يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحات الموروث والشعر والأدب > ساحة الأدب الشعبي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-14-2010, 10:27 PM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road

المعلامة


 

دشن وكيل محافظ الطائف عبدالله بن ماضي الربيعان الاسبوع المنصرم كتاب (المعلامة) للأديب عقيلي الغامدي وذلك بالخيمة العكاظية بنادي الطائف الادبي وبحضور رئيسه حماد السالمي وجمع غفير من المثقفين والإعلاميين وعقيلي بن عبدالغني آل عقيلي الغامدي من مواليد رغدان 1365هـ يعمل بالتدريس بالطائف عضو نادي الطائف الادبي من اعماله الاخطبوط والمستنقع ( مجموعة قصصية ) وشجرة الليمون ( مجموعة قصصية ). وعقيلي أديب بارع وقاص واقعي له العديد من المشاركات في الاندية الثقافية والصحف المحلية.
ويسرني أن انقل للساحات فصول من المعلامة حيث صور فيها عقيلي ببراعة مرحلة مهمة من مراحل التعليم في منطقتنا العزيزة وأرخ لها بسردية بديعة


بسم الله الرحمن الرّحيم
الجزء الأول

( المـعـلامـــــة )

مع بداية عام 1372 هجرية بدأت أسمَعُ عن (المعلامة) من والدي وممن حولي تمهيداً لإرسالي إليها في (رغدان)، كنت أنتظر هذا الحدث بشوق، فقد كان في القرية من المعلمين:
(أحمد بن سعيد) و(جمعان بن خميس) و(مسفر بن عبد لله الأعمى). وكانوا معلمين على نظام الكتاتيب آنذاك، ومن شدّة اهتمامي بهذهِ المرحلة الجديدة في حياة أيّ طفل.. فقد كنت أسأل وأركّز اهتمامي بأي مسميات أو مصطلحات تتعلّق بالمعلامة/المدرسة، حين أسمعها ممن سبقني إليها مثل: (سيّدنا) معلمنا، وإذا نودي يقال له: (يا سيْد) يا أستاذ. (القراية) تعني الطلبة. (خَبَطَُه) ضربه، (الخباء) حافظة الدفاتر/الحقيبة، وبها مرسمة وكِسْرة من الخبزة أو (عفسة من التّمر) والخباء من القماش يتقلده التلميذ على جنبه حين يذهب إلى المعلامة. (امسكوه) وتعني أن يقوم اثنان من التلاميذ بربط قدمي الطالب لعقابه فيوثق بعمامته أو بعمامة آخر وتُرْفع رجلاه إلى أعلى ثم يُضرب في باطن قدميه. (افتِش/ فتَشَ) افْتح وفتح المصحف أو الكتاب على موضوع الدّرس. (قُصّ) بمعنى تتبّع، تبّع بالسبّابة على الكلمات والسّطور. (طيَّسْ) نسِيَ الدّرْس ولم يفهمْه.
وإذا أريد تحيّة المعلم جماعيّاً فإن التلاميذ يهتفون بصوتٍ واحد قائلين:
( يا سيدنا قمْ قيّدنا.. فَتَحَ الله لك باب الجنّة وباب النار للكفار).
هذه بعض (المصطلحات المعلامية) سردتها هنا ويتبعها غيرها في المكان المناسب.
في العام الذي كنت سأذهب فيه إلى المعلامة عند أولئك (الفقهاء)، ولم يبقَ سوى أن يختار والدي أحدهم مقابل ريالات بل قروش قليلة مع كثير من التوقير والتقدير وزكاة الفطر التي يقدمها التلميذ له في رمضان . وقبل أن أبدأ عند أيّ منهم أعلِن عن فتح مدرسة (للحكومة) باسم (مدرسة بني خثيم) برغدان. فانتظمنا بها وأخذ يفد إليها التلاميذ من جميع القرى المجاورة، فكانت حدثاً فريداً، كما انتقل إليها الطلبة الذين كانوا يدرسون في المعلامة، وكانت الدراسة في حلقات حسب المستويات.. مستويات القراءة والكتابة وقراءة القرآن الكريم، واختير لها بيت (العدنان) بيت الشيخ في (السافلة)/الدور الأرضي.. ولم يكن التغيير والتمييز واضحاً في البداية بين المدرسة الحكومية والمعلامة.
أوّل معلم شاهدته في حياتي الدراسية في هذه المدرسة الأستاذ (عبدالرحمن بن رمزي) أثابه الله.
ومع أنّ أخي (عبدالهادي) يرافقني إلى المدرسة فهو قد ختم القران الكريم أو كاد..، فقد تصارعت في نفسي مشاعر متباينة من التشوّق والخوف،والرغبة والرّهبة .. مشاعر غريبة وعجيبة كنت أشعر بها ولا أستطيع وصفها في ذلك الحين، بقدر ما أستطيع وصفها الآن ولم أعد أشعر بها. وعلى الأخص حينما كنا نشاهد طالباً من الكبار يُعاقب بالضرب! أو نسمع البكاء وضربات العصىّ،والاستنجاد بالأب أو الأمّ.. فتتراكم على نفوسنا مشاعرٌ شتّى من الخوف والذّعر.
مع صباح كلّ يوم نذهبُ إلى المعلامة، فمازال هذا الاسم قائماً ثم بدأ ينحسر ليحل محلّه مسمى (المدرسة).
وكان كل منّا يعلق على كتفه (خباء) المدرسة الذي يحوي كرّاساً مثنيّ الأوراق مع بقية (مرسمة)، تلتصق بهما بقايا التّمر وفتات الخبز المتراكمة من يوم إلى آخر.
كنّا نجلس في حلقة المبتدئين الصغار في ذلك المنزل الواسع من غير حجرات تفصل بين المجموعة والأخرى.. فنجلس على الأرض من غير فراش يُذكر سوى قِطعٌ من الحصير يتميّز به التلاميذ المتقدمون في قراءة القرآن الكريم.
طلاب كل حلقة أو مجموعة يشاهدون المجموعة الأخرى، ويتنقّل (الأستادْ) بالدال المهملة.. بين الحلَقات، ثم يوكل إلى بعض التلاميذ المتقدمين مهمة الإشراف على المبتدئين. مع التحفيظ والتسميع لما درسوه وحفظوه فيمارسون مهمتهم بسعادة قد تتطوّر إلى أوامر ونواهٍ واستغلال..

أخذنا في البداية نردد قراءة سورة الفاتحة.. ثم حفظ السور القصيرة، فتتعالى الأصوات وتختلط من مجموعة إلى أخرى حسب الدرس المقرر حفظه وترديده، لننتقل بعد ذلك إلى تعلّم حروف الهجاء حسب ما يُطلق عليه اليوم (الطريقة الجزئية) فندرس الحرف باسمه (ألف.. باء.. تاء.. ثاء) ثم بصوته مع الحركة (أَ بَ تَ ثَ) فنردد:
(أَ نصب.. باء نصب.. تاء نصب... ثاء نصب) وتعني نَصَب: الفتحة، ثمّ ننتقلُ إلى حركة الكسرة:
(إِ خفض.. بِ خفض تِ خفض......) ونعني بخفض: الكسرة (وهذا ما عرفته فيما بعد).
وبنفس الطريقة بالنسبة للضمة والسكون (الرفع والجزم) فنقول: (أُ أو رفع ) (بُ بو رفع)، (اْ جزم ، أبْ جزم..) وهكذا بقية حروف الهجاء بترديد جماعي، ثم ننتقل إلى التنوين بالفتح والكسر والضم (بً ، بٍ ، بٌ) ونردد جماعياً باللفظ:
(بَنْ... بِنْ... بُنْ) وهكذا، وننتقل إلى ترديد كلمات مثل: (أينكم.. بينكم.. تينكم.. ثينكم...) فنرددها ونحن لا نعلم ماذا تعنيه!
لم يكن في المدرسة تحديد زمنيّ للحصص الدراسية أو المواد،فالدراسة كانت تقتصر على حفظ سور من القرآن الكريم، وتعلّم القراءة ثم الكتابة، ويأتي بعد ذلك الحساب للمجموعات المتقدمة، وكثيراً ما كنا ننظر مشدوهين إلى ذلك اللوح العريض الأسود مسنوداً على الحائط أمام التلاميذ الكبار، وهو البديل عن الألواح الفردية التي كان يحملها التلاميذ سابقاً في المعلامة/الكتّاب.


يتبع ................................

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 03-14-2010, 11:18 PM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية رحيق
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
رحيق is on a distinguished road


 

قرأتُ الموضوع بذهول ... هل معقول كانت الدراسة في الماضي بهذه الطريقة؟؟!! ... سألت والدي الذي كان بجواري ... أيّد ذلك الإجراء المتبع في القرى ... سألته : هل قرأتَ بنفس الطريقة ؟ أجاب بالنفي ..

زرنا في صيف العام الماضي غابة رغدان ... واستمتعنا كثيرًا ... فهل رغدان هي القرية المجاورة ؟ -سألت أبي- ... قال حول غابة رغدان عدة قرى ... ورغدان إحداها ...

قلتُ : ربما في ذلك الزمن.. كان هناك فرق بين تعليم القرى ومدن الوسطى ... قال لا . لكن أنا تعلمت صغيرًا خارج البلاد بصحبة أسرتي كما تعلمين .. قلتُ: عفوًا .. غاب ذلك عن ذاكرتي الآن.

سبحان الله ... إذًا كيف تعلم أباؤكم وأجدادكم ؟ .. قال بطرق أكثر بدائية ... رحم الله الأجداد الذين عانوا الأمرين .. والحمدلله على ما نحن فيه الآن من النعم وتطور التعليم ..
نعم .. نعم ..( يرحمهم الله ) والحمد لله على نعمه التي لا تحصى .... ( انتهى الحوار مع الوالد العزيز )


سعيد الفقعسي ... مشكور على الخبر ..وعلى عرض جزء من كتاب المعلامة ... نتمنى الاسترسال في عرض الجوانب المهمة منه ... وسأقتني الكتاب عند عرضه بالمكتبات .. للاطلاع على حقبة تحدي المصاعب والاستعصاء .. وعلى طرق التعليم التلقيني لخلق عقول فذة .. رائدة .. أمثال الأديب الكاتب.




 

 
























التوقيع





شكراً لأختي الغالية " ضياء القمر " على تصميم توقيعي الرائع


   

رد مع اقتباس
قديم 03-15-2010, 09:31 AM   رقم المشاركة : 3

 

رحيق بارك الله فيك واشكرك على مرورك العذب الجميل وتعليقاتك الثرية على الموضوع

وبخصوص قرية رغدان فهي القرية التي توجد بها الغابة وهي من اكبر قرى المنطقة مكان وسكان
واما نظام التعليم في السابق فقد تميز بأمور كثيرة منها اساليب العقاب التي برغم حدتها خلقت اجيال من النابغين.
وسنتابع مع الكاتب بمشيئة الله الكثير من المفارقات والمعلومات في سياق المعلامة.......

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 03-15-2010, 09:56 AM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 

المعلامة

الجزء الثاني

وكم كنّا _نحن المبتدئين_ نتمنى أن يكون لنا مثل ذلك اللوح الذي يُكتب عليه (بأقلام بيضاء كالأصابع)! فنزداد تعجباً لتك الظاهرة الغريبة.. (الطباشير والسبّورة)!! ومنّا من ينطقها (السنمبورة).
ولم تكن خبراتنا وذكرياتنا عن المدرسة سعيدة بعد أن انتظمنا بها، لما كنا نشاهده _نحن الصغار_ من أساليب الضرب والعقاب لكل طالب لم يحفظ درسه أو سورته، أو من الذين يحدثون فوضى أو مشكلات مع غيرهم، كنا نشهد أساليب عجيبة ومُرعبة لنا، وما أكثر طرق العقاب.. فمنها:
· معاقبة تلميذ أو مجموعة بالوقوف على رِجلٍ واحدة، وحين يرتفع مستوى العقاب لتلك الفئة يُطلبُ من الأشد تقصيراً أن يمسك إذنه اليمنى بيده اليسرى والأذن اليسرى باليد اليمنى.. فيظل يتأرجح والويل له حين يغير هذا الوضع...
· لمحنا من بعيد أحد أولائك الطلاب، وما كان منه إلا أن نفخ في صفحات دفتره فأحدث صفيراً سمعه المعلم، فلم يجرؤ أحد أن يخبر عنه لكبر سنه، وتوعده لمن يخبر عنه من الواقفين معه. فما كان من الأستاذ إلا أن عاقب الجميع...
· العقاب في القدمين كان مألوفاً، حين ينادي المعلم قائلاً: (امسكوه) فينطلق اثنان من الطلاب وهم سعداء ليربطوا ساقيه بالعمامة وتُشدّ رجلاه إلى الأعلى ويُضرب في باطن القدمين.
· وقد يتدرج العقاب حتى يصل أحياناً إلى إحضار حلس الحمار ويُشد على ظهر (البليد) كما يقال عنه، ويُطاف به على جميع التلاميذ!!
· أن يوضع على رأسه (الشن) وهو بقية دلو أو قربة تالفة تلتقط من إحدى الدمون (جمع دمنة).
· أحياناً يدار به إلى كل فرقة ويُطلب منهم المناداة عليه بـ:
(يا بليد.. يا بليد.. يا مطيس عين ألف، خذ دواتك واستلف..)!!
· أحياناً يُحوّل المقصر من مجموعته إلى مجموعة أقل في المستوى الدراسي ليبقى بها يوماً أو يومين ثم يُعاد إلى مجموعته وقد فاته عدد من الدروس.
· ويعزز ذلك كله مقولة الأب المشهورة للمعلم: (لك اللحم ولنا العظم).
· ومن طرق العقاب.. أن يُستدعى أحد التلاميذ الجيدين (الشطار) من صغار السن فيُسأل عما لم يستطع الطالب الكبير الإجابة عنه، فإذا أجاب من هو أصغر منه يقال للطلاب (صفقوا عليه)* ثم يُطلب منه أن يصفع من لم يعرف الإجابة ، فلا يسعه إلا الامتثال وتمكينه من ذلك بثبات مهين..!!!
وكثيراً ما يتطوّع بعض الطلاب بإحضار مجموعات من عصيّ بعض الأشجار، وأذكر حين انتقلت إلى مستوى أعلى أنني أحضرت لأحد معلّميّ عدداً من العصي من نبات (الأركوض) قدمتها إليه مزهوّاً.. وفي نفس اليوم لم أسلم من العقاب بواحدة منها على يديّ،وظل زملائي.. وحتى أهلي يضحكون مني أياماً...
وقد يوكل إلى أحد التلاميذ أن يكون (عريفاً) حين يكون المعلم غائباً أو منشغلاً،فيقوم العريف بتلك المهمة التكريمية بشيء من الفخر والتسلط.. فلا يسمح بأي حركة ولا همسة، ويسجل أمام اسم كل طالب (مشوّش) أو يكتب (عاصي) أو عاصي مكرر، ومن ثم يعاقب من قبل المعلم عندما يحضر حسب مستوى المشاغبة... وكثيراً ما يتعاطف ذلك (العريف) مع بعض التلاميذ، إما لقرابة أو صداقة.. أو اقتسام ما معه من خبز أو تمر..، وبالنسبة لكبار السن يُغض الطرف عنهم تفادياً للتهديد والتوعد بعد الانصراف من المدرسة إذا كُتِب من (المشاغبين).


* التصفيق على الطالب من وسائل العقاب آنذاك، فيقال (صفقوا عليه) للتعبير عن اللوم والاستهجان، وليس كما هو عليه الآن: للتحية والتشجيع، فأصبح يقال اليوم: (صفّقوا له) للاستحسان وليس للاستهجان.

حفظنا أحرف الهجاء قراءة وكتابة مع عدد من سور القرآن الكريم القصيرة، وكان (سيْدنا) بتسكين الياء/معلمنا.. لا يسمح لكل من أراد أن يخرج لقضاء حاجة إلا في حالات قليلة ترتبط بمصداقية التلميذ، مع وجود زمن فسحة عامة للجميع.
كما تعلمنا طُرق الاستئذان من المعلم بالحركة والإشارة التي ترمزُ إلى نوع الحاجة التي يراد الخروج من أجلها، فإذا ما رغب التلميذ أن يشرب.. فعليه أن يضم أصابع يده اليمنى ويرفعها إلى فمه، فيعرف المعلم حين ينظر إليه أنه يريد أن يشرب فيسمح له أو (ينتهره)/رفضاً طلبه.
وإذا أراد طالب أن يُخرج ما في أنفه... (وما أكثر سيلان الأنف في ذلك الوقت) فعليه أن يمسك أنفه بسبابة وإبهام يده اليسرى، ويقف أمام المعلم فيعرف أن حاجته.. إفراغ مافي أنفه..
وإن أراد الذهاب للتبول فعليه أن يقبض يده اليسرى ويرفعها عالياً، مع بسط أصبع الخنصر، ومن أجل إثبات شدة الحاجة للذهاب إلى الخلاء فإنه يقوم بثني جسمه وتقطيب وجهه تأكيداً للرغبة الملحّة.. ولئلا يمنع من الخروج فيبتل الحصير، وقد يصل الأمر إلى أكثر من ذلك.
يتبع .........

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 03-15-2010, 06:31 PM   رقم المشاركة : 5

 


سعيد الفقعسي ...
تأبى النفوس الشامخة إلا أن تصل إلى المعالي وتسمو إلى القمم العالية
فهذه نفسك الشامخة دائماً تنتقي لنا الإبداع والتميز هنا و هناك و حيثما تكون ..
فلك مني تحية وتقدير بحجم محبتك في قلبي .

انا في شوق لمتابعة كتاباتك ومواضيعك المميزة ..

دمت ودام لنا هذا العطاء .

 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس
قديم 03-16-2010, 07:50 AM   رقم المشاركة : 6

 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صالح بن سعيد مشاهدة المشاركة

سعيد الفقعسي ...
تأبى النفوس الشامخة إلا أن تصل إلى المعالي وتسمو إلى القمم العالية
فهذه نفسك الشامخة دائماً تنتقي لنا الإبداع والتميز هنا و هناك و حيثما تكون ..
فلك مني تحية وتقدير بحجم محبتك في قلبي .

انا في شوق لمتابعة كتاباتك ومواضيعك المميزة ..

دمت ودام لنا هذا العطاء .


الأخ الغالي صالح بن سعيد

اصالة معدنك النفيس يكشف طيبك وصدقك وجمالك في كل مرة لك مني كل الشكر والتقدير والمعزة الدائمة حفظك الله ورعاك

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 03-16-2010, 08:01 AM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 



المعلامة
الجزء الثالث:

لم تستمر الدراسة طويلاً في موقعها السابق فقد انتقلنا إلى موقع آخر (للعدنان) أيضاً، وهو أكثر اتساعاً إلى حدٍّ ما.. به حجرات يفصل بينها ألواح من الخشب، وجدران من خشب العرعر وكُسيت بالطين المخلوط بالتبن (الرّص) لتكون غرفاً صغيرة سميت بعد ذلك بالفصول الدراسية، وفرشت بمساطح الخصف/الخوص، ثم استبدلت بعد ذلك بحنابل مخططة تسمى (الحنابل الهندية).
أخذت المدرسة تضم عدداً كبيراً من التلاميذ من مختلف الأعمار.. يأتون إليها من عشرِ قُرى سيراً على الأقدام، وقد تأخر بعضُ الآباء في إرسال أبنائهم إلى المدرسة مفضلين الاستعانة بهم في مصالحهم الأسرية، وظل بعضهم يتلقى التعليم عند أولائك المعلمين (الفقيه) في المعلامة حتى أغْلِقَت نهائياً، ولم يبقَ أحدٌ بعد ذلك إلا وأرسل ابنه أو أبنائه إلى المدرسة، مع توصية المعلم والتأكيد عليه بالقول: (لك اللحم ولنا العظم).
يخضع تصنيف جلوس التلاميذ في مجموعات إلى ما حفظوه من السور ومستوى القراءة.. خصوصاً للقرآن الكريم بغض النظر عن مراحل العمر مهما تفاوتت بين التلاميذ، فقد ينتقل صغير السن إلى فرقة أكبر منه سنّاً لتميّز مستواه.. وأحياناً يحدث العكس، فقد يحول الطالب المقصر إلى من هم أصغر منه، لأن قلبه _كما يقول المعلم _ قلب ثور!! لا يستوعب الدرس وينسى ما درسه، فيسمى: (مطيّس/بليد)، وقد يكون الطالب الكبير مع حلقة الصغار لأن أهله لم يرسلوه إلى المعلامة من قبل...، فليس غريباً أن تضم إحدى حلقات المبتدئين من هم في سن الخامسة وحتى الرابعة عشر من العمر..
أحد هؤلاء الكبار جداً قدم إلى المدرسة بجسمه الكبير وملامحه القاسية فأثار فينا الخوف، فنحن لا نعرفه من قبل (من قرية أخرى) ويحمل حقيبة حديدية من الصفيح وكبيرة الحجم تستخدم للسفر والملابس وليست للمدرسة، كان يضع فيها دفتراً صغيراً و(جزء عم) وكِسْرة خبز أو(دغبوساً)، فطلب منه المعلم أن يضعها بعيداً لكبرها، فكنا في البداية نهابه ونتفادى الاقتراب منه.. إلى أن اكتشفنا أنه أكثر خوفاً ورهبة منا، يخاف من المدرسة وممن فيها، وكان يتودد إلى الجميع.. لكنه لم يستمر في المدرسة سوى عدة أيام، فلم نشاهده بعد ذلك إلا بعد سنوات طويلة وهو يدير مقاولات معمارية ناجحة.
في البدء كانت حلقات الدرس يشرف عليها معلمنا الوحيد، ينتقل من حلقة إلى أخرى فلا نكاد ننظر إليه إلا خلْسة.. له في نفوس جميع التلاميذ مشاعر متداخلة من الخوف.. الاحترام.. الرهبة، كنا نعتبره يختلف عن الناس الآخرين في كل شيء.. تلك (الخيزرانة) الطويلة لا تفارق يده، فترتجف منا الأوصال بمجرد سماع كلمة: (الأستادْ... الأستادْ جاء).
أسعد الأيام على نفوسنا إذا لم يحضر معلمنا ذلك اليوم، فنستمتع فرحين بما نسمعه من الآخرين بأنه مريض.. أو سافر إلى الشام: (الطائف ومكة المكرمة) فإذا به قادم على الرغم مما سمعناه من إشاعات،وفي كل مرّة يتأخر قليلاً نصدق مثل تلك الإشاعات الكاذبة.
في فصل الشتاء يشتد البرد في (الحجاز) بلاد غامد وزهران، منطقة الباحة كما تسمى الآن، ويتواصل هطول الأمطار وينتشر الضباب فيغيب عن المدرسة طلاب القرى الأبعد، ونمكث نراقب مطلع الطريق المؤدي إلى المدرسة لنطمئن أن المدير ومعاونه الأستاذ مقبول لم يأتيا في هذا اليوم الممطر.
وندعوا الله (يارب لا تجعلهم يأتون..)، فكان الأستاذ (عباس) الذي عُيّن حديثاً في المدرسة بمسمى (فراش/محضر) يقوم بالإشراف والتدريس والتوجيه.. فكان له في نفوسنا مكانة كبيرة، وأخيراً يطلب منا أن ننصرف، فننطلق فرحين إلى منازلنا.. وفي كثير من الأحيان يكون نهيق حمار معلمنا يعلن عن قدومه، حتى أصبحنا نميز صوته من بعيد، ذلك النهيق المجلجل الذي انطبع له في أذهاننا وقعاً خاصاً امتداداً لما نشعر به نحو معلمنا من رهبة وخوف وإعجاب..
وكثيراً ما يتنافس التلاميذ في إحضار ما عندهم من (تبن أو برسيم) يطلبه المعلم لعلف حماره.. تقرباً منه واعترافاً للمعلم بالفضل والجميل، والفخر والعز الذي ما بعده.. حين يقرر والد التلميذ دعوة المعلم أو المعلمين لتناول الغداء في بيتهم.
فلا ينقطع التلميذ عن الفخر بذلك الحدث، ويظل يحدث رفاقه عن المعلم.. طريقته في الأكل.. الجلوس.. ماذا قال..؟ وكيف يتحدث؟ فننصت باهتمام إلى حديث زميلنا المحظوظ.
وفي تلك الأيام الباردة يطلب المعلمون من التلاميذ القريبة بيوتهم أن يحضروا حطباً من أجل إيقاده داخل المدرسة للتدفئة.. فتتكاثف سحب الدخان ويتوقف الدرس.. ونواصل السعال.. ونذرف الدموع، فلا نكاد نبصر شيئاً سوى تلك الفئران الخارجة من جحورها وهي تنطلق كالسهام من مكان إلى آخر.




* * * * * *


في أحد أيام عام 1373هـ أخذنا أماكننا في المدرسة.. مرّت الدقائق والساعات دون أن ندرس شيئاً!! أساتذتنا الذين أصبح عددهم ثلاثة: (عبدالرحمن بن رمزي، ومقبول العرابي، وعبدالله بن عطية).. كانوا يتحدثون بينهم غير ملتفتين إلى التلاميذ وغير آبهين لما يحدثونه من جلبة وشجار، وبين وقتٍ وآخر يحضر بعض من رجال القرية إلى المدرسة ترتسم على وجوههم علامات التساؤل والقلق فلم نلبث حتى أُمرنا بالانصراف من المدرسة وانطلقنا نتسابق إلى منازلنا لأجد أسرتي والجيران ملتفين ومنصتين إلى (الرادي)/المذياع النادر وجوده في القرية... الحزن مخيّمٌ على كل شيء، والناس يرددون: (مات عبدا لعزيز..) سمعت والدي يقول:
(أخو نورة.. الله يرحمه..) وسألت أمي: من عبدالعزيز الذي مات؟! أجابتني باقتضاب: (الملك).
ومن هو أخو نورة؟! وانتهرتني جدتي (عليّة) رحمها الله قائلة:
(آصه.. من الهذر.. هذا الولد ما يخلّي شيء إلا وينشِد عنه..)!
مع غروب ذلك اليوم الذي وصل فيه خبر موت الملك عبدالعزيز أخذت الأسر تُدْخل أشياءها وممتلكاتها من الحيوانات إلى داخل المنازل بعد أن كانت تُتْركُ في أفنية البيوت والساحات، قررت جدتي ضرورة إدخال الحمار والبقرة إلى (السِّفل) بدلاً من البقاء في الساحة كالمعتاد، دخل الحمار بسهولة لكن البقرة ظلّت تمتنع من الدخول، وتتراجع عند المدخل.. وتهرب بعيداً..
وكنت أشاهد الموقف بتعجب وتساؤل، لماذا نُدْخلها البيت ومكانها في الساحة.. تحت الحماطة والعشّة..!؟ وبسبب إصرار البقرة كان لها ما أرادت، فبقيت في الساحة وظل والدي _ يرحمه الله يكلأ البقرة بين فترة وأخرى طوال الليل... ولا تنسى والدتي أن توصد الباب (الجامع) وباب (السِّفل) بـ (الرّصد). فألاحظها تعود إليها للتأكد من غلقها بإحكام، لم تستمر هذه الحالة طويلاً.. فعاد الشعور بالأمن والطمأنينة ليحل محل الحذر والتوجس، والذي أكّد لي زوال الخطر أن أمي تركت استخدام ذلك الرّصد الكبير.. وبقيت الأشياء في الساحة ليلاً كالمعتاد.


* * * * *

مازال المستوى الدراسي يتحدد بما وصل إليه التلميذ من تلاوة القرآن الكريم، مع ما تميز به من إجادة للكتابة وحسن الخط، فإذا وصل التلميذ إلى سورة العنكبوت تقوم بعض الأسر بذبح شاة احتفالاً بهذا المستوى، وهي امتداد لعادة قديمة ومقولة يرددها البعض:
( عند سورة العنكبوت، شاة تحيا... وشاة تموت..)

وحين يختم التلميذ القرآن الكريم يعود لقراءته مرة أخرى فيقال: (ختم .. ونكس) وهذه شهادة فخر واعتزاز..
فيستعين المعلمون بأولئك الذين يختمون القرآن لمتابعة وتدريس الطلبة الآخرين، والمستجدين الصغار (فيذكرني ذلك.. أو يكون أشبه بالطالب المعيد في الجامعة اليوم)، كما يتولون المراجعة والاستماع إلى ما كان مطلوبٌ حفظه وتلاوته، فيحصون ويعدّون علينا أخطاءنا على أصابعهم، ويبلِّغون بها المعلم ويكون العقاب بقدر عدد الأخطاء، وكثيراً ما يتوسل الطالب الصغير من الكبير الذي يستمع إلى القراءة بأن يخفض عدد الأخطاء ويعتمد الأمر حينها على الأريحية والتسامح أو الهبات الصغيرة...
كنا قد وصلنا إلى سورة (البلد) ونسمي السورة بمطلعها فنقول: سورة: (لا أقسم بهذا البلد ) فطلب (الأستاد) من أحد التلاميذ الكبار أن يستمع إليّ في تلاوة هذه السورة، فوقعت في ثلاثة أو أربعة أخطاء فما كان من (عطية) إلا أن تعاطف معي مشكوراً وقال للمعلم: (حافظ يا أستاد).. نظر المعلم إلى كل منا.. وكأنه بتلك النظرة المرعبة كشف الحقيقة، وعلى الفور نادى (غرم الله) وقال له: سمّع له سورته، وشرع يستمع ويقبض أصبعاً بعد الآخر على كل خطأ بترصد ودقة متناهية، فازددت ارتباكاً وكثرت الأخطاء.. فكنت أقرأ وأنظر إلى أصابعه أكثر مما أنظر إلى الآيات، فذهب إلى المعلم ليخبره بأني أخطأت: (ثمان غلطات). نظر إليّ المعلم وقال (بليد ...!) ثم استدعى عطيّة فأتى يرتجف خوفاً وحاول أن يحلف بأني كنت حافظاً.. فأسكته المعلم متوعداً إياه بعقاب شديد، أما أنا فكنت في وضعٍ مزرٍ لا أرى سوى تلك العصا الطويلة فأنظر إليها بهلع وأخذت ركبتاي تصطكان ببعضهما من شدة الخوف..
وبعد فترة تحقيق عصيبة في هذه القضية، قال الأستاد (امسكوهما)..
فانطلق اثنان من التلاميذ وأخذا يربطان أقدامنا بعمامة كريشي (شماغ) وشدها إلى أعلى من طرفها فأصبحت أقدامنا إلى أعلى، ونحن على الظهر.. وأخذت تتساقط الضربات على باطن الأقدام وعلى الساق وارتفع الصياح.. ونداء الاستغاثة.. وإعلان التوبة، فكنت إلى جانب رفيقي كجندب بجوار عصفور، وكان يتلقى ضربات أكثر مني لكبر رجليه بالنسبة لي..
عدت إلى البيت وأنا لا أقوى على السير..
رأت أمي ما أنا فيه.. لكني توسلت إليها بألا تُخْبر أبي، فيزيدني ضرباً وتوبيخاً، ومع هذا لم يغب عنه الأمر حين سمعته يقول للوالدة: (يستاهل ما جاءه) أحسست بأنه ينظر إليّ بنظرات ظاهرها الغضب من إهمالي.. وعدم حفظي لدرسي، وباطنها الشفقة على ما أصابني بعد أن رأى الآثار الدامية في رجلي وباطن قدمي.
نمت بلا عشاء _ موعد العشاء بعد صلاة المغرب مباشرة _ بعد أن دهنت أمي أقدامي بالزبدة أو السمن، وكنت أسمعها تتذمر من هذا العقاب وتدعو على (الأستاد) قائلة:
(.. من يخبط هذا الخبط!؟.. الله يكفينا فيه..) فأشعر بالرهبة وكأن الأستاذ يستمع إلى هذه الكلمات والدعوات (أو سيعلمُ بها!!).
استيقظت في اليوم التالي متثاقلاً كئيباً، لا أرغب في الذهاب إلى المدرسة، ولكن هل أستطيع؟!.. أخذت والدتي تقول لي بهمس:
( آصه.. اُسْ.. لا يسمعك أبوك..)..
مع أن والدي علم بما أريد لكنه _ عادة _ يتغافل حتى آخر لحظة.. ثم يتدخل بحزم ويحسم الموقف، فسمعته يطلب من أخي (عبدالهادي) أن ينتظرني ليصطحبني معه إلى المدرسة فقد أنهى دراسته فيها وكان في جدة عند عمي شقيق والدي.
يتبع .........


 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 03-18-2010, 09:59 PM   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 



المعلامة
الجزء الرابع:


وما أن استقر بي الجلوس في المدرسة وحضر الأستاذ فإذا به يستدعيني أنا و (عطية) الذي تعاطف معي، أوقفنا أمامه وبيده عصا وإلى جواره أخرى، كان يجلس على مكتب خشبيّ قديم.. يسند إحدى قوائمه بحجر مستطيل.. أما المقعد الذي يجلس عليه فهو صندوق من الخشب غُطّي ببطانية بالية..، لعلي كنت أهرب مما أنا فيه من خوف برصد هذه الأشياء المميزة والتي يتمنى كل من يشاهدها أن يجلس عليها، على اعتبار أنه أعز مكان،، التفت إلينا قائلاً: (يا بلداء) ونادى:
(امسكوهم) وقفز طالبان كبيران لربطنا في العمامة وشُدّت أرجلنا إلى أعلى، كما طُلب من كل منا أن يمسك ثوبه ويشده إلى ركبتيه لستر ما قد ينكشف أثناء الضرب، كان يقف بعصاه الطويلة ينتظر أن نتهيأ للعقاب، أخذت أبكي بشدة..
وفي تلك اللحظة رأيت والدي يقف معنا عاقداً كفيه خلف ظهره، وكأنه نزل من السماء، أخذ ينظر إلى المشهد بصمت، فلا حديث سوى حركة العيون حائرة في محاجرها، مرت ثوان معدودة خلتها دهراً.. سأل والدي:
- لماذا تضربهما اليوم؟!!
* لأن ولدك (ما حفظ) والثاني كذاب...
- ألم تضربهم أمس؟! ألا ترى ما أصاب قدم الولد... إلمح بطون رجليه...
* إذا كسرت العظم فلك الحق.. ما ودّك ينتج مثل (آخوه)؟ يقصد أخي عبد الهادي.
- قطّعت رجل الولد.. حتى المدرسة ما بغى يجيها!!
* وسأضربهما حتى اليوم .. ليتوبا .. وما يتكرر منهما الذي صار..
- يكفي (ما جاهم).. ترى الولد ما يحتمل هذا كله.. والله ما قدر يمشي..
* لازم.. لازم نزيدهم.. المفروض اليوم وبكره.. لمصلحتهما..
- والنهاية.. النهاية معك أبا عبدالرحمن!!
أعرفُ ملامح والدي _ رحمه الله _ إذا غضب، أحسست بهذا الحوار المشحون بين والدي ومعلّمي.. الكلمات تكاد تتفجّر.. تمنيت _بقدر ما فرحت بوجود والدي_أنّه لم يحضر، فلم أتخيل أحداً يستطيع أن يقول للمعلم أيّ شيء يغضبه..
* هل جئت لتضارب؟!
- أنا ما جيت أضارب لكن القهر ما نبغيه.. تفكّهم؟ وإلا لأ؟!! اتق الله فيهم.. وأنا ماجيت أضارب.. أتيت للسؤال عن درسه وما كنت أدري أنّك (بتطيح) فيهم بالضرب كل يوم... (عليّ الطلاق.. لما تفكهم ليخبث بالك).
* تطلق علينا في المدرسة...! طلّق على (مرتك)..
- إنك (سمعتاها)..
* طيّب عساهم ما درسوا.. ولا تعلّم ولدك.. خذه من المدرسة.. خذ ولدك خلّه يشتغل معك في الفضة.. وإلا مع الغنم..
- ولدي ما آخذه.. بيدرس في مدرسة (ابن سعود) ما هو في بيت (أبوك)..
وانطلقنا الاثنان كعصفورين انفلتا من القفص على حين غفلة.
أخذت أشعر بقلق وخوف لا أستطيع التعبير عنه في ذلك الوقت بعد تلك المشادة بين والدي ومعلمي.. فلن يكون والدي معي في المدرسة كل يوم، سوف يكرهني الأستاد ويعاقبني في كل مرّة ولأي سبب مهما كان بسيطاً..
كانت تستبد بي هذه الأفكار السوداء التي لم يحدث منها شيء.. ومرت الأيام بشكل عادي.. ثم تلاشى هذا الشعور نهائياً حين علمت أن الأستاذ سوف يحضر إلى منزلنا لتناول طعام الغداء، وأخذت أعلن هذا الخبر لرفاقي بكل فخر واعتزاز، بعد ذلك كنت أسرد لهم كل شيء عن تلك الزيارة.. ماذا قال.. كيف يتحدث.. هل يضحك.. كيف يأكل...؟؟ فأصف لهم ذلك بطريقة طفوليّة وأقلّد حركاته.. وكلماته بإعجاب شديد، وخيال واسع.
كان للمدرسة وللمعلمين والتلاميذ مكانة كبيرة في نفوس الآباء والأمهات والأسر عامة، ويعبّر عن ذلك بعض الآباء الميسوري الحال بدعوة المعلمين وجميع الطلاب للغداء في المنزل، فيكون هذا الحدث فريداً يتناقله الناس، وقد حضرت دعوتين من هذه.. عند (سعد بن فيضي) و(صالح بن جمعان) رحمهما الله _ ويقدم عدد من الطلاب الأناشيد والخطب في منزل صاحب الدعوة.
وأحياناً يصل إلى المدرسة كمية من التمر الجاف (الهليل) من عند بعض الأسر لتوزيعه على التلاميذ هديه أو صدقة. فيُوزع على كل طالب ثلاث حبات أو أكثر أو أقل حسب الكمية.. ويكون التوزيع مع بداية خروجنا للفسحة التي ننتظرها بفارغ الصبر فنتزاحم على ذلك (البرميل) الذي أصابه الصدأ لنشرب منه بعد أن يُمْلأ كل صباح بواسطة إحدى النساء، بقربتها الجلدية، ويرتبط بالبرميل (مغراف) علاه السّواد وتلبّدت به الأوساخ وهو عبارة عن علبة قديمة من العلب التي يُحفظ فيها الأناناس الذي يُجْلبُ من المدينة، ومن كان منزله قريب.. فيمكنه الذهاب إلى المنزل في فترة الفسحة، وعليه أن يتوضأ في البيت من أجل أداء صلاة الظهر في المدرسة، فكنت أنا وزميل لي نعاني من ضيق في الوقت حين نذهب إلى المنزل فنجد أمهاتنا قد أعددن لنا ما نأكله، ونخشى أن نتأخر وعلينا أن نتوضأ..
وكثيراً ما نذهب ونعود ونحن نجري.. فلا نستمتع بتلك الفسحة،فما كان من زميلي هذا _ غفر الله لي له _ إلا أن قال:
( وهل يمديك أن تتوضأ؟!).. فقلت: لا.. أكمّل فسحتي (أكلي) من أجل الوضوء.. فقال: ( أنا لا أتوضأ..)..
فصِرتُ إذا ضاق بي الوقت ( أفعل مثله..).
بعد ذلك طُلِب من الجميع أن يتم الوضوء في (الجلّة) الوادي القريب.. ثم نصلي في مساحات داخل المدرسة على الأرض.. أو على قطع من الحصير، أما (الحنبل) الوحيد فيخصص للمعلمين في المقدمة.
أرضية المنزل الذي ندرس فيه ترابية، وجدرانه من الداخل من الحجر المغطى بالطين والشيدة (تراب أبيض) بحلب والتي تُجلب من بعض الجبال القريبة، والسقف من سيقان شجر العرعر، ومهما بُذل فيه من جهد للنظافة فهي لا تكاد تظهر، ومع ذلك تقوم (امرأة) بمحاولة التنظيف والكنس في الصباح قبل بدء الدراسة أو يوم الجمعة من كل أسبوع، مع صبّ قربة ماء لإكمال ما نقص من ذلك البرميل الذي نشرب منهُ.
في بداية يوم دراسي جديد، أحسسنا بأن هذا اليوم غير عادي إذ سمعنا النداء:
( دخول.. دخول ).. لم نعتد أن ندخل في هذا الوقت المبكر قبل أن نقضي فترة نلهو .. ونترامى بالحجارة والأشياء تحت أشعة الشمس، أخذنا أماكننا بصمت، كانت حركات معلمينا غير عادية، ذلك الوقار المعهود تعرض إلى شيء من الاضطراب والتوجس.. سمعنا (الأستاد عباس الفرّاش) يهمس قائلاً:
( المفتش... المفتش..)..
لم يكن يعني لنا هذا الأمر شيئاً في أوّل الأمر لولا سُحنته المختلفة وهو يهمس بهذا الاسم، وعباس لا نراه من قبل إلا ضاحكاً يتندر على كل طالب، ويمازح المعلمين.. فانتقلت عدوى مشاعره إلى كل منا لتحفر في نفوسنا رهبة قدوم زائرٍ مخيف.. وبعد فترة انتظار قاسية على الجميع شاهدنا رجلاً ممتلئاً يدلف من المدخل بخطوات ذات إيقاع مهيب ووجهٍ صارم.. يصوب منه نظرات حادة وفاحصة إلى كل شيء.. أخذ يتجوّل في كل مكان.. رأيناه يقف بجانب ذلك البرميل الذي نشرب منه.. كشف غطاءه.. نظر إلى داخله باشمئزاز.. تفحص (المغاريف) الصّدئة، كان جلوسنا قريباً من ذلك البرميل، فأخذنا نشهد تأففه وهو يقول كلمات غاضبة لم نفهمها، فما كان منه إلا أن أخذ يقذف بتلك المغاريف بعصبية إلى الخارج.. كان يشير إلى أشياء كثيرة لم نتبينها، وفي الحال رأينا ذلك البرميل يُنْقل إلى الخارج.. وأخذنا نتساءل بصمت وذهول عن تصرفه هذا؟!! لماذا يحرمنا من شرب الماء، ويمنع شُرب الماء في المدرسة؟!!
وفي اليوم التالي علت وجوهنا الدهشة والانبهار لتلك الحنفية الجديدة اللامعة ذات (البزبوز) الأصغر، والغطاء المحكم و(المغاريف) البيضاء التي تغرينا بشرب الماء من غير حاجة إليه.


يتبع .........

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 03-19-2010, 01:27 AM   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية رحيق
 
إحصائية العضو











رحيق غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
رحيق is on a distinguished road


 

سعيد الفقعسي .....


لا أبارح مقعدي أمام هذا التميز ... واصل بارك الله فيك .... فنحن لازلنا مستمتعين بهذا الرصد الدقيق ...








 

 
























التوقيع





شكراً لأختي الغالية " ضياء القمر " على تصميم توقيعي الرائع


   

رد مع اقتباس
قديم 03-20-2010, 11:02 PM   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رحيق مشاهدة المشاركة
سعيد الفقعسي .....


لا أبارح مقعدي أمام هذا التميز ... واصل بارك الله فيك .... فنحن لازلنا مستمتعين بهذا الرصد الدقيق ...



[
اشكرك على اهتمامك وحلاوة مرورك حفظك الله ورعاك

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:15 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir