالمين، اللهم ودمِّر أعداءَك أعداء الدين.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيّك يا رب العالمين.
اللهم تولَّ أمر كلِّ مُسلمٍ ومُسلمة، وأمر كلِّ مؤمنٍ ومُؤمنة يا رب العالمين.
اللهم احفظ دماء المسلمين، اللهم احفظ دماء المسلمين وأعراضَهم وأموالَهم ونفوسَهم يا رب العالمين، اللهم احفظ إخواننا المسلمين بالشام، اللهم احفظ إخواننا المسلمين بالشام، اللهم احفظ إخواننا المسلمين بالشام من ظلم الظالمين، واعتداء المُعتدين، وعُدوان الغاشمين يا رب العالمين.
اللهم كُن لهم ولا تكن عليهم، اللهم إنا نسألُك أن ترحم ضعفَهم، وأن تلطُف بهم يا رب العالمين، اللهم وأنزِل الدائرة على المُعتدين عليهم والظالمين لهم يا رب العالمين.
واحظ المسلمين في كل مكانٍ، وأعِذهم من شرِّ الظلَمة الذين لا يتعدون عليهم من الكافرين يا رب العالمين، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم وُلاةَ أمورنا، اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، ولما فيه الخيرُ يا رب العالمين لشعبه ووطنه وللمسلمين، إنك على كل شيء قدير، اللهم أعِنه على كل خيرٍ يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا، اللهم وارحمنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا يا رب العالمين، اللهم إنا خلقٌ من خلقك ولا غِنى بنا عن رحمتك، اللهم لا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، اللهم لا تكِلنا إلى أنفسنا، اللهم لا تكِلنا إلى أنفسنا يا رب العالمين، ولا إلى الناس فنضيعُ، فإنك أنت الله لا إله إلا أنت مولَى المؤمنين.
اللهم إنا نسألُك أن تُصلِح ذريَّاتنا، اللهم أصلِح ذريَّاتنا يا رب العالمين، اللهم وأصلِح ذريَّات المسلمين، اللهم أعِذنا من شُرور أنفُسنا، وأعِذنا من شر كل ذي شرٍّ يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ[النحل: 90، 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:26 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir