بخيت بخيت الحظ ( الحلقة الخامسة )
غادر بخيت البيت في ظلام حالك لا يكاد يشاهد معه أطراف أصابع يديه وبعد أن مشى قليلا باتجاه الوادي قفزت إلى ذهنه صورة الجدّة مصلحة التى لم يمض على دفنها في المقبرة الواقعة علي الطريق إلى الوادي سوى بضعة أيام فتهيأ له شبحها وكأنها تمشي أمامه متعثرة في كفنها فخارت قواه وتملّكه الخوف ولم تعد رجلاه قادرتان على حمله فجلس في الطريق على بعد أمتار من ( مصراع ) خاله ينتحب .
اقترب من بخيت أثناء جلوسه في الطريق صوت وقع أقدام على الأرض وعصاة يتوكأ عليها صاحبها أثناء مشيه فتحسس الصوت محاولا التعرف على القادم فإذا به يسمع تهليل وتسبيح العم موسى عائدا من المسجد متأخرا بعض الوقت بعد أن استوقفه الإمام عقب الصلاة لبعض شأنه .
سأل العم موسى بخيتا قبل أن يتعرف عليه : من هذا ؟
أجاب بخيت : أنا بخيت يا عم موسى .
موسى : اش تسوى هنا وأنا أبوك
خالي يا عم موسى أرسلني آجيب له بصل من الوادي وأنا ما أسكن أروح لحالي .
موسى : تعال وأنا أبوك تعال .
يطرق موسى ( حِلْقَة ) مصراع عوض بقوة فيخرج عوض من البيت مرددا.... مين .... مين ...؟
يبدأ موسى في رفع صوته مهاجما عوض : انت يا قليل خوف الله ما بتتبلع عشاك إلا ببصل يجيبه لك المسكين هذا من الوادي في ذا الوقت ؟! أنت ما تخاف ينفلج عقله من شي يصادفه في الطريق ؟!. ليش ما ترسل واحد من أولادك معه يسكّنه ، وإلا عشان إنه يتيم .
عوض بعد أن ألجمت كلمات موسى فاه يأخذ بيد بخيت ويدخلان إلى البيت سوياً من دون رد .
أمضى عوض ليلته تلك وصدى كلمات موسى يترنح في أذنيه ولم يعاقب بخيتا وكأنه ينتظر منه خطأ آخر لتكون العقوبة واحدة .
في صباح اليوم التالي ( يوم الجمعة ) يذهب عوض مبكرا إلى الوادي ( موعد شِربه ) للسّوق ومعه ابنه علي وأثناء ( تركيب العِداد ) تسقط منه ( الدرّاجة ) داخل البئر فلم يجد بدا من استدعاء بخيت من المرعى لوضعه على ( الغرب ) وتدليته إلى البئر لجلب الدراجة كونه أخف وزنا من علي ، حضر بخيت فبكى بكاء مرا قبل نزوله إلى البئر خوفا من السقوط فيها بعد تجربته السيئة العام الماضي تعلم السباحة وانقطاع الحبل به داخل البئر نفسها ومع ذلك لم يكن ليشفع له بكاؤه من تنفيذ ما أُمر به .
لاحظ أحد المزارعين المتواجدين من أبناء القرية في الوادي ما جرى بين بخيت وخاله فلم يزد على أن قال لعوض بعد صعود بخيت من البئر ( فأما اليتيم فلا تقهر ) .
أخذت تلك الآية من نفس عوض مأخذها وقرر من تلك اللحظة تغيير طريقة معاملته لبخيت فبدأ يغدق عليه من الحنان والعطف ما لم يتعوده منه حتى أبناؤه وبناته .
{ فشر الجبل }
لم يعد بخيت يرى أمه وشقيقته إلا في الأعياد ومع أنه لم يكن يجد من الفرحة فيها ما يجده كثير من الأطفال إذ ليس له عيديِّة ولا ثوب جديد ولم يكن يمتلك ( طراطيع ، أونجوم الليل ) وما إلى ذلك لكنه كان يستمتع أثناء وجوده لدى والدته بلعب الكرة مع أبناء القرية وترديد أهازيج العيد معهم:-
بكره العيد نحمي سمننا * * * * والتبيعة ترقّص في الرِّباع
**********
ياهلال ياسعيد *** القني في المسيد
واعشِّيك واغدِّيك *** واقطع لك راس الديك
***
بالمسحاة والعطيف
وفي أقل الأحوال يبتعد عن رعي الأغنام فترة من الزمن.
في ثاني عيد أضحى مر على أمه بعد زواجها من عمه ناصر صادف أن قام الجماعة ( بفشر ) الجبل قبل سفر العديد منهم إلى مكة إما لأداء المناسك أو للبحث عن عمل مؤقت في موسم الحج ونظراً لأن حليمة إحدى نساء القرية اللائي يتسابقن على جمع أكبر كمية من ( الحشيش ) في يوم الفشر فقد انطلقت وابنتها قبل صلاة الفجر للظفر بما لا يظفرن به الأخريات .
اقتربت حليمة من شجرة عرعر كثيفة لاحظت خضرة الحشيش وغزارته تحتها وأثناء انهماكها في قصّه ( بالمحش ) وطأت بقدمها أفعى كانت مختبئة بين الأغصان تنتظر شروق الشمس لتجفف قطرات الندى التي تركها الطل على جسمها فغرزت الأفعى نابيها في مؤخرة قدم حليمة وأفرغت ما في جوفها من سمٍّ داخل جسدها ، صرخت حليمة بكل ما أوتيت من قوة مستغيثة بمن حولها قبل أن تسقط مغشيا عليها ولم تمض إلا لحظات حتى بدأ لون بشرتها في التغيّر.
حملت حليمة إلى البيت في انتظار العلاج لكنها ودعت الحياة قبل غروب شمس ذلك اليوم وما يزال مَحَشَّها وما تناثر من حشيشها إلى أن دفنت تحت تلك الشجرة شاهدين على قسوة الدنيا وحقارتها.
تباينت الآراء حول مكان بقاء شريفة فعمها ناصر يصر على أن تتربى لديه وخالها عوض يطالب بوجودها بجوار أخيها بخيت وأخيرا استقرّ الرأي على أن تعيش هي لدى عمها بينما يبقى بخيت لدى خاله لمواصلة الدراسة .
مرت السنوات وعلي يتعثر في دراسته بينما بخيت يتقدم فيها حتى اجتمعا سويا في الصف السادس وقد ازداد حنق علي على بخيت ليس بسبب تفوقه فقط بل لأن والده عوض يحنوعليه ويدنيه منه .
لاحظ علي بخيتا يساعد إحدى بنات القرية في رفع ( قربتها ) من ( قٌف ) البئر ووضعها على ظهرها بعد أن استنجدت به وهو في طريقه إلى المرعى فوجدها فرصة مناسبة للإيقاع به لدى أخيها ( دخيل )الذي يكبر بخيتا بنحو عامين ونصف العام فجمع دخيل عددا من رفاقه وتحرشوا ببخيت فطعن بخيت أحدهم ( بمقلميَّة ) كانت معه فخر المصاب على الأرض يتضرج في دمائه .
في الحلقة القادمة من هذه القصة سنتعرف على كيفية تغير احداث حياة بخيت ، فتابعونا
معاني الكلمات :
حلقة : الحلقة بكسر الحاء قطعة حديد مثبتة على الباب من الخارج تستخدم لطرق الباب وتقوم بالدور الذي يقوم به الجرس حاليا .
تتبلع : تتناول بشهية .
ينفلج : يذهب .
يسكنه : يؤنسه .
الشرب : قسمه من الماء ، يقول الله عن ناقة صالح ( ولها شرب يوم معلوم ) .
العداد : بكسر العين أدوات الري ( المحالة ، الدراجه ، السهمان ، الغرب ، الرشا ، المقاط ) .
فشر الجبل : كان الجماعة فيما مضى يمنعون رعي المواشي في بعض الجبال أو السماح بقص حشيشها لفترة من الزمن حتى ينبت العشب فيها ويتكاثر ( وهي الفترة التي يكون فيها الجبل أو الجبال محمية ) ثم يسمحون للاهالي بعد ذلك بالرعي وقص العشب لمدة يوم أو يومين على الآكثر وهو ما يعرف بالفشر .
التبيعة : انثى البقر الصغيرة في السن .
المسيد : المسجد .
المسحاة : من ادوات الحفر.
العطيف : اداة لقطع الاخشاب وغصون الشجر.
المحش : اداة تستخدم لقص الحشائش والاعشاب .
القربة : وعاء يحمل فيه الماء مصنوع من جلود الاغنام .
القف : مربع في رأس البئر تقوم ( السانية ) بافراغ الماء فيه بعد نزعه من داخل البئر بواسطة الغرب .
المقلمية : سكين صغيرة الحجم .